الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(1) مقدمة الكتاب- من قوله: “بسم الله الرحمن الرحيم..”
|categories

(1) مقدمة الكتاب- من قوله: “بسم الله الرحمن الرحيم..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.

وبعد:

ننتقل بعد ذلك إلى “السلسبيل في شرح الدليل”، وهذا الكتاب -في الحقيقة- من ثمرات هذا الدرس المبارك، وكنا قد شرحنا “دليل الطالب” كاملًا، واستغرق هذا الشرح خمس سنواتٍ تقريبًا، ثم بعد ذلك فُرِّغ هذا الدرس، وأُجريتْ على هذا التفريغ تعديلاتٌ كثيرةٌ، ومُراجعاتٌ طويلةٌ، واستغرقت المُراجعات والتعديلات أيضًا خمس سنواتٍ أخرى، وربما كانت التعديلات -في الحقيقة- أكثر مما كان مُفرغًا، فخرج هذا الكتاب -ولله الحمد-، فهو من ثمرات هذا الدرس، وكل ما يُشرح -إن شاء الله- في هذا الدرس يخرج كتبًا -بإذن الله -، وهذا من بركة هذا الدرس.

هذا الكتاب طريقتنا فيه -إن شاء الله- ستكون بالتعليق، ويُفترض أن النسخة موجودةٌ عند الجميع، ومَن ليست عنده نسخةٌ فكما ذكرتُ هناك نسخةٌ إلكترونيةٌ في قناة (التليجرام)، فليفتحها ويُتابع معنا.

كنا -في الحقيقة- نريد أن نقرأ قراءة السرد، ثم أُعلِّق، لكن لمَّا تأملتُ هذا وجدتُ أن هذا سيستغرق وقتًا طويلًا؛ لأن الطهارة فقط خمسمئة صفحةٍ، فلو فعلنا هذا سيأخذ خمس سنواتٍ أخرى، ونحن لا نريد أن يطول الدرس بالنسبة لـ”السلسبيل”؛ لأنه موجودٌ.

يعني: كما ذكرنا في الخطة: سنة ونصف، هذا الفصل والعام القادم فقط -إن شاء الله-، فنحن لا نريد أن يطول كثيرًا؛ فلذلك رأينا عدم القراءة.

وهنا كلَّفنا أحد الإخوة بالقراءة، ثم عَدَلْنَا عن هذا كسبًا للوقت؛ لأن الكتاب موجودٌ بيد الجميع، فلا فائدة من القراءة، ليست هناك فائدةٌ كبيرةٌ، وسيستغرق وقتًا كبيرًا، فربما يأخذ رُبع الوقت؛ فلذلك الكتاب يكون بين أيديكم، وسيكون هناك التعليق.

وستكون الطريقة بضبط المسائل، وأيضًا ذكر المزيد من الأمثلة، والتوضيح، والاستدراك، وأيضًا إضافة بعض المسائل التي لم تُذكر، فلن تكون إعادةً مرةً أخرى لـ”السلسبيل”؛ لأن بعض الإخوة قال: إن “السلسبيل” موجودٌ، فما الحاجة للدرس؟

نقول: لن يكون إعادةً، وإنما سيكون لضبطه أولًا، وأيضًا للتوضيح بالأمثلة ومزيد البيان، وأيضًا لإضافة مسائل أخرى واستدراكات، إن كانت ثَمَّ استدراكات.

فإن شاء الله سنسير على جميع أبواب الفقه ونضبطها، وأيضًا نُوضِّح ما جاء في هذا الكتاب بإذن الله .

فنرجو من الجميع أن يكون الكتاب حاضرًا بين يديه؛ حتى يكون أكثر فائدةً.

فنبدأ على بركة الله.

هذا الكتاب قدَّم له سماحة شيخنا سماحة المُفتي -وفَّقه الله، وجزاه الله تعالى عنا خيرًا-، وهو كان حريصًا عليه، يعني: كل مرةٍ يسألني عنه، حتى إنني إذا أردتُ أن أُسلم على سماحته أحسب ألف حسابٍ لهذا السؤال، وكان هذا دافعًا لي لإنجازه في الحقيقة، وحتى أيضًا بعد طباعته قرأه؛ قرأ ما انتهينا منه -يعني: ما طُبِع، الأجزاء الأولى- ويُعلِّق ويذكر بعض الملحوظات، وأيضًا بعض مشاعره تجاهها، فجزاه الله تعالى خيرًا، يعني: هو -في الحقيقة- مُشجعٌ لطلبة العلم، فما أن يُعجبه كتابٌ إلا ويتصل على مؤلفه ويُشجعه ويُثني عليه، وأحيانًا يذكر أيضًا بعض الملحوظات التي لدى سماحته.

ترجمةٌ لمرعي الكَرْمي

طيب، بعد مقدمة سماحة المفتي المقدمة التي كتبتُها، وهي مقدمةٌ مُختصرةٌ في بيان فضل التَّفقه، ثم ذكرتُ أن العلماء بذلوا جهودًا كبيرةً في استنباط الأحكام الشرعية وتقريبها للأذهان -هذا في الصفحة السابعة-، وأن من أجود الكتب تقريرًا وتقريبًا وتحقيقًا وسهولة عبارةٍ لمرعي الكرمي، وذكرتُ أيضًا بعض مزايا هذا الكتاب سنربطها بالكلام عن …..

نسبه

….. بن يوسف الكرمي، والكَرْمِي: نسبةٌ لطول كَرْم، وهي بلدةٌ في فلسطين.

المقدسي: نسبةٌ للقدس.

الأزهري: نسبةٌ للأزهر.

وقد تصدى وتصدر للإقراء والتدريس في جامع الأزهر.

الحنبلي: نسبةٌ لمذهب الحنابلة.

المُلقب بزين الدين، ولم نقف له على كُنيةٍ فيما تُرجم له، لكنه قال في أحد مُصنفاته -وهو مطبوعٌ- واسم هذا المصنف: “تحقيق البرهان في شأن الدخان الذي يشربه الناس الآن”، وهذه رسالةٌ لطيفةٌ، قال في هذه الرسالة: “وقد تشتت الفكر والبال من هَمِّ العيال”، فيبدو أنه كان يُعاني من هذا الأمر؛ لأن كسب لقمة العيش وهَمَّ توفيرها للعيال لا شكَّ أنه يستغرق وقتًا من الإنسان؛ ولهذا ذكر بعض أهل العلم أنه يدخل في جَهْد البلاء: قِلة المال، وكثرة العيال؛ ولهذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من جَهْد البلاء ويقول: تعوَّذوا بالله من جَهْد البلاء [1]، وكان يتعوذ أيضًا من دَرَك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء [2]، فيدخل في جَهْد البلاء: قِلة المال، وكثرة العيال، فالمصنف رحمه الله قال: “تشتت الفكر والبال من هَمِّ العيال”.

مولده

وُلِدَ رحمه الله في “طول كَرْم”، لكن المصادر لم تتطرق إلى تحديد سنة ولادته، وقد حرصتُ على أن أستقرئ التراجم لمعرفة سنة ولادته، ولم يتيسر ذلك وقت طباعة الكتاب؛ لأجل أن نعرف عمره، كم عاش؟ لأنه توفي سنة 1033هـ.

ثم وجدتُ في كتاب “فوائد الارتحال ونتائج السفر في أخبار القرن الحادي عشر” لمصطفى الحموي -وهذا غير موجودٍ في “السلسبيل”، فيمكن أن يُضاف له- وجدتُ فيه: أن مرعي الكرمي وُلِدَ سنة 988هـ، ويكاد يكون هذا المصدر الوحيد الذي ذكر سنة ولادته.

معنى ذلك: كم يكون عمره؟ وُلِدَ 988هـ، وتوفي 1033هـ.

خمسةً وأربعين، تُوفي وعمره خمسةٌ وأربعون عامًا، يعني: توفي شابًّا، ومع ذلك خلَّف هذه الكتب وهذه المُصنفات، وهذا يدل على عظيم أثر التأليف.

وعلى هذا يكون هو أكبر من البُهوتي؛ لأن البُهوتي وُلِدَ سنة 1000هـ، وتُوفي سنة 1051هـ، لكن ذُكر أن البُهوتي من مشايخه، ولم أقف في أكثر الترجمات التي وقفتُ عليها، لم أذكر أنهم ذكروا أن البُهوتي من مشايخه، لكن ذكر ابن بشر في “عنوان المجد في تاريخ نجد” أن مرعي الكَرْمي كان من تلامذة البُهوتي، وأنه عرض “دليل الطالب” عليه، فتعجَّب البُهوتي منه، وقال: “تَزَبَّبْتَ قبل أن تَتَحَصْرَم”، وهذا مَثَلٌ، ما معناه؟

تَزَبَّب من الزبيب، يعني: إذا أصبح العنب زبيبًا قبل أن يتحصرم، قبل أن يكون حامضًا ويمر بمراحل الزبيب، يعني: كأنه استعجل، فجعل هذا العنب زبيبًا قبل أن يتحصرم، قبل أن يكون حامضًا، ويتحول إلى حلوٍ، ثم يكون زبيبًا، فيقولون للشيء الذي قد استعجل: تَزَبَّب قبل أن يتحصرم.

لكن هذه القصة لم نجدها في كتب التراجم، إنما ذكرها هنا ابن بشر، وهناك مَن أنكرها، فقد أنكرها كثيرٌ من أهل العلم، قالوا: إنها لا تصح، وبعيدٌ على البُهوتي أن يقول هذا الكلام، خاصةً أنه أصغر منه، وأن مرعي فقيهٌ معروفٌ، وهو أكبر منه سنًّا، وله مُؤلفاتٌ عظيمةٌ، فأنكر كثيرٌ من أهل العلم هذه القصة، وقالوا: إنها لا تثبت. وذكرها مَن ذكرها -كابن بشر- من غير إسنادٍ، والأقرب عدم ثبوتها.

طلبه للعلم

ثم ارتحل مرعي الكرمي كبقية أهل العلم، وأكمل دراسته الأولى على مشايخ بلده، وارتحل إلى بيت المقدس، ثم انتقل إلى القاهرة، ودرس على علمائها في جامع الأزهر، وانقطع للعلم والتعلم فيه حتى أصبح أحد العلماء البارزين، ثم بعد ذلك أصبح معلمًا وتصدر للتدريس والتأليف والفُتيا.

أبرز شيوخه وتلاميذه

شيوخه من أبرزهم: محمد المرداوي -ليس صاحب “الإنصاف”، وإنما غيره- ويحيى الحجاوي، وأحمد الغنيم الأنصاري.

ومن أبرز تلاميذه: محمد الجمازي، وعبدالباقي البعلي، وأحمد الكرمي.

ثناء العلماء عليه

أما ثناء العلماء عليه فكثيرٌ، ومن ذلك ما قاله المُحبي -أحد أكابر الحنابلة في مصر-: “كان إمامًا، مُحَدِّثًا، فقيهًا، ذا اطلاعٍ واسعٍ على نقول الفقه ودقائق الحديث، ومعرفةٍ تامةٍ لعلومٍ مُتداولةٍ”.

ابن بشر أيضًا أثنى عليه -مع أنه ذكر هذه الحكايات التي ذكرتُ- قال: “كانت له اليد الطُّولى في معرفة الفقه والحديث، وكان من المُكثرين في التأليف”، يُقال: إنه بلغتْ مُصنفاته ما يُقارب خمسةً وثمانين كتابًا ورسالةً، وما زال الكثير منها مخطوطًا، ولعل الله يُيسر إخراجها.

وفاته

كان يُفترض هنا ذكر وفاته، فلعلها تكون في الطبعة القادمة حين تُضاف التعديلات.

توفي سنة 1033هـ.

هذا فيما يتعلق بالمؤلف.

مقدمة عن الكتاب

أما بالنسبة لمتن “دليل الطالب” فهذا المتن مُختصرٌ لكتاب “مُنتهى الإرادات في جمع المُقنع مع التَّنقيح والزيادات”.

إذن “دليل الطالب” مُختصرٌ لـ”مُنتهى الإرادات في جمع المُقنع مع التنقيح والزيادات”، و”مُنتهى الإرادات” للفُتوحي المعروف بابن النَّجار.

و”منتهى الإرادات” له مكانةٌ عظيمةٌ عند مُتأخري الأصحاب من الحنابلة، ويعتمدون عليه في التصحيح والترجيح والتدريس والفُتيا، وقد جمع بين كتابين:

الأول: “المقنع” للموفق ابن قُدامة.

الثاني: “التنقيح المُشبع” للمرداوي.

فجمع فيه بين هذين الكتابين، ثم أتى “دليل الطالب” مُختصرًا لهذا الكتاب “المُنتهى”.

ولهذا قال: “اعلم أن لأصحابنا ثلاثة متونٍ حازتْ اشتهارًا: الأول: “مختصر الخِرَقي” … إلى أن ألَّف المُوفق كتابه “المقنع”، فاشتهر قريبًا من اشتهار الخِرَقي، إلى عصر التسعمئة حيث صنَّف المرداوي “التنقيح المُشبع”، ثم جاء الفُتوحي وجمع بين “المقنع” و”التنقيح” في “منتهى الإرادات”، فعكف الناس عليه، وهجروا ما سواه”.

فـ”منتهى الإرادات” أصبح على اسمه “المنتهى”، وعكف الناس عليه وطلبة العلم.

ولم يقتصر الشيخ مرعي على “المقنع” و”التنقيح”، بل أضاف إضافاتٍ؛ ولهذا قال: “منتهى الإرادات في الجمع بين المُقنع والتَّنقيح والزيادات”.

وأيضًا صاحب الدليل ….. وزاد زياداتٍ.

عدة شروحات وحواشٍ.

منهج المؤلف في “السلسبيل”

ذكرتُ بعد ذلك المنهج في هذا “السلسبيل”، وهو موجودٌ بين أيديكم:

توضيح عبارة المؤلف.

بيان الدليل أو التعليل ….. خلاف العناية بالدليل.

العناية ببيان درجة الحديث، وذكر أبرز النوازل المعاصرة.

العناية بربط الشرح بثلاثة علومٍ، وهذه نقطةٌ مهمةٌ: ربط الشرح بثلاثة علومٍ لا يستغني عنها مَن يريد التَّفقه.

أفضل طريقةٍ للتَّفقه

هذه أفضل طريقةٍ للتَّفقه: الجمع بين ثلاثة علومٍ، ما هي؟

الفقه، وأصول الفقه، والحديث.

مَن يريد أن يتفقه بطريقةٍ صحيحةٍ لا بد أن يجمع بين هذه العلوم الثلاثة: الفقه، وأصول الفقه، والحديث، بحيث تُذكر المسألة الفقهية وكلام الفقهاء مُتضمنًا المسائل الأصولية والفقهية المُرتبطة بها، وأيضًا الأحاديث الواردة فيها.

وهذه الطريقة أفضل من أن تنطلق من كتب الحديث، يعني: بعض الناس -مثلًا- ينطلق من الـ”بلوغ”، أو من “عمدة الأحكام”.

لا، انطلق من كتب الفقه، واربطها بالحديث؛ لماذا؟

لأن كثيرًا من المسائل مبناها على التعليم، ما عليها أدلةٌ، خاصةً أبواب المعاملات؛ لأنك لو أتيت -مثلًا- لأبواب الشركة لا يوجد إلا حديثٌ أو حديثان، وأيضًا في مُستندها مقالٌ، وهو من أعظم الأبواب، ففيه نوازل، وفيه مسائل كثيرةٌ، فالذي سينطلق من كتب الحديث أو من كتب الفقه لن تمر عليه هذه المسائل؛ ولذلك فإن الأفضل في التَّفقه أن تنطلق من كتب الفقه وتربطها بالحديث، وأيضًا عندما تنطلق من كتب الفقه تربطها بأصول الفقه، وهذا هو الذي فعلنا في هذا الكتاب.

وهذا الكتاب شُهرته كبيرةٌ، وكما ذكرنا: عليه تعليقاتٌ وشروحٌ وحواشٍ، ومذهبه أنه يذكر قولًا واحدًا على مذهب الإمام أحمد.

أيهما أفضل “دليل الطالب” أم “زاد المُستقنع”؟

ذكر الشيخ بكر أبو زيد في “المدخل المُفصل” أن “دليل الطالب” يتميز على “زاد المُستقنع” بأنه أسهل منه عبارةً، وأخفّ تعقيدًا؛ ولهذا كان هو المتن المُعتمد في طبقته ومَن بعده عند علماء الشام والقصيم، على خلاف ما جرى عليه عامة أهل الجزيرة من العناية بـ”زاد المُستقنع”.

يعني: من الناحية التعليمية “دليل الطالب” أفضل من “زاد المُستقنع”، ومن حيث كثرة المسائل “زاد المُستقنع” أكثر مسائل من “دليل الطالب”، فلكلٍّ منهما مَزيةٌ، لكن من الناحية التعليمية “دليل الطالب” أفضل؛ ولذلك تجده -مثلًا- يجمع الأركان، ويجمع لك الشروط، ويجمع لك الواجبات، وهذا ما تجده في الـ”زاد”، فهو يتفوق بحُسن الترتيب والتنظيم، فهو من الناحية التعليمية “دليل الطالب” أفضل من الـ”زاد”، والـ”زاد” يتفوق عليه بكثرة المسائل.

نحن ذكرنا أنه مُختصر “مُنتهى الإرادات”، والمؤلف أشار في مقدمته -على سبيل التورية- لذلك فقال: “الفائز بمُنتهى الإرادات من ربه”، وله عدة شروحٍ وحواشٍ، ومنظوماتٍ أيضًا، فقد نُظِمَ في منظوماتٍ.

مقدمة المؤلف

ننتقل لمقدمة المؤلف.

قال المؤلف:

بسم الله الرحمن الرحيم.

بدأ بالبسملة اقتداءً بكتاب الله ، وتأسيًا بالنبي ، فقد كان يبدأ كتبه ورسائله بالبسملة، قال: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم [3] كما في “صحيح البخاري”، فكتب النبي عليه الصلاة والسلام كان يبدأها بالبسملة، وكتاب سليمان : إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ۝أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:30-31].

لكن خطب النبي عليه الصلاة والسلام هل كانت تبدأ بالبسملة؟

خُطَبه وكلماته ومواعظه كانت تبدأ بالحمد؛ ولهذا فإن الأفضل في الخُطَب والمحاضرات والدروس ونحوها أن تبدأ بالحمد، وليس بالبسملة.

وأما المُؤلفات والكتب والرسائل فتبدأ بالبسملة، وهذا من اللطائف لطالب العلم، فعندما تريد أن تُلقي كلمةً فالأفضل أن تبدأ بالحمد، والخطبة بالحمد، والدرس بالحمد، وإذا أردت أن تُؤلف أو تكتب كتابًا أو رسالةً فتبدأ بالبسملة.

وهنا النبي عليه الصلاة والسلام قال: عظيم الروم، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يُنزل الناس منازلهم، فهو عظيم الروم، مع أنه كان كافرًا، لكن لا يمنع من أن يُنزل الناس منازلهم.

والمراد بـ”بسم الله” كل اسمٍ من أسماء الله تعالى.

و”الله” قيل: إنه اسم الله الأعظم، ومعناه: المألوه، أي: المعبود …..

و”بسم الله” متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ؛ لأن “بسم الله” جارٌّ ومجرورٌ، فهو مُتعلقٌ بفعلٍ مُناسبٍ للمقام، فعندما تقول عند الأكل: بسم الله، يكون التقدير: بسم الله آكل، وعندما تشرب تقول على التقدير: بسم الله أشرب، وعندما تقرأ تقول: بسم الله أقرأ.

و”الرحيم” ليس خاصًّا بالله، فقد يُطلق على البشر، كما قال الله عن النبي عليه الصلاة والسلام: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، لكن رحمة الله ليست كرحمة المخلوقين، فرحمة الله تختلف عن رحمة المخلوقين، رحمة الله على الوجه اللائق بالله سبحانه.

قال العبد الفقير إلى الله تعالى.

يعني: ينبغي للمسلم أن يتواضع، وألا يُزكِّي نفسه، وأن يصف نفسه بالفقر، والله تعالى يقول: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم:32]، فيبتعد الإنسان عن تزكية نفسه، وكلنا فقراء إلى الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ [فاطر:15].

قال:

مرعي بن يوسف، الحنبلي، المقدسي: الحمد لله.

بدأ بالحمد، والحمد هو: الاعتراف للمحمود بصفات الكمال مع محبَّته وتعظيمه.

إذن الحمد: الاعتراف والثناء على المحمود بصفات الكمال، مُقترنًا ذلك بالمحبة والتعظيم؛ ولذلك يختلف عن الثناء والشكر، فالثناء قد لا يكون مُقترنًا بالمحبة والتعظيم، فقد يُثني الشاعر على إنسانٍ وهو لا يُحبه، لكن إذا قيل: حمده، فقد أثنى عليه ثناءً مُقترنًا بالمحبة والتعظيم، والله تعالى يُحْمَد على كماله، وعلى إنعامه.

“الحمد لله”: اللام للاختصاص والاستحقاق؛ لأن الله هو المُستحق للحمد المُطلق جلَّ وعلا، والمُختص بالله سبحانه.

رب العالمين.

الخلائق من الإنس والجن والملائكة والدواب، وكل ما سوى الله فهو عالم: عالم الملائكة، وعالم الإنس، وعالم الجن، إلى غير ذلك، وسُمِّي عالمًا لأنه عَلَمٌ على وجود الله ، علامةٌ على مُوجده سبحانه.

ثم قال:

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

الشهادة: إقرارٌ بالقلب، ونطقٌ باللسان.

“لا إله إلا الله” تعريفها عند أهل السنة -التعريف الصحيح للا إله إلا الله-: لا معبود بحقٍّ إلا الله، وليس المعنى: لا موجود إلا الله، يعني: لا إله موجود إلا الله؛ لأنه توجد آلهةٌ للكفار، آلهةٌ باطلةٌ.

فالمعنى إذن: لا معبود بحقٍّ في الوجود إلا الله ، وهذا هو التعريف الصحيح للا إله إلا الله.

“لا شريك له” أي: لا أحد يُشاركه في صفاته، ولا في أفعاله، ولا ربوبيته وألوهيته.

مالك يوم الدين.

وهذا أخذه من سورة الفاتحة: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، ويوم الدين هو يوم القيامة، وخُصَّ ذلك مع كونه سبحانه مالكًا للدين والدنيا؛ لأن الأملاك يوم القيامة زائلةٌ، فلا ملك ولا أمر إلا لله: يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]؛ ولأن ملك الله يظهر يوم القيامة واضحًا جليًّا، أما في الدنيا فكما ترون؛ الدنيا ليست بدار عدالةٍ، الدنيا فيها ظالمٌ ومظلومٌ، وفيها ملوك الدنيا، وفيها مَن له سلطةٌ، لكن ملك الله يظهر يوم القيامة، والدار الآخرة هي دار العدالة المُطلقة، أما الدنيا فهل الدنيا دار عدالةٍ؟

الجواب: لا، الدنيا ليست بدار عدالةٍ، الدنيا فيها ظالمٌ ومظلومٌ، لكن الآخرة هي دار العدالة المُطلقة: يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ؛ ولهذا قال: “مالك يوم الدين”، مع أنه مالكٌ للدين والدنيا، لكن لأن ملك الله يظهر جليًّا واضحًا يوم القيامة.

قال:

وأشهد أن محمدًا عبده.

“وأشهد أن محمدًا” محمد بن عبدالله خاتم الأنبياء والرسل عليه الصلاة والسلام.

“عبده” أشرف وصفٍ للمسلم هو وصف العبودية؛ ولهذا ذكره الله في أشرف مقاماته، ذكره في مقام الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الإسراء:1]، وذكره في مقام تنزيل القرآن: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف:1]، وذكره في مقام الدعوة إلى الله: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ [الجن:19]، فالعبودية وصف شرفٍ للإنسان.

قال:

ورسوله.

الرسول: هو من أُوحي إليه بشرعٍ، وأُمِرَ بتبليغه، وهو أخصُّ من النبي.

النبي: مَن أُوحي إليه بشرعٍ، ولم يُؤمر بتبليغه، أما الرسول: مَن أُوحي إليه بشرعٍ، وأُمِرَ بتبليغه.

فمثلًا: آدم نبيٌّ أو رسولٌ؟

آدم نبيٌّ، وليس رسولًا، ونوح رسولٌ، وجميع مَن ذُكِرَ في القرآن من الأنبياء كلهم رُسلٌ إلا آدم، فهو نبيٌّ، وإلا فجميع مَن ذُكِرَ في القرآن كلهم رُسلٌ.

عدد الأنبياء والرسل كما جاء في حديث أبي ذرٍّ : مئةٌ وأربعةٌ وعشرون ألفًا [4]، فهذا يدل على كثرة البشر، يعني: أربعةً وعشرين ألفًا، كل نبيٍّ في أُمةٍ، وعدد الرسل منهم ثلاثة عشر ألفًا.

قال:

المُبيِّن لأحكام شرائع الدين.

أي: أن النبي عليه الصلاة والسلام بيَّن كل أحكام الدين من حلالٍ، وحرامٍ، ومكروهٍ، ومُباحٍ، ومندوبٍ، وواجبٍ، وكل ما يحتاج إليه الناس.

الفائز بـ”مُنتهى الإرادات”.

هذا هو الإلماح الذي ذكرتُه قبل قليلٍ: أن هذا المتن مُختصرٌ من كتاب “مُنتهى الإرادات”، وهنا ألمح المؤلف لذلك فقال: “الفائز بمُنتهى الإرادات”.

بعد كم سنةٍ يكون الحساب يوم القيامة؟

قوله: “الفائز بمُنتهى الإرادات” يعني: نال غاية المُنَى من ربه ، وجعله سيد ولد آدم، ويُظهر الله تعالى شرفه وفضله وسيادته في الموقف العظيم حينما يُحشر الناس حُفاةً، عُراةً، غُرْلًا، هذه الأعداد العظيمة من البشر تُحشر، ويُسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، ويبقون على عرصات القيامة حتى يُحاسبوا خمسًا وعشرين ألف سنةٍ، ويوم القيامة مقداره خمسون ألف سنةٍ، لكن الحساب يكون بعد خمسٍ وعشرين ألف سنةٍ.

مَن يذكر لنا الدليل؟

مرَّ معنا في الدرس، على أن الحساب يبدأ بعد خمسٍ وعشرين ألف سنةٍ من وقوف الناس في الموقف.

الدليل: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24]، والقيلولة تكون منتصف النهار، وهذا أُثِرَ عن الصحابة، فقد أُثِرَ عن ابن عباسٍ وابن مسعودٍ -وأيضًا عدد من التابعين- أن الحساب يكون بعد خمسٍ وعشرين ألف سنةٍ، منتصف اليوم، وخمسٌ وعشرون ألف سنةٍ -كما ترون- عددٌ كبيرٌ، يعني: كم تعيش في هذه الدنيا؟

ستون، سبعون، قل: مئة سنة، فكم نسبتها إلى هذا العدد؟

لا شيء، وهذا يدل على شدة هول الموقف، فهو يومٌ عظيمٌ، فيَمَلّ الناس، ويُصيبهم من الكرب والغَمِّ ما لا يُطيقون، وما لا يحتملون، ثم يقول بعضهم لبعضٍ: لماذا لا نذهب لأحدٍ يشفع لنا عند الرب سبحانه؟

في ماذا؟

في الفصل للقضاء، فيذهبون لآدم  ويعتذر، ويذهبون لنوحٍ  ويعتذر، ويذهبون إلى موسى  فيعتذر، وإلى إبراهيم  فيعتذر، وإلى موسى ، ثم إلى عيسى ، ثم إلى محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وكل أولي العزم يعتذرون مع آدم ، حتى يصلوا إلى محمدٍ عليه الصلاة والسلام، فلا يعتذر، ويسجد تحت العرش، ويقبل الله شفاعته؛ فيُظهر الله تعالى فضله للأولين والآخرين، وهذا هو المقام المحمود الذي أُعطيه، وهذا الذي أشار إليه المؤلف بقوله: “الفائز بمُنتهى الإرادات من ربه”، وهذه الشفاعة العظمى من خصائصه عليه الصلاة والسلام.

قال:

فمَن تمسك بشريعته فهو من الفائزين.

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71].

صلى الله وسلم عليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

كما ذكرنا أن الصلاة من الله عليه تعني: ثناءه عليه في الملأ الأعلى، فالصلاة من الله على الإنسان معناها: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى.

والمراد بالسلام: الدعاء له بالسلامة من النقائص والرذائل والآفات.

وفي الجمع بينهما سرٌّ بديعٌ؛ ففي الصلاة حصول المطلوب والثناء عليه، وفي السلام زوال المرهوب؛ ولذلك ينبغي الجمع بينهما، لكن هنا قول المؤلف: “وعلى جميع الأنبياء والمرسلين”، هل يصح أن تقول لبقية الأنبياء: ؟ نوح ، موسى .

يصح، لكن الذي تعارف عليه الناس أنهم يقولون: محمدٌ ، لكن لو قيل عن غيره من الأنبياء والرسل  فلا بأس.

قال:

وعلى آل كلٍّ وصحبه أجمعين.

يعني: آل كلٍّ من جميع الأنبياء والمرسلين.

والمراد بـ”آل” هنا في كلام المؤلف: الأتباع، يعني: كأن المؤلف يقول: وعلى أتباع هؤلاء الأنبياء والمرسلين، ويدخل فيهم أتباعهم من قرابتهم دخولًا أوليًّا.

“وصحبه” جمع صاحبٍ.

والصحابي: مَن لقي النبيَّ مؤمنًا به، ومات على ذلك.

لقي النبيَّ مؤمنًا به، فلا بد أن يراه مؤمنًا به، فإن آمن به ولم يَرَه مثل: النجاشي، هل يكون صحابيًّا؟

لا؛ ولذلك عدَّ الذهبي في “السِّيَر” النجاشيَّ من التابعين؛ لأنه آمن بالنبي ولم يَرَه.

قال:

وبعد.

يعني: بعدما ذُكِرَ، وهي كلمةٌ تابعةٌ للدخول في الموضوع الذي يُقْصَد.

فهذا مُختصرٌ في الفقه.

يعني: اسم الإشارة يعود إلى ما تصوره المؤلف في ذهنه.

والمُختصر: ما قلَّ لفظه، وكثُر معناه. هذا هو التعريف للمُختصر.

تعريف الفقه

“مختصرٌ في الفقه” الفقه لغةً: الفهم.

واصطلاحًا -أحسن تعريفٍ له-: معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية.

أما معرفة الأدلة الإجمالية -معرفة أدلة الفقه إجمالًا- وكيفية الاستفادة منها، وحال المُستفيد، هذا يُسمى ماذا؟

أصول الفقه.

وهناك فرقٌ بين الفقه وأصول الفقه؛ فالفقه: معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية، أما أصول الفقه فهو: معرفة أدلة الفقه إجمالًا، مثل: الكتاب، والسنة، والقياس، والإجماع، وكيفية الاستفادة منها، وحال المُستفيد.

قال:

على المذهب الأحمد.

يعني: المَرْضي.

مذهب الإمام أحمد.

تعريف المذهب

المذهب في اللغة: اسمٌ لمكان الذهاب أو زمانه.

وفي الاصطلاح: ما قاله المُجتهد بدليلٍ ومات قائلًا به.

هذا هو تعريف المذهب، ومذهب الإمام أحمد هو: ما قاله الإمام أحمد وذهب إليه في كتبه، أو المروي عنه، أو المُخرج على قوله في المسائل الاجتهادية.

وعلى ذلك أصبح إذا قيل: مذهب أحمد، ومذهب الحنابلة، أصبح يُراد به مدرسةً فقهيةً، مدرسة الحنابلة الفقهية؛ ولذلك أحيانًا يكون مذهب الحنابلة خلاف قول الإمام أحمد، ومثل ذلك بقية الأئمة، فأحيانًا يكون مذهب الحنفية خلاف قول أبي حنيفة، ومذهب المالكية خلاف قول مالك؛ لأنه أصبح مدرسةً: مدرسة الحنفية، ومدرسة المالكية، ومدرسة الشافعية، ومدرسة الحنابلة.

وقد كانت هناك مذاهب كثيرةٌ انقرضتْ، وبقيتْ منها هذه المذاهب الأربعة.

ترجمةٌ للإمام أحمد بن حنبل

الإمام أحمد معروفٌ، فهو أحد أئمة أهل السنة: أحمد بن محمد بن حنبل، الشيباني، إمام أهل السنة والجماعة في زمنه، المولود سنة مئةٍ وأربعٍ وستين للهجرة، والمُتوفى سنة مئتين وإحدى وأربعين، واشتهرتْ فضائله ومناقبه.

وهناك مقولاتٌ عن بعض أهل العلم، فعن الشافعي أنه قال: “أحمد إمامٌ فيه ثماني خِصالٍ”، وكان الشافعي إذا ذُكر الإمام أحمد لا يذكره باسمه، وإنما يقول: “حدثنا الثقة”، فكان يُعظمه جدًّا.

قال: “أحمد إمامٌ فيه ثماني خِصالٍ: إمامٌ في الحديث، إمامٌ في الفقه، إمامٌ في اللغة، إمامٌ في القرآن، إمامٌ في الفقر، إمامٌ في الزهد، إمامٌ في الورع، إمامٌ في السنة”.

هذه كلمةٌ عظيمةٌ من الإمام الشافعي، والإمام الشافعي اشتُهر بالمقولات الحسنة والحِكَم -حِكَم الشافعي ومقولاته- ومعروفٌ بأنه ضليعٌ في اللغة، وفي الأدب، وفي الفقه، فهو إمامٌ من الأئمة، إمامٌ عظيمٌ من الأئمة، بل قال ابن هشام صاحب “السيرة”: “إن كلام الشافعي حُجةٌ في اللغة”.

قال يحيى بن معين: “كان في أحمد بن حنبل ستُّ خِصالٍ، ما رأيتها في عالِمٍ قط: كان مُحدِّثًا، وكان حافظًا، وكان عالِمًا، وكان ورعًا، وكان زاهدًا، وكان عاقلًا”.

والإمام أحمد مُحدِّثٌ وفقيهٌ، ….. يقول: إنه مُحدِّثٌ، وليس فقيهًا. وهذا غير صحيحٍ، وإنما هو مُحدِّثٌ وفقيهٌ.

وقد تجد في بعض الكتب أن أصحابها لا يذكرونه مع الفقهاء، وبعضهم لا يذكر أصلًا مذهب الحنابلة، فتجد بعض كتب الحنفية ما تذكر الحنابلة، يذكرون مذهبهم والمالكية والشافعية، ولا يذكرون الحنابلة؛ لأنهم يرون أن الإمام أحمد مُحدِّثٌ وليس بفقيهٍ، وهذا غير صحيحٍ، فهو مُحدِّثٌ وفقيهٌ رحمه الله.

وقد ثبت رحمه الله هو ونفرٌ قليلٌ من العلماء في محنة القول بخلق القرآن في عهد المأمون، وتحمل في ذلك أذًى عظيمًا من الحبس والضرب.

هذه المحنة حصلت في عهد المأمون، والمأمون كان مُحبًّا للعلم، فأمر بترجمة كتب اليونان، وهذه الترجمة فتحتْ على الناس أبوابًا عظيمةً من الشر، فيها حسناتٌ، وفيها سيئاتٌ، لكن كان شرُّها أعظم من خيرها، فحصل هذا الانفتاح في عهد المأمون.

لما حصل هذا الانفتاح، وتُرجمتْ كتب اليونان؛ انشغل بعض الناس بعلم الكلام، وظهرتْ المُعتزلة، والجهمية -وإن كانت موجودةً من قبل، لكنها برزتْ في عهد المأمون- ثم امتحنوا الناس بخلق القرآن؛ بأن القرآن مخلوقٌ، وليس مُنزلًا، وزيَّنوا ذلك للمأمون.

وكان المأمون رجلًا عالِمًا، مُثقفًا، فأمر بإلزام الناس بالقول بخلق القرآن، وامتحان العلماء وطلبة العلم، ومَن لا يقل بخلق القرآن يُحبس ويُضرب -إلى هذه الدرجة- فمن العلماء مَن تأول، ومنهم مَن خاف ووافق وقال: أنا مُضطرٌّ. ولم يثبت منهم إلا أربعةٌ، ثم اثنان رجعا وقالا بخلق القرآن، ولم يثبت في الأمة إلا اثنان: الإمام أحمد، ومحمد بن نصر.

فأمر المأمون بأن يُؤتى بهما مُكبَّلين، مُقيَّدين بالأغلال والحديد، وأُوتي بهما.

ثم توفي محمد بن نصر في الطريق، وكان شابًّا، فترحم عليه الإمام أحمد، وصلَّى عليه، وأثنى عليه كثيرًا، وبقي في الأمة فقط الإمام أحمد.

سبحان الله!

وحُبِسَ، وليس حبسًا فقط، بل مع الضرب، وكان يقول للجلَّادين: أنا لا أخشى الموت، فكلٌّ سيموت، لكني أخشى فتنة السوط.

يعني: أنه يُضرب ويُفتن في دينه، فسمعه أحد الجلَّادين فقال: ما هو إلا سوطٌ أو سوطان ثم لا تدري أين أنت؟

يعني: يُغْمَى عليك، فلما سمع ذلك سُري عنه -فرح-، يعني: إلى هذه الدرجة، يُضرب إلى أن يُغْمَى عليه، ومع ذلك ثبت وبقي.

وتوفي المأمون وأتى من بعده المُعتصم، والمعتصم كان رجلًا عاميًّا، ولم يكن مثل المأمون، لكن صار على طريقته.

وبقي الإمام أحمد ثمانيةً وعشرين شهرًا في السجن مع الضرب الشديد إلى أن فُرِّج عن المسلمين لما ولي الخلافة المتوكل، فرجعت الأُمة كلها لقول الإمام أحمد.

سبحان الله!

فأعزَّ الله تعالى به الدين، وكما يقول ابن المديني: “إن الله ​​​​​​​ أعزَّ هذا الدين برجلين ليس لهما ثالثٌ: أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة”.

وفي الحقيقة أنا أُوصي بقراءة تراجم الأئمة وأهل العلم والصلاح؛ فإنها تَشْحَذ الهمم، يعني: ذُكِرَ في ترجمة الإمام أحمد أنه كان يصلي لله تعالى في اليوم والليلة تطوعًا من غير الفريضة ثلاثمئة ركعةٍ.

وهذا ذكره أكثر من واحدٍ في ترجمته: ثلاثمئة ركعةٍ؛ لأنه يرى أن أحبَّ العمل إلى الله الصلاة، فهو يشتغل بالصلاة: ركعتين، ركعتين.

وكان الحافظ المقدسي صاحب “عمدة الأحكام” يقتدي بالإمام أحمد في هذا، فيصلي في اليوم والليلة ثلاثمئة ركعةٍ، لكن بعدما ضُرِبَ الإمام أحمد ضَعُفَ بدنه؛ فأصبح يُصلي مئةً وخمسين ركعةً بعد الضرب وضعف بدنه رحمه الله.

قال المصنف:

بالغتُ في إيضاحه رجاء الغُفران، وبيَّنتُ فيه الأحكام أحسن بيانٍ.

الأحكام: جمع حُكم، وهو خطاب الله المُتعلق بأفعال المُكلفين بالاقتضاء، أو التخيير، أو الوضع.

هذا تعريف الحُكم عند الأصوليين.

والمصنف أثنى على كتابه، ولا مانع من أن يُثني الإنسان على كتابه؛ ليُبين قيمته العلمية لغيره، وهذا يفعله العلماء، فتجد -مثلًا- ابن القيم يُثني على بعض مُؤلفاته وكتبه، وإذا اقتضت المصلحة ذلك فلا بأس، بل حتى إذا اقتضت المصلحة أن يُثني الإنسان على نفسه: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55] يعني: يوسف عليه الصلاة والسلام لو لم يقل هذا ما جعله الملك على خزائن الأرض، فالمصلحة عظيمةٌ في هذا، فلو أنه تورَّع وقال: ما أُزكِّي نفسي، وسكت، ما جعله الملك …، يقول: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ [يوسف:54] فرصةٌ، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ يعني: رأى أنه ما في أحد مثله يقوم بهذا المنصب، وبالفعل كان حفيظًا، أمينًا، عليمًا، فإذا اقتضت المصلحة ذلك فلا مانع.

فالمؤلف هنا أثنى على هذا المتن لأجل أن يُنبه القارئ لقيمة هذا المتن العلمية، وبيَّن أنه يريد بذلك الغفران من الله .

قال:

لم أذكر فيه إلا ما جزم بصحته أهل التصحيح والعرفان، وعليه الفتوى فيما بين أهل الترجيح والإتقان.

بيَّن المؤلف منهجه في هذا الكتاب، وأنه لا يذكر سوى القول المُعتمد في المذهب، الذي عليه الفتوى عند المُحققين من الحنابلة: كالمرداوي صاحب “الإنصاف”؛ وذلك لأجل الاختصار والتسهيل على الطلاب، مع أن هذا الكتاب في الأصل مُختصرٌ، وأن المؤلف أفصح وقال: إنه مُختصرٌ لـ”مُنتهى الإرادات”، لكان أحسن وأجود.

قال:

وسميتُه بـ”دليل الطالب لنيل المطالب”.

وهذه عادة كثيرٍ من المؤلفين، حيث يذكر اسم كتابه في مقدمته؛ تمييزًا له عن غيره، وحتى لا يضيع اسم الكتاب مع تداوله بأيدي النُّسَّاخ.

قال:

والله أسأل أن ينفع به مَن اشتغل به، وأن يرحمني والمسلمين، إنه أرحم الراحمين.

هذا من دعاء المؤلف، فنسأل الله تعالى إجابته؛ لأن الانتفاع بالكتاب المُؤلَّف من أهم الأغراض الداعية إلى تأليفه.

وأيضًا ينبغي أن يسأل الله البركة، فمَن ألَّف كتابًا، أو صنَّف كتابًا يسأل الله البركة، فإن البركة يجعلها الله تعالى في بعض المؤلفات وبعض الكتب؛ فينفع الله تعالى بها نفعًا عظيمًا.

وبعض الكتب يُبْذَل فيها جهدٌ كبيرٌ، ولا يُستفاد منها، تُنزع منها البركة.

وهذا نجده في مؤلفات بعض العلماء، مثل: النووي، فانظر إلى البركة العظيمة في مؤلفاته، مع أنه مات شابًّا!

والمؤلف نفسه -مرعي الكرمي- مات وعمره خمسٌ وأربعون سنةً، يعني: شابًّا أيضًا، وجعل الله في كتبه البركة العظيمة.

وكتب ابن تيمية رحمه الله جعل الله تعالى فيها بركةً عظيمةً.

فالبركة شيءٌ يجد الإنسان أثره في العلم، وأثره في التأليف، وأثره في سائر الأمور، وأثره في الوقت، وأثره في العمر، وأثره في المال، وأثر البركة في الصحة، وأثر البركة في الأولاد، وفي الزوجة، وفي كل شيءٍ.

ولذلك من الأدعية العظيمة التي ينبغي أن تحرص عليها: أن تسأل الله البركة، تقول: اللهم بارك لي -مثلًا- في وقتي، وبارك لي في عمري، وبارك لي في صحتي، وبارك لي في أموالي، وبارك لي في أولادي، وبارك لي في علمي، وفي عملي، فالدعاء بالبركة من الأدعية العظيمة.

أيضًا في التأليف ينبغي أن يُحرص على الجودة، فليست العبرة بالكثرة، وإنما الجودة؛ ولذلك تجد بعض العلماء ليس لهم إلا كتابٌ أو كتابان، لكن انتفع بهما الناس انتفاعًا عظيمًا جيلًا بعد جيلٍ، وقرنًا بعد قرنٍ، وبعضهم له عشراتٌ، وربما مئات الكتب، وليست في الجودة مثل هذه الكتب القليلة.

نضرب مثلًا لمَن كتبه مُجودةٌ، وعُنيت الأُمة بها قديمًا وحديثًا: الشاطبي، فالشاطبي كتبه قليلةٌ، ومؤلفاته قليلةٌ، وليست كثيرةً، يعني: عددها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، لكن انظر إلى عظيم نفعها، فهي كتبٌ مُجودةٌ ومُتقنةٌ، لكن تجد بعض مَن ألَّف يُؤلف مئات الكتب، ولا يكون لها من النفع والأثر مثل مَن جوَّد كتابه.

كتاب الطهارة

نبدأ بعد ذلك في الطهارة.

نحن ذكرنا أننا سنُعلق تعليقًا، وهذا الكتاب بين أيديكم، ولن نقرأ، سنُعلق، ونستدرك، ونُضيف أمثلةً وزياداتٍ وشروحاتٍ، ونحو ذلك.

قال المصنف رحمه الله:

كتاب الطهارة

وهي رفع الحدث، وزوال الخَبَث.

“كتاب” هذا خبرٌ مُبتدأه محذوفٌ، أي: هذا كتاب، وقد يُعبَّر عن الكتاب بالباب وبالفصل، وقد يُجْمَع بينهما.

وهذه اصطلاحاتٌ عند العلماء، وهناك الآن اصطلاحاتٌ أكاديميةٌ عند الباحثين في الرسائل العلمية: أن الباب يتفرع منه فصلٌ، والفصل يتفرع منه مبحثٌ، والمبحث يتفرع منه مطلبٌ … إلى آخره، فهذه مصطلحاتٌ، ولا مُشاحة في الاصطلاح.

وبدأ المؤلف بالطهارة اقتداءً بالأئمة، منهم الإمام الشافعي؛ وذلك لأن الطهارة مفتاح الصلاة، والصلاة آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ ولأن الطهارة تخليةٌ من الأذى، وكما قيل: البدء بالتخلية قبل التحلية.

هذا هو سبب بداءة كثيرٍ من أهل العلم بكتاب الطهارة.

تعريف الطهارة

طيب، ما تعريف الطهارة؟

الطهارة لغةً: مصدر طَهُرَ، فهو فعلٌ لازمٌ، لكن قد يتعدى بالتضعيف فتقول: طهَّرت الثوب، فيكون فعلًا مُتعديًا بالتضعيف، وإلا من حيث الأصل هو فعلٌ لازمٌ، ومعناه في اللغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار: حسيةً كانت هذه النجاسة، أو معنويةً، حسية مثل: النجاسات والقذر والبول والغائط، ونحو ذلك، أو معنوية، ومنه قول الله : وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4].

وإن كان وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ قيل أيضًا: المراد به: الطهارة الحسية، لكن نأتي بدليلٍ أصرح في الطهارة المعنوية: قول النبي عليه الصلاة والسلام للمريض: لا بأس، طهورٌ إن شاء الله [5]، “طهورٌ” يعني: مُطهرًا من الذنوب.

أما وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ فتشمل الطهارة الحسية والمعنوية، تشمل طهارة الثياب من النجاسة، وتشمل الطهارة من الشرك.

معنى الطهارة اصطلاحًا: عرَّفها المؤلف فقال: “رفع الحدث، وزوال الخبث”.

وهذا تعريفٌ مُختصرٌ، وهنا استدركتُ عليه فقلتُ: لو قال: “ارتفاع الحدث” لكان أنسب من “رفع الحدث”، لماذا؟

لأن الارتفاع تفسيرٌ للطهارة، أما الرفع فهو تفسيرٌ لفعل الفاعل، وهو التطهير؛ ولهذا تعريف صاحب “زاد المُستقنع” أجود.

تعريف صاحب الـ”زاد” قال: “ارتفاع الحدث”، وهنا صاحب الـ”دليل” قال: “رفع الحدث”.

“ارتفاع الحدث” أجود من “رفع الحدث”.

تعريف الحدث

والحدث: وصفٌ معنويٌّ يقوم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها.

إذا قيل: حدثٌ، ليس شيئًا حسيًّا يُرى، وإنما هو شيءٌ معنويٌّ، يُقال: حدث وأحدث ومُحْدِث، هو شيءٌ معنويٌّ يقوم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها.

وبعضهم يُضيف بعد قوله: “رفع الحدث”، أو “ارتفاع الحدث”: وما في معناه.

مثلًا: صاحب الـ”زاد” يقول: ارتفاع الحدث وما في معناه.

لماذا يُضيفون هذه الزيادة؟

لإدخال الأشياء المُستحبة: كغُسل الجمعة -مثلًا-، وتجديد الوضوء، ونحوه، فهذه ليس فيها رفع الحدث، مع أنها داخلةٌ في معنى الطهارة؛ ولذلك الأحسن أن يُقال: “ارتفاع الحدث وما في معناه”؛ حتى تدخل فيه هذه الأشياء المُستحبة.

“وزوال الخبث” عبَّر المؤلف بزوال، ولم يقل: إزالة، وهذا أدقُّ في العبارة؛ حتى يشمل ما زال بنفسه، وما زال بمُزيلٍ؛ لأن هذا كله داخلٌ في الطهارة.

الخَبَث: هي النجاسة.

الفرق بين الخَبَث والحدث

إذن هناك فرقٌ بين الخبث والحدث؛ الخبث: هي النجاسة، والحدث: وصفٌ معنويٌّ يقوم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها.

فالحدث شيءٌ معنويٌّ، والخبث شيءٌ حسيٌّ.

لاحظ الفرق بينهما، وهذه مُصطلحاتٌ ترد في كتب الفقه.

تعريف النجاسة

من أجود تعريفاتها: كل عينٍ يحرم تناولها، لا لضررها، ولا لاستقذارها، ولا لحُرمتها.

وهناك تعريفاتٌ كثيرةٌ، ولا يخلو كل تعريفٍ من انتقادٍ، لكن هذا هو أجود التعريفات.

“كل عينٍ يحرم تناولها، لا لضررها” احترازًا من السم؛ لأنه يحرم تناوله لضرره.

“ولا لاستقذارها” احترازًا مما يُسْتَقْذر: كالمُخاط ونحوه.

“ولا لحُرمتها” احترازًا من الصيد في الحرم.

طيب، هذا تعريف الطهارة، ولما كانت الطهارة تحتاج إلى شيءٍ يُتطهر به، ويُرفع به الحدث، ويُزال به الخبث، وهو الماء؛ انتقل المؤلف للكلام عن أحكام الماء.

أحكام الماء

قال:

وأقسام الماء ثلاثةٌ.

هنا المؤلف قسَّم الماء إلى ثلاثة أقسامٍ: طهورٍ، وطاهرٍ، ونجسٍ.

أقسام المياه

وبدأ في تفاصيلها، ولكن نذكر الخلاف قبل أن ندخل في عبارة المؤلف -المتن-، فالعلماء اختلفوا في تقسيم المياه على قولين مشهورين:

  • القول الأول: أن الماء ينقسم إلى: طهورٍ، وطاهرٍ، ونجسٍ.
    هذا هو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في الرواية المشهورة، يعني: المذاهب الأربعة.
    وعندهم الطهور: الطاهر في نفسه، المُطهر لغيره.
    والطاهر: الطاهر في نفسه، غير المُطهر لغيره.
    والنَّجس: ما تغير أحد أوصافه الثلاثة بنجاسةٍ، أو لاقاها وهو يسيرٌ.
    وهذه -إن شاء الله- سنُبينها بالتفصيل.
    واستدلوا بحديث: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنبٌ [6]، وإذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده؟ [7].
    ووجه الاستدلال: أنه نهى الجنب عن الاغتسال في الماء الراكد، قالوا: وهذا ماءٌ طاهرٌ غير نجسٍ، فدلَّ على أن اغتسال الجنب فيه يجعله طاهرًا غير مُطهرٍ.
    وأما الحديث الثاني: فنهى المُستيقظ أن يغمس يده في الإناء قبل غسلها، مع أن اليد طاهرةٌ، وليست نجسةً، فلولا أن هذا الغمس يُفيد منعًا في الماء لم يَنْهَ عنه، فعلى هذا يكون طاهرًا غير مُطهرٍ.
    وكما ترون هذا الاستدلال ليس استدلالًا واضحًا مُقنعًا؛ ولذلك سنُناقشه.
  • القول الثاني: أن الماء ينقسم إلى قسمين: طهورٍ، ونجسٍ.
    وهذا روايةٌ عن الإمام أحمد، بل قال عنها ابن تيمية: إنها التي نصَّ عليها الإمام أحمد في أكثر أجوبته.
    وهذا يُؤيد ما ذكرتُه قبل قليلٍ من أنه أحيانًا يكون المذهب خلاف رأي الإمام.
    لاحظ هنا: أن هذا القول هو الذي نصَّ عليه أحمد في أكثر أجوبته، لكن ما المذهب عند الحنابلة؟
    المذهب أن الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام.

طيب، القول الثاني: أن الماء ينقسم إلى قسمين نصَّ عليه الإمام أحمد في أكثر أجوبته، ومع ذلك ليس هو المذهب؛ لأن المذهب هو المدرسة الفقهية: مدرسة الحنابلة، مدرسة الشافعية، مدرسة الحنفية، وهكذا.

فالمذهب عند الحنابلة تقسيم الماء إلى ثلاثة أقسامٍ.

استدلَّ أصحاب هذا القول -وهم القائلون بأن الماء ينقسم إلى قسمين- قالوا: النصوص من الكتاب والسنة إنما ورد فيها تقسيم الماء إلى طهورٍ ونجسٍ، ولا وجودَ في كتاب الله ولا في سنة رسول الله لقسمٍ ثالثٍ يكون فيه الماء طاهرًا غير مُطهرٍ، أعطونا دليلًا على أن الماء طاهرٌ غير مُطهرٍ.

أما هذا الذي تُسمونه: طاهرًا، وأن القسم الطاهر غير المُطهر إذا اختلط بشيءٍ طاهرٍ، إن كان لم يغلب على اسمه، يعني مثلًا: ماء وردٍ اختلط بماءٍ، أو حِبْرٌ اختلط بماءٍ، أو مَرَقٌ اختلط بماءٍ، لكن لا يزال يُسمى: ماءً، فيقولون: هذا طهورٌ؛ لأنه ماءٌ، ولم يتغير بنجاسةٍ.

أما إن تغيرتْ أجزاؤه بشيءٍ طاهرٍ غلب على اسمه، فهذا لم يَعُد يُسمى: ماءً، وإنما أصبح يُسمى -مثلًا-: قهوة، أو شايًا، أو مَرَقًا، أو لبنًا، ولا يُسمى: ماءً، وهذا ليس بداخلٍ معنا أصلًا، فلا يُتطهر به أصلًا، ولا يدخل في تقسيم الماء.

لاحظ: استدلالهم قويٌّ، يقولون: هذا الذي تُسمونه: طاهرًا، لا يخلو: إما أنه لم يغلب الطاهر عليه، فلا يزال يُسمى: ماءً، حتى لو اختلط بماء الورد، أو اختلط بمَرَقٍ، أو اختلط بأي شيءٍ، المهم أنه ما زال يُسمى: ماءً، يُتطهر به، إذن هو طهورٌ.

أما إذا كان غلب هذا الطاهر على اسمه فهذا أصلًا ليس داخلًا في تقسيم الماء، وأصبح يُسمى: قهوةً، أو يُسمى: شايًا، أو يُسمى: لبنًا، أو يُسمى: مَرَقًا، فهذا أصلًا ليس من أقسام الماء.

هذه وجهتهم، وهذا القول هو الراجح: أن الماء ينقسم إلى: طهورٍ، ونجسٍ، وأنه ليس هناك وجودٌ لقسمٍ طاهرٍ غير مُطهرٍ.

هذا الذي اختاره كثيرٌ من المُحققين من أهل العلم: كابن تيمية، وابن القيم، وأيضًا مشايخنا على هذا القول، وهو الأقرب للأصول والقواعد الشرعية، لكن المؤلف جرى على ما هو المشهور عند الحنابلة، وهو تقسيم الماء إلى: طهورٍ، ونجسٍ، ثم بعد ذلك فصَّل في هذه الأقسام.

القسم الأول من أقسام الماء: الطهور

قال:

أحدها: طهورٌ، وهو الباقي على خِلْقَته.

التي خلقه الله عليها.

هذا القسم الأول: كمياه الأمطار، والأنهار، والعيون، ونحو ذلك، كما قال الله تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:11]، وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، والنبي يقول عن البحر: هو الطهور ماؤه [8]، هذا هو الطهور.

وهذا:

يرفع الحدث، ويُزيل الخبث.

عرفنا المقصود بالحدث، قلنا: هو وصفٌ معنويٌّ يقوم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها.

والخبث: هو النجاسة.

إذن الطهور يرفع الحدث، ويُزيل الخبث.

أنواع الماء الطهور

هذا الطهور له أربعة أنواعٍ، هو قسمٌ، لكن له أربعة أنواعٍ:

النوع الأول:

ماءٌ يحرم استعماله، ولا يرفع الحدث، ويُزيل الخبث، وهو ما ليس مُباحًا.

يعني: الماء المُحرم، كالماء المغصوب.

يقول المؤلف: إنه لا يرفع الحدث، لكنه يُزيل الخبث، يُزيل النجاسة.

وهنا يوجد خطأٌ، إن شاء الله نستدركه في الطبعة القادمة، فقد كُتب: ولا يُزيل الخبث، والصواب: يُزيل الخبث.

واستدلوا لذلك بأن المعدوم شرعًا كالمعدوم حِسًّا، فتكون صورة التطهير معدومةً حِسًّا مع العمد؛ وذلك مُبطلٌ للصلاة والطهارة.

هذا هو رأي المؤلف.

وأُجيب بأن هذا النظر إنما يتم لو سُلِّم بأن الله أمر بالطهارة واشترط أن تكون الأداة مُباحةً، ونحن لا نُسلِّم بذلك، بل نقول: إن الله أوجب الطهارة والصلاة مطلقًا، وحرَّم الغصب، ولا يلزم من تحريم الشيء أن يكون عدمه شرطًا، ألا ترى أنه لو سرق في صلاةٍ لم تبطل صلاته، مع مُقارنة المُحرم؟ فكذلك في هذه المسألة.

وذهب جمهور الفقهاء إلى أن التطهر بهذا الماء يرتفع به الحدث، ويزول به الخبث، ويأثم الإنسان بغصبه، فهو كالصلاة في الدار المغصوبة.

هذه المسألة تتردد في كتب الفقه: الوضوء بالماء المغصوب، والصلاة في الدار المغصوبة، والصلاة في ثوبٍ مغصوبٍ.

هذه بعض العلماء يرى أن هذا التحريم يعود على أصل الصلاة؛ فلا تصح معه، ويعود على الوضوء؛ فلا يصح معه، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.

الجمهور قالوا: إن الجهة مُنفكةٌ، فالصلاة تصح، ويأثم بالغصب، والوضوء صحيحٌ، ويأثم بالغصب.

وهذا هو القول الراجح: أن الجهة مُنفكةٌ، مثل: الصلاة في الدار المغصوبة، الجهة مُنفكةٌ، فالصلاة صحيحةٌ، ويأثم بالغصب، وأيضًا الوضوء بالماء المغصوب، فالوضوء صحيحٌ، ويأثم بالغصب.

وكما ذكر هنا: لو سرق في صلاته، إنسانٌ في المسجد يُصلي مع الناس سرق جوالًا ممن عن يمينه، أو عن يساره، فهو يأثم بهذه السرقة لا شكَّ، لكن هل تبطل صلاته؟

لا تبطل صلاته، مع أنه ارتكب أمرًا مُحرمًا.

هكذا أيضًا لو صلى في ثوبٍ مغصوبٍ، أو توضأ بماءٍ مغصوبٍ، أو صلى في دارٍ مغصوبةٍ، فالقول الراجح في هذه المسائل كلها أن الصلاة صحيحةٌ، ويأثم بالغصب.

مثل ذلك: السفر المُحرم، لو سافر سفرًا مُحرمًا، هل يترخص برُخَص السفر؟

القول الراجح: نعم، يترخص برُخَص السفر، ويأثم بهذا الأمر الذي سافر لأجله، فالجهة مُنفكةٌ.

يُعبر الأصوليون فيقولون: الجهة مُنفكةٌ.

النوع الثاني:

ماءٌ يرفع حدث الأنثى، لا الرجل البالغ والخُنْثَى، وهو: ما خَلَتْ به المرأة المُكلفة لطهارةٍ كاملةٍ عن حدثٍ.

هذا يعتبره الحنابلة من أقسام الطهور، لكن ليس لجميع الناس، وإنما للأنثى.

أما الرجل البالغ والخُنْثَى فيقولون: هذا الماء ليس طهورًا بالنسبة لهما، هذا الماء الذي خَلَتْ به المرأة ليس طهورًا، يعتبرونه ماذا؟

طاهرًا ليس طهورًا، وإنما يعتبرونه في حقِّهما من قسم الطاهر غير الطهور، ويضبطون ذلك فيقولون: ما خَلَتْ به المرأة المُكلفة لطهارةٍ كاملةٍ عن حدثٍ.

“ما خَلَتْ” يعني: انفردتْ به، كأن تكون في دورة المياه -مثلًا-، انفردتْ بهذا الماء، فهذا الماء الذي خَلَتْ به لا يكون طهورًا بالنسبة للرجل، لكنه للمرأة طهورٌ، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.

واستدلوا بحديث الحكم بن عمرو: أن النبي نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة [9].

وفي حديث حميدٍ الحميري، عن رجلٍ صحب النبي قال: نهى رسول الله أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة [10].

ويقولون: نأخذ بظاهر الحديث، وهو أمرٌ تعبديٌّ لامتثال الشارع، ولا يُعْقل معناه.

والغريب أنهم استدلوا بالحديث الأول على أن الرجل لا يتوضأ بفضل المرأة، ولم يستدلوا بالحديث الثاني على أن المرأة لا تتوضأ بفضل الرجل!

يعني: تأمل الحديث: نهى رسول الله أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة.

طيب، إذا كنتم منعتم الرجل أن يغتسل بفضل المرأة، لِمَ لا تمنعون المرأة أن تغتسل بفضل الرجل، والحديث واحدٌ؟!

وهذا يُبين ضعف هذا القول؛ ولهذا ذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عند الحنابلة إلى أن الماء الذي خَلَتْ به المرأة طهورٌ، ولا بأس أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، سواءٌ انفردتْ بالإناء أو لم تنفرد، كما تتوضأ هي بفضله.

ومن أدلة جواز ذلك: حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن رسول الله كان يغتسل بفضل ميمونة [11]، وفي روايةٍ: كان يتوضأ بفضل غُسلها من الجنابة [12]، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: كنتُ أغتسل أنا والنبي من إناءٍ واحدٍ، كلانا جنبٌ [13].

وهذا القول -قول الجمهور: أن الماء الذي خَلَتْ به المرأة طهورٌ- هو القول الراجح في هذه المسألة.

طيب، إن قال قائلٌ: إن بعض المُحدثين يُصحح الحديث: “نهى رسول الله أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة”، هنا صحح إسناده الحافظ العراقي، والحافظ ابن حجر، فظاهر إسناده الصحة.

فكيف نُجيب عن هذا؟

نقول: إن النهي يُحمل على كراهة التَّنزيه، لكن لا يدل على أن هذا الماء ينتقل من كونه طهورًا إلى كونه طاهرًا، وإنما غاية ما يدل عليه لو ثبت أنه يدل على كراهة التنزيه فقط، يعني: ينبغي للإنسان ألا يغتسل بفضل غيره، رجلًا كان أو امرأةً.

إنسانٌ -مثلًا- توضأ، وبقي فضل وضوئه، الأفضل أنك ما تغتسل بفضل وضوئه، ابحث عن ماءٍ آخر، هذا على سبيل كراهة التنزيه، ويشمل فضل الرجل، وفضل المرأة.

هذا لو ثبت هذا الحديث، لكن نحن نتكلم من جهة: هل هذا الماء الآن -فضل طهور المرأة- ينتقل من كونه ماءً طهورًا إلى كونه طاهرًا؟

نقول: الراجح أنه طهورٌ، فلو توضأ به إنسانٌ فوضوؤه صحيحٌ، وصلاته صحيحةٌ، بل إن النووي حكى الاتفاق على أنه ماءٌ طهورٌ، وإن كانت حكاية النووي للاتفاق محل نظرٍ؛ لأن الرواية المشهورة عند الحنابلة أنه طاهرٌ، وليس بطهورٍ.

النوع الثالث:

ماءٌ يُكره استعماله مع عدم الاحتياج إليه.

فهو ماءٌ طهورٌ، لكن عند عدم الحاجة إليه يُكره استعماله، وتزول الكراهة عند الحاجة.

ومثَّل له المؤلف فقال:

ماء بئرٍ بمقبرةٍ.

يقولون: لأنه ربما يُنقل إلى ذلك الماء شيءٌ من النجاسة التي تكون من جُثث الموتى.

والقول الثاني في المسألة: أنه لا يُكره التطهر بهذا الماء. وهذا هو القول الراجح، فلا دليل على الكراهة، والكراهة حكمٌ شرعيٌّ، والأصل في الماء الطهارة، والقول بأنه يحتمل أن ينتقل شيءٌ من النجاسة من جُثث الموتى، هذا شيءٌ بعيدٌ جدًّا.

حكم الطهارة بالماء الشديد السخونة أو البرودة

ومثَّل بمثالٍ آخر فقال:

وماءٌ اشتدَّ حرُّه أو برده.

يعني: تُكره الطهارة بالماء الشديد السخونة أو البرودة.

قالوا: لأن ذلك يمنع كمال الطهارة.

ولكن القول بالكراهة محل نظرٍ، فالكراهة حكمٌ شرعيٌّ، فإذا غسل الإنسان جميع أعضاء الوضوء بهذا الماء الذي اشتدَّ حرُّه، أو اشتدَّ برده، ولم يُخلّ بواجبٍ، فلا وجه للقول بالكراهة، بل إن إسباغ الوضوء على المكاره متى يكون؟

يكون عند اشتداد البرد، وهو منقبةٌ: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ وذكر منها: إسباغ الوضوء على المكاره [14].

وهذا فيه ردٌّ على مَن قال بهذا القول.

وقد عقد النَّسائي بابًا قال: “باب: الاغتسال بالثلج والبرد”، وساق حديث عبدالله بن أبي أوفى: أن النبي كان يدعو: اللهم طهِّرني من الذنوب والخطايا، اللهم نَقِّني منها كما يُنَقَّى الثوب الأبيض من الدَّنس، اللهم طهِّرني بالثلج والبرد والماء البارد [15].

والماء البارد هذا محل الشاهد، ورُوي ذلك عن عددٍ من الصحابة: عن عمر وابنه، وأنس، وابن عباس.

فالصواب إذن أنه لا يُكره التَّوضؤ بالماء شديد الحرارة، ولا شديد البرودة، وأن ذلك على الأصل، وهو الإباحة، بل إذا توضأ الإنسان بماءٍ شديد البرودة، وأسبغ الوضوء، فهذا مما يُرفع به الدرجات، لكن هل للإنسان أن يقصد هذا؟

يعني: عنده سخَّانة الماء، يقول: أريد أن أتوضأ بماءٍ باردٍ، وهذه الأيام الجو باردٌ، يقول: أريد أن أتوضأ بماءٍ باردٍ؛ لأجل أن أنال الفضيلة الواردة في الحديث: إسباغ الوضوء على المكاره.

نقول: لا، لا تتقصد أن تتوضأ بالماء البارد، ولا تغتسل بالماء البارد، هذا غير مطلوبٍ، وغير محمودٍ أيضًا، لكن إذا حصل ذلك من غير قصدٍ فيُؤجر الإنسان عليه، كما لو كان الإنسان في البرِّ، وليس عنده ما يُسخِّن به الماء، وأسبغ الوضوء مع شدة البرد؛ هنا يدخل في إسباغ الوضوء على المكاره، لكن تكون السخَّانة موجودةً عنده، ويريد أن يتوضأ بالماء البارد، فهذا غير مشروعٍ.

حكم الماء المُسخَّن بنجاسةٍ

قال:

أو سُخِّن بنجاسةٍ.

يعني: هذا الماء الذي سُخِّن بنجاسةٍ يُكره استعماله.

وقيَّد هذا بعضهم بما إذا لم يُتحقق من وصول دخان النجاسة للماء، وإلا فإنه ينجس به.

وهذا محل نظرٍ، فإذا سُخِّن بالنجاسة ولم يتغير، يبقى طهورًا، ولا يُكره استعماله، أما إذا تغير بالنجاسة يكون نجسًا.

وهناك قولٌ ثالثٌ فيه تفصيلٌ، قالوا: إذا كان هذا المُسخن بنجسٍ مُحْكَم الغطاء فلا يُكره استعماله، وإذا لم يكن مُحْكَم الغطاء، ولم يكن مُغَطًّى، فإنه يحتمل أن ينفذ إليه شيءٌ من أجزاء النجاسة، ويُكره استعماله.

وهذا هو الأقرب: أنه إذا كان -مثلًا- مفتوحًا، ما غُطِّي، وسُخِّن بشيءٍ نجسٍ، فاحتمال وصول النجاسة إليه واردٌ؛ فيُكره استعماله، لكن إذا كان مُحْكَم الغطاء، فاحتمال وصول النجاسة إليه ضعيفٌ؛ فلا يُكره.

هذا القول بالتفصيل هو القول الأقرب.

حكم الماء المُسخَّن بمغصوبٍ

قال:

أو سُخِّن بمغصوبٍ.

يعني: يُكره الماء المُسخَّن بشيءٍ مغصوبٍ: كحطبٍ، مثَّل لاستعمال المغصوب فيه.

وذكرنا مسألةً قريبةً من هذه، وقلنا: إن الراجح أنه لا يُكره لعدم الدليل؛ ولأن الجهة مُنفكةٌ، فهو يأثم بالغصب، لكن هذا الماء ماءٌ طهورٌ، ولا يُكره استعماله.

حكم الماء المُستعمل في طهارةٍ واجبةٍ أو مُستحبةٍ

أو استُعمل في طهارةٍ لم تجب.

يعني: يُكره الماء المُستعمل في طهارةٍ لم تجب، يعني: مُستحبة: كغسل الجمعة، وتجديد الوضوء، والغسلة الثانية والثالثة من الوضوء، فيكون هذا الماء المُستعمل في طهارةٍ مُستحبةٍ مكروهًا، يُكره استعماله.

أما المُستعمل في طهارةٍ واجبةٍ عندهم ماذا؟

أنه طاهرٌ غير مُطهرٍ، لكن إذا استُعمل في غير طهارةٍ مُستحبةٍ -انتبه للفرق- هذا طهورٌ، لكنه مكروهٌ.

والصواب: عدم كراهة الماء المُستعمل مطلقًا؛ لأن الكراهة حكمٌ شرعيٌّ يحتاج إلى دليلٍ، ولا دلالة على الكراهة في استعماله في هذه الحال.

حكم استعمال الماء المُتبقي من غسل الكافر

قال:

أو في غسل كافرٍ.

يعني: يُكره الماء الذي استعمله كافرٌ في الغُسل؛ لأن الكافر ليست له نيةٌ، هكذا علَّلوا.

لم يُذكر هنا تعليلٌ في “السلسبيل”، نُضيفه: لأن الكافر ليست له نيةٌ؛ ولأن هناك من العلماء مَن قال بعدم إجزائه بهذه الحال.

والصواب: أنه لا يُكره إلا في حالةٍ واحدةٍ، وهي: أن يكون الكافر لا يتنزه من النَّجاسات، هنا ربما يُقال بالكراهة.

يعني مثلًا: بعض النصارى ما عنده تورعٌ، فلا يتورع عن النجاسة، والنجاسة موجودةٌ في سراويله، وربما إذا اغتسل وبقي هذا الغسل بعده يكون مُختلطًا بالنجاسات؛ لأنه إذا بال ما يغسل مكان البول، ولا مكان الغائط، كما يفعل المسلمون، فإذا اغتسل فهذه النجاسة ربما تُلامس هذا الماء المُتبقي، فالقول بالكراهة قولٌ مُتَّجهٌ في هذه الحال، فإذا كان الكافر لا يتنزه من النجاسة، فالقول بالكراهة قولٌ مُتَّجهٌ.

أو تغير بملحٍ مائيٍّ.

هنا المؤلف قال: “بملحٍ مائيٍّ”، وعندهم الملح ينقسم إلى قسمين: ملحٍ مائيٍّ، وملحٍ معدنيٍّ.

الفرق بين الملح المائي والملح المعدني

ما الفرق بين الملح المائي والملح المعدني؟

الملح المائي: الذي يكون أصله الماء، الذي يكون من البحار مثلًا، هذا يُسمونه: ملحًا مائيًّا، فهذا يقول: إذا تغير الماء بملحٍ مائيٍّ يبقى طهورًا، لكنه يُكره استعماله.

أما إذا تغير بملحٍ معدنيٍّ، والملح المعدني هو الجبلي الصخري، وهذا يختلف عن الملح المائي.

ترون الآن الملح ينقسم، مثلما هو موجودٌ في القصب وغيره.

هذا يُسمى: ملحًا معدنيًّا، أما الذي يُستخرج من البحار فهو ملحٌ مائيٌّ.

إذا اختلط بمائيٍّ -تغير بملحٍ مائيٍّ- يقولون: إنه مكروهٌ، أما إذا تغير بملحٍ معدنيٍّ، ماذا يكون؟

طاهرًا، وليس بطهورٍ، يكون طاهرًا، فإذا تغير بملحٍ معدنيٍّ يُعتبر طاهرًا وليس بطهورٍ، أما إذا تغير بملحٍ مائيٍّ يكون طهورًا، لكن يُكره استعماله.

الفرق واضحٌ؟

هكذا يُفرقون بين الملح المائي والملح المعدني.

والصواب أنه لا فرق بين الأملاح، وأنها واحدةٌ، وأنه سواء تغير بملحٍ مائيٍّ أو ملحٍ معدنيٍّ لا يسلبه الطهورية، ولا يُكره التَّطهر به؛ لأن القول بالكراهة ليس عليه دليلٌ ظاهرٌ، المهم ألا يتغير بنجاسةٍ، فما دام أنه لم يتغير بنجاسةٍ يبقى على طهوريته، سواءٌ كان التغير بملحٍ معدنيٍّ أو بملحٍ مائيٍّ.

قال:

أو بما لا يُمازجه.

يعني: تغير بما لا يُخالطه، ومثَّل المؤلف:

كتغيره بالعود القَمَاري.

القَمَاري: صفةٌ للعود، وهو العود الذي نستخدمه الآن في البخور.

هذا العود الذي نستخدمه في البخور هو العود القَمَاري، نسبة إلى قَمَار، وقَمَار قريةٌ في الهند يُنْسَب لها نوعٌ من العود، ويُقال: هو شجرٌ يُشبه شجر الخوخ.

قال الحموي في “معجم البلدان”: “قَمَار: موضعٌ بالهند يُنْسَب إليه العود، هكذا تقوله العامة، والذي ذكره أهل المعرفة: قامرون”، وليس: قَمَار، لكن العامة يقولون: قَمَار، والعود يُقال: العود القَمَاري، وهو عود البخور الذي نستخدمه، هذا هو العود القَمَاري.

يقول:

وقِطَع الكافور.

الكافور: نوعٌ من الطِّيب يكون دقيقًا ناعمًا.

فالعود القماري وقِطَع الكافور إذا وُضعتْ في الماء تغير شيءٌ من طعمه ورائحته، لكنها لا تُمازجه، فيقولون: إنه طهورٌ، لكنه مكروهٌ؛ لأن التغير ليس عن مُمازجةٍ، وإنما عن مُجاورةٍ.

وقالوا بكراهته لأن هناك من الفقهاء مَن قال: إنه طاهرٌ غير مُطهرٍ.

وكما قلنا: إن التعليل بالخلاف تعليلٌ غير وجيهٍ، والصواب عدم الكراهة.

والدُّهْن.

يعني: لو تغير هذا الماء بالدُّهن، يقولون: هو طهورٌ، لكنه مكروهٌ؛ لأن تغيره عن مُجاورةٍ، وليس عن مُمازجةٍ.

الحنابلة عندهم ضابطٌ، وهو: أن التغير إذا كان عن مُجاورةٍ، وليس عن مُمازجةٍ، لا يسلب الماء طهوريته، لكنه يكون مكروهًا.

وقالوا: إنما كُره استعماله خروجًا من الخلاف في هذه المسألة.

والصواب: أنه ليس بمكروهٍ، وعلى ذلك نقول: الصواب في هذه المسائل كلها عدم الكراهة إلا في مسألتين:

المسألة الأولى: غُسل الكافر إذا كان لا يتورع عن النجاسة، فالقول بكراهة استعمال هذا الماء المُتبقي مُتَّجهٌ.

الثانية: إذا سُخِّن الماء بنجاسةٍ، وكان غير مُغطًّى، أو غير مُحْكَم الغطاء.

وما عدا ذلك فالصواب في المسائل السابقة: أن الماء طهورٌ، والصواب عدم الكراهة.

ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند قول المؤلف:

ولا يُكره ماء زمزم.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الآن نُجيب على ما تيسر من الأسئلة.

السؤال: …..؟

الجواب: نعم، بعض الكفار يتورعون، فعندك مثلًا: اليهود، فاليهود يتورعون عن النجاسة، بل هم أشد من المسلمين، والنصارى مُتساهلون.

فبعض الكفار يتورعون، وهم مختلفون في هذا، فاليهود في الذبح وفي الطهارة أشدُّ من المسلمين، عندهم تشديدٌ كبيرٌ؛ ولذلك إذا لم تطمئن للشيء المذبوح أنه قد ذُبح بالفعل خُذْ طعام اليهود؛ لأنهم مُتشددون في هذه المسألة، والنصارى على عكسهم؛ عندهم تساهلٌ، لا يتورعون عن النجاسة، وبالنسبة للذبح كذلك، فعندهم تساهلٌ.

السؤال: أثناء دخول المسجد، هل شرب الماء والجلوس له يُسقط تحية المسجد؟

الجواب: إذا كان يستغرق وقتًا طويلًا عُرْفًا تسقط تحية المسجد؛ لأن تحية المسجد تكون عندما يصل الإنسان للمسجد، فهي تحيةٌ للمسجد، لكن إذا بقي وقتًا طويلًا عُرْفًا فحينئذٍ لا يُشرع أن يأتي بتحية المسجد.

السؤال: إذا كان للإنسان حسابٌ جارٍ في بنكٍ غير ربويٍّ، وأراد أن يسحب نقودًا من بنكٍ ربويٍّ، هل في هذا إشكالٌ؟

الجواب: لعل الأخ السائل يُشير إلى الصَّرَّافات، فلا حرج عليه أن يسحب من أي صَرَّافٍ لأي بنكٍ، فهو عندما يسحب هل يسحب من رصيده، أو من رصيد البنك؟

هو من رصيده، ويُخصم عليه مباشرةً، لكن عبر جهاز هذا البنك فقط، فمؤسسة النقد رتبتْ بين البنوك هذه الصَّرَّافات بطريقةٍ معينةٍ، وآليةٍ معينةٍ، لكن بالنسبة للعميل هو إنما يسحب من رصيده، يُخصم من رصيده مُباشرةً، فعلى ذلك له أن يسحب من أي صرَّافٍ.

السؤال: هل ساحات المسجد المكي والمدني تأخذ حكم المسجد من حيث تحية المسجد؟

الجواب: ساحات المسجد هذه مثل رحبة المسجد التي ذكرها الفقهاء، والفقهاء قالوا: إن رحبة المسجد المحوطة بسور المسجد لها حكم المسجد، أما رحبة المسجد غير المحوطة بسور المسجد فلا تأخذ حكم المسجد.

وعلى ذلك نقول: بالنسبة لساحات المسجد الحرام المُحاطة بسورٍ، هذه تأخذ حكم المسجد، لكن ساحات المسجد غير المُحاطة بسورٍ لا تأخذ حكم المسجد.

فمثلًا: ساحات المسجد الحرام أكثرها غير مُحاطةٍ بسورٍ، فلا تأخذ حكم المسجد، لكن ساحات المسجد النبوي مُحاطةٌ بسورٍ، فهذه تأخذ حكم المسجد.

السؤال: والحائض؟

الجواب: يترتب على دخولها، تأخذ حكم المسجد، يعني: جميع أحكام المسجد، ومن ذلك: دخول الحائض، ومن ذلك: تحية المسجد، ومن ذلك: البيع والشراء، وجميع أحكام المسجد.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 6616.
^2 رواه البخاري: 6347، ومسلم: 2707.
^3 رواه البخاري: 7، ومسلم: 1773.
^4 رواه أحمد: 22288.
^5 رواه البخاري: 3616.
^6 رواه مسلم: 283.
^7 رواه البخاري: 162، ومسلم: 278.
^8 رواه أحمد: 7233، وأبو داود: 83، والترمذي: 69، وقال: حسنٌ صحيحٌ.
^9 رواه أبو داود: 82، والترمذي: 64، وقال: حسنٌ.
^10 رواه أبو داود: 81.
^11 رواه مسلم: 323.
^12 رواه أحمد: 26801، وابن ماجه: 372.
^13 رواه البخاري: 299، ومسلم: 321.
^14 رواه مسلم: 251.
^15 رواه النسائي: 402.