logo
الرئيسية/دروس علمية/دروس من الحرم- عمدة الفقه/(1) باب سجود السهو- من قوله: “والسهو على ثلاثة أضرب..”

(1) باب سجود السهو- من قوله: “والسهو على ثلاثة أضرب..”

مشاهدة من الموقع

الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك الله علمًا نافعًا ينفعنا.

أيها الإخوة في الله!

أهمية طلب العلم وعظيم منزلته

بسم الله نفتتح هذه الدورة العلمية، والتي ستقام هذا الأسبوع -إن شاء الله – وقد ابتدأت من درس الفجر، وقبل أن أبدأ بهذا الدرس، أحب أن أذكر بأهمية طلب العلم، وعظيم شأنه ومنزلته في الدين.

قال النبي : من يُرِدِ الله به خيرًا يُفَقِهْه في الدين. متفق عليه [1]، وتأملوا -يا إخواني- هذا الحديث العظيم: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين. فمن رزقه الله الفقه في الدين، فقد أريد به الخير، ومفهوم هذا الحديث أن من لم يرد به الخير لا يُوفق للفقه في الدين، والإنسان إذا أراد أن يعبد الله ​​​​​​​ فمهما كان عليه من القوة في العبادة، لا يمكنه أن يعبد الله كما يحب الله، إلا عن طريق العلم، وأما إذا كان بعيدًا عن العلم، فإنه قد يُشدِّد في غير موضع التشديد، ويتساهل في أمور قد شَددت فيها الشريعة.

ثم إن العالِم ومن عنده علم بأمور الشريعة، يعرف مَحَالَّ مَحَابِّ الله ورضوانه، وأضرب مثالين يتبين بهما المقصود، مما ذكره النبي :

الأول: ما جاء في “صحيح مسلم”: أن النبي خرج ذات يوم بعد صلاة الصبح، فوجد زوجه جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تُسَبِّح، ثم رجع ضُحًى، يعني رجع بعد ساعات، فقال: ما زلتِ على الحال التي كنتِ عليها منذ فارقتك؟. قالت: نعم. قال: لقد قلتُ بعدك كلماتٍ لو وُزِنَت بما قلتِ لوَزَنَتْهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، سبحان الله وبحمده زِنَةَ عرشه، سبحان الله وبحمده رضا نفسه، سبحان الله وبحمده مداد كلماته [2].

لاحِظ هذه الكلمات الأربع، لو وزنت بما قالت من أول النهار لوزنتهن.

فالعالِم يعرف مَحَاَّل مَحَابِّ الله ورضوانه، ويستطيع أن يُحَصِّل أجرًا عظيمًا بعمل قليل.

المثال الثاني: جاء في “الصحيحين”: أن النبي أُتَيَ بتمر بَرْنِيٍّ، يعني من النوع الجيد، فقال عليه الصلاة والسلام: أكلُّ تمرِ خيبر هكذا؟!. قالوا: لا يا رسول الله، إنا نأخذ الصاع من هذا والصاعين بالثلاثة، قال: أَوَّهْ! [3] هذا عَينُ الرِّبا. يعني: الصاع بصاعين، والصاعين بثلاثة، هذا عين الربا، لكن انظر إلى المخرج الذي دلهم عليه النبي : ولكن بِعِ الجَمْعَ يعني: التمر الرديء بدراهم، واشتر بالدراهم جَنِيبًا [4]. يعني: تمرًا جيدًا، يعني: خذ التمر الرديء، واشتر به دراهم، واشتر بهذه الدراهم تمرًا جيدًا، أليست النتيجة واحدة؟ إذا بعت الصاع بصاعين أو الصاعين بثلاثة هي نفسها في النتيجة النهائية، إذا بعت صاعًا بدراهم، ثم اشتريت بهذه الدراهم صاعين من تمر آخر، لكن الأول: عين الربا، والثاني: مَخرجٌ أرشد إليه النبي .

وهذا يدل أيضًا على أن الصورية في المعاملات قد تكون مؤثرة، فهذان رجلان أحدهما باع صاعًا بصاعين مباشرة، فوقع في عين الربا، والآخر باع صاعًا بدراهم، واشترى بالدراهم صاعين، تجنب الوقوع في الربا، مع أن النتيجة واحدة، والفرق بينهما هو العلم والفقه في الدين، فالثاني يعرف كيف يصل إلى غرضه بطريق المباح، والأول وقع في عين الربا.

فضل أهل العلم

وهذا يُبيِّن لنا -يا إخوان- أهمية الفقه في الدين، ثمرة الفقه في الدين عظيمة، ولهذا؛ رفع الله ذكر أهل العلم، وقَرَن شهادتهم بشاهدته وشهادة ملائكته على أعظم مشهود، شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18]، أعظم مشهود هو توحيد الله ، شهد الله بأنه هو الله الذي لا إله إلا هو، فإن قال: قائل كيف يشهد الله لنفسه؟ نقول: نعم، فإن الإنسان عندما يرى هذا الكون العظيم الفسيح المتقن في غاية الإبداع وغاية الإتقان وغاية الترتيب، لا بد له من خالق، لا بد له من إله يدبره، وهذا الإله لا بد أن يشهد لنفسه، ولا يعارضه أحد، لا بد أن يخبر، يقول: أنا الإله. فهل من أحد غير الله شهد بأنه هو الله خالق كل شيء؟ ما من أحد، إذنْ عندما يشهد الله لنفسه فهي شهادة حق، أعظم شهادة شهادة الله : شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ [آل عمران: 18]. الملائكة تشهد بأنه لا إله إلا الله، ولا خالق إلا الله، وأيضًا أولو العلم قرن الله شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وهذا يقتضي التعديل لهم، فهم عدول؛ لأن الله لا يمكن أن يستشهد إلا بالعدول، وهذا فيه أيضًا التزكية العظيمة لهم، وهذا يدل أيضًا على عظيم شرف العلم ومكانته ومنزلته، ولهذا؛ قال الله : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9].

والعلم الذي وردت النصوص من الكتاب والسنة بالثناء عليه وعلى أهله: إنما هو علم الشريعة، ولا يدخل في ذلك علوم الدنيا؛ لا يدخل في ذلك علم الطب، ولا الهندسة، ولا الكيمياء والفيزياء والفلك، ولا غيره من العلوم، وليس معنى ذلك ذم هذه العلوم، هذه علوم مباحة، قد يؤجر الإنسان عليها إذا اقترن تعلمها بالنية الصالحة، لكن العلم الذي وردت النصوص بالثناء عليه وعلى أهله، إنما هو علم الشريعة.

وقد عقد ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم “مفتاح دار السعادة” مقارنة بين العلم والمال من أكثر من مئة وخمسين وجهًا، وذكر أن العلم أفضل من المال من أكثر من خمسمئة وخمسين وجهًا، ونحن الآن عندما نرى من تُرجم له من سير السابقين، هل نرى أنه تُرجم لتجار وأرباب الأموال وأصحاب الثروات؟ أبدًا، ماتوا ومات ذكرهم بموتهم، وذهبت ثرواتهم لمن بعدهم، لكن الذين تُرجم لهم، وذُكرت سيرهم، واحتُفي بها، إنما هم علماء الشريعة، أهل العلم.

فالعلم ثمرته عظيمة في الدنيا والآخرة، فينبغي لك -أخي المسلم- أن تحرص على طلب العلم، وأن تجتهد في ذلك، وخاصة أنه قد تيسر وسائل طلب العلم وتحصيله في هذا الزمن أكثر من أي وقت مضى؛ ففي الزمن السابق كان يصعب على طالب العلم أحيانًا البحث عن حديث، بل إن بعض أهل العلم ارتحل من بلد إلى بلد بَعيد من أجل حديث واحد فقط.

حرص السلف على العلم

جابر بن عبدالله الأنصاري ، لما بلَغَه أنه عند عبدالله بن أُنَيس حديث سمعه من النبي ، ارتحل إليه من المدينة إلى الشام، ليس على سيارة ولا طائرة؛ على بعيره، ومكث في هذه الرحلة شهرًا كاملًا، شهرًا!، وقد ذكر هذه القصة البخاري في “صحيحه” معلقًا لها بصيغة الجزم.

فلما وصل إليه اعتنقه عبدالله بن أنيس، قال: ما الذي جاء بك؟ قال: بلغني أنك سمعت من النبي حديثًا؛ فخشيت أن أموت أو تموت ولم أسمعه منك. قال: نعم، وذكر له هذا الحديث، ثم رجع، وبقي في الرحلة شهرًا في الإياب، يعني شهرين كاملين من أجل سماع حديث واحد فقط!

وأبو أيوب الأنصاري ، ارتحل من المدينة إلى مصر؛ من أجل سماع حديث واحد فقط، فانظر إلى حرص الصحابة على طلب العلم؛ لأنهم يعرفون عظيم مكانته ومنزلته.

وقد صُنف في الرحلة في طلب العلم مصنفات، عندما تقرأ سير العلماء السابقين تجد أن معظمهم قد ارتحل إلى بلاد كذا وكذا..، أما الآن فقد أصبح العلم متيسرًا ومبذولًا بما منَّ الله تعالى به على الناس من وسائل التقنية الحديثة، فأصبح متيسرًا؛ عن طريق الأشرطة، وعن طريق الأقراص، وعن طريق (الإنترنت)، وفي مواقع عدد كبير من أهل العلم، وفيها دروس، وهي أمامك إذا أردت أي شيخ بعينه بمجرد أن تدخل موقعه، وتختار من دروسه ما شئت، وتستمع إلى دروسه كأنك حاضر بين يديه، وأيضًا مثل هذه الدورات العلمية وغيرها، وكتب أهل العلم طبعت بطبعات فاخرة وميسرة، ووجدت البرامج الحاسوبية التي يخزن فيها الآلاف من الكتب، فتَيَسَّر طلب العلم أكثر من أي وقت مضى، ولكن المطلوب هو الهمة، أن يكون لدى طالب العلم الهمة العالية في طلب العلم، والصبر على تحصيله.

الهمة لا بد منها، لا بد من الهمة لطلب العلم؛ لأن هذه الهمة هي التي تدفع صاحبها لطلب العلم، وهي التي تزوده بالصبر، والصبر لا بد منه في طلب العلم، قال يحيى بن أبي كثير: “لا يُستطاع العلم براحة الجسد”. وذَكَر هذا الأثرَ عن يحيى بن أبي كثير الإمام مسلم في “صحيحه”، في باب مواقيت الصلاة، واستغرب الشراح كيف ذكره في هذا الباب؟! فقالوا: لعله تعب في جمع أحاديث مواقيت الصلاة، ثم ذكر هذا الأثر: “لا يستطاع العلم براحة الجسد”.

فلا بد من الصبر في طلب العلم، العلم لا يأتي للإنسان دفعة واحدة، يأتي شيئًا فشيئًا، فلا بد إذنْ من الصبر والجلد، ولا بد أيضًا من العمل بما تعلم، وإلا، علم بلا عمل لا قيمة له، بل هو حجة على الإنسان يوم القيامة، فلا بد أن يظهر أثر العلم على صاحبه؛ في عباداته، في تعامله مع الآخرين، في سَمْته، في سلوكه، في دعوته إلى الله ، في التزامه بأوامر الشارع.

وقبل أن أختم هذه المقدمة، أنبه هنا إلى أن طلب العلم وحضور مثل هذه الحِلَق، وإن كان طالب العلم يحصل أجرًا وثوابًا، والله يباهي بمن حضر مجلسًا من مجالس الذكر الملائكة، ويقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم. فتقول الملائكة: إن فيهم فلانًا ليس منهم، لكنه أتى لحاجة فجلس معهم. فيقول الله: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم [5].

أهمية العناية بضبط آليَّة تحصيل العلم

أقول: مع تحصيل طالب العلم لهذا الأجر والثواب، إلا أنه إذا أراد أيضًا أن يحصل علمًا، فعليه أن يُعنَى بضبط آليَّة التحصيل؛ لأن الذاكرة الآن عند الناس قد ضعفت، وأسهم في إضعافها وسائل التقنية الحديثة، فأصبح بعض الناس لا يكاد يحفظ إلا رقم جواله، بل أدركت بعض الناس لا يحفظ حتى رقم جواله، ضعفت الذاكرة عند كثير من الناس.

والذاكرة يقولون: تقوى بالتمرين، وتضعف بالإهمال. ولهذا؛ اشتَهَر رجل من الناس بأن لديه قوة ذاكرة، فلما سُئل عن السر، فقال: ليس هناك ذاكرة قوية وضعيفة، هناك ذاكرة مدربة وغير مدربة. أقول: مع هذا الضعف الذي نراه لا بد من العناية بضبط آلية التحصيل، فمثلًا: إذا حضرت هذه الدورة، ولم تضبط ولم تُقَيِّد ما سمعته، لو سئلت بعد شهر عما سمعته في هذه الدورة ربما نسيت كلَّ أو جُلَّ ما سمعته، فلا بد إذنْ من أن تقيد أبرز ما تسمعه من الفوائد؛ إما كتابة، وإما تسجيلًا، إما تكتب هذا كتابة وتَستذكِر ما كتبت من حين لآخر، أو عن طريق التسجيل وتأخذ هذا الشريط وتسمعه في السيارة أو في غيرها أكثر من مرة، بهذا تكون قد استفدت من حضورك لهذه الدورة؛ لأن بعض الإخوة وبعض طلاب العلم تجده يحضر دورات كثيرة، ويحضر دروسًا كثيرة، لكن حصيلته ضعيفة، والسبب أن آلية التحصيل عنده فيها إشكال، فلا بد إذنْ من العناية بضبط العلم، وصيد العلم، وتقييد العلم، واستذكاره من حين لآخر.

ولعلي أكتفي بهذا القدر في هذه المقدمة.

وأنتقل بعد ذلك لهذا الدرس، وكما هو معلن، هو في شرح “العمدة في الفقه” للموفق ابن قدامة المقدسي، المتوفى سنة 620 هـ رحمه الله تعالى.

كنا قد بدأنا في هذا المتن في دورات ماضية، ووقفنا عند باب سجود السهو، وهذا المتن متن “العمدة في الفقه” صنفه أبو محمد الموفق بن قدامة المقدسي للمبتدئين، وقد صنف أربعة كتب على أربعة مستويات:

  • المستوى الأول: المبتدئين، وصنف فيه هذا الكتاب “العمدة في الفقه”، ومنهجه: أن يذكر القول الراجح في المذهب الحنبلي، مع الدليل أو التعليل.
  • المستوى الثاني: الطبقة الأعلى منهم: صنف كتابًا سماه ماذا؟ “المقنع”، أحسنت، ويذكر فيه الأقوال داخل المذهب الحنبلي، مجردة عن الدليل أو التعليل.
  • المستوى الثالث: كتاب “الكافي”، أحسنت، “الكافي” للمتوسطين، ويذكر فيه الأقوال داخل المذهب الحنبلي، مع الدليل أو التعليل.
  • المستوى الرابع: “المغني”، صنفه لأعلى طبقة، ويذكر فيه الأقوال داخل المذهب الحنبلي، وغيره من المذاهب، مع الدليل أو التعليل، وهذا كتاب “المغني” يعد بحقٍّ موسوعة فقهية عظيمة.

يقال: إن الموفق حفظ فيه أقوالًا لعلماء اندثرت مذاهبهم، فهو موسوعة فقهية عظيمة، لكن الموفق صنَّفه على “مختصر الخرقي”، جعله شرحًا لـ”مختصر الخرقي”، فأتى ابن أخيه شمس الدين عبدالرحمن بن قدامة، وأعاد ترتيبه على “المقنع” في كتاب سماه، من يعرف اسمه؟ “الشرح الكبير”، أحسنت، الشرح الكبير على المقنع، فـ”الشرح الكبير على المقنع” هو نفسه المغني، لكنه مرتب على ترتيب “المقنع”، مع زيادات يسيرة.

هذا الكتاب الذي بين أيدينا هو في المستوى الأول الذي صنفه فيه المؤلف، وقفنا عند سجود السهو، لعلنا نستمع أولًا لعبارة المؤلف.

باب سجود السهو

نعم تفضل:

القارئ:

يقول المؤلف رحمه الله:

باب سجود السهو.

والسهو على ثلاثة أضرب:

  • أحدها: زيادة فعل من جنس الصلاة؛ كركعة، أو ركن، فتبطل الزيادة بعَمْدِه، ويسجد لسهوه، وإن علم وهو في الركعة الزائدة جلس في الحال، وإن سلم عن نقص في صلاته أتى بما بقي عليه منها ثم سجد، ولو فعل ما ليس من جنس الصلاة لاستوى عمده وسهوه؛ فإن كان كثيرًا أبطلها، وإن كان يسيرًا، كفعل النبي في حمله أُمامة، وفتحه الباب لعائشة، فلا بأس به.
  • الضرب الثاني: النقص، كنسيان واجب؛ فإن قام عن التشهد الأول فذكر قبل أن يستتم قائمًا، رجع فأتى به، وإن استتم قائمًا لم يرجع، وإن نسي ركنًا فذكره قبل شروعه في قراءة ركعة أخرى، رجع فأتى به وما بعده، وإن نسي أربع سجدات من أربع ركعات، فذكر في التشهد سجد في الحال، فصحت له ركعة، ثم يأتي بثلاث ركعات.
  • الضرب الثالث: الشك، فمن شك في ترك ركن، فهو كتركه، ومن شك في عدد الركعات بنى على اليقين، إلا الإمام خاصة، فإنه يبني على غالب ظنه. ولكل سهو سجدتان قبل السلام، إلا من سلم عن نقص في صلاته، والإمام إذا بنى على غالب ظنه، والناسي للسجود قبل السلام، فإنه يسجد سجدتين بعد سلامه، ثم يتشهد ويسلم، وليس على المأموم سجود سهو، إلا أن يسهو إمامه، فيسجد معه، ومن سها إمامه، أو نابه أمر في صلاته؛ فالتسبيح للرجال، والتصفيق للنساء.

الشرح:

باب سجود السهو.

السهو معناه: الذُّهول والنسيان، وهل السهو بالنسبة للإنسان نعمة أو نقمة؟

كيف الأمران؟

نعم، إذنْ: السهو قد يكون نعمة، وقد يكون مصيبة، فهو نعمة إذا لم يكثُر، كما في الأحوال المعتادة هو نعمة؛ لأن الإنسان لو لم ينس لما طاب له العيش؛ فإن الإنسان يَعرِض له في هذه الحياة مصائب، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد: 4]، وقد يكون بعض هذه المصائب مصائب شديدة، كفقدان عزيز ونحوه، فمن نعمة الله على الإنسان أنه يَنسَى مع مرور الزمن، ينسى هذه المصائب، وإلا لو كان لا ينسى لَمَا طاب له العيش، لكن إذا كثر النسيان من الإنسان لا شك أنه مصيبة؛ أصبح الإنسان لا يستطيع أن يضبط صلاة يصليها، ينسى كثيرًا، فهذا قد يكون مؤشرًا لحالة مرضية، وقد يكون من المصائب، فإذنْ هو قد يكون نعمة، وقد لا يكون كذلك، لكنه في الأحوال المعتادة نعمة.

وقد سها النبي عدة مرات، وكما يقول ابن القيم رحمه الله: كان سهوه من تمام نعمة الله على أمته، حتى تَستنَّ به، وكان أول مرة سها فيها النبي : أنه أتى وصلى بهم إحدى صلاتَيِ العَشِيِّ؛ الظهر أو العصر، فصلى بهم ركعتين، ثم سلم، فلما سلم قام رجل يقال له “ذو اليدين”، كان يسمى بذي اليدين؛ لأن في يديه طولًا، وإلا فاسمه الخِرْبَاق بن عمرو، قال: يا رسول الله، أنسيتَ أم قُصِرَتِ الصلاة؟ يعني: انظر إلى دقة فهمه ، أنت صليت الظهر ركعتين، فالاحتمال واحد من اثنين: إما أنك نسيت، وإما أنه نزل وحي وقصرت الصلاة، فأصبحت اثنتين، فقال النبي : لمْ أَنْسَ، ولم تُقْصَر. وكان في القوم أكابر الصحابة، وفيهم أبو بكر، وفيهم عمر، فهابوا أن يكلموا النبي ، كان عليه الصلاة والسلام مع لطفه ولينه ورقته، إلا أن له مهابة، فهابوا أن يكلموه، فقال للصحابة : أكَمَا يقول ذو اليدين؟. قالوا: نعم يا رسول الله، صليت ركعتين، وقد كان عليه الصلاة والسلام لمَّا سلم، وقبل أن يتكلم ذو اليدين ذهب إلى خشبة في المسجد وأتكأ عليها كأنه غضبان، ثم أتى وأكمل الركعتين المتبقيتين، ثم سجد سجدتين ثم سلم [6].

لاحظ هنا أن سجود السهو قبل السلام أم بعده؟ بعد السلام، انتبه لهذا؛ لأن هذه القصة سنحتاج لها عندما نتكلم في مواضع سجود السهو، هل هي قبل السلام أم هي بعد السلام؟

فكان هذا أول موضع يسهو فيه النبي ، ثم قال عليه الصلاة والسلام للصحابة : إنما أنا بشر؛ أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني [7].

أنواع السهو في الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: “والسهو على ثلاثة أضرب”.

أي: ثلاثة أنواع، ويُعبِّر بعضهم عن هذه المسألة بأسباب سجود السهو، فيقولون: أسباب سجود السهو ثلاثة: الزيادة، والنقص، والشك، وبعضهم يعبر كما عبر المؤلف، يجعل السهو على ثلاثة أنواع، نوع فيما يكون فيه الزيادة، ونوع فيما يكون فيه النقص، ونوع فيما يكون فيه الشك.

  • أما الأول، وهو الزيادة، قال: “أحدها: زيادةُ فعلٍ من جنس الصلاة؛ كركعة أو ركن”.

يعني: زاد ركعة، زاد ركنًا في الصلاة، زاد فعلًا من أفعالها، فما الحكم؟ بيَّن المؤلف الحكم، فقال: “فتبطل الصلاة بعمده”. لو تعمَّد زيادة ركعة، أو زيادة ركن بطلت الصلاة إجماعًا، ولهذا؛ لو قام الإمام لخامسة، وسبح به المأمومون فأصر، لم يجز متابعته، ولو تابعه المأموم لبطلت صلاته، إذا كان عالمًا بأنها خامسة، فإذنْ تبطل الصلاة بالزيادة المتعمدة، ولكن لا يكاد يوجد مسلم يتعمد الزيادة، المسلم ما صلى إلا وهو يرجو ما عند الله من الثواب، لكن هذه مسألة مفترضة، وإن كانت ليست ممتنِعة عقلًا، وقد تقع حسًّا، لكنها بعيدة أو نادرة، يندر أن أحدًا يصلي ويتعمد زيادة ركعة، إلا إذا كان يصلي رياء مثلًا، المهم: أن هذه الحال حال نادرة، الحال الكثيرة أن تقع الزيادة عن سهو، فما الحكم؟

حكم الزيادة في الصلاة عن سهو

قال المؤلف: “ويسجد لسهوه”. فأفادنا المؤلف بأنه إذا وقعت الزيادة عن سهو، فإن المصلي يسجد سجود السهو؛ لقوله : إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين [8]. وهذا الحديث في “الصحيحين”، فلو أن رجلًا صلى العصر خمس ركعات، ثم تذكر أو ذُكِّر، ماذا نقول له؟ اسجد سجدتين وسلم، زاد ركوعًا، يعني: بدل أن يركع ركوعًا واحدًا، ركع مرتين، نقول: اسجد سجود السهو.

فإذنْ: الحكم في الزيادة: يسجد سجود السهو.

طيب قال: “وإن عَلِم وهو في الركعة الزائدة جلس في الحال”. إذا علم وهو في الركعة الزائدة يعني نفترض مثلًا أنه قام لركعة خامسة، ولما أراد أن يشرع في قراءة الفاتحة تذكر أنه في الركعة الخامسة، فالحكم: أنه يجب عليه أن يجلس ويسجد السهو، طيب، حتى لو أكمل قراءة الفاتحة، ثم تذكر أنها ركعة خامسة، هل يجلس في الحال؟ نعم، يجلس.

وننتبه، بعض الناس تلتبس عليه هذه المسألة مع مسألة أخرى، وهي ما إذا قام للثالثة ناسيًا التشهد الأول، فإنه إذا استتم قائمًا لا يجلس؛ وإنما يتمها ويسجد السهو، وأما هنا: إذا أتى بزيادة فلا بد أن يجلس؛ سواء شرع في الفاتحة أو لم يشرع فيها، أو شرع في السورة بعدها، لا يجوز له أن يستمر.

طيب، لو لم يتذكر أنه في الركعة الخامسة إلا عند الركوع؟ يجلس أيضًا عند الرفع منه، متى ما تذكر أنه قد زاد في صلاته جلس في الحال، وليس له أن يستمر، سواء أكان إمامًا أو مأمومًا، فلو قال قائل: لو كان إمامًا قرأ الفاتحة، ثم تذكر أنه في الركعة الخامسة، كيف يجلس؟ نعم يجلس، ويشير للمأمومين وراءه، يشير لهم، المفترض أن المأمومين يسبحون، لكن افترِض أن المأمومين سهَوْا معه أيضًا، أحيانًا المأمومون يسهون، أو أن بعضهم يكون غير متأكد ولا يسبح، المهم متى ما ذكر أو ذُكِّر بأنه في ركعة زائدة، وجب عليه أن يجلس في الحال، ولا يجوز له أن يستمر، فإن استمر مع علمه وتذكُّرِه بطلت صلاته، انتبه! المسألة خطيرة؛ لأن بعض الناس يستمر في صلاته، يقول: زيادة خير. نقول: لا، هذه ليست زيادة خير؛ هذه تؤثر على صحة الصلاة، أنت تعبد الله كما شرع الله، وليس كما تستحسن بعقلك، والعبادات ليس فيها مجال استحسان العقل، وأصل البدع: هو استحسان العقل، أصل البدع: أن المبتدع يستحسن هذا الشيء، ويقع في البدع، أنت تعبد الله كما أمرك الله، وليس كما تحب أنت، أو تستحسن أنت، أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21].

حكم من سلَّم عن نقص في صلاته

قال: “وإن سلَّم عن نقصٍ في صلاته، أتى بما بقي عليه منها، ثم سجد”.

إن سلم عن نقص، المؤلف سيتكلم عن النقص بعد قليل، لكن أورده هنا؛ لأن بعض أهل العلم يعتبر هذه الصورة من صور الزيادة، يعني: صلى العصر ركعتين، أو صلى ثلاث ركعات ثم سلم، قال: “أتى بما بقي عليه”. يقوم مثلًا ويأتي بركعتين ثم يسجد؛ كما حصل مع النبي في قصة ذي اليدين.

حكم الحركة في الصلاة

قال: “ولو فعل ما ليس من جنس الصلاة، لاستوى عمده وسهوه”.

هذا استطراد من المؤلف، يقول: لو فعل ما ليس من جنس الصلاة مثل ماذا؟ حركة، مشى مثلًا، أو فتح الباب، أو عبث بلحيته، أو أخذ جواله، ينظر مثلًا المكالمة أو الاتصال، فعل ما ليس من جنس الصلاة، يقول: لاستوى عمده وسهوه، طيب الحكم؟ إن كان كثيرًا أبطلها، وإن كان يسيرًا فلا بأس، إن كانت الحركة كثيرة، يقول المؤلف: إنها تبطل الصلاة، وظاهر كلام المؤلف: أن هذه الحركة حتى لو كانت عن سهو إذا كانت كثيرة، فإنها تبطل الصلاة.

ولهذا؛ المؤلف قال: “وإن كان يسيرًا فلا بأس”.

ففرَّق بين القليل والكثير، ولم يفرق بين ما كان سهوًا أو عمدًا، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الحركة المبطلة للصلاة: هي الحركة الكثيرة المتوالية لغير حاجة.

أولًا: قوله: إن الحركة الكثيرة خرج به الحركة اليسيرة، الحركة اليسيرة لا تبطل الصلاة، وإن كان الأولى تركها، لكنها لا تبطل الصلاة، والدليل على أنها لا تبطل الصلاة: عدة أحاديث؛ منها: أن النبي حمل أُمامة، هذا أشار إليه المؤلف، قال: “وإن كان يسيرًا؛ كفعل النبي في حمله أُمامة”. وهي بنت أبي العاص، بنتُ بنتِ النبي ، حملها النبي في صلاة العصر، فكان إذا سجد وضعها، وإذا قام حملها [9]، ولا شك أن الحمل والوضع فيه حركة، لكنها حركة يسيرة.

قال: “وفتحِه البابَ لعائشة”.

هذا قد جاء عند أبي داود والترمذي، أن النبي في صلاة نافلة فتح الباب لعائشة رضي الله عنها [10]، ولكن هذا الحديث في سنده مقال، وأبو حاتم في العلل قال: إنه حديث منكر.

وكحركة النبي في صلاة الكسوف، لما تقدم فتقدمت الصفوف، وتأخر فتأخرت الصفوف [11]، إلى غير ذلك، فإذنْ: إذا كانت الحركة يسيرة فلا بأس.

قلنا: أن تكون الحركة كثيرة متوالية، فإن كانت غير متوالية فإنها لا تبطل الصلاة، فلو أن مثلًا الإمام وهو يصلي سقط مكبر الصوت، فأخذه ووضعه وأصلحه، ثم لم يتحرك بعد ذلك، هذا لا يبطل الصلاة؛ لأنها غير متوالية.

“لغير حاجة”: فإن كانت لحاجة فلا بأس؛ لقول النبي : اقتلوا الأسْوَدَين: الحية والعقرب، في الصلاة [12]. وذلك؛ لأن هذا لحاجة، وأيضًا حمل أمامة بنت العاص، قد يقال أيضًا: إنه لحاجة، وقد يقال: إنه ليس لحاجة، لكن كون النبي يحمل أمامة بنت العاص، يدل على أن الحركة لحاجة أنه لا بأس بها، فإذنْ ضابط الحركة المبطلة للصلاة من يعيده لنا مرة أخرى؟

الحركة الكثيرة المتوالية لغير حاجة، حركة كثيرة متوالية لغير حاجة.

ضابط الحركة التي تبطل الصلاة

ويوضح بعض أهل العلم هذا الضابط فيقول: إن هذه الحركة الكثيرة المتوالية لغير حاجة، هي التي يُخيَّل للناظر إلى هذا المصلي كأنه ليس في صلاة، يعني: من كثرة حركته لا يدري هل هو يصلي أو يلعب؟ ما يدري، فيخيل للناظر أنه ليس في صلاة، وتتغير هيئة الصلاة، فهذه هي الحركة التي تبطل الصلاة.

وأما الحركة اليسيرة، فكما ذكرنا، لا بأس بها، وقد تكون الحركة اليسيرة مستحبة، من يذكر لنا مثالًا؟ الحركة لِوَصْلِ الصف، إذا وجدت فرجة في الصف الذي أمامك، كونك تمشي وتَصُفُّ في هذا الصف، هذه حركة لكن لأجل إكمال الصف وسد الفرج، فهذه الحركة حركة مستحبة.

لكن ينبغي للمصلي أن يبتعد عن الحركة، حتى لو قلنا: إنها لا تبطل الصلاة؛ لأن هذه الحركة تنافي الخشوع، تجد بعض الناس إذا كبر بدأ يتحرك؛ تارة يعبث بغُترته، وتارة بشِمِاغه، وتارة بثوبه، وتارة بلحيته، وتارة بأنفه! أنت في مقام صلاة، وفي مقام مناجاة لرب العالمين، ولذلك؛ جاء في بعض الآثار: أن المصلي إذا قال: الله أكبر. أنه فتح الحجاب بينه وبين الرب -جل جلاله- فاستحضِر أنك في مقام عظيم.

وكان أحد السلف إذا أراد أن يكبر تغير وجهه، فسُئل، قال: أتدرون بين يدي من أقف؟ أقف بين يدي رب العالمين.

فينبغي للمصلي أن يعظم شأن الصلاة، وألا يتحرك، ولهذا؛ لما رأى أحد السلف رجلًا يعبث في صلاته، قال: لو خشع قلب هذا، لخشعت جوارحه. وهذا يُروى مرفوعًا عن النبي ، ولا يصح، لكنه أثر عن بعض السلف.

وهناك اعتقاد عند بعض العامة أنه إذا حصل من المصلي ثلاث حركات بطلت صلاته، وهذا الاعتقاد غير صحيح، لا أصل له، لاحِظْ أن النبي حمل أُمامة بنت العاص، وهذا الحمل فيه حركة كثيرة، مشى في صلاة الكسوف، ومشت الصفوف، تأخرت الصفوف، فهذا الاعتقاد عند بعض العامة، أن ثلاث حركات تبطل الصلاة، هذا غير صحيح، ولا أصل له.

حكم إغلاق الجوال في الصلاة

طيب، من كان معه الهاتف الجوال، وأتاه اتصال، نسي -يفترض أن المصلي يغلق جواله، أو يضعه على الصامت، لكن نفترض أنه نسيه- فهل يتحرك ويقفل الجوال أو يتركه؟ يغلقه، هذه الحركة حركة يسيرة، وربما نقول: إن ذلك يستحب؛ لأنه لو لم يفعل هذا لشَوَّش على نفسه وعلى المصلين حوله، ونلاحظ أن بعض المصلين تجد أنه يأتيه اتصال، ويستمر هذا الاتصال ولا يغلق جواله، ولا يقطع هذا الاتصال، وربما بعضهم يريد الإتيان بسنة، لكنه يقع في محظور، يريد الإتيان بسنة الخشوع، وعدم الحركة مطلقًا، لكنه يقع في محظور، وهو أذية المؤمنين، فإذنْ: لو كان معك الهاتف الجوال، ورن هاتف جوالك، فينبغي أن تغلقه.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
^2 رواه مسلم: 79.
^3 أَوَّهْ: كلمة تقال عند الشكاية والحزن، وفي ضبطها أوجه أخرى. ينظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 1/ 82.
^4 رواه البخاري: 2302 ،2312، ومسلم: 1594.
^5 رواه البخاري: 6408، ومسلم: 2689.
^6 رواه البخاري: 482، ومسلم: 573.
^7 رواه البخاري: 401، ومسلم: 572.
^8 رواه البخاري: 1231، ومسلم 389 بنحوه.
^9 رواه البخاري: 516، ومسلم: 543.
^10 رواه أبو داود: 922، والترمذي: 601.
^11 رواه البخاري: 1052، ومسلم: 904.
^12 رواه أبو داود: 921.
zh