الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(5) باب في سخائه ﷺ- من حديث: “ما سئل رسول الله ﷺ شيئًا قط..”
|categories

(5) باب في سخائه ﷺ- من حديث: “ما سئل رسول الله ﷺ شيئًا قط..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فنبدأ هذا الدرس في التعليق على “صحيح مسلم”.

نصيحةٌ للاتجاه نحو التعلم عن بُعْدٍ

قبل أن أبدأ أُشير إلى نجاح التجربة، فنحن بدأنا بالأمس بثَّ الدروس عن بُعْدٍ عبر منصات التواصل خارج المسجد، ولله الحمد لقي هذا نجاحًا كبيرًا، وبلغ عدد المُشاهدات المباشرة أكثر من أربعة آلافٍ، والمُتابعات أكثر من ثلاثة آلافٍ وخمسمئةٍ، يعني: المجموع في حدود سبعة آلافٍ وخمسمئةٍ، وهذا عددٌ ضخمٌ وكبيرٌ.

ولذلك أقول: هي فرصةٌ للمشايخ وطلبة العلم في أن يستأنفوا دروسهم في البثِّ عن بُعْدٍ، خاصةً أن كثيرًا من الناس الآن قد لزموا بيوتهم بسبب إقفال كثيرٍ من المرافق والتجمعات، فكثيرٌ من الناس في بيوتهم، وعندهم وقت فراغٍ كثيرٌ، فشَغْل هذا الوقت بنشر العلم وتعليمه من الأمور الحسنة؛ ولذلك أحثُّ المشايخ ومَن عندهم دروسٌ علميةٌ على أن يستمروا فيها عبر البَثِّ عن بُعْدٍ، وعبر هذه الوسائل -وسائل التقنية الحديثة- التي هي من نِعَم الله تعالى علينا في هذا الزمن.

وهي سلاحٌ ذو حدَّين، ووجهها المُشرق: أنها يمكن أن يُستفاد منها في جانب نشر العلم وتعليمه، والدعوة إلى الله ​​​​​​​، والإرشاد والتوجيه.

ترتيب هذا الدرس: سنُعلِّق على “صحيح مسلم” من حيث توقفنا عنده، وقبل أذان العشاء بحسب توقيت مدينة الرياض بعشر دقائق إلى ربع ساعةٍ سنتوقف ونُتيح الفرصة للإجابة عما يرد إلينا من الأسئلة والاستفسارات، مثلما فعلنا بالأمس، فإذا أذَّن المُؤذِّن لصلاة العشاء سنتوقف تمامًا؛ لأن الفاصل بين الأذان والإقامة الآن عشر دقائق حسب تعليمات وزارة الشؤون الإسلامية، والمُتابعون لهذه الدروس في بيوتهم، فنُتيح لهم الفرصة من حين الأذان لكي يُبادروا إلى الذهاب للمسجد.

وعلى ذلك نستقبل أسئلتكم ونُجيب عما تيسر منها قبل أذان العشاء بتوقيت مدينة الرياض بحدود عشر دقائق إلى ربع ساعة، إن شاء الله تعالى.

بابٌ في سخائه

كنا قد وصلنا في “صحيح مسلم” إلى: بابٌ في سخائه .

قال الإمام مسلمٌ في “صحيحه”:

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد قالا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن المُنكدر، سمع جابر بن عبدالله قال: ما سُئل رسول الله شيئًا قط فقال: لا.

وحدثنا أبو كُريب: حدثنا الأشجعي. ح، وحدثني محمد بن المُثنى: حدثنا عبدالرحمن -يعني: ابن مهدي- كلاهما عن سفيان، عن محمد بن المُنكدر قال: سمعتُ جابر بن عبدالله يقول. مثله سواء [1].

هذا الحديث يدل على عظيم سخائه عليه الصلاة والسلام، وعلى عظيم كرمه وجوده، فقد كان عليه الصلاة والسلام كريمًا، جوادًا، سخيًّا.

وهنا يحكي جابر بن عبدالله رضي الله عنهما صورةً من صور جود النبي عليه الصلاة والسلام وسخائه، فيقول: ما سُئل رسول الله شيئًا قط فقال: لا”.

قال الكرماني -أحد الشُّرَّاح للبخاري-: “أي: ما طُلِبَ منه شيءٌ من أمور الدنيا فمنعه”، كما قال الفرزدق لزين العابدين في قصيدةٍ يُثني بها عليه:

ما قال: “لا” قط إلا في تشهده لولا التَّشهد كانت لاؤه نعم

إذن هذا يدل على كريم خُلُق النبي عليه الصلاة والسلام، وعظيم جوده، وعظيم سخائه: “ما سُئل شيئًا قط فقال: لا”.

المراد من قوله: “ما سُئل شيئًا قط فقال: لا”

يُشكل على هذا أن الإنسان قد يأتيه شخصٌ ويسأله شيئًا، وهو ليس عنده، يأتيه سائلٌ، يأتيه أحدٌ يطلب منه شيئًا: يطلب منه مساعدةً، يطلب منه مالًا، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يُقْصَد، فكان عليه الصلاة والسلام هو النبي، وهو الرسول، وهو القائد لأُمته، وهو رئيس الدولة الإسلامية في عهده في المدينة، فكان يقصده الناس، وكانت حالة الناس حالة فقرٍ في عهده عليه الصلاة والسلام، فيأتيه من الأعراب، ويأتيه من الناس مَن يسأله المال، فهل معنى ذلك أن كل مَن سأله مالًا كان عليه الصلاة والسلام يُعطيه؟

الجواب: لا، هذا لا يمكن.

إذن ما معنى قول جابرٍ : “ما سُئل شيئًا قط فقال: لا”؟

قال الحافظ ابن حجر في الجواب عن هذا الإشكال: “ليس المراد أنه يُعطي ما يُطْلَب منه جزمًا، بل المراد أنه لا ينطق بالردِّ، بل إن كان عنده أعطاه إن كان الإعطاء سائغًا، وإلا سكت”.

وقد ورد في ذلك حديثٌ مُرسلٌ: “إذا سُئل شيئًا فأراد أن يفعله قال: نعم، وإذا أراد ألا يفعل سكت” [2]، وكما في الحديث الآخر: “ما عاب رسول الله طعامًا قط، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه” [3].

هذا هو الجواب الأول عن هذا الإشكال، ونحن قلنا: الإشكال أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يُقْصَد من الأعراب وغيرهم، ويسألونه ويطلبون منه، فهل معنى ذلك أنه كان يُعطيهم دائمًا؟

هذا لا يمكن أن يكون، فما الجواب إذن عن قول جابرٍ : “ما سُئل رسول الله شيئًا قط فقال: لا”؟

الحافظ ابن حجر رحمه الله أجاب بهذا الجواب فقال: إن المعنى: أنه لا ينطق بالردِّ، إن كان عنده أعطى، وإلا سكت.

هذا الجواب الأول.

الجواب الثاني: قال العِزُّ بن عبدالسلام عن مقصود جابرٍ  بقوله: “فقال: لا”: “معناه: لم يقل: “لا” منعًا للعطاء، ولا يلزم من ذلك ألا يقولها اعتذارًا”، أي: أنه لم يقل “لا” منعًا للعطاء، لكن يعتذر، فلا يمنع ذلك من أن يقولها اعتذارًا، “كما في قوله تعالى: قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ [التوبة:92]”، فهنا النبي عليه الصلاة والسلام قال: “لا”: لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ.

وقال العِزُّ بن عبدالسلام: “ولا يخفى الفرق بين قول: لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ وبين: لا أحملكم”.

فالجواب الثاني: أنه لم يكن عليه الصلاة والسلام يقول: “لا” على وجه الصَّلَف، وإنما كان يعتذر من السائل إذا لم يكن عنده شيءٌ، فإن كان عنده شيءٌ أعطاه، وإلا اعتذر منه بلطفٍ ورفقٍ، كما في حال الذين لم يجد ما يحملهم عليه في غزوة تبوك، قال: لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [التوبة:92].

والجواب الثاني أقرب، يعني: قول الحافظ ابن حجر رحمه الله: أنه عليه الصلاة والسلام إما أن يُعطي، وإما أن يسكت، يُشكل عليه أنه قد يأتيه إنسانٌ يطلب منه شيئًا، فكونه لا يرد عليه -يعني- هذا ليس من خُلُق النبي عليه الصلاة والسلام، فلو أتاك إنسانٌ وطلب منك مالًا، أيّهما أقرب لكمال الخُلُق وحُسن الخُلُق: أن تعتذر منه بلطفٍ، أو أنك تسكت وتصمت ولا ترد عليه؟

ربما إذا سكتَّ وصمتَّ وجد في نفسه، لكن إذا اعتذرتَ منه بلطفٍ جبرتَ خاطره.

وعلى ذلك فالجواب الثاني أقرب، فيكون المعنى على هذا: أنه لم يكن يقول: “لا” منعًا للعطاء على وجه الصَّلَف، وإنما كان يعتذر عليه الصلاة والسلام باعتذارٍ يجبر به خاطر السائل، هذا هو الأقرب -والله أعلم- في بيان وتفسير هذا الحديث.

عطاء النبي 

ننتقل بعد ذلك إلى الحديث الذي بعده، قال:

وحدثنا عاصم بن النضر التيمي: حدثنا خالد -يعني: ابن الحارث-: حدثنا حميد، عن موسى بن أنس، عن أبيه -يعني: أنس بن مالك – قال: ما سُئل رسول الله على الإسلام شيئًا إلا أعطاه. قال: فجاءه رجلٌ فأعطاه غَنَمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قومِ، أسلموا؛ فإن محمدًا يُعطي عطاءً لا يخشى الفاقة [4].

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن ثابتٍ، عن أنسٍ: أن رجلًا سأل النبي غنمًا بين جبلين، فأعطاه إياه، فأتى قومه فقال: أي قومِ، أسلموا؛ فوالله إن محمدًا ليُعطي عطاءً ما يخاف الفقر.

فقال أنسٌ: إن كان الرجل ليُسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يُسلم حتى يكون الإسلام أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها [5].

هذا الحديث حديث أنسٍ يقول: “ما سُئل رسول الله على الإسلام شيئًا إلا أعطاه”، وهذا كما قلنا في الحديث السابق: أعطى إن كان يتيسر إعطاؤه، وإلا اعتذر منه بلطفٍ ورفقٍ.

قال: “فجاءه رجلٌ فأعطاه غنمًا بين جبلين”.

والشُّرَّاح اختلفوا في هذا الرجل مَن هو؟

ولا يترتب على معرفته كبير فائدةٍ.

“فأعطاه غنمًا بين جبلين”، وقد كان هذا من غنائم حنين.

سبب إعطاء النبي  هذا الرجل هذا العطاء

قوله: “بين جبلين” فيه إشارةٌ إلى كثرتها، ويوم حنين غنم المسلمون غنائم كثيرةً، وكان هذا الرجل الذي أعطاه النبي هذه الغنم من المُؤلَّفة قلوبهم.

قوله: “غنمًا بين جبلين” يعني: يُشير لكونها أغنامًا كثيرةً يحدها من هذا الجبل إلى ذاك الجبل، وهذا يدل على كثرتها.

“فرجع إلى قومه” وقد استاق هذه الأغنام، فقال: “يا قومِ، أسلموا؛ فإن محمدًا يُعطي عطاءً لا يخشى الفاقة” يعني: لا يخشى الفقر.

وفي الرواية الأخرى: “فأعطاه إياه، فأتى قومه فقال: أي قومِ، أسلموا؛ فوالله إن محمدًا ليُعطي عطاءً ما يخاف الفقر”.

قال أنسٌ : “إن كان الرجل ليُسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يُسلم حتى يكون الإسلام أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها”.

هذا كان من أساليب النبي عليه الصلاة والسلام في تأليف القلوب: أنه كان يُعطي المُؤلَّفة قلوبهم، وهم أمراء القبائل، وشيوخ القبائل، الذين إذا أسلم أحدهم -هذا السيد- تبعه الفِئام من الناس، فكان عليه الصلاة والسلام يحرص على أن يتألفهم؛ ولذلك كان هذا من أسباب انتشار الإسلام: حِرصُ النبي عليه الصلاة والسلام على تألُّف رؤساء القبائل.

في وقت النبي عليه الصلاة والسلام كان المجتمع القبلي هو السائد في عهده عليه الصلاة والسلام، وكانت القبيلة لها أميرٌ، أو سيدٌ، أو شيخٌ، فكان إذا أسلم تبعه قومه، فكان عليه الصلاة والسلام يُركز على هؤلاء -رؤساء القبائل- فيتألَّفهم بالمال، والمال له سلطانٌ على النفوس، بل له سلطانٌ على المشاعر -على الحبِّ والكُرْه-؛ ولذلك سيأتي من كلام صفوان أنه قال: “إن النبي كان أبغضَ الناس إليَّ، فما برح يُعطيني حتى إنه لأحبُّ الناس إليَّ”، انقلب هذا الكُرْه إلى حُبٍّ بسبب المال.

فالمال إذن -كما يُقال في المثل: “الفلوس تُغير النفوس”- له أثرٌ في تأليف القلوب، وهذا لا يُنكر، فالمال له أثرٌ في تغيير المشاعر، وله أثرٌ في كسب الآخرين، وله أثرٌ في دفع الضَّرر وكَفِّ الشر.

هذه المعاني أعملتها الشريعة الإسلامية؛ ولذلك أحد الأصناف الثمانية المُستحقين للزكاة: المُؤلَّفة قلوبهم، الذين يُرْجَى بإعطائهم المال تأليف قلوبهم على الإسلام، أو حتى كفّ ضررهم عن الإسلام والمسلمين.

فهذه المعاني النفسية -وهي كون المال له تأثيرٌ على النفوس وعلى المشاعر- راعتها الشريعة الإسلامية، وأيضًا النبي عليه الصلاة والسلام راعاها في دعوته للإسلام، وفي تأليف قلوب الآخرين.

هذا الرجل كان سيدًا في قومه، فأراد النبي أن يتألَّفه فأعطاه هذه الأغنام الكثيرة بين جبلين؛ ولذلك ماذا كانت النتيجة؟

كانت النتيجة أنه رجع لقومه وقال: “يا قومِ، أسلموا”، أمر قومه كلهم بأن يُسلموا، وعلل ذلك فقال: “إن محمدًا يُعطي عطاءً لا يخشى الفاقة”، وفي الرواية الأخرى: “يُعطي عطاءً ما يخاف الفقر”، وجاء في إحدى الروايات أنه قال: “أشهد ما طابتْ بهذا إلا نفس نبيٍّ” [6].

وهذا قد رُوي أيضًا في قصة صفوان، يعني: هذا العطاء أثَّر على هذا الرجل؛ فأسلم، ثم أسلم معه قومه.

يُعلِّق على ذلك الصحابي الجليل أنسٌ فيقول: “إن كان الرجل ليُسلم ما يريد إلا الدنيا” يعني: لأجل هذه الأموال، “فما يُسلم حتى يكون الإسلام أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها”.

يقول النووي في شرحه على مسلم: “فما يُسلم” في بعض النُّسخ، وفي بعض النُّسخ الأخرى لـ”صحيح مسلم”: “فما يُمسي حتى يكون الإسلام أحبَّ إليه”.

قال النووي: “وكلاهما صحيحٌ، ومعنى الأول: فما يلبث بعد إسلامه إلا يسيرًا حتى يكون الإسلام أحبَّ إليه.

والمراد: أنه يُظْهِر الإسلام أولًا للدنيا لا بقصدٍ صحيحٍ بقلبه، ثم من بركة النبي ونور الإسلام لم يلبث إلا قليلًا حتى ينشرح صدره بحقيقة الإيمان، ويتمكن من قلبه، فيكون حينئذٍ أحبَّ إليه من الدنيا وما فيها”، أي: أنه في البداية يُسلم يريد الدنيا، ولكن يشرح الله تعالى بعد ذلك صدره للإسلام، خاصةً إذا عرف حقيقة الإسلام وأمور الدين وما يأمر به الدين، وانكسرت الحواجز النفسية التي عنده المانعة من الإسلام، فبعد ذلك يستقر الإيمان في قلبه، فيكون هذا المال قد كسر الحواجز المانعة من دخوله الإسلام؛ لأن المال -كما ذكرنا- له سلطانٌ قويٌّ على النفوس، وقوة هذا السلطان تجعله يدفع الموانع والحواجز النفسية التي تمنعه من الإسلام.

إذن بدأ وهو يريد بهذا الإسلام الدنيا، وبعد ذلك تكون الحواجز النفسية التي أعاقته عن دخول الإسلام قد بدأتْ تضعف شيئًا فشيئًا، ويقوى جانب الإيمان والإسلام في قلبه حتى يستقر الإيمان في قلبه.

فهذا معنى قول أنسٍ : “إن كان الرجل ليُسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يُسلم -أو: فما يُمسي- حتى يكون الإسلام أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها”.

وهذا المعنى ينبغي أن يفهمه الدعاة إلى الله ​​​​​​​ وطلبة العلم في جانب الدعوة والإرشاد والتوجيه، وأن المال له تأثيرٌ على النفوس وعلى المشاعر؛ ولذلك تنبغي العناية بهؤلاء المُؤلَّفة قلوبهم، تنبغي العناية بهم عنايةً كبيرةً ولو بتأليفهم أولًا بالمال، أو بشيءٍ من المال، ثم بعد ذلك تزول عنهم الحواجز النفسية التي تكون قد منعتهم من الإسلام، فيتقوى عندهم الإسلام شيئًا فشيئًا.

قصة عطاء النبي لصفوان بن أُمية

ننتقل إلى حديثٍ آخر، قال:

وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سَرْح: أخبرنا عبدالله بن وهب: أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ قال: غزا رسول الله  غزوة الفتح -فتح مكة-، ثم خرج رسول الله بمَن معه من المسلمين فاقتتلوا بحُنين، فنصر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسول الله يومئذٍ صفوان بن أُمية مئةً من النَّعَم، ثم مئةً، ثم مئةً”.

قال ابن شهابٍ: حدثني سعيد بن المسيب: أن صفوان قال: والله لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما بَرِحَ يُعطيني حتى إنه لأحبُّ الناس إليَّ [7].

هذا الحديث في قصة صفوان بن أُمية، يقول: “إن النبي غزا غزوة الفتح”، وغزوة الفتح كانت في السنة الثامنة من الهجرة: فتح مكة، وسبق فتح مكة صُلْحُ الحُدَيبية في السنة السادسة من الهجرة.

النبي عليه الصلاة والسلام أخرجه قومه وكادوا أن يقتلوه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، فهاجر وكوَّن الدولة الإسلامية في المدينة، وحصلتْ غزوة بدرٍ في السنة الثانية، ثم غزوة أُحُدٍ في السنة الثالثة، ثم غزوة الخندق في السنة الخامسة، ثم بعد ذلك أراد عليه الصلاة والسلام في السنة السادسة من الهجرة أن يعتمر، فخرج ومعه عددٌ من المسلمين يريدون العمرة، لا يريدون قتال قريشٍ، فلما علمتْ بذلك قريشٌ فزعتْ فزعًا شديدًا، وصدُّوهم عن البيت، وبقي النبي عليه الصلاة والسلام في الحُدَيبية.

الحُدَيبية: هو المكان الذي على حدود الحرم في المنطقة التي تُسمى الآن: الشميسي، هذه هي الحُدَيبية.

بقي النبي عليه الصلاة والسلام وأقام، ثم حصل صُلح الحُدَيبية، وفي صُلح الحُدَيبية اتَّفق النبي عليه الصلاة والسلام مع كفار قريش على بنود الصُّلح، وكانت بنود الصُّلح في ظاهرها أن فيها غضاضةً على الإسلام والمسلمين، يعني: كان أول بندٍ: أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يعتمر هو وأصحابه تلك السنة، وكانوا مُتَلَهِّفين ومُتعلِّقين بالبيت وببلدهم الذي أُخرجوا منه: مكة.

الأمر الثاني: أن مَن أتى النبيَّ عليه الصلاة والسلام مسلمًا ردَّه، ومَن أتى إلى قريشٍ مُرتدًّا لا تردّه قريشٌ.

فكثيرٌ من الصحابة ما تقبَّل هذه البنود، حتى إن عمر قال: “يا رسول الله، ألسنا على الحق، وهم على الباطل؟ فقال: بلى … قال: فَعَلَامَ نُعطي الدَّنية في ديننا؟!” [8].

ورُوي عنه أنه قال: “ما شككتُ منذ أسلمتُ إلا يومئذٍ” [9]، إلا أبا بكرٍ الصديق فإنه كان عنده من قوة اليقين شيءٌ عظيمٌ فاق به بقية أصحابه، فقال أبو بكرٍ لعمر رضي الله عنهما: “أيها الرجل، إنه لرسول الله … فاستمسك بغَرْزِه”.

وبعدما صالح النبي عليه الصلاة والسلام قريشًا أمرهم بحلق رؤوسهم، يعني: تطبيق حكم المُحْصَر: حلق الرؤوس، ونحر الهَدْي، والرجوع، فما قام منهم أحدٌ، ليس عصيانًا للنبي عليه الصلاة والسلام، حاشا وكلا، لكن كان الصحابة يرجون النَّسْخ، فدخل النبي مُغضبًا على أم سلمة رضي الله عنها، فذكر لها ما لَقِيَ من الناس.

أم سلمة رضي الله عنها فهمتْ مقصود الصحابة، وهو أنهم يرجون النَّسْخ، فقالت: يا رسول الله، احلق رأسك، فإذا حلقتَ رأسك سيحلقون رؤوسهم.

وكان هذا الرأي رأيًا سديدًا، يدل على كمال عقلها وحكمتها رضي الله عنها.

فحلق النبي عليه الصلاة والسلام رأسه، فلما رأى الصحابة أنه حلق رأسه أيسوا من أن يأتي نَسْخٌ؛ فحلقوا رؤوسهم، وكاد أن يقتل بعضهم بعضًا من الهمِّ والأسى [10]، ما كانوا مُتقبِّلين.

فلما رجع النبي عليه الصلاة والسلام -وهنا موضع الشاهد- من الحُدَيبية في الطريق أنزل الله تعالى عليه: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1].

المقصود بالفتح: صُلح الحُدَيبية، وليس المقصود به فتح مكة بالإجماع.

قال الصحابة : يا رسول الله، أفتحٌ هو؟ قال: نعم [11].

سمَّاه الله: فتحًا؛ لأن عاقبته كانت عظيمةً وحميدةً للإسلام والمسلمين.

وربما لا يتسع المقام للكلام عن وجه كونه فتحًا، لكن عاقبته كانت حميدةً؛ فقد انتشر الإسلام في تلك الفترة، والنبي عليه الصلاة والسلام رجع بعد سنتين وفتح مكة، فسمَّى الله تعالى صُلح الحُدَيبية: فتحًا.

هذا يدل على أن بعض الأمور تكون في ظاهرها فيها شرٌّ، لكن في عاقبتها خيرٌ عظيمٌ، فصُلح الحُدَيبية سمَّاه الله تعالى: فتحًا.

في السنة السابعة من الهجرة أتى النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة واعتمروا؛ تنفيذًا لبنود الصُّلح -صُلح الحُدَيبية-، وفي السنة الثامنة حصل فتح مكة، وهذا هو الذي أشار إليه هنا فقال: “غزا رسول الله غزوة الفتح؛ فتح مكة”، وكان ذلك في السنة الثامنة فتح مكة عليه الصلاة والسلام.

“ثم خرج رسول الله بمَن معه من المسلمين فاقتتلوا بحنين”، يعني: كانت غزوة حنين بعد فتح مكة مباشرةً.

“فنصر الله دينه والمسلمين” على ثقيف وهوازن، وغنموا غنائم عظيمةً.

“وأعطى رسول الله يومئذٍ -يعني: من غنائم حنين- صفوان بن أُمية”.

صفوان بن أُمية أحد سادات قريش، وهو صفوان بن أُمية بن خلف، وكان من المُؤلَّفة قلوبهم، مات سنة 41هـ، وقيل: 42هـ.

“أعطاه مئةً من النَّعَم، ثم مئةً، ثم مئةً” يعني: ثلاثمئةٍ، وهذا يدل على كثرة ما أعطاه عليه الصلاة والسلام من النَّعَم، يعني: من الأنعام، والظاهر أنه أعطاه من الإبل، يعني: ثلاثمئةٍ من الإبل، كم تُعادل في وقتنا الحاضر؟ يعني: مالًا كثيرًا.

“قال ابن شهابٍ: حدثني سعيد بن المسيب: أن صفوان قال: والله لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما بَرِحَ يُعطيني حتى إنه لأحبُّ الناس إليَّ”، يعني: انقلبتْ هذه الكراهية وهذا البُغْض إلى حبٍّ.

وفي روايةٍ عنه -الرواية التي ذكرناها قبل قليلٍ قيل: إنها وردتْ عن صفوان- قال: “أشهد ما طابتْ بهذا إلا نفس نبيٍّ” فأسلم.

فتألَّف النبي صفوان، وكان من سادات قريشٍ، تألَّفه بهذا المال، وأعطاه هذا المال الكثير؛ فأسلم وحَسُنَ إسلامه .

وهذا يؤكد ما ذكرناه قبل قليلٍ من تأثير المال على النفوس، وعظيم سلطانه على النفوس، بل حتى على المشاعر، بل حتى على الحب والكُرْه، فهذه المعاني راعتها الشريعة الإسلامية؛ ولذلك جُعلتْ أحد الأصناف الثمانية من أصناف الزكاة: المُؤلَّفة قلوبهم.

قال:

حدثنا عمرو الناقد: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن المنكدر: أنه سمع جابر بن عبدالله. ح، وحدثنا إسحاق: أخبرنا سفيان، عن ابن المنكدر، عن جابرٍ. وعن عمرو، عن محمد بن علي، عن جابرٍ، أحدهما يزيد على الآخر. ح، وحدثنا ابن أبي عمر -واللفظ له- قال: قال سفيان: سمعتُ محمد بن المُنكدر يقول: سمعتُ جابر بن عبدالله. قال سفيان: وسمعتُ أيضًا عمرو بن دينار يُحدث عن محمد بن عليٍّ قال: سمعتُ جابر بن عبدالله -وزاد أحدهما على الآخر- قال: قال رسول الله : لو قد جاءنا مال البحرين لقد أعطيتُك هكذا وهكذا وهكذا، وقال بيديه جميعًا، فقُبِضَ النبي قبل أن يجيء مال البحرين، فقدم على أبي بكرٍ بعده، فأمر مُناديًا فنادى: مَن كانت له على النبي عِدَةٌ أو دَينٌ فَلْيَأْتِ. فقمتُ فقلتُ: إن النبي قال: لو قد جاءنا مال البحرين أعطيتُك هكذا وهكذا وهكذا، فحثى أبو بكرٍ مرةً، ثم قال لي: عُدَّها. فعددتُها فإذا هي خمسمئةٍ، فقال: خُذْ مِثْلَيها [12].

وأورد المؤلف أيضًا هذا الحديث بروايةٍ أخرى فقال:

حدثنا محمد بن حاتم بن ميمون: حدثنا محمد بن بكر: أخبرنا ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، عن محمد بن عليٍّ، عن جابر بن عبدالله قال. وأخبرني محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبدالله قال: لما مات النبي جاء أبا بكرٍ مالٌ من قِبَل العلاء بن الحضرمي، فقال أبو بكرٍ: مَن كان له على النبي دَينٌ، أو كانت له قِبَلَه عِدَةٌ فَلْيَأْتِنَا. بنحو حديث ابن عُيينة [13].

كان رسول الله صالح أهل البحرين، والبحرين إذا أُطلقتْ تشمل البحرين المعروفة حاليًّا، وتشمل منطقة الأحساء، فكلها تُسمى: البحرين، وعاصمتها: هجر، فصالحهم النبي ، وأمَّر عليهم العلاء بن الحضرمي، وبعث أبا عبيدة ليأتي بجزيتها؛ لأنه صالحهم على أن يدفعوا الجزية، فقدم أبو عبيدة بمالٍ كثيرٍ في حياة النبي ، ثم بعد ذلك وعد النبي جابرًا ، فالذي وعد النبي جابرًا كان بعد السنة التي قدم فيها أبو عبيدة  بالمال، يعني: لما صالح النبي عليه الصلاة والسلام أهل البحرين أتى أبو عبيدة بمالٍ كثيرٍ، ثم وزَّعه، وقال لجابرٍ تطييبًا لخاطره: لو قد جاءنا مال البحرين أعطيتُك هكذا وهكذا وهكذا، فكان الوعد بعد مجيء مال البحرين في السنة الأولى.

بعد وفاة النبي جاء مال البحرين، يعني: جزية البحرين أُتِيَ بها مرةً أخرى، فأمر أبو بكرٍ مُناديًا فنادى: “مَن كانت له على النبي عِدَةٌ -يعني: وعدًا، وعده بأن يُعطيه شيئًا- أو دَينٌ فَلْيَأْتِ”، فلما سمع بذلك جابرٌ قال: قمتُ، فقلتُ: إن النبي  قال لي: لو قد جاءنا مال البحرين أعطيتُك هكذا وهكذا وهكذا.

وجاء في رواية البخاري: أنه لما قال ذلك جابرٌ لأبي بكرٍ المرة الأولى لم يُعْطِه، ثم قال له المرة الثانية فلم يُعْطِه، ثم قال له المرة الثالثة فلم يُعْطِه، فقال له جابرٌ : “سألتُك فلم تُعْطِني، ثم سألتُك فلم تُعْطِني، ثم سألتُك فلم تُعْطِني، فإما أن تُعطيني، وإما أن تبخل عني”، فلما ألحَّ عليه حثى أبو بكرٍ وقال له: “عُدَّها. فعددتُها فإذا هي خمسمئةٍ، فقال: خُذْ مِثْلَيْها” [14]، يعني: حَثَى له ثلاث حثياتٍ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام وعده بذلك، قال: سأُعطيك هكذا وهكذا وهكذا، فحثى له ثلاث حثياتٍ بلغ مجموعها ألفًا وخمسمئة دينارٍ، فنفَّذ أبو بكرٍ وعد النبي عليه الصلاة والسلام.

لماذا لم يُعْطِه من البداية؟

قال العلماء: إنه لم يُعْطِه من البداية؛ لأنه أراد ألا يفتح الباب لكل مَن طلب أعطاه، وربما أراد أن يتثبت، وربما أراده أيضًا أن ينتظر، فقد يكون هناك مَن هو أكثر حاجةً، أو له دَينٌ، أو نحو ذلك.

وجابرٌ بشرٌ، فكونه يطلب ويُلحُّ على أبي بكرٍ ثلاث مراتٍ أو أكثر فهو بشرٌ، والنفوس مجبولةٌ على حب المال، والله تعالى يقول: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، فنفَّذ أبو بكرٍ وعد النبي عليه الصلاة والسلام، وأعطى جابرًا ما وعده به النبي ؛ لأنه خليفة رسول الله ، وهو قائمٌ مقامه.

فوائد قصة: لو قد جاءنا مال البحرين …

من فوائد هذه القصة: فضل إنجاز الوعد؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما وعد جابرًا نفَّذ أبو بكرٍ وعده، خاصةً الوعد الذي يكون من النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن إذا وعد الإنسان غيره بشيءٍ هل يلزمه أن يُنفِّذ ما وعده به؟

أكثر العلماء يقولون: إنه لا يلزمه، وأن الوفاء بالوعد مُستحبٌّ، وخُلْف الوعد المذموم إنما هو في حقِّ مَن وعد ومن نيته ألا يَفِي، أما مَن وعد ومن نيته أن يَفِي فلم يَفِ فلا شيء عليه، وقد جاء في ذلك حديثٌ عند أبي داود والترمذي: إذا وعد الرجل أخاه، ومن نيته أن يَفِي له فلم يَفِ، ولم يجئ للميعاد؛ فلا إثم عليه [15]، وفي سنده مقالٌ، لكن معناه صحيحٌ، وعمل به عامة أهل العلم.

فخُلْف الوعد المذموم الذي هو من خِصال المنافقين: أن يَعِدَ الإنسان ومن نيته عدم الوفاء، أما إذا وعد ومن نيته الوفاء، لكن حصل له ظرفٌ، أو تغيرتْ قناعاته؛ فلا يلزمه الوفاء بذلك الوعد، وإن كان يُستحب له ذلك؛ ولذلك أبو بكرٍ في البداية لم يُعْطِ جابرًا في المرة الأولى، ولا الثانية، ولا الثالثة، ثم أعطاه بعد ذلك في المرة الرابعة.

وربما نقول أيضًا: لاختلاف ما كان وعدًا من النبي عليه الصلاة والسلام وغيره؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام إذا وعد بشيءٍ فمن بعده لا بد أن يُنفذ ما وعد به النبي .

وذِكْرُ العلاء الحضرمي هنا؛ لأنه هو الذي أمَّره النبي على قومه، ثم بعد ذلك أسلم أهل البحرين وحَسُن إسلامهم.

رحمته الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك

ننتقل بعد ذلك إلى:

باب رحمته الصبيان والعيال وتواضعه، وفضل ذلك.

طبعًا الأبواب من النووي، فمسلم لم يُبوِّب، وإن كان يذكر الأحاديث مُرتبةً، لكنه لم يذكر أبوابًا، وإنما الذي ذكر الأبواب هو النووي.

حدثنا هَدَّاب بن خالد وشيبان بن فروخ -كلاهما عن سليمان، واللفظ لشيبان-: حدثنا سليمان بن المغيرة: حدثنا ثابت البُناني، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : وُلد لي الليلة غلامٌ، فسمَّيتُه باسم أبي إبراهيم، ثم دفعه إلى أم سيفٍ -امرأة قَيْنٍ يُقال له: أبو سيفٍ-، فانطلق يأتيه، واتبعتُه -القائل هو أنسٌ- فانتهينا إلى أبي سيفٍ وهو ينفخ بكِيره، قد امتلأ البيت دخانًا، فأسرعتُ المشي بين يدي رسول الله ، فقلتُ: يا أبا سيفٍ، أمسك؛ جاء رسول الله . فأمسك، فدعا النبي بالصبي، فضمَّه إليه، وقال ما شاء الله أن يقول، فقال أنسٌ: لقد رأيتُه وهو يكيد بنفسه بين يدي رسول الله ، فدمعتْ عينا رسول الله ، فقال: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا -وفي لفظٍ: إلا ما يَرْضَى ربُّناوالله يا إبراهيم إنَّا بك لمحزونون [16].

أولاد النبي

النبي أولاده سبعةٌ: له ثلاثة ذكورٍ، وأربع إناثٍ.

الذكور: القاسم، وعبدالله -ويُسمَّى الطيب-، وإبراهيم.

والإناث: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة.

فكان أولاد النبي عليه الصلاة والسلام سبعةً، كلهم أُمهم خديجة إلا إبراهيم فأمه مارية القبطية.

وُلد للنبي غلامٌ من مارية، قال: فسمَّيته باسم أبي إبراهيم، وإبراهيم أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام، إبراهيم الخليل لم يُبْعَث من بعده نبيٌّ إلا من ذُريته، فهو أبو الأنبياء، وهو أفضل الأنبياء بعد محمدٍ عليهم الصلاة والسلام جميعًا.

فالنبي سمَّى ابنه: إبراهيم، قال: سمَّيتُه باسم أبي إبراهيم، وهذا يدل على أنه يصح أن يُطلق على الجدِّ وإن علا: أب، فجدك يصح أن تُسميه: أباك.

قال: “ثم دفعه إلى أم سيف”، كان من عادة العرب أنه إذا وُلد المولود فإنهم يدفعونه إلى مُرضعةٍ، وهذه المُرضعة تُرضعه مدة الرضاعة بأجرٍ كما حصل للنبي عليه الصلاة والسلام؛ حيث دفعته أمه إلى حليمة السعدية، وبقي مُسترضعًا في بني سعدٍ مدة الرضاعة، فإبراهيم دفعه النبي عليه الصلاة والسلام إلى امرأةٍ يُقال لها: أم سيف.

“امرأة قَيْنٍ” يعني: حدَّادًا، زوجها حدَّادٌ يُقال له: أبو سيف، رجلٌ من الأنصار.

قال: “فانطلق يأتيه” يعني: بعد ذلك، بعد مدةٍ من دفعه إليه، كأن النبي عليه الصلاة والسلام أُبْلِغَ بمرض ابنه إبراهيم؛ فانطلق.

قال: “واتَّبعتُه، فأتينا إلى أبي سيف”، وأبو سيف هذا حدَّادٌ؛ ولهذا قال: “وهو ينفخ بكِيره، قد امتلأ البيت دخانًا”، الحدَّاد ينفخ الكِير -وهو زِقٌّ ينفخ فيه الحداد-؛ فامتلأ المكان الذي هو فيه دخانًا.

فأنسٌ خادم النبي عليه الصلاة والسلام يقول: “فأسرعتُ المشي بين يدي رسول الله ، قلتُ: يا أبا سيف، أمسك؛ جاء رسول الله ” يعني: لا تنفخ الدخان احترامًا للنبي عليه الصلاة والسلام، هاهو مُقبلٌ.

“فأمسك” أبو سيف، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام على أبي سيفٍ، ودعا بالصبي، يعني: إبراهيم، قال: ائتِ بالصبي. فضمَّه إليه عليه الصلاة والسلام، وقال ما شاء الله أن يقول، وكان إبراهيم في وقت الاحتضار، يعني: اشتدَّ به المرض، وهو في وقت الاحتضار.

قال أنسٌ : “لقد رأيتُه -يعني: رأيتُ إبراهيم- وهو يكيد بنفسه بين يدي رسول الله ” يعني: يُحْتَضر، يجود بنفسه، يُقارب بها الموت ويُحْتَضر.

فأتى النبي عليه الصلاة والسلام وابنه إبراهيم يُحْتَضر ويجود بنفسه، ولما رأى النبي عليه الصلاة والسلام هذا الموقف دمعتْ عينا رسول الله .

جاء في رواية البخاري: لما دمعتْ عينا النبي قال له عبدالرحمن بن عوف : “وأنت يا رسول الله؟!” كأنه استنكر عليه، فيقول: الناس لا يصبرون على المصيبة، فأنت تفعل كفعلهم يا رسول الله! وأنت الذي تأمرنا بالصبر وبالرضا! كأنه تعجب من كون النبي عليه الصلاة والسلام دمعتْ عيناه على ابنه إبراهيم.

فقال النبي عليه الصلاة والسلام -كما في رواية البخاري: إنها رحمةٌ [17].

وهنا قال: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا، والله يا إبراهيم إنَّا بك لمحزونون.

فوائد من قصة ابن النبي إبراهيم

هذه القصة فيها فوائد، منها:

  • أولًا: جواز تسمية المولود يوم ولادته؛ لأنه عليه الصلاة والسلام سمَّى إبراهيم في يوم ولادته.
    وأما حديث يُسمَّى اليوم السابع [18] فهذا يدل على أنه يُسمى اليوم السابع، وتجوز تسميته قبل ذلك، فالنبي عليه الصلاة والسلام سمَّى إبراهيم في اليوم الذي وُلِدَ فيه، فالأمر في هذا واسعٌ.
  • أيضًا فيها من الفوائد: استتباع العالِم والكبير بعض أصحابه إذا ذهب إلى منزل قومٍ ونحوه، فلا بأس أن يحرص طالب العلم على مُرافقة العالِم؛ لكي يستفيد من علمه وأدبه وسَمْتِه؛ لأنه يستفيد من ذلك فائدةً عظيمةً أعظم من الدروس التي يحضرها؛ ولهذا كان أنسٌ يحرص على الذهاب مع النبي عليه الصلاة والسلام.
  • أيضًا من الفوائد: جواز البكاء على المريض والحزن، وأن ذلك لا يُخالف الرضا بالقدر، بل هي رحمةٌ جعلها الله تعالى في قلوب عباده، وإنما المذموم هو النَّدب والنياحة والويل والثُّبور، ونحو ذلك من القول الباطل؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا.
    فالبكاء على المريض، والبكاء على الميت من غير رفع الصوت لا بأس به، ولا يُخالف الرضا بالقضاء والقدر، بل هي رحمةٌ يجعلها الله تعالى في قلوب عباده، وإنما المذموم هو النَّدب والنياحة والويل والثُّبور والكلام الباطل، هذا هو الممنوع، ورفع الصوت بالبكاء، أما مجرد البكاء من غير رفع الصوت، ودمع العين، وحزن القلب، هذا لا بأس به، ولا يُنافي هذا الرضا بقضاء الله تعالى وقدره.
    ولهذا يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: “إن مقام النبي أعظم من مقام الفضيل بن عياض”.
    الفضيل بن عياض لما مات ابنه جعل في المقبرة يضحك، قالوا: كيف تضحك؟! قال: “إن الله قد قضى بقضاءٍ، فأحببتُ أن أُبيِّن رضائي بقضاء الله تعالى وقدره”.
    النبي عليه الصلاة والسلام لما احتُضِرَ ابنه جعل يبكي وتدمع عينه، دمعتْ عينه، وقال:
    إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنَّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون.
    فيقول: إن مقام النبي عليه الصلاة والسلام أعظم؛ لأن النبي
    جمع بين الرحمة والرضا، بينما الفضيل لم يستطع الجمع بينهما، فغلَّب جانب الرضا على الرحمة، فكان مقام النبي عليه الصلاة والسلام أعظم من مقام الفضيل؛ لكونه جمع بين الرحمة والرضا، بينما الفضيل لم يستطع الجمع، وإنما اقتصر على الرضا، وهذا يدل على أن هذا المقام هو أعظم وأكمل المقامات.
  • أيضًا من فوائد هذا الحديث: جواز التَّسمي بأسماء الأنبياء، بل قد نقول: يُستحب التَّسمي بأسماء الأنبياء؛ ولهذا سمَّى النبي ابنه إبراهيم على جده وخليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
    وكان من قدر الله ​​​​​​​ أن وفاة إبراهيم كانت في اليوم الذي انكسفتْ فيه الشمس، فقال الناس: “انكسفت الشمس لأجل موت إبراهيم”، وكان عندهم اعتقادٌ بأن الشمس إنما تنكسف لموت عظيمٍ أو ولادة عظيمٍ، فأبطل النبي هذا الكلام، وبيَّن أن موت إبراهيم إنما كان قدرًا، وقال: إن الشمس والقمر لا يكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، ولكنهما من آيات الله يُخوِّف الله بهما عباده [19].

قال:

حدثنا زهير بن حرب ومحمد بن عبدالله بن نُمير –واللفظ لزهير- قالا: حدثنا إسماعيل –وهو ابن عُلَيَّة-، عن أيوب، عن عمرو بن سعيد، عن أنس بن مالكٍ قال: ما رأيتُ أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله .

قال: كان إبراهيم مُسْتَرضعًا له في عوالي المدينة.

العوالي هي القُرى التي في أعلى المدينة.

فكان ينطلق -ونحن معه- فيدخل البيت وإنه ليُدَّخَن.

يعني: كما ذكرنا أنه كان عند أبي سيف، وكان حدَّادًا.

وكان ظِئْره.

الظِّئْر: المُرضعةُ ولدَ غيرها، وزوجها يُقال له: ظِئْر ذلك الرَّضيع، فالظِّئْر تُطْلَق على الذكر، وعلى الأنثى.

وكان ظِئْرُه قَيْنًا.

الذي هو أبو سيف.

فيأخذه فيُقبله ثم يرجع.

قال عمرو: فلما تُوفي إبراهيم قال رسول الله : إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثَّدْي، وإن له لظِئْرَين تُكمِّلان رضاعه في الجنة [20].

فهنا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن إبراهيم مات في سِنِّ الرضاع، وأن له ظِئْرَين في الجنة تُكملان رضاعه، يعني: سنتين أو حولين كاملين، وهذا إخبارٌ من النبي عليه الصلاة والسلام عن أمرٍ غيبيٍّ، فيحتمل أن يكون هذا خاصًّا بإبراهيم ابن النبي عليه الصلاة والسلام؛ كرامةً له ولأبيه ، يعني: هذا هو الظاهر -والله أعلم-، ولا يُقاس في هذا غيره عليه، فهذه الأمور أمورٌ لا تُعلم إلا عن طريق الوحي، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن إبراهيم له ظِئْرَان تُكملان رضاعه في الجنة.

فوائد حديث: إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثَّدْي ..

  • من فوائد هذا الحديث: جواز الإخبار عن الحزن؛ لقوله: وإنَّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون، فلا بأس أن يُخبر الإنسان عن حُزنه، لكن ليس على وجه الجزع والتَّسخط، وإنما على سبيل الإخبار، يقول: إني حزينٌ على كذا -مثلًا-، لا بأس، لا مانع يمنع من هذا؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام لم يُخبر عن حُزنه إلا لما سأله عبدالرحمن بن عوف ، فقال: إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنَّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون.
    فإخبار الإنسان عن حُزنه، أو عن قلقه، أو عن مشاعره لا يُنافي الرضا بالقدر؛ لأن هناك فرقًا بين الإخبار والاعتراض.
  • أيضًا من فوائد هذه القصة: جواز وقوع الخطاب للغير وإرادة غيره بذلك؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: وإنَّا على فراقك يا إبراهيم، وإبراهيم كان طفلًا، وكان يُحْتَضر، يعني: لا يفهم هذا الخطاب، لكن أراد النبي عليه الصلاة والسلام بذلك أن يُخبر غيره: وإنَّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون أراد أن يُخبر غيره بذلك.
    فهذا من الأساليب عند العرب، ويستخدمه الشعراء والأدباء، فيُخاطب شخصًا وهو يريد أن يُخبر غيره، مثلًا: وإني على فراقك يا أبي لمحزون -مثلًا: أبوه قد مات-، وإني يا أبي حصل بعدك كذا وكذا.
    هذا من الأساليب الأدبية المعروفة عند العرب؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: وإنَّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون.

نكتفي بهذا القدر في شرح “صحيح مسلم”، ونقف عند حديث عائشة رضي الله عنها، وإن شاء الله في الأسبوع القادم في مثل هذا الوقت، أو قبل هذا الوقت بساعةٍ يكون موعد درسنا بإذن الله ​​​​​​​.

الأسئلة

الآن نترك المجال للإجابة عن الأسئلة.

السؤال: أعطاني أحد الإخوة خطابًا فيه قرار هيئة كبار العلماء فيما يتعلق بجائحة (كورونا)، وأنه يسوغ شرعًا إيقاف صلاة الجمعة والجماعة لجميع الفروض في المساجد، والاكتفاء برفع الأذان، وتكون المساجد مُغلقةً مُؤقتًا.

الجواب: هذه مسألةٌ اجتهاديةٌ، فنحن الآن أمام نازلةٍ عظيمةٍ اجتاحت العالم، ووباءٍ كبيرٍ، وعُرِفَ بالتجربة -خلال تجربة الأمم والشعوب للأوبئة السابقة والطواعين السابقة- أن أفضل طريقةٍ لمُحاصرة هذه الأوبئة المُعدية هو الحجر الصحي، وذلك بمنع التجمعات، وأن هذه هي أمثل وأفضل طريقةٍ؛ ولذلك تتبعها جميع شعوب العالم.

فهذه مسألةٌ من النوازل، وولي الأمر أناط الاجتهاد في هذه النازلة للمشايخ في هيئة كبار العلماء، فإذا صدر شيءٌ عن ولي الأمر ينبغي السمع والطاعة، وألا يُنازَع الأمر أهلَه؛ لأن هذه مسألةٌ اجتهاديةٌ في نازلةٍ من النوازل، وإذا كان للإنسان رأيٌ خاصٌّ يحتفظ به لنفسه، ولا يُثير الفتنة، ولا يُثير الشَّغب بذلك؛ لأن هذه من المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد، ونازلةٌ من النوازل العظيمة في الوقت الحاضر.

وما دام أن المشايخ والعلماء الكبار اجتهدوا بهذا الاجتهاد فينبغي أن يُحترم اجتهادهم، وأن يُسْمَع لولي الأمر، فهذا من المعروف الذي يُسْمَع فيه ولي الأمر.

والحمد لله الصلاة تُقام في غير المساجد، لكن المساجد فقط منعًا للاجتماع؛ لأن اجتماع الناس هو الذي يُسبب انتشار المرض، وليس معنى ذلك: أنه منعٌ للصلوات، وإنما منعٌ للمساجد مُؤقتًا حتى ينحسر هذا الوباء.

فهذه من المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها النظر والاجتهاد، وولي الأمر أوكل ذلك لكبار أهل العلم في البلد، وهم اجتهدوا، فينبغي أن نحترم اجتهادهم، وأن الإنسان يسمع ويُطيع، وألا يُحْدِث شَغَبًا على ذلك.

والحمد لله -يعني- ولي الأمر وفَّقه الله وأناط المسألة بالعلماء، وبكبار أهل العلم، وهم قد اجتهدوا في هذه النازلة، وخرجوا بهذا الاجتهاد، فينبغي أن يُحترم هذا الاجتهاد، وأن يُسْمَع ويُطاع لولي الأمر.

السؤال: الموظف الذي لا يبقى من راتبه شيءٌ يحول عليه الحول، هل تسقط عنه الزكاة؟

الجواب: إذا كان لا يبقى من راتبه شيءٌ يحول عليه الحول فهذا لا تجب عليه الزكاة.

الزكاة إنما تجب في المال إذا بلغ نِصابًا وحال عليه الحول، أما إذا كان عنده مالٌ لا يحول عليه الحول فهذا لا تجب فيه الزكاة؛ لعدم تحقق أحد شروط الزكاة.

السؤال: هل يُعتبر مجرد التفكير في الأمور الجنسية ذنبًا؟

الجواب: النبي عليه الصلاة والسلام يقول: إن الله تجاوز لأُمتي ما حدَّثتْ به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم [21]، فمن رحمة الله ​​​​​​​ أن التفكير كله لا يُؤاخذ عليه الإنسان، إنما يُؤاخذ إذا عمل أو تكلم، أما مجرد التفكير فهذا لا يُؤاخذ عليه، وهذا من رحمة الله ​​​​​​​ بهذه الأُمة، لكن ينبغي أن يُوجِّه الإنسان تفكيره إلى الأمور النافعة، والأمور الحسنة؛ لأن -مثلًا- الخيالات والأفكار -خاصةً إذا كانت في أمورٍ مُحرمةٍ- قد تكون خطوةً إلى الحرام، لكن لو كانت في أمورٍ مُباحةٍ، أو مثلًا: شابٌّ يريد أن يتزوج، فهذه لا يُؤاخذ عليها الإنسان، فهو مجرد تفكيرٍ لا يُؤاخذ عليه: إن الله تجاوز لأُمتي ما حدَّثتْ به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم.

السؤال: ما حكم التأمين الطبي في تكافل الراجحي؟

الجواب: لا بأس به، شركة تكافل الراجحي من الشركات التي تُمارس التأمين التعاوني التَّكافلي المُجاز شرعًا.

السؤال: هل تُقال: الصلاة في الرِّحال، أم الصلاة في البيوت؟

الجواب: الناس الآن ما يعرفون معنى الرِّحال؛ ولذلك ينبغي أن يُخاطَب الناس بما يعرفون.

ثم أيضًا الناس الآن في بيوتهم، وليسوا في الرِّحال، إنما “الصلاة في الرِّحال” هذه أمر النبي عليه الصلاة والسلام المُؤذن أن يقولها لما كانوا في سفرٍ، وكانوا في ليلةٍ باردةٍ ومطيرةٍ، وكان الناس في رِحالهم في السفر، قال: “الصلاة في الرِّحال” [22].

ولذلك المشروع أن يُقال بعد “أشهد أن محمدًا رسول الله” المرة الثانية بدل “حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح” أن يقول المُؤذن: “صلوا في بيوتكم، صلوا في بيوتكم” يُكررها مرتين.

تكون صفة الأذان: يُكبر أربع مراتٍ، ثم يقول: “أشهد أن لا إله إلا الله” مرتين، ثم “أشهد أن محمدًا رسول الله” مرتين، ثم يقول: “صلوا في بيوتكم، صلوا في بيوتكم، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله”.

وهناك قولٌ آخر: بأن “صلوا في بيوتكم” تُقال بعد الفراغ من الأذان، وهذا قد ورد في بعض الروايات، والأمر فيه سعةٌ، لكن الأقرب أنها تُقال بدل “حيَّ على الصلاة”؛ لأن المُؤذن الآن يُنادي الناس ويقول: “حيَّ على الصلاة”، يعني: أقبلوا على الصلاة في المسجد، فلا يُناسب أن يأتي بهذا اللفظ، وإنما يقول: “صلوا في بيوتكم”، بدل أن يقول: أقبلوا على الصلاة في المسجد، يقول: “صلوا في بيوتكم”، ثم يقول: “الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله”، هذا أقرب من أن يقولها بعد الفراغ من الأذان.

ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 2311.
^2 رواه الطبراني في “المعجم الأوسط”: 7767.
^3 رواه البخاري: 3563، ومسلم: 2064.
^4, ^5 رواه مسلم: 2312.
^6 رواه الواقدي في “المغازي”: 2/ 854، وابن عساكر في “تاريخ دمشق”: 24/ 105.
^7 رواه مسلم: 2313.
^8 رواه البخاري: 3182، ومسلم: 1785.
^9 رواه عبدالرزاق في “مصنفه”: 9720، وابن حبان: 4872.
^10 رواه البخاري: 2731.
^11 رواه أبو داود: 2736، وأحمد: 15470.
^12, ^13 رواه مسلم: 2314.
^14 رواه البخاري: 3137.
^15 رواه أبو داود: 4995، والترمذي: 2633.
^16 رواه مسلم: 2315.
^17 رواه البخاري: 1303.
^18 رواه الترمذي: 1522، وقال: حسنٌ صحيحٌ.
^19 رواه مسلم: 901.
^20 رواه مسلم: 2316.
^21 رواه البخاري: 5269، ومسلم: 127.
^22 رواه البخاري: 606، ومسلم: 697.