الرئيسية/دروس علمية/شرح القواعد والأصول الجامعة للإمام السعدي/(1) مقدمة الكتاب – من القواعد المهمة والأصول الجامعة
|categories

(1) مقدمة الكتاب – من القواعد المهمة والأصول الجامعة

بسم الله الرحمن الرحيم

أنتقل بعد ذلك إلى الحديث عن درسنا، والدرس كما هو مُعلنٌ في “القواعد والأصول الجامعة” للشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي، وهي تُسمى اختصارًا “قواعد السعدي”.

مقدمة عن القواعد الفقهية

لا بد أن نقدم أيضًا بمقدمةٍ في القواعد الفقهية، ما دام أن هذا الدرس في القواعد الفقهية فلا بد من مقدمةٍ أرى أنها مهمةٌ في القواعد الفقهية.

وأبدأ هذه المقدمة بمقولةٍ للقرافي في كتابه “الفروق”، يقول: “بقدر الإحاطة بالقواعد يعظم قدر الفقيه ويشرف، ويظهر رونق الفقه ويُعرف، وتتضح مناهج الفتوى وتُكشف” [1].

علم قواعد الفقه من العلوم المهمة، ومَن ضبط الأصول في قواعد الفقه؛ فإن مسائل الفقه تنضبط عليه، ويحسن فهمه وإدراكه، ويكون هذا سببًا لتحصيل المَلَكة الفقهية لديه؛ فإنه يستطيع أن يُلحق المسائل بنظائرها وبأشباهها.

وقد اعتنى العلماء بالقواعد الفقهية، وصنَّفوا فيها مُصنفاتٍ.

تعريف القواعد الفقهية

القواعد جمع قاعدةٍ، والقاعدة معناها في اللغة: الأساس، وهي أصل الشيء الذي يُبنى عليه، حسيًّا كان أم معنويًّا.

والقواعد الفقهية عُرِّفت بتعريفاتٍ كثيرةٍ، ومن أحسن هذه التعريفات أنها: حكمٌ أغلبيٌّ ينطبق على معظم جزئياته؛ لتُعرف أحكامها منه.

بعض العلماء يقول: “حكمٌ كليٌّ”، لكن القول بأنها “حكمٌ كليٌّ” غير دقيقٍ؛ لأن معظم القواعد الفقهية ترد عليها مُستثنيات، ولكن مَن صنَّف القواعد يقول: قاعدة كذا، ما يُستثنى من هذه القاعدة، فالوصف الدقيق أن نقول: “حكمٌ أغلبيٌّ”.

فالقواعد الفقهية هي “حكمٌ أغلبيٌّ”، وليست حكمًا كليًّا، “ينطبق على معظم جزئياته”، أيضًا مما يُستثنى ربما لا تنطبق على جميع الجزئيات؛ “لتُعرف أحكامها منه”.

الفرق بين القاعدة والضابط

يذكر العلماء في باب القواعد ما يُسمى بـ”الضابط”، فهل هناك فرقٌ بين القاعدة والضابط؟

كثيرٌ من العلماء لا يُفرق بين القاعدة والضابط، فيُطلق القاعدة على الضابط، والضابط على القاعدة، وفرَّق بعضهم بين القاعدة والضابط بأن القاعدة تكون في جميع أبواب الفقه، بينما الضابط يكون في بابٍ من أبواب الفقه.

فمثلًا: سجود السهو هل هو قبل السلام أم بعده؟

فيمكن أن نضع ضابطًا في سجود السهو: متى يكون قبل السلام؟ ومتى يكون بعده؟

فهذا يُسمى: ضابطًا؛ لأنه في بابٍ واحدٍ، مثلًا: في كفارات الأيمان يمكن أن نضع لها ضابطًا، فهذه تُسمى: ضوابط.

أما التي تكون في جميع أبواب الفقه فهذه قواعد.

هذا هو الفرق بين القاعدة والضابط.

مُصنفات في القواعد الفقهية بعنوان: الأشباه والنظائر

أيضًا بعض العلماء الذين صنَّفوا في كتب القواعد يعنونون لها بـ”الأشباه والنظائر”، نجد مثلًا كتاب “الأشباه والنظائر” للسبكي، و”الأشباه والنظائر” للسيوطي، و”الأشباه والنظائر” لابن نُجيم.

فـ”الأشباه” المقصود بها: المسائل المُتشابهة في أكثر الوجوه، تُسمى: أشباهًا، فإذا كانت -مثلًا- عندنا مسألتان مُشتبهتان من ثلاثة أوجهٍ، وتختلفان من وجهين، فهي من الأشباه، لكن إذا كانتا مُتشابهتين من جميع الوجوه تُسمى: الأمثال، أما المُتشابهة من أكثر الوجوه فتسمى: الأشباه، أما إذا كانت متشابهةً في أقل الوجوه فهي النظائر، يعني يُقال: هذا نظير هذا، إذا كان يُشبهه في وجهٍ من الوجوه.

إذن إذا كانت مُتشابهةً في جميع الوجوه فهذه هي الأمثال، وفي أكثر الوجوه: الأشباه، وفي أقل الوجوه: النظائر.

تصانيف في القواعد الفقهية

صنف العلماء كُتُبًا في القواعد الفقهية، وأقدم ما يُروى في تصنيف القواعد: أن أبا طاهر الدَّبَّاس من فقهاء الحنفية، وكان رجلًا ضريرًا -كفيفًا لا يُبصر- جمع أهم قواعد أبي حنيفة في سبع عشرة قاعدة، وكان إذا خرج الناس من المسجد يُكرر هذه القواعد كل ليلةٍ، فأتى أحد الشافعية -يُقال له: أبو سعيد الهروي- وأراد أن يدخل، فلم يتمكن من دخول المسجد إلا بحيلةٍ، يقولون: إنه التفَّ بحصيرٍ، فلما أغلق أبو طاهر الدباس المسجد، وجعل يُكرر هذه القواعد، فذكر سبع قواعد، يقولون: بعدما ذكر سبع قواعد حصل للهروي سعلةٌ –عطاس أو …– فأحسَّ به أبو طاهر الدَّبَّاس، فيُقال: إنه طرده من المسجد، وقيل: إنه ضربه أيضًا، وأخرجه من المسجد، لكن أبا سعيدٍ الهروي ذهب ورجع بهذه القواعد السبع إلى أصحابه، ثم زاد عليها بعد ذلك، لكن يقال: إن هذا هو أول خبرٍ يُروى في جمع القواعد، وهذا يذكره مَن صنف في كتب القواعد.

وصُنِّفت مصنفاتٌ كثيرةٌ، لكن معظم المصنفات في كتب القواعد مذهبيةٌ، فنجد مثلًا في:

  • المذهب الحنفي: “الأشباه والنظائر” لابن نُجيم.
  • المذهب الشافعي: “الأشباه والنظائر” للسيوطي.
  • المذهب الحنبلي: قواعد ابن رجب، وقواعد ابن اللحام.
  • المذهب المالكي: “الفروق” للقرافي.

نجد أن معظم المصنفات في القواعد الفقهية مذهبيةٌ؛ ولهذا فإن الكتاب الذي بين أيدينا –قواعد الشيخ عبدالرحمن السعدي– القواعد التي فيه تمتاز بأنها ليست مذهبيةً، وإنما هي على حسب ما يقتضيه الدليل من الكتاب والسنة، وهذا ما تميز به هذا الكتاب.

هناك كتابٌ معاصرٌ صغيرٌ في الحجم، لكنه كبيرٌ في فائدته، يمتاز بحُسن الترتيب والعرض، ويجمع لك خلاصة ما كُتب في القواعد الفقهية، واسمه “الوجيز في إيضاح القواعد الفقهية الكلية” لمحمد صدقي البورنو، وهذا -في الحقيقة- في نظري أفضل ما كُتب في القواعد الفقهية، وميزته -كما ذكرتُ- حُسن الترتيب، وحُسن العرض، وأيضًا يذكر المصادر والمراجع التي ينقل منها: “الوجيز في إيضاح القواعد الفقهية الكلية”.

القواعد الكلية الكبرى

هناك القواعد الكلية الخمس، يُقال لها: “القواعد الكبرى”، وهذه القواعد متفقٌ عليها بين العلماء، ولا بد أن يكون طالب العلم على معرفةٍ بها:

  • القاعدة الأولى: اليقين لا يزول بالشك.
  • الثانية: لا ضرر ولا ضِرار، وبعضهم يُعبر: الضرر يُزال.
  • الثالثة: الأمور بمقاصدها.
  • الرابعة: العادة مُحكَّمةٌ.
  • الخامسة: المشقة تجلب التيسير.

مَن يعدها لنا مرةً أخرى؟

القواعد الكبرى، أو القواعد الكلية الكبرى.

نعم.

طالب: اليقين لا يزول بالشك.

الشيخ: اليقين لا يزول بالشك.

طالب: لا ضرر ولا ضِرار.

الشيخ: لا ضرر ولا ضِرار.

طالب: والأمور بمقاصدها.

الشيخ: والأمور بمقاصدها.

طالب: والعادة مُحكَّمةٌ.

الشيخ: والعادة مُحكَّمةٌ.

طالب: المشقة تجلب التيسير.

الشيخ: المشقة تجلب التيسير.

نرجو حفظ هذه القواعد، وهذه القواعد -يا إخوان- تُسمى “القواعد الكبرى”، وهي قواعد متفقٌ عليها بين أهل العلم.

الكتاب الذي بين أيدينا هو -كما ذكرتُ- كتاب “قواعد الأصول الجامعة”، أو يُسميه بعضهم: “قواعد الشيخ عبدالرحمن السعدي”، ومما تميز به ما ذكرتُه قبل قليلٍ من أنه: لا يتقيد بمذهبٍ معينٍ، بينما جُلّ ما صُنِّف في القواعد الفقهية يتقيد بالمذاهب.

نبذةٌ عن الشيخ عبدالرحمن السعدي

الشيخ عبدالرحمن السعدي -رحمه الله- علمٌ من الأعلام، إمامٌ من الأئمة، تميز بالعناية بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، بل إنه لخَّص كثيرًا من كتب هذين الشيخين، وتأثر بهما، وعنده مَلَكَةٌ في الاستنباط، وفي الاستدلال، وفي الترجيح، ومن أبرز تلاميذه: الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، وتوفي سنة ألفٍ وثلاثمئةٍ وستٍّ وسبعين للهجرة، وصنَّف مُصنفاتٍ كثيرةً، وقد جُمعتْ هذه المُصنفات في كتب الشيخ السعدي، وجُمعتْ أيضًا في قرصٍ في الحاسب، جُمعتْ فيه جميع مُصنفات وكتب الشيخ، يحسن اقتناؤه.

طيب، نبدأ بعبارة المؤلف رحمه الله، نقرأ، نعم.

القارئ: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد، اللهم اغفر لشيخنا والحاضرين والسامعين وجميع المسلمين.

قال المؤلف رحمه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فهو المُهتدي، ومَن يُضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا.

أما بعد:

فإن معرفة جوامع الأحكام وفوارقها من أهم العلوم وأكثرها فائدةً، وأعظمها نفعًا؛ لهذا جمعتُ في رسالتي هذه ما تيسَّر من جوامع الأحكام وأصولها، ومما تفترق فيه الأحكام لافتراق حِكَمها وعِلَلها، وقسَّمتها قسمين:

القسم الأول: في ذكر ما تجتمع فيه الأحكام من الأصول والقواعد، وانتقيتُ القواعد المهمة والأصول الجامعة -ستين قاعدةً-، وشرحتُ كل واحدةٍ منها شرحًا يُوضح معناها، ومثلتُ لها من الأمثلة التي تنبني عنها ما تيسر.

والقسم الثاني: أتبعتُ ذلك بذكر الفوارق بين المسائل المُشتبهات، والأحكام المُتقاربات، والتقاسيم الصحيحة.

فأقول في القسم الأول مستعينًا بالله، راجيًا منه الإعانة والتسهيل.

نعم هو قسَّم كتابه إلى هذين القسمين:

  • قسم في القواعد.
  • وقسم في الفروق.

والذي -إن شاء الله- سنأخذه في هذه الدورة: القواعد، وأما الفروق فلعلها تكون في دروسٍ أخرى، أو دوراتٍ أخرى.

وذكر ستين قاعدةً في هذا، نبدأ أولًا بالقاعدة الأولى، نعم.

القاعدة الأولى: الشارع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصةٌ أو راجحةٌ، ولا ينهى إلا عما مفسدته خالصةٌ أو راجحةٌ

القاعدة الأولى: الشارع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصةٌ أو راجحةٌ، ولا ينهى إلا عما مفسدته خالصةٌ أو راجحةٌ.

نعم، هذه القاعدة قاعدةٌ عظيمةٌ، وهي محل إجماعٍ بين أهل العلم: أن الشارع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصةٌ أو راجحةٌ، ولا ينهى إلا عما مفسدته خالصةٌ أو راجحةٌ.

وقال بعض أهل العلم: إن قواعد الشريعة ترجع إلى هذه القاعدة، وأن ما سواها من القواعد مأخوذٌ منها، ومُتفرِّعٌ عليها.

وهذه قاعدةٌ نجد أن العلماء يذكرونها خاصةً عند الترجيح بين المسائل التي تكون محل خلافٍ، يذكر العلماء هذه القاعدة، يقولون: إن الشريعة لا تأمر إلا بما مصلحته خالصةٌ أو راجحةٌ، ولا تنهى إلا عما مفسدته خالصةٌ أو راجحةٌ.

لو تأملت جميع ما أمر به الشارع تجد أنه من هذا القبيل، فيه مصلحةٌ، فلا يمكن أن يأمر الشارع بشيءٍ إلا وفيه مصلحةٌ: إما خالصةٌ، أو راجحةٌ، ولا يمكن أن ينهى عن شيءٍ إلا وفيه مفسدةٌ: إما خالصةٌ، وإما راجحةٌ.

وإذا رأيت أمرًا فيه مصلحةٌ راجحةٌ أو خالصةٌ، فإنه لا يمكن أن يكون ممنوعًا في الشريعة، وعلى ذلك نجد أن بعض العلماء في مقام الترجيح بين المسائل يقولون: إن هذا فيه مصلحةٌ للناس، وليس فيه مضرةٌ، والشارع لا يأمر إلا بما فيه مصلحةٌ، وهذه الشريعة إنما أتت لتحصيل المصالح.

أمثلةٌ على القاعدة الأولى

أذكر على سبيل المثال: السُّفْتَجَة.

السُّفْتَجَة معناها: أن يُقرض الإنسان آخر قرضًا؛ ليُوفيه المُقترض أو نائبه أو مدينه في بلدٍ آخر.

اختلف فيها العلماء؛ فمنهم مَن منعها، ومنهم مَن أجازها، والصحيح فيها الجواز.

شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم لمَّا رجحا القول بالجواز أتيا بهذه القاعدة، قالا: إن فيها مصلحةً، وليس فيها ضررٌ بأي وجهٍ من الوجوه، والشارع لا يأمر إلا بما فيه مصلحةٌ راجحةٌ أو خالصةٌ، ولا ينهى عن شيءٍ إلا وفيه مفسدةٌ راجحةٌ أو خالصةٌ. يعني: أتيا بهذه القاعدة عندهما كوجهٍ من وجوه الترجيح.

وغير ذلك من المسائل، مسألة: “ضع وتعجل” أيضًا؛ عندما يكون لك دَينٌ عند آخر يحل بعد سنةٍ، وتأتي مثلًا بعد ستة أشهرٍ وتقول: عجِّلْ لي الدَّين الذي في ذمتك، وأضع عنك بعضه. فكثيرٌ من أهل العلم يمنع هذه المسألة، والصحيح هو الجواز، ومما يذكرونه في الجواز يقولون: إن هذه فيها مصلحةٌ للطرفين، وليست فيها مفسدةٌ. ويذكرون هذه القاعدة: ما كانت فيه مصلحةٌ خالصةٌ أو راجحةٌ فإن الشارع يأمر به، وما كانت فيه مفسدةٌ خالصةٌ أو راجحةٌ فإن الشارع ينهى عنه.

فنجد أن هذه القاعدة ترد كثيرًا في كلام أهل العلم، خاصةً عند الترجيح بين المسائل الخلافية، نعم.

أدلة القاعدة الأولى

هذا الأصل شاملٌ لجميع الشريعة، لا يشذُّ عنه شيءٌ من أحكامها، لا فرق بين ما تعلق بالأصول أو بالفروع، وسواء تعلق بحقوق الله، أو بحقوق عباده، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، فلم يَبْقَ عدلٌ ولا إحسانٌ ولا صِلةٌ إلا أمر به في هذه الآية الكريمة، ولا فحشاء ومنكرٌ متعلقٌ بحقوق الله، ولا بغيٌ على الخلق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم إلا نهى عنه، ووعظ عباده أن يتذكروا هذه الأوامر وحُسنها ونفعها فيمتثلوها، ويتذكَّروا ما في النواهي من الشر والضرر فيجتنبوها.

إذن المؤلف رحمه الله ذكر أدلة هذه القاعدة:

الدليل الأول: قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وهذه آيةٌ عظيمةٌ، جامعةٌ، شاملةٌ، لم يَبْقَ عدلٌ ولا إحسانٌ إلا أُمر به في هذه الآية، ولا فحشاء ولا منكرٌ إلا نُهي عنه في هذه الآية.

بعض الخطباء يختم خطبته الثانية بهذه الآية؛ لأنها آيةٌ عظيمةٌ، لكن لم يثبت في هذا شيءٌ عن النبي ؛ ولذلك فالمُداومة على ختم خطبة الجمعة بها محل نظرٍ، والذي ينبغي أن يُنوع الخطيب في ختم الخطبة: تارةً يأتي بها، وتارةً يأتي بغيرها، وتارةً يختم مثلًا بالصلاة على النبي ، أما كونه يُداوم كل خطبةٍ في كل جمعةٍ يختم بهذه الآية فهذا يحتاج إلى دليلٍ.

وقد نقل بعض العلماء: أن أول مَن أمر بذلك عمر بن عبدالعزيز؛ لأنه كان يُسَبُّ بعض الخلفاء على المنبر، فأمر بأن تُقرأ هذه الآية، لكن -كما ذكرتُ- ليس في هذا سنةٌ عن النبي ؛ لذلك ينبغي للخطيب ألا يُداوم على ختم الخطبة بها، نعم.

وقال تعالى: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29]، فقد جمعتْ هذه الآية أصول المأمورات، ونبَّهتْ على حُسنها.

وهذا هو الدليل الثاني للقاعدة: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فالله تعالى يأمر بالقسط، وبما فيه مصلحةٌ للعباد، نعم.

كما جمعت الآية التي بعدها أصول المُحرمات، ونبَّهتْ على قُبحها، وهي قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].

نعم، هذه الآية جمعتْ أصول المُحرمات، بدأها الله تعالى بالفواحش: مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ … وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ.

والقول على الله تعالى جعله في أعلى مرتبةٍ، جعله فوق مرتبة الشرك؛ لأن إثمه عظيمٌ وكبيرٌ، ولأنه من أسباب الوقوع في الشرك، ومن أسباب وقوع البدع والخرافات وتبديل الشرائع: القول على الله بغير علمٍ، نعم.

ولما ذكر الله الأمر بالطهارة للصلاة إذا قام العبد في صلاته في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ … الآيات [المائدة:6]، وذكر الطهارتين: طهارة الحدث الأصغر والحدث الأكبر بالماء، ثم بالتراب عند العدم أو الاضطرار، قال: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6]، فأخبر أن أوامره الجليلة من أكبر نِعَمه العاجلة المتصلة بالنعم الآجلة.

نعم، وهذا أيضًا دليلٌ آخر من أدلة هذه القاعدة: أن الله تعالى لما ذكر الطهارة في الصلاة بالماء والتيمم قال: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، فأوامر الله تعالى وشرائعه هي من أعظم النعم، ومن أعظم المِنَن على العباد؛ لما تشتمل عليه من المصالح العظيمة، نعم.

ثم تأمل قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إلى قوله: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [الإسراء:23- 39]، وقوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلى قوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:151- 153]، وقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا إلى قوله: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [النساء:36- 38].

انظر إلى ما في هذه الآيات من الأوامر التي بلغتْ من حُسنها وعموم خيرها ومصالحها الظاهرة والباطنة نهايةَ الحُسن والعدل والرحمة، وما فيها من المنهيات التي ضررها عظيمٌ، وجُرمها كبيرٌ، ومفاسدها لا تُعَدُّ ولا تُحصى، وهي من أعظم معجزات القرآن والرسول .

نعم، وإذا وجدتَ أن الله نهى عن شيءٍ فاعلم أن الله لم يَنْهَ عنه إلا لما فيه من المفسدة، وإذا أمر الله بشيءٍ فاعلم أن الله لم يأمر به إلا لما فيه من المصلحة، نعم.

ومثلها ما وصف الله به خواصَّ العباد وفُضلاءهم في قوله: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا إلى قوله: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا … الآية [الفرقان:63- 75]، وقوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1]، ثم عدَّد أوصافهم، حتى قال: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ۝ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:10- 11]، وقوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ إلى قوله: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]، فكل ما في هذه الآيات من الأوصاف التي وصف الله بها خيار الخلق قد عُلم حُسنها وكمالها ومنافعها العظيمة: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].

وجميع ما في الشريعة من العبادات والمعاملات والأمر بأداء الحقوق المتنوعة تفاصيل وتفاريع لما ذكره الله في هذه الآيات، وجميع ما فصَّله العلماء من مصالح المأمورات ومنافعها، ومضار المنهيات ومفاسدها داخلٌ في هذا الأصل؛ ولهذا يُعلل الفقهاء الأحكام المأمور بها بـ”المصالح”، والمنهي عنها بـ”المفاسد”.

نعم، ويُرجحون بها في مقام الترجيح بين المسائل الخلافية، عندما تكون هناك مسألةٌ خلافيةٌ يُنظر للمصالح والمفاسد، فإذا كان هذا الشيء فيه مصلحةٌ للناس، مصلحةٌ خالصةٌ أو راجحةٌ، أو في الأمر الآخر مضرةٌ أو مفسدةٌ خالصةٌ أو راجحةٌ، فيكون هذا وجهًا من وجوه الترجيح في المسائل الخلافية بين أهل العلم، نعم.

وأحد الأصول الأربعة المبني عليها جميع الأحكام: القياس الذي هو العدل، وما يُعرف به العدل.

طيب، أحد الأصول الأربعة: القياس، ما هي الأصول الأربعة؟ مَن يذكرها؟

نعم.

طالب: ………

الشيخ: أحسنت: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، هذه الأصول الأربعة، فإذا قيل: الأصول الأربعة فهذه هي الأصول الأربعة، نعم.

وهو الميزان الذي قال الله فيه: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ [الشورى:17]، وهو الجمع بين المسائل المُتماثلة في مصالحها أو في مضارها بحكمٍ واحدٍ، والتفريق بين المُتباينات المُختلفات بأحكامٍ مختلفةٍ مناسبةٍ لكل واحدٍ منها.

نعم، الآن المؤلف رحمه الله ذكر الأدلة لهذه القاعدة، وأطال في ذكر هذه الأدلة، ثم سينتقل للأمثلة.

أقسام المصالح والمفاسد

يُقسم العلماء المصالح والمفاسد إلى أربعة أقسامٍ:

  • القسم الأول: مصالح خالصة، مثل: الإيمان والتوحيد، وسيذكر المؤلف أيضًا أمثلةً أخرى.
  • القسم الثاني: مصالح راجحة، مثل: الجهاد في سبيل الله، وهو ليس مقصودًا لذاته، وإنما لما يترتب عليه من إعلاء كلمة الله ​​​​​​​؛ ولهذا قال الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216]، فالمصلحة فيه راجحةٌ.
  • القسم الثالث: مفاسد خالصةٌ، مثل: الشرك بالله ​​​​​​​، فإنه مفسدةٌ خالصةٌ، ومثل: السحر، مفسدةٌ خالصةٌ، وإن كان المقصود بقولنا: “خالصة” يعني: من جهة الشرع، وإلا فقد تكون فيه مصلحةٌ لبعض الذين يكسبون من وراء هذه الشركيات والخرافيات والسحر، لكن من جهة الشرع يُعتبر هو مفسدةً خالصةً.
  • القسم الرابع: مفاسد راجحة، ومن أمثلة ذلك: الخمر والميسر، كما قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219].

فأصبحت الأقسام على هذه الأقسام الأربعة:

  • مصالح خالصة.
  • ومصالح راجحة.
  • ومفاسد خالصة.
  • ومفاسد راجحة.

هل هناك قسمٌ خامسٌ تستوي فيه المصلحة والمفسدة؟

نقول: لا يوجد، وتأبى حكمة الله وجود مثل هذا القسم، بل لا بد من ترجيح إما المصلحة، أو المفسدة، لكن لا يمكن أن يوجد شيءٌ تتساوى مصلحته ومفسدته.

وإن مَن يتأمل في الأمور يجد أنها لا تخرج عن هذه الأقسام الأربعة: إما مصالح خالصة أو راجحة، وإما مفاسد خالصة أو راجحة، فإذا كان الشيء فيه مصلحةٌ خالصةٌ أو راجحةٌ، فإن الشارع يأمر به، وإذا كانت فيه مفسدةٌ خالصةٌ أو راجحةٌ، فإن الشارع ينهى عنه.

أمثلةٌ لأقسام المصالح والمفاسد

المؤلف ذكر أمثلةً لهذه الأقسام، نعم.

مثال ما مصلحته خالصةٌ من المأمورات، ومضرته خالصةٌ من المنهيات: جمهور الأحكام الشرعية، فالإيمان والتوحيد مصالحهما خالصةٌ في القلب والروح والبدن والدنيا والآخرة، والشرك والكفر مضرته ومفاسده خالصةٌ على القلوب.

نعم، الأولى أمثلةٌ من المصالح الخالصة: الإيمان والتوحيد، هذه أمثلةٌ للمصالح الخالصة، والشرك والكفر مثالٌ للمفاسد الخالصة.

والشرك والكفر مضرته ومفاسده خالصةٌ على القلوب والأبدان، وفي الدنيا والآخرة.

والصدق مصلحته خالصةٌ، والكذب بضده؛ ولهذا إذا ترتب على أنواع الكذب مصلحةٌ كبرى تزيد على مفسدته؛ كالكذب في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس، فقد رخَّص فيه النبي ؛ لرجحان مصلحته.

هنا الصدق مصلحةٌ خالصةٌ، والكذب مفسدةٌ خالصةٌ؛ ولهذا نجد أن الكذب مذمومٌ عند جميع الأمم، والأشياء التي يتفق عليها عقلاء بني آدم لا تكون إلا حقًّا، هذه فائدةٌ ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية: الأشياء التي يتفق عليها عقلاء بني آدم لا تكون إلا حقًّا.

فمن الأشياء التي يتفق عليها عقلاء بني آدم: ذم الكذب، عند جميع الأمم مذمومٌ، ومدح الصدق، عند جميع الأمم ممدوحٌ، فالصدق مصلحةٌ خالصةٌ، والكذب مفسدةٌ خالصةٌ، لكن إذا ترتبت عليه مصلحةٌ أخرى فإنه يجوز؛ لما يترتب عليه من المصلحة التي تُرجح الجانب فيه، نعم.

والعدل مصالحه خالصةٌ، والظلم مفاسده خالصةٌ، والميسر والخمر مفاسدها ومضارُّها أكثر من نفعهما؛ ولذلك حرمهما الله، قال تعالى: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219].

طيب، الميسر والخمر مثالٌ لأي قسمٍ؟

المفسدة الراجحة، نعم.

قال تعالى: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، وإذا ترتب بعض المصالح العظيمة على بعض أنواع الميسر: كأخذ العِوَضِ في مسابقة الخيل والإبل والسهام، جاز؛ لما فيه من الإعانة على الجهاد الذي به قوام الدين.

وتعلم السحر ومضرته خالصةٌ، كما قال تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ [البقرة:102].

نعم، يُلحقونها خالصةً، يعني: من جهة الشرع، وإلا من جهة الذين يتعاطون السحر قد يكسبون من ورائه أموالًا، فتكون لهم فيه مصلحةٌ، لكن من جهة الشرع هو مفسدةٌ خالصةٌ، نعم.

وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، ونحوها؛ لما فيها من المفاسد والمضارّ، فإذا قاوم هذه المفاسدَ مصلحةٌ عظيمةٌ، وهي الضرورة لإحياء النفس؛ حلَّت، قال تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:3].

يعني: أن المفسدة أحيانًا قد تقترن بها مصلحةٌ، فيُرجح جانب المصلحة، كما مرَّ معنا قبل قليلٍ الكذب، فالكذب مفسدةٌ، لكن إذا اقترنت به مصلحةٌ راجحةٌ فإنه يجوز؛ وذلك في الكذب في الحرب، وبين الزوجين، والكذب لأجل الإصلاح، فهنا اقترنت به مصلحةٌ راجحةٌ.

هكذا أيضًا بالنسبة لأكل الميتة، هو مفسدةٌ، لكن إذا اقترنت به مصلحة حفظ النفس؛ غُلِّب جانب المصلحة؛ لأنها أرجح، فانقلب القسم من كونه مفسدةً إلى كونه مصلحةً راجحةً.

أحيانًا قد يكون الشيء مفسدةً، لكن يقترن به شيءٌ آخر يقلبه ويُحوله من كونه مفسدةً إلى كونه مصلحةً راجحةً، نعم.

 ويُستدل بهذا الأصل العظيم والقاعدة الشرعية على أن العلوم العصرية وأعمالها وأنواع المُخترعات النافعة للناس في أمور دينهم ودنياهم؛ أنها مما أمر الله به ورسوله، ومما يُحبه الله ورسوله، ومن نِعَم الله على العباد، وبما فيها من المنافع الضرورية والكمالية.

فالبرقيات بأنواعها، والصناعات كلها، وأجناس المُخترعات الحديثة تنطبق عليها هذه القاعدة أتمَّ انطباقٍ؛ فبعضها يدخل في الواجبات، وبعضها في المُستحبات، وشيءٌ منها في المباحات بحسب ما تُثمره وينتج عنها من الأعمال، كما تدخل في غيرها من الأصول الشرعية التي منها هذه القاعدة الكبرى، وهي قوله: القاعدة الثانية.

نعم، هنا المؤلف مثَّل بالبرقيات؛ لأن البرقيات خرجت في زمن المؤلف، وأول ما خرجت البرقية استنكرها كثيرٌ من الناس، وبعض الناس عدُّوها من السحر، ولكن الشيخ رحمه الله بيَّن هذا، فبيَّن أن فيها مصلحةً، وأنها لا بأس باستخدامها، وكتب في هذا؛ ولهذا نجد أنه يُمثل بها؛ لأنها أول ما خرجت في زمن المؤلف.

وأيضًا مُكبر الصوت، يقال: إن أول مَن استخدمه الشيخ عبدالرحمن السعدي، واستنكره الناس في زمنه أول ما خرج، لكن الشيخ تكلم وبيَّن، قال وبيَّن ذلك في خطبةٍ جمعةٍ، وبيَّن أن هذا فيه مصلحةٌ للناس، وذكر نحوًا من هذا الكلام الذي ذكره هنا، وأن ما كانت فيه مصلحةٌ فإنه مطلوبٌ.

يعني: لا يُستغرب ذكر هذه الأمثلة؛ لأنها أمثلةٌ عايشها المؤلف، ووجدتْ في زمن المؤلف، فعندما يُمثل ببرقيةٍ مثلًا فهي أول ما خرجت كان هناك استنكارٌ من بعض الناس؛ لذلك مثَّل بها المؤلف هنا في هذه القاعدة.

طيب، إذن ننتهي من الكلام عن هذه القاعدة، وقلنا: إنها محل إجماعٍ بين أهل العلم، وقسمنا المصالح والمفاسد إلى أربعة أقسامٍ بعدما ذكرنا أدلةً لهذه القاعدة، وبعد ذلك ننتقل للقاعدة الثانية.

القاعدة الثانية: الوسائل لها أحكام المقاصد

القاعدة الثانية: الوسائل لها أحكام المقاصد.

ويتفرع على هذا الأصل: أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ، وما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنونٌ، وطرق الحرام والمكروهات تابعةٌ لها.

ويتفرع عليها: أن توابع العبادات والأعمال حكمها حكمها.

هذه القاعدة تُذكر في كتب أصول الفقه، وأيضًا تُذكر في كتب القواعد، لكن يُعْنَى بها الأصوليون، ويذكرونها أيضًا تحت قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ.

الوسائل معناها: الطرق التي يُتوصل بها إلى أمورٍ أخرى.

الوسائل هي: الطرق التي يُتوصل بها إلى أمورٍ أخرى هي مقصودةٌ في نفسها، فالوسائل ليست مقصودةً في نفسها، وإنما هي طرقٌ إلى تلك المقاصد، فإن كان القصد واجبًا كانت الوسيلة واجبةً، وإن كان القصد مسنونًا كانت الوسيلة مسنونةً، وإذا كان مُحرمًا كانت مُحرمةً، وسيأتي ذكر أمثلةٍ لذلك، نعم.

هذا أصلٌ وقاعدةٌ كليةٌ يتبعه عدة قواعد، كما ذكره في الأصل.

ومعنى الوسائل: الطرق التي يُسْلَك منها إلى الشيء، والسبب الذي يُوصل إلى الشيء، والأمور التي يتوقف الشيء عليها، واللوازم التي يلزم من وجود الشيء وجودها، والشروط التي تتوقف عليها الأحكام.

فإذا أمر الله ورسوله بشيءٍ كان أمرًا به وبما لا يتم إلا به، وكان أمرًا بالإتيان بجميع شروطه الشرعية والعادية والمعنوية والحسية، فإن الذي شرع الأحكام عليمٌ، حكيمٌ، يعلم ما يترتب على أحكامه على عباده من لوازم وشروط ومُتممات، فالأمر بالشيء أمرٌ به وبما لا يتم إلا به.

يُعبر عن ذلك العلماء بقولهم: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ، نعم.

والنهي عن الشيء نهيٌ عنه وعن كل ما يُؤدي إليه.

فالذهاب والمشي إلى الصلاة، ومجالس الذكر، وصلة الرحم، وعيادة المرضى، واتباع الجنائز، وغير ذلك من العبادات داخلٌ في العبادة.

فيكون الذهاب إلى المسجد واجبًا، لماذا؟

لأن أداء الصلاة في المسجد بالنسبة للرجال واجبٌ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ.

الذهاب لعيادة المرضى مُستحبٌّ، لماذا؟

لأن عيادة المرضى مُستحبةٌ، وما كان وسيلةً للمُستحب فهو مُستحبٌّ.

وقد يُثاب الإنسان على الوسيلة إذا كانت إلى أمرٍ يُحبه الله ورسوله ، فمثلًا: عند الذهاب إلى المسجد ورد الفضل بأن المسلم لم يَخْطُ خطوةً إلا رفعه الله بها درجةً، وحَطَّ عنه بها خطيئةً [2]، مع أن الذهاب وسيلةٌ، لكن الوسائل تأخذ أحكام المقاصد، فَرُتِّب هذا الفضل؛ ولذلك يُثاب الإنسان على الوسيلة إلى الأمر الواجب أو المسنون.

إذن الذهاب للمسجد يُثاب عليه الإنسان، لكن يُثاب عليه إذا كان ماشيًا، أما إذا كان راكبًا سيارةً هل يُثاب عليه الثواب الوارد في الحديث: لم يَخْطُ خطوةً إلا رفعه الله بها درجةً، وحَطَّ عنه بها خطيئةً؟ هل هذا خاصٌّ بالماشي أو يشمل الراكب؟

نعم، مَن يُجيب؟

طالب: لا يشمل.

الشيخ: لا يشمل.

طيب، نعم.

طالب آخر: ………

الشيخ: يشمل.

طالب ثالث: ……..

الشيخ: هو من حيث الفضل يشمل، لكن الفضل الوارد في الحديث خاصٌّ بالماشي، والدليل على ذلك: ما جاء في “صحيح مسلم”: أن رجلًا كان منزله بعيدًا، وكانت لا تُخطئه الصلاة، فقيل له: لو اشتريتَ حمارًا تركبه في الظلماء وفي الرَّمضاء. قال: ما يَسُرني أن منزلي إلى جنب المسجد؛ إني أريد أن يُكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعتُ إلى أهلي. فبلغ ذلك النبي فقال: قد جمع الله لك ذلك كله [3]، فهو قد فهم أنه لو اشترى حمارًا وركبه لفاته الأجر الخاص المُرتب على الذهاب للمسجد، فأقره النبي عليه الصلاة والسلام على هذا الفهم، وما أنكره عليه، قال: قد جمع الله لك ذلك كله.

إذن الذي يأتي المسجد بالسيارة لا يُثاب الثواب الخاص الوارد في هذا الحديث، وإنما الثواب خاصٌّ بمَن يأتي للمسجد ماشيًا، وإن كان هو مأجورًا في الجملة؛ لكونه قد أتى إلى أمرٍ مأمورٍ به، لكن أحيانًا قد يرد ثوابٌ خاصٌّ على وسيلةٍ معينةٍ: كالذهاب ماشيًا، فالذهاب إلى المسجد ماشيًا أفضل من الذهاب إلى المسجد راكبًا؛ ولهذا في حديث الجمعة: مَن غَسَّلَ واغتَسَلَ …، وبَكَّرَ وابتَكَرَ، قال: ومشى ولم يركب [4]، نعم.

وكذلك الخروج إلى الحج والعمرة والجهاد في سبيل الله، من حين يخرج ويذهب من محلِّه إلى أن يرجع إلى مقره وهو في عبادةٍ؛ لأنها وسائل للعبادة، ومُتممات لها، قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ۝ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [التوبة:120- 121].

نعم، لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ يعني: تعبٌ، وَلَا مَخْمَصَةٌ يعني: مجاعة، وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يعني: ينزلون منزلًا، فبيَّن الله تعالى أنه تُكتب لهم بهذه الأشياء أعمالٌ صالحةٌ، مع أن كثيرًا منها ناشئٌ عن أفعالهم؛ فلأن الوسائل تأخذ أحكام المقاصد، ويُثاب الإنسان عليها، الوسيلة إلى الطاعة يُثاب الإنسان عليها، نعم.

وفي الحديث الصحيح: مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سلك الله، أو سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة [5].

وقد تكاثرت الأحاديث الصحيحة في ثواب المشي إلى الصلوات، وأن كل خطوةٍ يخطوها تُكتب له حسنةٌ، وتُمْحَى عنه سيئةٌ.

وفُسر قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12] أي: نقل خُطاهم وأعمالهم للعبادات أو لضدها، وكما أن نقل الأقدام والسعي للعبادات تابعٌ للعبادة، فنقل الأقدام إلى المعاصي تابعٌ لها، ومعصيةٌ أخرى.

طيب، بالنسبة للآية الكريمة، هذه آيةٌ عظيمةٌ: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ يعني: ما قدَّموا من أعمالٍ صالحةٍ وآثارهم.

ذكر ابن كثيرٍ في تفسيره قولين في معنى قوله: وَآثَارَهُمْ قال:

  • القول الأول: آثارهم يعني: خُطاهم إلى الطاعة أو المعصية، كما في حديث: يا بني سَلِمَة، ديارَكم تُكتب آثارُكم [6] رواه مسلم.

فالقول الأول في معنى الآثار: الخُطا إلى الطاعة أو المعصية.

  • القول الثاني: أن الآثار تعني: نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي آثروها من بعدهم، فنجزيهم عليها: إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ.

فيكون القول الثاني في الآثار يعني: جميع ما خلَّفوه بعدهم من آثارٍ صالحةٍ أو غير صالحةٍ، فهي تُكتب عليهم، كما في قول النبي : مَن سنَّ في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرها وأجر مَن عمل بها بعده إلى يوم القيامة، ومَن سنَّ في الإسلام سنةً سيئةً فعليه وزرها ووزر مَن عمل بها من بعده إلى يوم القيامة [7].

والقول الثاني هو القول الأقرب والأرجح؛ لأن القول الأول وهو: الخُطا إلى الطاعة أو المعصية تدخل في قول الله: مَا قَدَّمُوا؛ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا، مَا قَدَّمُوا تدخل فيه الخُطا إلى الطاعة أو المعصية، لكن وَآثَارَهُمْ يعني: ما خلَّفوه بعدهم.

ومن الآثار ما ذُكر في قوله عليه الصلاة والسلام: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له [8]، هذه من الآثار، فمن الناس مَن يُوفقه الله تعالى لأن يُخلِّف آثارًا من بعده: إما علمًا نافعًا -إما كتبًا نافعةً-، وإما أولادًا صالحين يدعون له، وإما صدقةً جاريةً.

وبعض الناس من حين أن يموت لا يبقى له أي أثرٍ.

فكن من القسم الأول، اجعل لك آثارًا في هذه الحياة، اجعل لك آثارًا تبقى بعد مماتك: إما من علمٍ نافعٍ، وإما من صدقاتٍ، وإما من غيرها؛ لأن هذه الآثار يُكتب للإنسان أجرها ما دام يُنتفع بها، ما دام يُنتفع بها يُكتب له أجرها.

الآن كلام المؤلف هذا، هذا الكتاب من آثار المؤلف التي نرجو أن يُكتب له أجره وثوابه، فالله تعالى كما يكتب للإنسان أعماله الصالحة التي يعملها في الدنيا، يكتب له الآثار التي يُخلِّفها بعد مماته من خيرٍ أو من شرٍّ، نعم.

فالأمر بالصلاة مثلًا أمرٌ بها وبما لا تتم الصلاة إلا بها: من الطهارة، والسترة، واستقبال القبلة، وبقية شروطها، وأمرٌ بتعلم أحكامها التي لا تتم إلا به.

وكذلك بقية العبادات، فما لا يتم الواجب والمسنون إلا به فهو واجبٌ للواجب، ومسنونٌ للمسنون.

نعم.

من فروع قاعدة: الوسائل لها أحكام المقاصد

ومن فروع هذا الأصل قول العلماء: إذا دخل الوقت على عادم الماء لزمه طلبه في المواضع التي يرجو حصوله أو وجوده فيها؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ، ويلزمه أيضًا شراؤه وشراء السترة الواجبة بثمن مثلها، أو زيادةٍ لا تضره، ولا تُجحف بماله.

نعم، هنا انتقل المؤلف لفروع القاعدة، وذكر من هذه الفروع: إذا دخل الوقت على عادم الماء لزمه طلبه، لا بد من البحث عنه؛ لقول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [النساء:43]، ولا يقال للإنسان أنه لم يجد إلا إذا بحث عنه ولم يجده.

كذلك إذا وجد الماء يُباع بثمن المثل، أو بزيادةٍ يسيرةٍ لا تُجْحف بماله؛ لزمه الشراء.

وبناءً على ذلك في الوقت الحاضر ليس للإنسان أن يتيمم في الطرقات العامة؛ لأنه لا بد أن يجد محطةً من محطات الوقود، وهذه المحطات لا تخلو من ماءٍ: إما أن يُبذل مجانًا، أو يُباع بثمن المثل.

ولذلك فإن تساهل بعض الناس في التيمم هذا في غير محله، فالتيمم يكون عندما يُعدم الماء، عندما لا يجد الإنسان الماء، كما لو كان مثلًا في البرية، وليس عنده ماءٌ، أو عنده ماءٌ لا يكفي إلا للأكل والشرب مثلًا، أما في الطرقات العامة في وقتنا الحاضر فإن الماء ميسورٌ وموجودٌ: إما -يعني- مبذولًا، وإما يُباع بثمن المثل، أو قريبًا منه.

طيب، لو وجد مَن يهب له ماءً، فهل يجب عليه قبوله، أو له أن يعدل للتيمم؟

قلنا: الماء إذا وجده يُباع لزمه شراؤه، لا إشكال في هذا، لكن لو وجد مَن يهب له الماء، هل يجب عليه قبوله؟ هو لا يقبله لا إشكال أيضًا، لكن هل يجب أو لا يجب؟

نعم.

طالب: ………

الشيخ: نعم، أحسنت، لا يجب عليه قبوله، لماذا؟

لأنه لا يلزم أن يكون الإنسان تحت مِنَّة غيره، فقد يمتنُّ عليه هذا الواهب في يومٍ من الأيام بهذا الماء، فلا يلزم أن يكون تحت مِنَّة غيره، لكن في الشراء ليس للبائع عليه مِنَّةٌ؛ اشترى بدراهمه، نعم.

ومن فروعها: وجوب تعلم الصناعات التي يحتاج الناس إليها في أمر دينهم ودنياهم، صغيرها وكبيرها.

نعم، نحن نريد منكم هذه القاعدة، الإخوان يقولون: الوقت انتهى، لكن نريد أن نُكمل هذه القاعدة حتى نقف عند القاعدة الثالثة، نعم.

ومن فروعها: وجوب تعلم العلوم النافعة، وهي قسمان:

علومٌ تعلمها فرض عينٍ، وهي ما يضطر إليه الإنسان في دينه وعباداته ومعاملاته، كل أحدٍ بحسب حاله.

والثاني: فرض كفايةٍ، وهو ما زاد على ذلك بحيث يحتاجه العموم.

فما اضطر إليه الإنسان بنفسه تعين عليه، وما لم يضطر إليه بنفسه، لكن الناس محتاجون إليه؛ فرض كفايةٍ، وفرض الكفاية إذا قام به مَن يكفي سقط عن غيره، وإذا لم يقم به وجب على الكل.

ولهذا من فروع هذه القاعدة: جميع فروض الكفايات من: أذانٍ، وإقامةٍ، وإمامةٍ صغرى وكبرى، وأمرٍ بالمعروف، ونهيٍ عن منكرٍ، وجهادٍ لم يَتَعَيَّن، وتجهيز الموتى بالتغسيل، والتكفين، والصلاة، والحمل، والدفن، وتوابع ذلك، والزراعة والحراثة، وتوابع ذلك.

جميع فروض الكفايات داخلةٌ في هذا؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ، نعم.

ومن فروعها: السعي في الكسب الذي يُقيم به العبدُ ما عليه من واجبات النفس، والأهل، والأولاد، والمماليك من الآدميين، والبهائم، وما يُوفي به ديونه، فإن هذه واجباتٌ، والسعي في الأسباب المُحصلة لها واجباتٌ مثلها.

نعم، إذا كان عند الإنسان أهلٌ من زوجةٍ وأولادٍ يجب عليه أن يسعى للكسب حتى يُنفق عليهم؛ لأن النفقة عليهم واجبةٌ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ، نعم.

ومن فروعها: وجوب تعلم أدلة الوقت والقبلة والجهات لمَن يحتاج إليها.

لمَن يحتاج إليها: كالمؤذن، نعم.

ومن فروعها: أن العلوم الشرعية نوعان:

  • مقاصد، وهي: علم الكتاب والسنة.
  • ووسائل إليها، مثل: علوم العربية بأنواعها.

فإن معرفة الكتاب والسنة وعلومهما تتوقف أو يتوقف أكثرها على معرفة علوم العربية، ولا تتم معرفتها إلا بها، فيكون الاشتغال بعلوم العربية لهذا الغرض تابعًا للعلوم الشرعية.

نعم، لو أراد شخصٌ يتحدث بغير اللغة العربية أن يتعلم ويتفقه في الدين، فنقول له: أولًا: ابدأ بتعلم اللغة العربية؛ لأنه لا يمكنك أن تفهم علوم الشريعة إلا بفهم اللغة العربية، فيكون هذا من هذا الباب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ، نعم.

ومن فروعها: أن كل مباحٍ تُوسل به إلى ترك واجبٍ أو فعل مُحرمٍ فهو مُحرمٌ؛ ولذلك يحرم البيع والشراء بعد نداء الجمعة الثاني؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9].

نعم، تحريم البيع بعد النداء الثاني هو من الباب؛ لأنه وسيلةٌ للاشتغال عن خطبة الجمعة، وما كان وسيلةً إلى الحرام فهو مُحرمٌ، نعم.

وكذلك إذا خِيف فوت الصلاة المكتوبة، أو خِيف فوت صلاة الجماعة الواجبة على الصحيح.

وكذلك لا يحل البيع على مَن يريد أن يعمل بها معصيةً: كبيع العصير على مَن يتخذه خمرًا.

يعني مثلًا: الآن إقفال مراكز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المحلات وقت الصلاة، قد يقول قائلٌ: ما الدليل لهذا؟

نستدل بهذه القاعدة، نقول: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ، ففتح هذه المحلات وقت الصلاة وسيلةٌ لترك الصلاة في الجماعة، وما كان وسيلةً للحرام فهو حرامٌ، فنستدل بهذه القاعدة لهذه المسألة، نعم.

وكذلك لا يحل البيع على مَن يريد أن يعمل بها معصيةً: كبيع العصير على مَن يتخذه خمرًا، أو السلاح لأهل الفتنة أو قُطَّاع الطريق، وبيع البيض ونحوه لمَن يُقامر عليه.

هذه أيضًا قاعدةٌ مفيدةٌ: بيع الشيء الذي يمكن أن يُستخدم في الحلال وفي الحرام، فإذا علمتَ أن المشتري سوف يستخدمه في الحرام يحرم بيعه، لكن إذا علمتَ أنه سوف يستخدمه في الحلال يجوز بيعه.

وهذه القاعدة ذكرها ابن القيم، وساق أمثلةً لها في كتابه “زاد المعاد”، وذكر من ضمن الأمثلة قال: “بيع البغل والحمار لأكلهما مُحرمٌ، وللركوب جائزٌ”. وأيضًا قال: “بيع الحرير لرجلٍ يلبسه حرامٌ، وبيعه لمَن يحل له لبسه جائزٌ”.

يمكن أن نذكر أمثلةً معاصرةً: بيع -مثلًا- الهاتف الجوال الذي تكون فيه (كاميرا) لمَن يستخدمه في الحلال جائزٌ، لكن لو علمتَ أن هذا الشخص يستخدمه في الحرام فإنه لا يجوز، وبيع الحاسب الآلي -مثلًا- لمَن يستخدمه في الحلال جائزٌ، ولمَن يستخدمه في الحرام غير جائزٍ، وبيع المُسجل، وبيع التلفاز، كل الأشياء التي تُستخدم في الخير وفي الشر نقول: بحسب المشتري.

طيب، إذا كنت لا تعلم فالأصل هو الجواز، وإذا علمتَ أنه سوف يستخدمه في الخير فيجوز بيعه عليه، وإذا علمتَ أن هذا الشخص قامت القرائن على أنه سوف يستخدمه في الشر فلا يجوز بيعه له.

يعني: هذه أيضًا قاعدةٌ مفيدةٌ لطالب العلم، والمؤلف ذكر هنا أمثلةً:

  • بيع العصير: الأصل في بيع العصير أنه جائزٌ، لكن إذا علمتَ أن هذا سوف يتخذه خمرًا فإنه لا يجوز.
  • بيع السلاح: الأصل جوازه، لكن إذا كان وقت الفتنة فيغلب أنه سوف يستخدمه في الحرام.
  • بيع البيض: الأصل جوازه، لكن لو علمتَ أن هذا الشخص سوف يستخدم البيض في القمار لا يجوز، نعم.

وكذلك تحرم الحِيَل في جميع المعاملات التي يتوصل بها إلى مُحَرَّمٍ؛ كالحِيَل على قلب الدَّين على المدين، وكبيع العينة، والتَّحيُّل على إسقاط شفعة الشفيع بالوقف أو بإظهار الثواب غير المقصود، أو إظهار زيادةٍ في الثمن؛ لئلا يأخذ الشفيع.

ومن ذلك: العقد على امرأةٍ لكي يُحللها لزوجها، العقد على امرأةٍ مثل هذه المرأة الأصل هو الجواز، لكن لما اقترن بهذه النية كان وسيلةً إلى حرامٍ، وما كان وسيلةً إلى حرامٍ فهو مُحرمٌ، نعم.

ومن فروعها: قتل المُوصى له، وقتل الوارث للمُوصي والمُورث، يُعاقبان بنقيض قصدهما، وكذلك مَن طلَّق زوجته في مرض موته المخوف، فإنها ترث منه.

نعم.

ومن فروعها: عَضْل الزوج لزوجته بغير حقٍّ؛ لتُعطيه شيئًا من المال ليُطلقها، كما قال تعالى: وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19].

لأن هذا العضل وسيلةٌ إلى حرامٍ، فهو مُحرمٌ.

كونه عضل المرأة ويضارها حتى تدفع له المهر، هذا لا يجوز إلا في حالةٍ واحدةٍ، ما هي؟

وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ هنا يجوز عضلها لأجل أن تفتدي، ما عدا ذلك فإنه لا يجوز، نعم.

فلا يحل الأخذ منها في هذه الحال.

ومنها ما قاله الأصحاب: ومَن أهدى لغيره حياءً منه، أو خوفًا منه؛ وجب عليه الرد.

وكثيرٌ من هذه الفروع أيضًا داخلٌ في أصل اعتبار المقاصد والنيات، وكلما كان الفرع يدخل في عدة أصولٍ كان دليلًا على قوته.

وكما أن الحِيَل التي يُقصد بها التوسل إلى مُحرمٍ أو ترك واجبٍ حرامٌ، فالحِيَل التي يُتوسل بها إلى استخراج الحقوق مباحةٌ، بل مأمورٌ بها، فالعبد مأمورٌ باستخراج حقِّه والحق المتعلق به بالطرق الواضحة والطرق الخفية، قال تعالى لما ذكر تحيُّل يوسف لبقاء أخيه عنده: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف:76].

الحِيَل التي يتوصل بها إلى استخراج الحقوق لا بأس بها، كما في قصة يوسف، وكما أيضًا في قول الله تعالى: لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا [النساء:98]، نعم.

ومثله الحِيَل التي تسلم بها النفوس والأموال؛ كما فعل الخضر بخَرْقه للسفينة الصالحة لتعيب فتسلم من الملك الظالم الذي يغتصب كل سفينةٍ صالحةٍ تمر عليه، فالحيلة تابعةٌ للمقصود: حسنها وقبيحها.

والحيلة -مثلًا- على الربا تكون مُحرمةً، من ذلك مثلًا في الوقت الحاضر: ما هو موجودٌ عند بعض البنوك من التحايل على الربا بالتورُّق المُنظم وغيره، إلا أنهم بدل أن يتعاملوا بالربا صراحةً يأتون بسلعٍ -معادن أو حديد أو غيرها- تُباع بيعًا صوريًّا؛ أوراق تذهب، وأوراق تأتي، ويحصل العميل على ما أراد من سيولةٍ نقديةٍ، ويثبت في ذمته أكثر منها، هذه من الحيلة على الربا، فيكون هذا مُحرمًا، نعم.

ومن فروعها: أن الله قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، والأمانات: كل مالٍ ائتُمن عليه العبد وولي عليه من وديعةٍ، وولاية يتيمٍ، ونظارة وقفٍ، ونحوها.

من وسائل ردِّها إلى أهلها: حفظها في حِرْز مثلها.

ومن وسائل حفظها: الإنفاق عليها إن كانت ذات روحٍ.

ومن وسائل أدائها: عدم التفريط والتعدي فيها.

كل هذه أمثلةٌ وتوقيعاتٌ لهذه القاعدة، والمؤلف أطال فيها رحمه الله، يعني: هذه أمثلةٌ ظاهرةٌ، لو وقفنا عند كل مثالٍ لأخذنا وقتًا طويلًا، نعم.

ومن فروع هذا الأصل: أن الله حرَّم الفواحش، وحرَّم قربانها بكل وسيلةٍ يُخشى منها وقوع المُحرم: كالخلوة بالأجنبية، والنظر المُحرم؛ ولهذا قال النبي : مَن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمَى يُوشك أن يَرْتَع فيه، ألا وإن لكل ملكٍ حمى، ألا وإن حمى الله محارمه [9].

ومن فروعها: النهي عن كل ما يُحدث العداوة والبغضاء؛ كالبيع على بيع المسلم، والعقد على عقده، وخطبة النكاح، وخطبة الولايات على خطبة أخيه.

كما أن من فروعها: الحث على كل ما يجلب الصداقة من الأقوال والأفعال بحسب ما يُناسب الحال.

تُعيد مرةً ثانيةً، نعم، خطبة النكاح.

ومن فروعها: النهي عن كل ما يُحدث العداوة والبغضاء؛ كالبيع على بيع المسلم، والعقد على عقده، وخطبة النكاح، وخطبة الولايات …

في نسخةٍ أخرى: وطلب الولايات، وطلب الولاية والوظيفة إذا كان لها أهلًا …، يعني: إن كان لها أهلًا يبدو أنها …

القارئ: يعني: وخطبة النكاح على خطبة أخيه.

الشيخ: على خطبة أخيه، وخطبة النكاح على خطبة أخيه، بعدها: وطلب الولاية والوظيفة إذا كان لها أهلًا، نعم.

طلب الولاية والوظيفة إذا كان لها أهلًا لا بأس به، كما قال يوسف: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، وهي الأصل فيها المنع، نعم.

كالبيع على بيع المسلم، والعقد على عقده، وخطبة النكاح على خطبة أخيه، وطلب الولايات.

كما أن من فروعها: الحث على كل ما يجلب الصداقة من الأقوال والأفعال بحسب ما يُناسب الحال.

وهذه -يا إخوان- قاعدةٌ مفيدةٌ لطالب العلم، يعني: الآن مثلًا من قواعد الشريعة: الحث على كل ما يجلب المحبة والمودة بين أفراد المجتمع المسلم، والحث على الابتعاد عن كل ما يجلب البغضاء؛ ولذلك شُرعت صلاة الجماعة، وإلا بإمكان الإنسان أن يصلي في بيته، أليس كذلك؟

الصلاة ذات أقوالٍ وأفعالٍ، بإمكان الإنسان أن يصلي في بيته، لكن لماذا أوجب الشارع على الرجال الصلاة جماعةً في المسجد؟

لأجل أن تحصل المودة والمحبة بينهم، والائتلاف والتعاون والتعارف، هذه مقاصد عظيمةٌ، فدلنا على كل ما يؤدي إلى هذا المعنى، فهو مطلوبٌ، كل ما يؤدي إلى هذا المقصد فهو مطلوبٌ، وكل ما يُخالفه فهو مذمومٌ، كل ما يؤدي إلى القطيعة بين الجيران، وإلى الاختلاف، وإلى التنازع، وإلى البغضاء فهو مذمومٌ، نعم.

النذر مُستثنًى من قاعدة: الوسائل لها أحكام المقاصد

وقد خرج عن هذا الأصل النذر؛ لحكمةٍ اختُصَّ بها، فالوفاء بنذر الطاعة واجبٌ، وعقده مكروهٌ، مع أن الوفاء لا يتأتى إلا بعقدٍ؛ فلهذا أمر بالوفاء به، ونهى عن عقده، وقال: إنه لا يأتي بخيرٍ، وإنما يُستخرج به من البخيل [10]؛ لأنه ينقض الإخلاص، ويُعرض صاحبه للبلاء، وهو في سعة العافية، وفيه نوع تألٍّ وإدلالٍ.

يعني: هذا من المُستثنيات، خرج من هذا الأصل بأنه مما يُستثنى من هذا الأصل، أو من هذه القاعدة: النذر.

النذر الوفاء به إذا كان للطاعة واجبٌ، لكن عقده ابتداءً مكروهٌ، فلم تأخذ الآن الوسيلة حكم المقصد، فهذا النذر له حكمٌ خاصٌّ؛ ولهذا النبي قال: إنه لا يأتي بخيرٍ، وإنما يُستخرج به من البخيل، لكن النذر إنما يجب الوفاء به إذا كان نذر طاعةٍ فقط، لكن لو كان نذرًا في أمرٍ مباحٍ لا يجب الوفاء به، وإنما يُخير بين الوفاء به وكفارة اليمين، وإذا كان نذر معصيةٍ لا يجوز الوفاء به، لكن تكون فيه كفارة يمينٍ، نعم.

ومن فروع هذا الأصل: التَّحيُّل بالتحليل لحلّ الزوجة لمُطلقها ثلاثًا، فإنه حرامٌ، ملعونٌ صاحبه، لا يُفيد الحلّ؛ لأنه لم يقصد به النكاح الحقيقي، وإنما صورته صورة نكاحٍ، وحقيقته حقيقة السِّفاح.

نعم، يعني: هذه الوسيلة تأخذ حكم المقصد، يعني: هو عندما ينكح امرأةً لأجل أن يُحللها لمُطلقها ثلاثًا لا تحلّ له، مع أن النكاح في أصله حلالٌ.

ومن ذلك أيضًا: النكاح بِنِيَّة الطلاق، فإنه على القول الراجح أيضًا لا يجوز؛ لأن فيه غِشًّا وكذبًا، مع أن الأصل في النكاح هو عقدٌ مُكتمل الأركان والشروط، لكن بسبب اقترانه بهذه النية -يعني- لم يَجُزْ لأجل ذلك.

ومن ذلك أيضًا: نكاح المتعة، فإنه مُحرمٌ، نعم.

وكما أن وسائل الأحكام حكمها حكمها، فكذلك توابعها ومُتمماتها، فالذهاب إلى العبادة عبادةٌ، وكذلك الرجوع منها إلى الموضع الذي منه ابتدأ عبادةٌ.

نعم، كما في الذهاب إلى المسجد، والرجوع من المسجد، يُكتب للإنسان أجر خُطاه إلى المسجد، وأجر رجوعه إذا كان ماشيًا، نعم.

ولهذا قال بعض الصحابة : “إني لأحتسب رجوعي إلى بيتي من الصلاة كما أحتسب خروجي منه إليها”.

نعم، ومن ذلك مثلًا: الاحتساب في دفع النفقات إلى الأهل من زوجةٍ، ومن والدين وإخوةٍ، فإن الإنسان إذا احتسب ذلك يُؤجر عليه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: إنك لن تُنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أُجرتَ عليها، حتى ما تجعل في فِيِّ امرأتك [11]، وقوله عليه الصلاة والسلام في “صحيح مسلم”: دينارٌ أنفقته في سبيل الله، ودينارٌ أنفقته في رقبةٍ، ودينارٌ تصدقتَ به على مسكينٍ، ودينارٌ أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا للذي أنفقته على أهلك [12]، أعظم من الصدقة على المساكين، الذي تُنفقه على أهلك أعظم من الصدقة على المساكين، لكن هل يُؤجر عليه الإنسان إذا لم يحتسبه، إذا لم يستحضر النية أم لا؟

هذا محل خلافٍ بين أهل العلم: منهم مَن قال: إنه لا يُؤجر عليه. وهذا ذهب إليه القرافي وجماعةٌ، قالوا: لا يُؤجر إلا بالاحتساب.

والقول الثاني: أنه يُؤجر، وهو الأقرب، لكن مع ذلك فإن أجره وثوابه لمن يُحتسب أكمل وأفضل من ثواب وأجر مَن يُنفق بدون نيةٍ واحتسابٍ.

ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند القاعدة الثالثة، ونأخذ ما تيسر من الأسئلة، نعم.

الأسئلة

السؤال: فضيلة الشيخ -حفظك الله-، رجلٌ صلى وعليه غسلٌ، لكنه توضأ وتَيَمَّمَ ولم يغتسل، بل تَيَمَّمَ وتوضأ، ثم صلى ركعتين، ولم يُصلِّ فريضةً، والسبب: ليُثبت لزوجته أنه ليس على جنابةٍ؛ حتى لا تقع مشكلةٌ، فهل عليه إثمٌ لاجتهاده؟ فما حلّ هذه المشكلة؟

الجواب: نعم، مثل هذا -يعني- قد أخطأ، صلاته طبعًا لا شكَّ أنها غير صحيحةٍ، والمفروض أن الإنسان لا يصلي وهو على غير طهارةٍ، وبعض الفقهاء يُشدد في ذلك؛ فقهاء الحنفية يرون أنه كفرٌ؛ لأنهم يعتبرون هذا استهزاءً بالله ​​​​​​​، والاستهزاء بالله كفرٌ، وإن كان جمهور العلماء على أنه ليس كفرًا، لكنه -يعني- ارتكب معصيةً بهذا.

نقول لهذا الرجل: إنه قد أخطأ، وعليه التوبة إلى الله ​​​​​​​ من هذا العمل، نعم.

السؤال: بعض الناس قد يقول: إن الفوائد البنكية التي تُؤخذ من القروض فيها مصلحةٌ للدائن والمدين، فكيف يُفَرَّقُ بين هذا وهذا؟ خاصةً أن هناك بعض المُتساهلين يستخدمون هذه الفوائد استخداماتٍ فاضحةً.

الجواب: يا إخوان، ما ورد فيه النصُّ هذا لا قول فيه لأحدٍ، فإذا قال أحدٌ: إن هذا مصلحةٌ، والله تعالى يقول: ليس فيه مصلحةٌ، أو ضرره أكثر من مصلحته، يعني: لا قول لأحدٍ مع قول الله وقول رسوله .

ولهذا هذا الذي يذكره الأخ السائل قاله المشركون في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275]، قالوا: ما الفرق بين البيع والربا؟ لماذا تُحرمون الربا، وتُحلون البيع؟ قال الله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].

لاحظ أيضًا: كيف ردَّ الله تعالى عليهم؟

وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، والله أعلم وأحكم.

يعني: القول بأن الربا فيه مصلحةٌ والفوائد البنكية، هذا يُعارض حكم الله وشرع الله تعالى، والله تعالى أعلم وأحكم.

ثم أيضًا ما يتوهمه الإنسان من مصلحةٍ هو قد لا يستحضر المفاسد المُترتبة عليه؛ ولذلك أنا أذكر أني قرأتُ خبرًا في إحدى المجلات: أن بنكًا في اليابان درس أسباب التَّعثر في البنوك، ووجد أن أعظم سببٍ هو الربا، فألغى الربا عنده، وجعل الفائدة عنده صفرًا.

فتجد أن ما حرَّمه الله يجب أن نعتقد بأن فيه مفسدةً: إما خالصة، وإما راجحة، وما أباحه الله فيه مصلحةٌ: إما خالصة، وإما راجحة، وقد يتوهم الإنسان شيئًا غير هذا، لكن الأشياء التي ورد فيها النصُّ يجب أن يعتقد ما أخبر الله به ورسوله ، نعم.

السؤال: يسأل عن مقولة: “خَلِّها وربك يحلها” تكثر، فما …؟

الجواب: يظهر أنها لا بأس بها، يعني: خَلِّها، اتركها، اتركها والله ​​​​​​​ يُسهل أمرها، أو يُيسر الله تعالى لها حلًّا، فلا يظهر لي فيها إشكالٌ، نعم.

السؤال: يسأل عن بقاء المُحْدِث حدثًا أصغر في المسجد.

الجواب: هذه محل خلافٍ بين أهل العلم إذا كان مُحْدِثًا حدثًا أكبر، أما الـمُحْدِث حدثًا أصغر فلا إشكال في بقائه في المسجد، لكن يرد إشكالٌ فقط من جهة أنه سيجلس دون أن يأتي بتحية المسجد، وتحية المسجد عند أكثر أهل العلم مُستحبةٌ، وليست واجبةً.

وبناءً على ذلك لا حرج عليه في الجلوس في المسجد إذا كان مُحْدِثًا حدثًا أصغر، إنما الخلاف في الـمُحْدِث حدثًا أكبر إذا توضأ هل يجلس في المسجد أم لا؟

فالذي عليه الجمهور أنه يجلس في المسجد، ولكن القول الصحيح أنه لا يجلس؛ لعموم الآية: وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43]، نعم.

طيب، نكتفي بهذا القدر، ونسأل الله ​​​​​​​ للجميع التوفيق.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 الفروق: 1/ 3.
^2 رواه البخاري: 477، ومسلم: 649.
^3 رواه مسلم: 663.
^4 رواه أبو داود: 345، والنسائي: 1384، وابن ماجه: 1087، وأحمد: 16173.
^5 رواه مسلم: 2699.
^6 رواه مسلم: 665.
^7 رواه مسلم: 1017 دون قوله: إلى يوم القيامة في الموضعين، ورواه بهذه الزيادة الطبراني في “المعجم الكبير”: 2372.
^8 رواه مسلم: 1631.
^9 رواه البخاري: 52، ومسلم: 1599.
^10 رواه البخاري: 6608، ومسلم: 1639.
^11 رواه البخاري: 56، ومسلم: 1628.
^12 رواه مسلم: 995.