عناصر المادة
باب مسح الخفين
قال المؤلف رحمه الله:
باب: مسح الخفين.
الخفان: تثنية “خف”، والخف: هو ما يُلبس على الرِّجل من الجلد.
ويُلحَق بالخف ما كان في معناه؛ كالجورب. والجورب: هو ما يُلبَس على الرِّجل من غير الجلد، والجوارب يسميها الناس الآن الشُّرَّاب، الشُّرَّاب هي الجوارب، وأيضًا في معناها الجُرْموق -ويسمى المُوق- وهو خفٌّ قصير.
وبهذا يُعلم بأن المسحَ على الجوارب عند مَن يقول: مسح الجوارب، والمسح على الجوارب أو الشُّرَّاب، أنه مَقِيسٌ على المسح على الخفين، فالأحاديث التي وردت إنما هي في المسح على الخفين، لكن قاس العلماء على الخفين ما كان في معناهما كالجوارب.
والمسح على الخفين قد تواترت به السُّنة، فقد ذَكر العلماءُ أحاديثَ المُصنِّفِ على أنها من الأحاديث المتواترة، منها قول الناظم:
ممـا تَوَاتَرْ: حديثُ مَـن كَذَبْ | ومَن بَنَى لله بيتًا واحـتَسَبْ |
ورؤيـــةٌ شفاعــةٌ والحــوضُ | ومسحُ خُفَّيْنِ وهَذِي بعضُ |
“مما تواتر حديث من كذب”؛ يعني: مَن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار[1].
و”مَن بنى لله بيتًا واحتسب”: من بنى لله بيتًا بنى الله له به مثله في الجنة[2].
“ورؤيةٌ” يعني: أحاديث الرؤية، “شفاعة” أحاديث الشفاعة، “والحوض” يعني: أحاديث الحوض، “ومسح خفين وهذي بعض” يعني: ليست شاملة لكل ما تواتر.
فإذن؛ أحاديث مسح الخفين عند العلماء من الأحاديث المتواترة؛ ولهذا قال الإمام أحمد: “ليس في قلبي شيء من المسح على الخفين، فيه أربعون حديثًا عن النبي “. وفي رواية عنه في “المسند”: “فيه سبعة وثلاثون نفسًا يَرْوون المسحَ عنه “.
وروى ابن المنذر في “الأوسط” عن الحسن البصري قال: “حدثني سبعون من أصحاب النبي أنه مَسَح على الخفين”.
قد خَفِيَ المسح على الخفين على بعض السلف فأنكروه، ورُوي هذا عن الإمام مالك في روايةٍ، وربما خفيت عليهم هذه الأحاديث، وإلا فأكثر السلف على المسح على الخفين، وخالف في هذا الرافضة، فهم لا يرون المسح على الخفين حتى صار هذا شعارًا لهم.
لهذا؛ ذكر بعضُ العلماءِ المسحَ على الخفين في كتب العقائد، والغريب أنهم لا يمسحون على الخِفَاف، ويمسحون على أرجلهم بدلًا عن غسل الرِّجلين، ضيَّعوا دينهم بهذا، يعني غسل الرِّجل ما يغسلونها، المسح على الخفين ما يمسحونه، يمسحون على الرِّجل بدل غسل الرِّجل.
أيهما أفضل: المسح على الخفين أو غسل الرِّجلين؟
قبل أن ندخل في عبارة المؤلف، المسح على الخفين هل هو أفضل، أو أن الأفضل خلع الخفين وغسل الرِّجلين؟ أيهما أفضل: هل الأفضل المسح على الخفين أو الجوربين، أو أن الأفضل خلعهما وغسل الرِّجلين…؟
القول الصحيح كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الأفضل في حق كلِّ أحدٍ بحسب حاله اللائق به، فلابسُ الخفِّ الأفضلُ في حقِّه المسحُ، ولا يَنزِعُ خُفَّيه لأجل غسلهما، وأما من كانت قدماه مكشوفتين فالأفضل الغسل، ولا يلبس خفيه لأجل أن يمسح عليهما، وهذا هو هَدْي النبي ؛ ولهذا قال ابن القيم: “ولم يكن النبي يتكلف ضد حاله التي عليها قدماه”.
فنقول: الأفضل أن تنظر إلى حال قدميك؛ إن كانت قدماك مكشوفتين فالأفضل الغسل، وإن كان عليهما جوارب فالأفضل المسح.
شروط المسح على الخفين
قال:
يجوز بشروط سبعة.
عبَّر المؤلف بالجواز دفعًا لقول من يقول بالمنع، وإلا فإن المسح على الخفين سنة في حقِّ لابِسِهما.
قال: (بشروط سبعة).
الشرط الأول: لُبْسهما بعد كمال الطهارة بالماء
لُبْسهما بعد كمال الطهارة بالماء.
ويدل لذلك حديث المُغِيرة ، قال: كنت مع النبي في سفرٍ، فأَهْوَيْتُ لأَنْزِعَ خُفَّيْه، فقال: دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين. متفق عليه[3].
فيُشترط إذن للمسح على الخفين لُبْسُهما على طهارة.
طيب، إذا شك: هل لَبِسَهما على طهارة أم لا؟ هل الأصل أنه لبسهما على طهارة، أو الأصل أنه لم يلبسهما على طهارة؟ أيُّ الأصلين نُقدِّم؟
إذا كان هناك عادة له؛ مِن عادته مثلًا أنه لا يلبس الجوارب إلا على طهارة؛ فيَستَصْحِبُ هذه العادة. أما إذا لم يكن له عادة واضحة؛ فالأصل أنه لم يلبسهما على طهارة.
ولهذا؛ لو أن رجلًا قال: أنا لا أدري هل توضأت أم لا؟ نقول: الأصل أنك لم تتوضأ، هكذا أيضًا بالنسبة للمسح على الخفين.
وقوله: (بعد كمال الطهارة بالماء)، أفادنا المؤلف بأنه إذا كان بغير الماء فإنه لا يمسح على الخفين، وهذا ظاهر لو كان بالتيمم، معلوم أن التيمم إنما يمسح فقط كفيه ووجهه.
حكم المسح على الجوربين إذا لُبِسا قبل إكمال الطهارة
لكن قوله (بعد كمال الطهارة) فيه إشارة إلى مسألة، وهي: ما إذا توضأ الإنسان، وغسل قدمه اليمنى، ثم لَبِس الجورب في الرِّجل اليمنى، ثم غسل قدمه اليسرى، ولبس جورب الرِّجل اليسرى، هل له أن يمسح على الجوربين بعد ذلك؟ أو نقول: ليس له أن يمسح باعتبار أنه قد لَبِس جورب الرِّجل اليمنى قبل اكتمال الطهارة؟
هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم:
- فالجمهور، وهو المذهب، يقول: ليس له أن يمسح على الجوارب حتى تكتمل الطهارة؛ وبناء على ذلك ليس له أن يلبس الجورب إلا بعد أن يغسل رِجله اليسرى، فإن لم يفعل فليس له المسح.
قالوا: لأن الأحاديث الواردة في المسح على الخفين إنما جاءت بلفظ “توضأ”: أن النبي توضَّأ ومسح على خفيه[4].
وجاء في حديث أبي بكرة: أن النبي جعل للرجل إذا توضأ فمسح خفيه أن يمسح يومًا وليلة[5]، ولا يَصدُق عليه أنه توضَّأ حتى يَغسِل رِجله اليسرى.
قالوا: ولذلك؛ لو أنه لم يغسل رِجله اليسرى، بل حتى لو لم يغسل قَدْرَ لُمْعةٍ مِن الرِّجل اليسرى لم تصح صلاته؛ ولذلك ليس له أن يلبس الجورب إذا أراد المسح عليها حتى تكتمل الطهارة بغَسْل رِجْله اليسرى، هذه وجهة الجمهور، ومنهم مذهب الحنابلة.
- القول الثاني في المسألة، قالوا: إن له أن يمسح على الجورب ولو كان قد أدخل جورب الرِّجل اليمنى قبل اكتمال الطهارة، وقالوا: لأننا لو قلنا باشتراط اكتمال الطهارة، وقلنا لهذا الذي قد أدخل الجورب في رِجله اليمنى قبل اكتمال الطهارة: صحِّح عملك، لكان المطلوب منه أن يخلع الخف ثم يلبسها مرة ثانية، ثم يلبس جورب الرِّجل اليسرى، قالوا: وهذا عبث، لو أردنا تصحيح هذا لقلنا له: اخلع الخف من الرِّجل اليمنى ثم البَسْها مرة ثانية، ثم البس خف الرِّجل اليسرى. قالوا: وهذا عبثٌ تُنزَّه الشريعة عنه.
وهذا القول الثاني هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
والمسألةُ الخلافُ فيها قوي كما ترون، يعني: وجهة الجمهور أيضًا لها وجه، قالوا: إن الطهارة لم تكتمل؛ ولهذا لا يصح له أن يصلي بهذه الطهارة وهو لم يغسل رِجله اليسرى.
وأيضًا وجهة القول الثاني ومنهم شيخ الإسلام أيضًا متجهة، قالوا: لو أردنا أن نصحح هذا لقلنا له: اخلع الجورب، ثم البسه مرة ثانية.
ولكن، لا شك أن الأحوط هو قول الجمهور، وألا يلبس الخُفَّ إلا بعد اكتمال الطهارة؛ لظاهر الأحاديث: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين[6]، توضأ فمسح على خفيه[7].
فظاهر الأحاديث يدل على أنه لا بد من اكتمال الطهارة؛ ولهذا فالأحوط هو ما ذهب إليه الجمهور.
الشرط الثاني: سَتْرهما لمحل الفرض
قال:
وسترهما لمحل الفرض ولو برَبْطهما.
أي: أنه يشترط في الخفاف وما كان في معناها أن تكون ساترة لمحل الفرض، ومحل الفرض هو الرِّجل إلى الكعب، وبناء على ذلك ليس له أن يمسح على ما لا يَسْتر محل الفرض، إما لقصره، أو لخفته، أو لصفائه، أو لسَعَتِه، أو لخروق فيه.
قالوا: لأن ما ظهر مِن الرِّجل ففَرْضه الغسل، والغسل والمسح لا يجتمعان في عضوٍ واحد، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو مذهب الشافعية.
القول الثاني: أنه لا يُشترط أن يكون الخُفُّ ساترًا لمحلِّ الفرض، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية، قالوا: لأن الأدلة قد وردت مطلقة، ثم إن حالَ كثيرٍ من الصحابة أنهم فقراء، كانوا يلبسون خفافهم وكانت لا تخلو من خُرُوقٍ، ولو كان يُشترط هذا الشرط لَبيَّن هذا النبيُّ .
والأقرب -والله أعلم- هو التفصيل: فإذا كانت الخروق يسيرة عرفًا فإنه لا بأس بالمسح عليها؛ استنادًا لحال كثير من فقراء الصحابة، فإن خفافهم لا تخلو من خروق، ولو كان المسح لا يصح عليها لبين ذلك ؛ لأن هذا مما تحتاج الأمة إلى بيانه.
ثم إن اليسر قد ورد في الشريعة بالعفو عنه، فيسير العورة إذا انكشف لا يُبطل الصلاة إذا كان في زمن يسير، حتى لو انكشفت العورة المغلظة في زمن يسير ثم سترها فإن صلاته تصح، أو حتى العورة غير المغلظة، وقد كان المنكشف شيئًا يسيرًا؛ كما تدل لذلك قصة عمرو بن سلمة أيضًا في الاستجمار.
ومر معنا أن الاستجمار لا يستأصل جميعَ النجاسة، وإنما تبقى أجزاء يسيرة جدًّا، هذه قد عفا عنها الشارع أيضًا، عند الصلاة بالنعال تبقى أجزاء يسيرة من النجاسة، وأيضًا يَسِيرُ الدَّمِ يُعفَى عنه.
فنجد أن قاعدة الشريعة هي العفو عن الشيء اليسير، حتى البول يرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن الشيء اليسير من البول الذي شقَّ التحرز منه يُعفَى عنه أيضًا، والجمهور يمنعون من هذا.
فنجد أن قاعدة الشريعة: أن اليسير جدًّا يُعفَى عنه؛ فلذلك إذا كانت الخروق الموجودة في الخِفَاف وفي الجوارب يسيرة عرفًا؛ فيُعفى عنها، وأما إذا كانت كبيرة عرفًا فالظاهر أنه لا يُعفى عنها.
يعني مثلًا يظهر ربع القدم أو قريب من الربع، هذه يعني كبيرة، هذه الأصل فَرْضُها الغسل، ولا يُمسح عليها، ثم إنه مع هذه الخروق الكبيرة تنتفي صفة التَّسْاخِين والجوارب التي كان الصحابة يمسحون عليها، كانت تُسمى بالتساخين كما في حديث ثَوْبان: أُمرنا أن نمسح على العصائب والتساخين[8].
ومعلوم أنه مع اتساع الخروق لا تفيد هذه الجوارب، وهذه الخفاف لتدفئة الرِّجل.
ولهذا؛ فالأقرب -والله أعلم- هو هذا التفصيل، البعض ربما يبالغ في مسألة الخروق، تجده يصلي -وربما يكون إمامًا- وتكون الخروق كبيرة، هذا القول بصحة طهارته محلُّ نظر، أما إذا كان خرقًا يسيرًا فالذي يظهر أن هذا مَعْفوٌّ عنه ويُتسامَح فيه.
الشرط الثالث: إمكان المشي بهما عرفًا
قال:
وإمكان المشي بهما عرفًا.
قالوا: لأنه إذا كان لا يمكن المشي بالخفين عُرفًا، فإنه لا تدعو الحاجة إليهما أصلًا؛ ولأنهما إذا كانا لا يمكن المَشْيُ بهما عرفًا فليست هذه على طريقة خِفَاف العرب التي قد جاءت السُّنة بالمسح عليها.
طيب، مَن يُمثِّل لنا بخِفَافٍ -أو في معنى الخِفَاف- لا يمكن المشي بها عرفًا؟ موجود الآن في الأسواق؟ طيب، نُقرِّب لكم المسألة: الكنادر مثلًا؟
مداخلة: …
الشيخ: الكنادر التي يلعب بها على الثلج مثلًا، أو يتزحلق عليها، أو كذا، هذه لا يُمشى بها عرفًا، وإنما هي لمجرد اللعب بها ونحو ذلك، فإذا لبسها الإنسان هل يمسح عليها؟ نقول: لا يمسح عليها، يُشترط في الخفاف أن تكون مما يمكن المشي بها عرفًا، بحيث يمكن للإنسان أن يستخدمها، مثل الكنادر المعروفة الآن مثلًا أو الجوارب أو الفسطاط، يمكن المشي بها عرفًا.
الشرط الرابع: أن يَثبُتا بنفسهما
قال:
وثبوتهما بنفسهما.
هذا الشرط الرابع؛ يعني: يُشترط في الخف أن يثبت بنفسه، وبناء على ذلك لو كان الخف واسعًا لا يثبت بنفسه لكن ربَطَه بحيث لا يسقط مع المشي، فلا يصح المسح عليه على المذهب.
والقول الثاني في المسألة: أنه يصح المسح عليه؛ لأنه لا دليل على اشتراط هذا الشرط، وهذا هو القول الراجح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ وذلك لأن النصوص الواردة في المسح على الخفين قد جاءت مطلقة، فما دام أنه يسمى خفًّا، ويحصل به التسخين للرجل، فتشمله النصوص الواردة في المسح على الخفين.
بعض أنواع الجوارب مثلًا تكون واسعة، فيأتي الإنسان ويربطها مثلًا في الساق، يعني: لا تَعتبِر بحال الناس الآن ويُسْرِ الله عليهم، يعني بعض البيئات الفقيرة ربما يحتاجون لمثل هذه المسائل، فإذا ربط الإنسان هذا الجورب على ساقه فعلى المذهب لا يصح المسح عليه؛ لأنه لا يثبت بنفسه، لكن على القول الراجح يصح ما دام أنه خف وتحصل به التدفئة والتسخين للرِّجل؛ فلا بأس بالمسح عليه.
كلُّ مَن اشترط شرطًا يُسأل عن الدليل، إن أتى بدليل وإلا فلا يُقبل هذا، ما دام أنه يُسمى خفًّا، ويحصل به التسخين للرِّجل؛ فإنه يمسح عليه، وما المانع أن يمسح عليه! ولا يَثبُت بنفسه ولكنه يُربَط، لا مانع من هذا.
مداخلة: …
الشرط الخامس: أن يكونا مباحين
قال:
وإباحتهما.
يعني: أن يكون الخف مباحًا، أي: طاهِرَ العين، فلا يصح المسح على خفٍّ نجس العين، كما لو كان الخف من جلد حمار، فلا يصح المسح عليه مثلًا، لكن إذا كان الخف طاهر العين لكنه متنجسٌ؛ يعني وقعت عليه النجاسة، هل يصح المسح عليه أو لا؟
يعني هذا إنسان لَبِسَ جوربًا، ومر بمكان فيه نجاسة ووطئ النجاسة وتوضَّأ؛ هل له أن يمسح على الجوارب هذه؟
نقول: نعم، له أن يمسح على الخف المُتنجس، لكن ليس له أن يصلي حتى يُزيل النجاسة، يغسله مثلًا، لكن له أن يستبيح به ما يُشترط له التطهر مِن الحَدَث من غير اشتراطِ إزالة الخَبَث؛ كمَسِّ المصحف مثلًا.
رجل -مثلًا- على جوربِه نجاسةٌ، توضَّأ لأجل أن يقرأ القرآن، هل له أن يمسح على الجورب؟ نعم، يمسح على الجورب؛ لأنه لا يُشترط لقراءة القرآن اجتنابُ النجاسة، وإنما يُشترط له التطهر من الحدث.
لكن، لو كان على جوربه نجاسة، وتوضأ ومسح على الجورب، هل له أن يصلي؟ نقول: وضوؤه صحيح، لكن لا بد أن يزيل النجاسة من الجورب؛ لأن اجتناب النجاسة شرط لصحة الصلاة.
مداخلة: …
الشرط السادس: طهارة عينهما
قال:
وطهارة عينهما.
تكلمنا عنها قبل هذا، قال:
وإباحتهما.
إباحتهما يعني: لا يصح المسح على الخف غير المباح، الخُفُّ المُحرَّمُ كالحرير مثلًا، شُرَّابٍ مِن حريرٍ مثلًا، أو عليه نجاسةٌ، الحرير بالنسبة للرجال، أو عليه نجاسةٌ، أو مسروقٍ، أو مغصوبٍ، يقولون: ليس له أن يمسح عليهما. وهذه قاعدة عند الحنابلة، ويقولون: لأن الرخصة لا تستباح بالمعصية.
والقول الثاني: إن له أن يمسح على الخُفِّ المُحرَّم؛ لأن الجهةَ مُنْفَكَّةٌ، فهو يأثم باقتناء هذا الخف المحرم لكونه مغصوبًا أو مسروقًا أو غير ذلك، لكن الصلاة صحيحة؛ لأن الصلاة مكتملةُ الأركان والشروط والواجبات. ومثل ذلك الصلاة في الدار المغصوبة.
وهذا هو القول الصحيح: أن الصلاة تصح، وهو رواية عن الإمام أحمد؛ ويُعللون لذلك بأن الجهة منفكة، تجد هذه المسألة أيضًا ينظر بها الأصوليون، فالجهة هنا منفكة، هذه الصلاة مكتملة الأركان والشروط والواجبات، لكن كان هذا الجورب مُحرَّمًا؛ لكونه مغصوبًا أو مسروقًا، فنقول: الصلاة تصح مع الإثم، وهكذا الطهارة تصح مع الإثم.
الشرط السابع: عدم وصفهما البشرة
قال:
وعدم وصفهما البشرة.
هذا في الحقيقة تفريعٌ على ما سبق؛ لأنه لما قال: (سترهما لمحل الفرض) هذا يكفي، لكن المؤلف أراد أن يوضح أكثر فأتى بهذا الشرط (عدم وصفهما البشرة)؛ لأن ما لا يصف البشرة هو أصلًا لا يستر الفرض؛ فلذلك يكفي الشرط الثاني عن هذا الشرط.
و(عدم وصفهما البشرة) الذي يصف البشرة لا يكون ساترًا للفرض أصلًا، لكن على كل حال، هو عدَّه المؤلف شرطًا سابعًا، ومن أهل العلم -وهو قول عند الشافعية- مَن لم يشترط هذا الشرط، فقالوا: إنه إذا كان الخف أو الجورب شَفَّافًا يصح المسح عليه ولو كان يصف البشرة، ويوجد الآن في السوق جوارب تصف البشرة يلبسها الناس للزينة فقط، أكثر من يَلْبَسها النساء، يلبسنها للزينة.. لا تقي من برد، هل هذه يصح المسح عليها؟
على رأي المؤلف لا يصح، وهو قول الجمهور، لكن بعض الشافعية قالوا: إنه يصح المسح عليها؛ لأنها تُسمَّى خِفافًا، وتسمى جوارب.
والأقرب -والله أعلم- أنه لا يصح المسح عليها؛ لأنها خلاف الخِفَاف المعروفة عند العرب، الخفاف المعروفة عند العرب هي التي يحصل بها التسخين والتدفئة للرِّجل؛ ولذلك تسمى بالتساخين؛ كما في حديث ثوبان: أُمِرنا أن نمسح على العصائب والتساخين[9]. وهذه لا تقي من برد، وإنما تُلبس للزينة، ولا تُلبس لحاجة، فالذي عليه أكثر أهل العلم أنه لا يصح المسح عليها، هذا هو الأقرب.
وأقول -أيها الأخوة-: مثل هذه المسائل مبناها على النظر، ليس فيها دليل واضح نستطيع أن نعتمد عليه في الترجيح، وإنما مبناها على النظر والعلل، فينبغي هنا ما دام أن هذه المسألة في أبواب العبادات.
والناس -ولله الحمد- أمورهم متيسرة في الوقت الحاضر أكثر من أي وقت مضى، فينبغي أن نأخذ بالأحوط، وقول الأكثر: لأنه أبرأ للذمة؛ ولأن الترجيح ليس ترجيحًا ظاهرًا، فهذا -يعني- مأخذ للفقيه في مثل هذه المسائل.
فينبغي عدم التوسع فيها كما ذكرت؛ لأنها مسائل ليس فيها أدلة واضحة؛ ولأن رأي الأكثر على عدم الصحة، وهذه في أمور عبادة؛ ولأن أمور الناس متيسرة ولله الحمد أكثر من أي وقت مضى.
فأرى أن نأخذ في هذه المسائل بقول الأكثر والأحوط والأبرأ للذمة في مثل هذه المسائل، خاصة أن القائلين بجواز المسح في هذه المسألة هم قلة من فقهاء الشافعية، وأكثر أهل العلم على أنه لا يصح المسح على هذا الجورب الذي يصف البشرة.
أما إذا كانت يَحصُل بها تدفئةٌ للرِّجل؛ فلا بأس بالمسح عليها حتى لو كانت ليست صفيقة، لكن الذي أقصده: التي تكون شفَّافة بحيث يُرَى مِن ورائها لونُ البشرة؛ مِن حُمرة أو صُفرة، أو سواد أو بياض، هذه هي التي لا تقي البرد، هذه التي لا يُمسح عليها.
لكن إذا كانت ليست صفيقة، لا يضر، ما دام أنها تحصل بها تدفئةٌ للرِّجل ويَصدُق عليها أنها من التَّسَاخين؛ فيُمسح عليها، لكن الذي أقصده الشَّفَّاف، الضابط في هذا: الذي يُرَى مِن ورائه لونُ البشرة، هذا هو الذي عند أكثر أهل العلم أنه لا يصح المسح عليه.
ثم يا إخوان أيضًا ترى الآن، بَحْثُنا الآن في مثل هذه المسائل إنما هو في الجوارب، الجوارب مَقِيسة على الخِفَاف، وهذا أيضًا مأخذٌ آخر بعدم التوسع في هذه المسائل، يعني إنما قلنا بجواز المسح إنما هو من باب القياس، وإلا فالأحاديث وردت في المسح على الخفين. هذا أيضًا مأخذ آخر بأنه لا نتوسع كثيرًا في هذه المسائل.
مداخلة: …
مدة المسح للمقيم والمسافر
ثم انتقل المؤلفُ لبيان مدة المسح للمقيم والمسافر، فقال:
فيمسح المقيم.
والمقيم خلاف المسافر، قال:
والعاصي بسفره، مِن الحَدث بعد اللُّبْس يومًا وليلة، والمسافر ثلاثة أيام بلياليهن.
مدة المسح للمسافر العاصي
هذه الجملة فيها عدة أحكام:
- أولًا: المؤلف ألحق العاصي بسفره بالمقيم، ألحق المسافر سفرَ معصيةٍ بالمقيم، فقالوا: إن المسافر سفر معصية ليس له أن يمسح إلا يومًا وليلة مع أنه مسافر، وقالوا: لأن ما زاد على اليوم والليلة رُخصة، والرُّخَص لا تُستباح بالمعاصي؛ ولذلك عند الحنابلة أيضًا: المسافرُ سفرَ معصيةٍ ليس له أن يَقصُر، وليس له أن يترخَّص بأيِّ رخصةٍ مِن رُخَص السفر؛ لهذا التعليل، قالوا: لأن الرخص لا تُستباح بالمعاصي.
- والقول الثاني في المسألة: أن المسافِرَ سفرَ معصيةٍ يَمسح مَسْحَ مسافرٍ ثلاثةَ أيام بلياليهن، وله أن يترخَّص بجميع رُخَص السفر. وهذا هو القول الراجح، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه يَصدُق عليه أنه مسافرٌ تشمله النصوص.
والجهة هنا مُنفكَّة، هو آثِمٌ بسفره، لكن ما علاقة هذا بأنه لا يَترخَّص برُخَص السفر؟! أنه لا يمسح ما زاد على يوم وليلة؟! فتشمله النصوص الواردة، سواء في الترخص برخص السفر، أو في المسح على الخفين ثلاثةَ أيام بلياليهن، فيَصدُق عليه أنه مسافر.
ولهذا؛ الصواب في أن المسافِرَ سفرَ معصيةٍ يمسح مَسْحَ مسافرٍ، وليس مسح مقيمٍ، المقيم يمسح يومًا وليلة، والمسافر ثلاثة أيام بلياليهن.
ورد ذلك في حديث علي في “صحيح مسلم” قال: جعل رسول الله ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم[10]؛ ومعنى ذلك أن مدة المسح على الخفين محددة بالساعات؛ لماذا؟ لأنه حدد بيوم وليلة؛ يعني كم ساعةً؟ أربعًا وعشرين ساعة، والمسافر ثلاثة أيام بلياليهن كم ساعة؟ اثنتين وسبعين ساعة.
فالتحديد هنا مقصود؛ ولذلك إذا ابتدأتَ مدة المسح فانظر إلى ساعتك؛ فإذا أتممت مدة المسح ولو بنصف دقيقة انتهت المدة، وإذا بقي لك مسحتَ، ولو قَْبل المدة بنصف دقيقة؛ لك أن تمسح.
فالشارع جعل ذلك مُحدَّدًا بالوقت؛ يعني بأربع وعشرين ساعة للمقيم، وثنتين وسبعين ساعة للمسافر، لكن كيف تُحسب هذه المدة؟
المؤلف يقول: (من الحدث بعد اللُّبْس)؛ يعني: إذا لَبِس الخفين أو الجوربين، ثم أحدث، يبدأ يَحسِب أربعًا وعشرين ساعة إن كان مقيمًا، وثنتين وسبعين ساعة إن كان مسافرًا، هذا هو المذهب عند الحنابلة.
وعلَّلوا لذلك، قالوا: لأن الحدثَ سببُ وجوبِ الوضوء فعُلِّق الحكم به؛ ولأنه قد جاء في حديث صفوان: من الحدث إلى الحدث.
والقول الثاني في المسألة: أن مدة المسح على الخفين تبتدئ من أول مسحٍ بعد الحدث، وهذا القول هو رواية عن الإمام أحمد، اختارها جمع من المحققين من أهل العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ عبدالرحمن السعدي، ومن مشايخنا سماحة شيخنا عبدالعزيز ابن باز، والشيخ محمد ابن عثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع.
وهذا هو القول الصحيح الذي عليه عامة المحققين من أهل العلم: أن المسح على الخفين إنما يبتدئ مِن أولِ مسحٍ بعد الحدث؛ وذلك لأن الأحاديث الواردة في المسح على الخفين إنما جاءت بلفظ المسح: “يمسح المسافر”، “يمسح المقيم” فعَلَّقت الحكم بالمسح، ولا يمكن أن يَصدُق عليه أنه ماسح إلا بفعل المسح مِن أول مرة.
فعندما قال: “يمسح المقيم”، “يمسح المسافر”، كلمة “يمسح” متى تبتدئ؟ أولَ مرةٍ يمسح فيها، وأولُ مرة يمسح فيها لا بد أن تكون بعد الحدث، أما قبل الحدث فإن هذه لا تُعتبر، وقد صرح جمع من أهل العلم بأن المدة التي تكون قبل الحدث لا تُحتسب، وإنما تُحتسب المدة مِن أول مسحٍ بعد الحدث. وبهذا يتبين أن هذا هو القول الراجح.
أما أصحاب القول الأول الذين قالوا: إنَّ الحدث سببٌ للوجوب فعلَّق الحكم به؟ نقول: ولكن الأحاديث الواردة في المسح على الخفين إنما علَّقت الحكمَ بالمسح، ولم تُعلِّقه بالحدث.
وأما ما يُروى مِن حديث المسح من الحدث إلى الحدث فهذا ضعيف لا يصح، ولا يثبت عن النبي .
وبهذا يتبين أن القول الراجح هو أن المدة تبتدئ من أول مسحٍ بعد الحدث؛ وما شاع عند بعض العامة من أن مدة المسح خمس صلوات للمقيم وخمس عشرة صلاة للمسافر هذا غير صحيح؛ يمكن أن تمسح أكثر من خمس صلوات، يمكن أن تصلي أكثر من خمس صلوات.
فمثلًا؛ لو أنك لَبِسْتَ الجوارب قبل صلاة الظهر، وبقيت على طهارة، وصلَّيتَ بوضوئك هذا الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم أحدثت بعد صلاة العشاء ولم تمسح على الجوارب إلا قبيل صلاة الفجر، فإن المدة تبدأ من هذا الوقت، من قبيل صلاة الفجر إلى أيضًا قبيل صلاة الفجر من اليوم الثاني، معنى ذلك أنك صليت بها: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، والظهر والعصر والمغرب والعشاء، تسع صلوات.
وربما أيضًا لو أردتَ أن تُمثِّل بأمثلة أخرى يمكن أن تصل إلى أكثر من هذا.
فإذن، ما شاع عند بعض الناس أنه لا يُصلي إلا خمس صلوات في الخفين هذا غير صحيح، وإنما نقول: المدة هي أربع وعشرون ساعة من أول مسحٍ بعد الحدث بالنسبة للمقيم، وثنتان وسبعون ساعةً من أول مسحٍ بعد الحدث بالنسبة للمسافر.
مداخلة: …
حكم من مسح ثم سافر أو العكس
قال المؤلف رحمه الله:
فلو مسح في السفر ثم أقام، أو في الحضر ثم سافر، أو شك في ابتداء المسح؛ لم يَزِد على مَسْح المقيم.
هذه المسألة، ونظيرها مسألة: لو دخل عليه الوقت وهو مقيمٌ ثم سافر، أو دخل عليه الوقت وهو مسافر ثم أقام.
هذه كلها بابها واحد: إنسان أُذِّن عليه بالظهر في الرياض، ثم ذهب إلى مكة وأراد أن يصلي على الطريق، هل يصلي الصلاة قصرًا أو يُتِمُّها؟
وأيضًا كذلك هنا في مسألتنا: ابتدأ المسح في الحضر ثم سافر، هل يُكمل يومًا وليلة أو ثلاثة أيامٍ بلياليهن؟ أو العكس: دخل عليه الوقت وهو في السفر ثم وصل بلد الإقامة، هل يصلي صلاة مقيم أو صلاة مسافر؟
هذه المسائل، المذهب عن الحنابلة، عندهم قاعدة في هذا نستطيع أن نسميها ضابطًا؛ لأن القاعدة ما تشمل أبوابًا عديدة، والضابط ما كان في بابٍ واحد. فالحنابلة عندهم ضابط، يقولون: إذا اجتمع السفر والحضر يُغلَّب جانب الحضر.
في كلِّ هذه المسائل، هذا ضابط عند الحنابلة، سواء في قَصْر الصلاة، سواء في المسح، إذا اجتمع السفر والحضر يُغلَّب جانب الحضر.
ولهذا قال المؤلف: (لو مسح في السفر ثم أقام)؛ يعني: مسَح مَسْحَ مقيمٍ (أو في الحضر ثم سافر)؛ يعني مسح مسح مقيم، وهكذا إذا دخل عليه الوقت في السفر ثم أقام، أو دخل عليه الوقت في الإقامة ثم سافر.
القول الثاني في المسألة: أن العبرة بحال الإنسان بغض النظر عن ابتداء المدة، فإذا كان في أول المدة مقيمًا ثم سافر؛ يَمسح مَسْحَ مسافرٍ ويقصر الصلاة، وإذا كان في أول المدة مسافرًا ثم أقام فيمسح مَسْح مقيم ويُتم الصلاة. فالعبرة بحالِه وقتَ أداء الفعل، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وهو القول الراجح.
نوضح هذا بأمثلة: رجل دخل عليه الوقت في الحضر ثم سافر، وأراد أن يصلي، فعلى المذهب يُتم أو يقصر؟ يتم، والقول الثاني الذي رجَّحناه: يقصر.
طيب، بالنسبة للمسح على الخفين، على المذهب: يُتم مَسْح ماذا؟ مُقِيمٍ، وعلى القول الثاني: يُتم مسح مسافرٍ.
فلو كان العكس؛ دخل عليه الوقت وهو في السفر ثم أقام، دخل عليه الوقت، أُذِّن وهو في السفر ثم وصل لبلد الإقامة، فعلى المذهب يَقصُر أو يُتم؟ يُتم، وعلى القول الثاني يُتم أيضًا، وهذه باتفاق العلماء بالإجماع.
هذه المسألة تخفى على بعض الناس، تجده يدخل عليه الوقت وهو مسافر ثم يصل لبلد الإقامة، ثم يصليها قصرًا.. هذه صلاة لا تصح بالاتفاق، والمسألة الأولى محل خلاف.
طيب، بالنسبة للمسح على الخفين: ابتدأ المسحَ وهو مسافر ثم أقام، على المذهب: يتم مسح مقيم، وعلى القول الثاني: مسح مقيم كذلك.
فإذن؛ لا عِبرة بحاله التي هو عليها، وليس عند ابتداء المدة، هذا هو القول الصحيح في المسألة، وهو أيضًا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
الطالب: …
الشيخ: إي نعم، هذه يعني محل خلاف، إذا نسي صلاةً في الحضر ثم ذكرها في السفر، هل يقصر أو يُتم؟ يعني لها مأخذان، لها مأخذ: أن القضاء يَحْكي الأداء؛ لقول الجمهور: يصليها، يُتمها.. وبعضهم ردَّ هذه القاعدة وقال: إن العبرة بحاله وقت الأداء.
ما الواجب مسحه من الخف؟
طيب، حتى نكسب الوقت نؤجل الأسئلة قليلًا، قال:
ويجب مَسْحُ أكثرِ أعلى الخف.
أفاد المؤلف بأن الذي يُمسَح هو أعلى الخف، فلا يُمسح أسفله ولا جوانبه، وإنما يُمسح أعلى الخف، وأفاد المؤلف أيضًا بأن الواجب مسحُ أكثره، فلا يجب استيعابه.
ويدل لذلك قول علي : لو كان الدين بالرأي لكان مَسْحُ أسفلِ الخف أولى من مسح أعلاه. هذا الحديث رواه أبو داود وأحمد[11]، وحسنه الحافظ في “بلوغ المرام”.
طيب، هنا أولًا قول علي : “لو كان الدين بالرأي” فيه إشكال، من المقرر أن النقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح، والرأي السديد لا يمكن أن يخالف الشريعة، إذن كيف نخرج قول علي ؟ يعني: يَرِدُ عليه إشكالٌ.
الطالب: …
الشيخ: نعم، أحسنت، يعني بالرأي المجرد، الذي يظهر للإنسان في بادئ الأمر من غير تأمل، لكن هو بالرأي بعد التأمل وبعد النظر وتقليب الأمر، لا شك أن أعلى الخف أولى بالمسح من أسفله، فإن أسفل الخف يلاقي قذرًا ويمس الأرض، ومسه ربما يزيده بللًا.. يعني مسحه ربما يزيده بللًا، ويكون مظنة لجذب الوَسَخ والقَذَر.
فالرأي السديد إذن يقتضي أن مَسْح أعلى الخف أولى مِن مسح أسفله، لكن لعل مراد عليٍّ بالرأي؛ يعني الذي يكون في بادئ الأمر، المجرد عن النظر والتأمل.
طيب؛ الذي يُمسح إذن هو أعلى الخف أو ظاهِرُ القَدَم.
وقال:
لو مسح أسفلَ خُفِّه أو عَقِبِه لا يُجزئ، ولا يُسن ذلك؛ لأنه خلاف السنة.
قال ابن عَقِيل الحنبلي: السُّنة في المسح أن يمسح خفيه بيديه، اليمنى باليمنى، واليسرى باليسرى.
ومعنى ذلك: أنه يَبُلُّ يديه بالماء، ثم يضع يده اليمنى على قدمه اليمنى، ثم يده اليسرى على قدمه اليسرى.
والمطلوب أن يمسح، أو الأفضل أن يبتدئ في المسح مِن أصابع رِجليه إلى مبتدأ ساقه، مِن أصابع رِجْليه إلى مبتدأ الساق.
وقد وردت أيضًا بعض الآثار التي تدل على أنه يمسح بأصابعه مُفرَّقة؛ حتى يَعُم المسحُ ظاهرَ القدم؛ يعني هكذا؛ لأنه ربما لا يعم ظاهر القدم، لكن بعدما يَبُلُّ يدَه يمسحها هكذا مُفرَّقة، من أطراف أصابع الرِّجلين إلى مبتدأ الساق.
ويكفي المسحُ مرةً واحدة، ولا يُشرع التكرار، فتجد بعض الناس تمسح مرتين أو ثلاثة أو أربعًا، هذا خلاف السُّنة، المسنون مرةً واحدةً، لكن كما ذكرنا أن البداية مِن أصابع القدم ويمر بها إلى مبتدأ الساق. هذا هو الأفضل في المسح.
لكن، لو أنه عكس، مَسَح مِن ساقه إلى أصابع قدمه، بدأ مِن مَسْح الساق إلى أصابع القدم، بعض الناس ربما يمسح هكذا، هل يُجزئ هذا المسح أو لا؟
يجزئ، هذا يجزئ، نصَّ عليه الفقهاء؛ قالوا: يُجزئ، والمسنون الأول، نصَّ عليه المُوفَّقُ في “المغني”، وغيرُه.
قال الإمام أحمد: كيفما فعلتَ فهو جائزٌ، باليد الواحدة أو باليدين.
يعني أيضًا بعض الناس عندما يمسح، يمسح بيدين اثنتين. يُجزئ، أو لا؟ يجزئ، لكن الأفضل أن يمسح بيدٍ واحدة، الرِّجل اليمنى باليد اليمنى، والرِّجل اليسرى باليد اليسرى.
بعض العلماء قال: إنه يمسح في وقتٍ واحد، يمسح اليدين في وقت واحد؛ لأن هذا هو ظاهر الحديث.
لكن هذا محلُّ نظرٍ، بل ظاهر الأدلة أنه يمسح الرِّجل اليمنى باليد اليمنى، ثم الرِّجل اليسرى باليد اليسرى؛ لأنه في الغَسل كذلك، في غَسْل الرِّجلين كذلك، فكذلك أيضًا في المسح.
قال:
يعني انتقل المؤلف لبيان مُبطِلات المَسْح على الخُفَّين:
إذا (حصل ما يوجب الغُسل) فإنه ينتقض المسح على الخُفَّين؛ لأنه لا بد أن يغتسل، معلوم أنه في الغُسل -الغُسل الواجب- لا بد من غَسل القدمين، ولا يجزئ المَسْح على الخُفَّين، وهذا باتفاق العلماء.
إذن؛ عندما يَحصُل ما يوجب الغُسل، فلا بد من غَسل القدمين، ولا يجزئ المسح على الخفين، ولكن على الخفين بطل المسح عليهما. هذا هو الموطن الأول، وهو محل اتفاق.
الثاني: إذا (ظهر بعض محل الفرض)، كما لو -مثلًا- تمزَّق جوربُه، فظهرت -يعني- خُرُوقٌ كبيرة مثلًا، فهنا يقولون: يَبطُل الوضوء.
وهكذا أيضًا المسألة التي سُئِل عنها قبل قليلٍ: إذا خلع الجورب ثم لَبِسَه، خلع الجورب ثم لبسه، أو أنه خلعه قبل انقضاء الطهارة، وأراد أن يصلي بعد خلع الجورب، فبعض أهل العلم أجاز ذلك؛ قال: إنه لم يَرِدْ دليلٌ يدل على المنع.
قالوا: والطهارة قد ثبتت بدليلٍ، فلا تنتقض إلا بدليل، ولا دليل يدل على المنع. وهذا -يعني- معروف أنه رأي الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله.
القول الثالث في المسألة: وهو قول الجمهور، يقولون: إن طهارته تبطل في هذه الحالة؛ لأن الأصلَ في هذه الرِّجل أنها إما مغسولة وإما ممسوحة، فعندما خلع الآن الجورب، هي الآن ليست مغسولة ولا ممسوحة، لقد كانت ممسوحة، لكن الآن يعني زال ما كان مُوجِبًا للمسح وهو الخف.
والقاعدة: أن ما ظَهَر فَرْضُه الغسل. فلما خلع الجورب يُفترض أنه يَغسِل رِجْله، لكن الغسل هنا لا يصح، لماذا؟ لافتقاد شرط الموالاة، فتنتقض الطهارة. هذا هو الأقرب والله أعلم.
ولذلك؛ إذا خلع الإنسانُ خُفَّه أو جوربَه؛ بطل وانتقضت الطهارة، حتى لو خلع مثلًا ملابسه انتقضت الطهارة. هذا هو القول الصحيح في المسألة، وهو الذي عليه أكثر أهل العلم.
وكما قلت لكم -يعني- قبل قليل؛ يعني هذه المسائل عندما نُرجِّح فيها، الترجيح يعني ليس مَبْنيًّا على دليلٍ ظاهر، وإنما على تعليلٍ ونظر.
ولهذا؛ يعني ينبغي أن يكونَ المأخذُ هو -يعني- الأخذ بالأحوط وبالذي عليه الأكثر، خاصة أن أمور الناس الآن يعني متيسرة ولله الحمد.
فكيف -يعني- نأخذ برأيٍ مبناه على تعليلٍ ونظر، وهو قولُ قلةٍ من العلماء، وأيضًا يترتب عليه أمورٌ كبيرة، يترتب عليه عدم صحة الصلاة؛ يُقدَّر أن هذه صلاةُ جمعةٍ مثلًا، يترتب عليه عدم صحتها على رأيِ أكثرِ العلماء.
ولذلك؛ فالأقرب والله أعلم أن نقول: إن طهارتَكَ قد انتقضت، وعليك أن تُعيد الوضوء. نعم؟
مداخلة: …
الشيخ: إي نعم، هم يستدلون بحديث عليٍّ: أن النبي دعا للمقيم يومًا وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن.
هذا انتهت مدته؛ ولذا لم يكن لهذا التوقيت معنًى، إذن ما الفائدة من التوقيت؟
لكن؛ يعني من لوازم انتهاء مدة المسح أن تنتقض الطهارة، هذه الرِّجل الآن يعني صِفْها لي: هل هي مغسولة؟ لا، طيب، ممسوحة؟ نعم. طيب، زال الآن ما يوجب المسح.
فعلى كل حال، هذه المسألة الآن محل نظر، كما ذكرت؛ يعني الترجيح أيضًا فيها ليس ترجيحًا بينًا واضحًا، لكن الأقرب، نقول: لعل الأقرب هو قول الجمهور.
ولهذا؛ القول الثاني له وجهٌ أيضًا، ولهذا قلت لكم: إن هذه المسألة مبناها على التعليل والنظر، والترجيحُ فيها ليس يعني ترجيحًا بينًا.
ولهذا؛ يمكن يعني أن يقالَ أيضًا: إن الرأي الثاني له وجهٌ، لكن كما قلت لكم: إن هذه المسائلَ: مأخذ الفقير فيها هو ما ذكرتُ.
طيب، إذن، إذا خَلَع الخُفَّ فقد انتقضت الطهارة، ومثلها أيضًا مسألة إذا انتهت المدة أيضًا تنتقض الطهارة.
يعني: مثلًا كانت بداية المسح على الخف الساعة الثانية عشرة، ثم إنك توضأت الساعة الثانية عشر إلا ربعًا من اليوم التالي، وبقيتَ على الطهارة، أقيمت الصلاة مثلًا الثانية عشرة وخمس دقائق، فعلى قول الجمهور صلاتك لا تصح؛ لأن مدة المسح على الخفين انتهت، انقضت، فتَبطُل الطهارة.
وعلى القول الثاني، يقولون: تصح؛ قالوا: لأن الطهارة هذه ثبتت بدليلٍ، فلا تنتقض إلا بدليل، ولا دليل يدل على أن انتهاء مدة الطهارة ينقض الوضوء. هذه وجهة أصحاب القول الثاني.
وكما ذكرتُ لكم: الأقرب -والله أعلم- والأحوط هو قول الجمهور؛ للاعتبارات التي ذكرتُ؛ لأنه كما ذكرت:
- أولًا: مبناها على تعليلٍ ونظر.
- ولأن الأمر المترتب عليها كبير، وهو بطلان الصلاة وعدم صحتها.
- ولأنه أيضًا الاحتياط فيها يسيرٌ على الناس، وأمورُ الناسِ متيسرة.
فأرى أن الأخذ بقول الأكثر، أنه أحوط وأبرأ للذمة؛ لأن المسألة كما ذكرتُ أيضًا ترجيحٌ، حتى ترجيح قول الجمهور ليس ترجيحًا بينًا ظاهرًا.
والقول الثاني له وجهة قوية، والخلاف في هذه المسائل خلاف قوي، لكن الاعتبارات التي ذكرتُ لعلها تجعل قول الجمهور هو الأقرب في هذه المسائل، والله تعالى أعلم.
أحكام المسح على الجبيرة
ثم قال المؤلف رحمه الله:
فصل: وصاحب الجبيرة إن وضعها على طهارة.
الجبيرة: هي ما يُوضع على الجُرْح والكَسْر مِن أعوادٍ وجِبْسٍ ونحوِها؛ لأجل التئام الجُرْح وجَبْر الكسر.
إذن؛ الجبيرة هي ما يوضع على الجرح والكسر من أعواد، أو في وقتنا الحاضر: جِبْس ونحو ذلك؛ لأجل أن يلتئم الجرح وينجبر الكسر.
فمِن ذلك: التجبير الآن الموجود الذي تعمله المستشفيات، ومن ذلك أيضًا اللصقات التي تُوضَع على الجروح، وكذلك التي يضعها الإنسان في مواضع مِن بدنه لأسباب.
هذه كلها تدخل في معنى الجبيرة؛ سُمِّيَتْ جبيرةً تفاؤلًا؛ وذلك لأنَّ العربَ كانت تتفاءل بالأسماء، فيُسَمُّون اللَّدِيغ سليمًا من باب التفاؤل، وكذلك يسمون المكسور جبيرًا من باب التفاؤل بجَبْره.
شروط المسح على الجبيرة
يرى المؤلف أنه يصح المسح على الجبيرة، لكن اشترط المؤلف لذلك شرطين:
الشرط الأول، قال:
إنْ وضعها على طهارةٍ.
يعني: لا بد أن توضع الجبيرة على طهارة، فإن وَضَع الجبيرة على غير طهارة، فليس له المسح عليها، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، ولكن هذا القول محلُّ نظر.
والقول الثاني في المسألة: أنه لا يُشترط الطهارة للمسح على الجبيرة، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ وذلك لأن القولَ باشتراط الطهارة فيه مشقَّةٌ عظيمة، فإنَّ الكسر أو الجُرْح يقع فجأةً، فلو اشترطت الطهارة لأفضى ذلك إلى الحَرَجِ والمشقة.
هل نقول لهذا المكسور: انتظِروا، لا تَجْبُروه حتى يتوضَّأ؟! أو لهذا الذي يَنزِف جُرْحُه دمًا: انتظر، لا تضع اللَّصْقة حتى تتوضَّأ؟!
هذا يُفضي إلى الحرج والمشقة، ثم ليس هناك دليل ظاهر يدل على اشتراط الطهارة، اللهم إلا مسألة القياس على الخف، والقياس على الخف هنا قياس مع الفارق؛ وذلك لأن الجبيرة لا تختص بموضع معين، بخلاف الخف؛ ولأن الجبيرة غير مؤقتة بخلاف الخف، والجبيرة جائزة في الحَدَثَيْن بخلاف الخف.
فقياس الجبيرة على الخف قياسٌ مع الفارق؛ ولذلك الصواب أنه لا يُشترط للمسح على الجبيرة وَضْعُها على طهارة.
الشرط الثاني الذي ذكره المؤلف، قال:
ولم تتجاوز مَحَلَّ الحاجةِ.
وهذا صحيح، فيُشترط في الجبيرة ألا تتجاوز محل الحاجة، فإن تجاوزت قدر الحاجة وجب نَزْعُ القدر الزائد.
مثال ذلك: مثلًا جُرْحٌ في إِصْبَعٍ، ولَفَّ الإنسانُ على يَدِه لِفَافةً مع أنَّ الجُرْحَ فقط في أحد الأصابع، فنقول: يلزمك أن تُزيل هذه اللِّفَافة كلَّها، اجعَلِ اللِّفافةَ فقط بقدر الإصبع. وهذا شرط صحيح.
قال:
غَسَل الصحيحَ، ومسح عليهما بالماء.
يعني: يغسل الشيء الصحيح الذي لم يُجبَر ولم يُوضَع عليه لَصْقةٌ، أما الجبيرة فإنه يمسح عليها بالماء.
قال:
وإلا وجب -مع الغَسْل- أن يتيمَّم لها.
فأفادنا المؤلف هنا بأنه يغسل الصحيح، ويمسح عليها بالماء إذا أمكن، وإذا أمكن غَسْلها وجب مع الغَسل أن يتيمم لها.
قال:
ولا مَسْحَ ما لم توضع على طهارة وتتجاوز المَحَلَّ، فيغسل ويمسح ويتيمم.
إذا أمكن قالوا: إنه يغسل محلَّ الكسر، أو محل الجُرح يغسله، أو يغسل القَدْرَ الصحيح ويمسح موضع الجبيرة ويتيمم، يعني: إذا أمكن الغَسل يغسل، ما أمكن يمسح ويتيمم. وهذا هو المذهب عند الحنابلة؛ يقولون: يمسح ويتيمم، والقول بالجمع بين المسح والتيمم هو المذهب، قالوا: خروجًا من الخلاف في المسألة.
والقول الثاني في المسألة: أنه لا يجمع بين المسح والتيمم؛ لأن إيجاب طهارتين لعضوٍ واحد مخالف للأصول والقواعد، ولا يُكلِّف اللهُ العبدَ بعبادتين سببُهما واحدٌ؛ ولهذا قالوا: إذا أمكن الغَسل فإنه يغسل المحلَّ، فإن لم يمكن فيمسح عليه، فإن لم يمكن فيتيمم. فتكون على هذه الدرجات.
إنسان به جُرْح، نقول: هل يمكنك أن تغسله؟ إذن؛ يلزمك غَسْله ولا إشكال، فإن قال: إنه يتضرر بالغَسل، أو لا يمكنه ذلك، أو يتأخر البُرْء، نقول: إذن، امسح عليه، إذا لم يمكن المسح عليه يتيمم، لكن لا يجمع بين طهارتين.
فيكون الصواب إذن هو خلاف ما ذهب إليه المؤلف، والغالب أنه يمكن المسح على الجبيرة، لكن في بعض الأحوال كحالات الحرق قد يتعذر المسح، أو يصعب، أو يَشُق، فهنا ينتقل للتيمم، لكن غالب المرضى الذين بهم جروحٌ أو كسورٌ يمكنهم المسح.
طيب، كيف يكون المسح؟ قال الفقهاء: إن المسح للجبيرة لا بد أن يَعُم جميعَها، انتبِه لهذه المسألة، فلا يكتفي بمسح أعلاها.
وكثيرٌ من العامة يقيس المسحَ على الجبيرة على المسحِ على الخُفِّ، تجده يمسح أعلاها فقط، وهذا لا يجزئ، لا بد من أن يمسح جميعها.
وهكذا أيضًا لو كان عليك لصقة؛ لا بد أن تمسح اللصقة كلها، ما تكتفي بمسح الأعلى، فإنِ اكتفيت بمَسْحِ الأعلى لم يجزئ ذلك. انتبِه لهذه المسألة التي ربما يجهلها كثيرٌ من العامة.
وهنا، أبو محمد بن حزم صاحب “المحلى”، قال: إن الجبيرة لا يمسح عليها. قال: إنه لم يَرِد هناك دليلٌ، والأحاديث المروية في ذلك ضعيفة، وحديث صاحب الشَّجَّة ضعيفٌ. حديث صاحب الشجة عند أبي داود:
أن قومًا خرجوا في سفرٍ، فأصيب أحدهم بشَجَّةٍ، فاحتلم، وسألهم: هل يتيمم؟ قالوا: نراك أنك تقدر على الماء ولا تتيمَّم. فاغتسل فمات، فقال عليه الصلاة والسلام: قتلوه قتلهم الله، هلَّا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شِفَاءُ العِيِّ السؤالُ، إنما كان يَكِفيه أن يضع على جُرْحه عِصَابةً ويمسح عليها ويتيمم[12].
هذا الحديث ضعيف، لا يصح من جهة الإسناد، فبعض العلماء كابن حزم، وأيضًا من المعاصرين الألباني، قالوا: إن الجبيرة لا يُمسح عليها. وابن حزم عنده قاعدة، يقول: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64].
لو كانت الجبيرة تُمسح عليها لورد ذلك، ولكن الذي عليه أكثرُ العلماء أنَّ الجبيرة يُمسح عليها، لو لم يكن في ذلك إلا القياس على المسح على الخفين.
ولا شكَّ أن الصواب هو ما عليه أكثر علماء الأمة: أن الجبيرة يُمسح عليها؛ لأن بقاءَ عضوٍ من أعضاء الوضوء بدون غسل وبدون مسح وبدون تيمُّمٍ مخالفٌ للأصول والقواعد الشرعية، مخالف للأصول.
فالقواعد الشرعية تقتضي غَسْل الأعضاء، فإن لم يمكن فالمسح، فإن لم يمكن فالتيمم، أما أن يبقى عضوٌ بدون غَسلٍ وبدون مسحٍ وبدون تيمُّمٍ فهذا لا شك أنه مخالِفٌ للأصول والقواعد الشرعية.
ولهذا؛ فالصواب ما عليه أكثرُ العلماء، لكن أحببتُ التنبيهَ على هذه المسألة؛ لأن بعضَ الناس خاصة بعض طلاب الشيخ الألباني، ربما يذكرون هذه المسألة، وهو قولٌ كما ذكرتُ مسبوقٌ به الألباني، قال به ابن حزم.
لكن، الأقرب -والله أعلم- هو ما ذهب إليه أكثر العلماء؛ من أنه يُشرَع المسح على الجبيرة.
الفرق بين المسح على الخفين والمسح على الجبيرة
طيب، المسح على الجبيرة، هل يتوقَّت بوقتٍ معين؟ نقول: لا يؤقت بوقت معين؛ ولذلك يمكن أن نستنبط فروقًا بين المسح على الخفين والمسح على الجبيرة:
مداخلة: …
الشيخ: الفرق الأول: أن المسح على الجبيرة يكون للحدثين الأصغر والأكبر، بينما المسح على الخفين يكون في الحدث الأصغر، هذا الفرق الأول.
الفرق الثاني: أنَّ المسح على الخفين مؤقت في قول الجمهور، بينما المسح على الجبيرة غير مؤقت.
الفرق الثالث: أن المسح على الجبيرة يكون على جميعها، بينما المسح على الخفين يكون على ظاهر الخف.
الفرق الرابع: أن الخف يكون في موضع القدمين، بينما الجبيرة تكون في أي موضع من البدن.
الفرق الخامس: على القول الراجح المسح على الجبيرة لا يُشترط له الطهارة، بينما المسح على الخفين يشترط لهما الطهارة.
وإذا تأملت تجد فروقًا أكثر.
طيب، بقيت مسائل لم يذكرها المؤلف، لا بد أن نستدركها من باب إتمام الفائدة:
المَسْح على العِمَامة
المسح على العمامة، لم يذكره المؤلف، تكلَّم عليها الفقهاء، وتكلم عليها صاحب “الزاد” وغيره.
المَسْح على العمامة قد وردت به السنة، كما جاء في حديث المُغيرة بن شعبة : أن النبي توضَّأ فمسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين. رواه مسلم[13].
وفي حديث بلال: أن رسول الله مسح على الخفين، وعلى الخمار. رواه مسلم[14]، والمراد بالخِمار كما قال النووي: العمامة.
فإذن، المسح على العمامة وردت به السُّنة، لكن اشترط كثيرٌ من الفقهاء أن تكون العمامة على طريقة عمائم العرب؛ وذلك بأن تكون مُحنَّكةً، وذات ذُؤَابةٍ.
ومعنى المحنكة: التي يدار منها تحت الرقبة حَنَكٌ. وذات ذؤابة: أن يكون أحدُ أطرافها مُتَدَلِّيًا من الخلف، يعني تُلَفُّ العمامة، يُدار منها على الرقبة حنكٌ، ثم يكون لها أطراف من الخلف، قالوا: هذه هي عمائم العرب، وهي التي يشق نزعها، أما العمائم التي لا يشق نزعها، فإنه لا يُمسح عليها.
ولذلك؛ نستطيع أن نضع ضابطًا، كثيرٌ من الفقهاء، ومنهم الحنابلة، قالوا: لا بد أن تكون محنكة وذات ذؤابة، أو لا يصح المسح عليها، وبعض العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية قالوا: إنه لا دليل على اشتراط هذا الشرط، وإنه يصح المسح على العمامة مطلقًا.
والذي يظهر -والله أعلم- هو أن مناط الحكم هو مشقة النزع، فإذا كانت العمامة يشق نزعها فيجوز المسح عليها، أما إذا كانت لا يشق نزعها فلا يجوز المسح عليها.
هذا هو الأقرب والله أعلم؛ لأن المسح عليها إنما كان لأجل مشقة النزع من غير أن نُقيِّد ذلك بكونها محنكة وذات ذؤابة أو لا، وإنما نجعل مناط الحكم مشقة النزع.
وبناء على ذلك؛ العمائم الموجودة الآن التي يلبسها بعض الإخوة السودانيين، هل يمسحون عليها أو لا؟ هل هناك مشقة في نزعها؟
مداخلة: …
الشيخ: الذي يظهر أنها تختلف باختلاف أحوال الناس، فبعض الناس ربما تكون ملفوفة كأنها غُتْرة أو طاقية، ويخلعها ثم يلبسها مباشرة، فهذه لا شك أنها لا يشق نزعها، فلا يمسح عليها.
لكن، لو كان يعلم بأنه لو خَلَعها لَشَقَّ عليه إعادةُ ترتيبها مرةً أخرى، فهذه الذي يظهر أنه لا بأس بالمسح عليها، لكن الغالب أنه لا يشق نزعها.
غالب العمائم الموجودة الآن لا يشق نزعها، ولو فتحنا المجال أيضًا عندك الغترة والشماغ والطاقية؛ فلا بد إذًا من القيد بأنه يَشُق نزعه، ليس المسح على العمامة؛ لكونها عمامة، وإنما لكونها يشق نزعها.
وفي معنى العمامة: الخمار بالنسبة للمرأة؛ ولذلك نصَّ بعض الفقهاء ومنهم الحنابلة، قالوا: إنه يجوز المسح على خُمُرِ النساء المُدَارَةِ تحت حُلُوقِهِنَّ، كما قال صاحب “الزاد”: “وعلى خُمُر نساء مدارة تحت حلوقهن”.
هذا قد رُوي عن أم سلمة، وعن بعض نساء الصحابة: أنهن كُنَّ يمسحن على خُمُرِهن؛ ولأن الخمار بالنسبة للمرأة كالعمامة بالنسبة للرجل.
والذي يظهر أيضًا هو ما قلنا قبل قليلٍ: أن المناط هو مشقة النزع.
فإذا كانت المرأة يشق نزع الخمار عليها، كأن يكون الجو مثلًا باردًا، تكون مثلًا في سفر، يكون هناك رياح قوية، فنقول: لا بأس بأن تمسح على الخمار، لكن لو كانت في بلد الإقامة، ولا يشق نزع الخمار، فالذي يظهر هو أنه لا يمسح عليه. فمناط الحكم إذن هو مشقة النزع.
هذه أبرز المسائل في المسح على الخفين التي ذكرها المؤلف، وأيضًا أضفنا لها مسائل أخرى.
حكم مَن لبس خفًّا فوق خف
بقي مسألة واحدة لم يذكرها المؤلف: إن لبس خفًّا فوق خف، وهذه يكثر السؤال عنها، فيقول الفقهاء: “إن لبس خفًّا على خف قبل الحدث، فالحكم للفَوْقَانيِّ”. هذه عبارة “الزاد”.
يعني مثلًا: كان الجو باردًا، وعندما توضأ لبس جوربين؛ هذا لا إشكال في أن الحكم للفَوْقاني، يمسح على الفوقاني.
إن لبس خفًّا على خف بعد الحدث؟ يعني: لبس جوربًا واحدًا، ثم اشتد البرد، وبعدما أحدث ومسح لبس خفًّا آخر؟ فعند الحنابلة أن الحكم للتحتاني. وبناء على ذلك؛ يلزمه أن ينزع الخف الفَوْقاني ويمسح التحتاني.
لكن، لو لَبِسَ الفوقاني بعد الحدث على طهارة؟
مثال ذلك: لَبِسَ جوربًا لصلاة الظهر، ثم عند صلاة المغرب رأى أن الجوَّ اشتدت برودة الجو، وعندما توضأ لصلاة المغرب أضاف جوربًا آخر، يعني لَبِسَ الجوربَ الثاني على طهارة، فنقول: على المذهب الحكم للتحتاني.
ولكن القول الراجح: أن الحكم للفَوْقاني؛ لأنه يَصدُق عليه أنه أدخل رِجْليه طاهرتين، وقد قال عليه الصلاة والسلام: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين[15]، لكن تكون المدة للتحتاني أو للفوقاني؟ للتحتاني، تكون المدة للتحتاني.
طيب، لو كان في الحال التي يمسح فيها على الفوقاني، وخَلَعه بعد مسحه، فليس له المسح على التحتاني على المذهب، والصحيح أن له ذلك.
يعني مثلًا: لبس خفًّا على خف في وقت واحد قبل الحدث، ثم إنه بعد ذلك مسح الخف الفوقاني، فنقول: على المذهب ليس له المسح على التحتاني.
والقول الصحيح: أن له ذلك قياسًا على الخف، الذي له ظهارة وبطانة، لو تمزَّقَتْ ظهارة الخف لجاز له المسح على البطانة، فهو بمنزلة الخف الواحد.
طيب، نريد أن نجمع هذه المسائل مرةً أخرى ونراجعها؛ لأنها مسائل مهمة الحقيقة، ويكثر السؤال عنها.
إذن؛ نقول: هذا له أحوال:
- الحالة الأولى: إن لبس خفًّا على خف قبل الحدث، يعني لِأوَّلِ مرةٍ جاء لِيَلْبَسَ، ولَبِسَ جوربين مِن أول مرة، فهنا الحكم للفَوْقانيِّ.
- طيب، ننتقل للحالة الأخيرة حتى نربطها بها: لَبِسَ خفًّا على خفٍّ قبل الحدث، ثم إنه بعد مُضيِّ نصف المدة خَلَع الفوقاني، فهل له المسح على التحتاني؟ على المذهب ليس له ذلك، قلنا: على القول الراجح له ذلك؛ لأنه بمنزلة الخف الذي له ظهارة وبطانة، فلما تمزَّقت الظهارة جاز له أن يمسح على البطانة.
- الحالة الثالثة: لَبِس خفًّا على خف بعد الحدث، يعني لمَّا لبس الخف مثلًا لصلاة الظهر، لما أحس ببرودة الجو بعد المغرب لَبِس خفًّا آخر على طهارة، لاحِظ أنه على طهارة، فعلى المذهب: ليس له المسح، وعلى القول الراجح: له المسح.
- طيب، لو لَبِسَ خفًّا على خفٍّ بعد الحدث على غيرِ طهارةٍ، ليس له المسح على الفَوْقانيِّ، وإنما المسح على التحتاني.
فتكون الحالات أربعًا:
- الحالة الأولى: لَبِسَ خُفًّا على خُفٍّ قبل الحَدَث، يعني لأول مرة، فالحكم للفوقاني، هذه لا إشكال فيها حتى على المذهب.
- الحالة الثانية: لبس خفًّا على خف قبل الحدث -المسألة الأولى نفسها- ثم إنه في أثناء المدة خلع الفوقاني، فعلى المذهب أنه لا يصح المسح، وعلى القول الراجح أنه يصح قياسًا على الخف الذي له ظهارة وبطانة، فإذا تمزقت الظهارة جاز المسح على البطانة.
- في الحالة الثالثة: لبس خفًّا على خف بعد الحدث -يعني بعدما ابتدأت المدة- إن كان على غير طهارة فلا إشكال أن الحكم للتحتاني؛ لكن لما لبس خفًّا على خف بعد الحدث على طهارة، فعلى المذهب أن الحكم للتحتاني، وعلى القول الراجح أن الحكم للفوقاني. انتبِهوا لهذه المسائل يا إخوان.
واضحة أو نعيد؟ نعيدها مرة أخرى، نقول:
إذا لَبِسَ خُفَّين؛ إن كان في أول الأمر في بدايةِ الوضوء لَبِسَ خفًّا فوق خف، هذا لا إشكال فيه، هو كالخف الواحد، يمسح على الفوقاني على رأي الجميع.
طيب، لو أنه لما لبس خفين نزع في أثناء المدة واحدًا من الخفين، فعلى المذهب أنه لا يصح المسح، وعلى القول الراجح أنه يصح؛ لأنه كالخف الواحد الذي له ظهارة وبطانة وتمزقت الظهارة، فله المسح على البطانة.
إذا لبس خفًّا على خف بعد الحدث بعدما ابتدأت المدة، إن كان لبس الفوقاني على غير طهارة ليس له المسح على الفوقاني، وإنما يمسح على التحتاني؛ لأنه الأصل.
إن كان لبس الخف الفوقاني على طهارة، فعلى المذهب أن المسح للتحتاني، لكن على القول الراجح أن المسح للفوقاني؛ لأنه يصدق على أنه لبس خفًّا، صحيح لبس خفًّا على خف، لكن على طهارة، فالحكم للفوقاني، لكن المدة تكون للتحتاني..
هذه أحوالُ لُبْس الخف على الخف، وبذلك نكون قد أخذنا أبرز مسائل المسح على الخفين التي ذكرها المؤلف، والتي حتى لم يذكرها المؤلف.
فمِثل هذا الباب يا إخوان، لو ضُبِطت هذه المسائل، تستطيع -بإذن الله تعالى- أن تضبط أيَّ مسألةٍ تمرُّ معك في المسح على الخفين.
نحن ذكرنا لهذا قواعد، يعني أبرز مسائل المسح على الخفين التي ذكرها الفقهاء ذكرناها في هذا الدرس، لو أنك ضبطت هذه المسائل كلها وراجعتها من حينٍ لآخر، بإذن الله تعالى أي مسألة تمر معك تكون قد ضبطتها، وهكذا لو مررت على أبواب الفقه بهذه الطريقة، فإنك تستفيد فائدة عظيمة.
بقية الوقت نُتِيحُه للإجابة عما تيسر من الأسئلة:
الأسئلة
السؤال: …
الجواب: يعني ظهر بعض محل الفرض، ظهر مثلًا جزء من القدم، إن كان لمَّا ظهر ستره مباشرة لا يضر هذا، حتى العورة لو كشفها ثم سترها لا يضر، لكن الكلام لو استمر الظهور، فإذا كان هذا يسيرًا أيضًا يُتسامح فيه، أما إذا كان كبيرا عرفًا فالذي يظهر أن طهارته تنتقض، تنتقض الطهارة حتى لو كان بغير اختياره أيضًا، ينتقض وضوؤه..
مداخلة: …
الشيخ: انسحب الشُّرَّاب، إذا كنتَ لَبِسْتَه مباشرة فلا يضر، مثله انكشاف العورة، افترِض أنه وطئ الإحرام، وانكشفت عورته ثم سترها في أثناء الصلاة؛ تصح صلاته.
هكذا أيضًا بالنسبة للخُف، إذا كنتَ لبسته مباشرة لا يضر..
نعم، هو يدل على -يعني- أنه يجوز المسح على الجوارب المُخرَّقة، لكن إذا كان الخُرْق يسيرًا.
على أن فيه كلامًا من العلماء، في: هل كانت مشروعيَّة مثلًا المسح على الخفين بعدها أو قبلها؟ وبعضهم لم يُرجِّح، كثيرٌ من العلماء رجَّحوا أن المَسْح على الخُفَّين إنما شُرع بعد الغزوة وليس قبلها، ابنُ القيِّم له كلامٌ في هذا.
السؤال: …
الجواب: نعم.. إي نعم، أحسنتَ، هذا أيضًا يَكثُر السؤال عنه، إذا كان عليه جنابةٌ، وعليه لصقةُ ظهرٍ، فإذا كان -يعني- يتضرر بنزع هذه اللصقة؛ يمسح عليها ويغسل بقية البدن، أما إذا كان لا يتضرر؛ يزيلها، لكن إذا كان يتضرر فيمسح عليها.
السؤال: مَن عجز عن الغَسل والمسح.. التيمم.. متى يكون: في أثناء الوضوء أو بعد الانتهاء من الوضوء؟
الجواب: نعم، بعد الانتهاء من الوضوء، وبعض العلماء يُجيز أن يكونَ قبل الوضوء، لكن الأقرب خروجًا من الخلاف أن يكونَ بعد الوضوء، إذا توضَّأ يتيمَّم بعده.
السؤال: بالنسبة للجَبيرة، بعض المستشفيات تتعدَّى الموضع…
الجواب: السؤال يقول: للجبيرة مستشفيات تتعدى موضع الحاجة؟
على كلِّ حالٍ: افتراض أن الطبيبَ يضعها على قَدْر الحاجة، ويُنبِّه المريضُ الطبيبَ على هذا -أو الذي يضع الجبيرة- فإذا لم يتيسَّر فيمسح عليها جميعِها، أخذًا بقواعد رفع الحرج.
لكن، ربما الذي نعنيه بالدرجة الأولى أن ما يضعه الإنسان مِن لفافة أو لصقة ونحو ذلك؛ يزيل القدر الزائد.
السؤال: هل قياس صحة الطهارة عند خلع الخفين، على صحة الطهارة عند حلق شعر الرأس، قياس صحيح؟ مع أنه كان على طهارة قبل حَلْق رأسه؟
الجواب: نعم، يعني هذا قال به بعض الفقهاء، هذا القياس، يقولون: لو كان توضَّأ ثم حَلَق رأسه، هل تنتقض طهارته؟ الجواب: لا تنتقض. وكذلك لو كان لَبِسَ الخفين وتوضَّأ ومسح على خفيه ثم خلع خفيه.
لكن هذا: الذي يظهر أن هذا القياس لا يستقيم، لا يصح، هناك فرق كبير بين حلق الرأس وبين إزالة الخف؛ لأن المَسْح بالنسبة للرأس وليس للشعر: وامسحوا برؤوسكم [المائدة:6]، وصحيح أنه يقع المسح على الشعر، لكن المقصود الرأس.
ولذلك؛ لو كان أصلع: مسح على رأسه، بينما بالنسبة للرِّجلين الفَرْض هو الغَسل، فإذا وُجد عليهما جورب بين الخفين؛ فيُمسحان.
فيظهر أن هناك فارقًا بينهما، ومثل هذا القياس انتقده كثيرٌ من العلماء وقالوا: إنه قياس لا يستقيم.
السؤال: …
الجواب: خُذْها قاعدة: إذا جاز القصر جاز الجمع، صحيح أنه قد يكون القصرُ سُنةً والجمع مباحًا، لكن إذا جاز القصر جاز الجمع لا العكس. هذه قاعدة.
قد يجوز الجمع ولا يجوز القصر؛ في المريض. لكن، إذا جاز القصر جاز الجمع، ما دام أنه يباح له القصر فيجوز له الجمع. لكن في الجمع ننظر: هل الأفضل له الجمع، أو الأفضل ليس له الجمع؟
إذا كان في الطريق فالأفضل له الجمع، إذا جَدَّ بالسَّير، وإذا كان مقيمًا فالأفضل له ألا يجمع. القصر، الأفضل للمسافر مطلقًا.
السؤال: …
الجواب: نعم؛ يعني وَضْع الحناء أو نحوها على الشعر، نقول: مَن يضع على شعره شيئًا كالحِنَّاء ونحوها مِن رَجُلٍ أو امرأة، فيمسح فوقه، حتى -لو وضع خمارًا- لو وضعت المرأة خمارًا تمسح فوق الخمار، ولا يضر هذا.
والدليل على ذلك أن النبيَّ في حجة الوداع، كان قد لبَّد شعرَ رأسِه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان قارنًا[16]، أحرم بالحج في الخامس والعشرين مِن ذي القَعْدة، وبَقِيَ على إحرامه إلى العاشر من ذي الحجة؛ يعني بقي على إحرامه كم يومًا؟ خمسة عشر يومًا، مدة طويلة.
فكان عليه الصلاة والسلام شعرُه كثيرًا غزيرًا، فحتى يَقِيَ شعره من الغبار وضع على رأسه طبقةً من اللُّبَّاد، بالصمغ والعسل، فكان عليه الصلاة والسلام يمسح فوق هذا التلبيد.
واستدل به العلماء على أن ما يوضع فوق الشعر يُمسح فوقه.
مداخلة: حتى لو وضعت خمارًا؟
الشيخ: نعم، حتى لو وَضَعت خمارًا تمسح فوق الخمار.
مداخلة: ولا يُشترط الطهارة؟
الشيخ: لا يُشترط، تمسح فوق الخمار، ويكفي. لأنه أيضًا؛ الظاهر أن النبيَّ عليه الصلاة والسلام، هذا اللُّبَّاد، أنه وضع فوقه شيئًا، الظاهر أنه وضع فوقه شيئًا.
السؤال: …
الجواب: لا، ما تبدأ المدة إلا بعد الحدث، إلا بعد وضوءٍ بعد الحدث، أما مجرد التجديد فلا يتعلَّق بها الحكم.
السؤال: إذا وضع فوق اللُّبَّاد شيئًا… يوضع فوق رأسه؟
الجواب: يعني: شيء يسير أو خفيف أو كذا.
السؤال: يقول: ذكرتَ يا شيخ هنا أن الخف لا بد أن تدعو الحاجة إليه، ولكن كثيرًا من الناس يلبسون الجورب وخاصة في الصيف من دون حاجة ومِن دون تَوَقِّي البرد، فهل معنى هذا أنه لا يمسح على الجورب إن كان لَبِسَه لغير حاجة؟
الجواب: الذي يظهر أنه يمسح عليه مطلقًا، ما دام يُسمَّى جوربًا فيمسح عليه مطلقًا، لكن نقول في أصل مشروعيته: إنه إنما شُرع للحاجة، الأصل المشروعيَّة.
ولذلك -يعني- نحن اشترطنا أن يكونَ صفيقًا، وأن يكونَ أيضًا يُمكن المَشْيُ فيه؛ لأن الأصلَ في مشروعيته أن يكونَ مما تدعو إليه الحاجة.
لكن، هل يُشترط.. أن يكونَ محتاجًا له؟ الذي يظهر أن هذا لا يُشترط، لا يشترط مثل هذا الشرط؛ ولذلك قد يلبس كثيرٌ من الناس الشُّرَّاب في الصيف ليس للحاجة وإنما للزينة.
فلا بأس بالمسح عليه؛ لأنه يَصدُق عليه أنه خُفٌّ، ويصدق عليه أنه جورب، فتشمله النصوص.
السؤال: يقول: لماذا نقول بوجوب غَسل الرِّجلين وخَلْع الجوربين عند خروج المَذْي مع أنه لا يوجب الغُسل؟
الجواب: عند خروج المذي أصلًا لا يجب، لا يجب خلع الخفين، فالنتيجة التي تقول بها لا نُسلِّم بها، هي غير صحيحةٍ، خروج المذي كخروج البول لا يجب معه نَزْع الخُفين، إنما ما يوجب الغُسل كخروج المَنِيِّ هذا هو الذي يُبطل المسح على الخفين.
السؤال: وقت المسح…
الجواب: النبي عليه الصلاة والسلام حدَّد مدة المسح للمقيم يومًا وليلة، يعني أربعًا وعشرين ساعة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، يعني اثنتين وسبعين ساعة[17].
لا معنى لهذا التحديد، إنما إذا انتهت المدة فليس له المسح، وإذا بطل المسح بطل أثره أيضًا.
فالآن، هذه الرِّجل الآن، بعد انقضاء مدة المسح على الخفين، يعني هي الآن ليست ممسوحة ولا مغسولة، هو لم يغسلها، والمسح: ليس له المسح، إن أراد أن يمسح فليس له المسح، فالمدة الآن انتهت. فما الفائدة من التحديد بيوم وليلة أو بثلاثة أيام بلياليهن؟!
يعني هذه وجهة الجمهور، وإن كان القول الآخر له وجه أيضًا، القول الآخر بأنك تمسح عليها ما دامت الطهارة باقية -يعني- قول متجه.
لكن كما ذكرتُ لكم في المآخذ أن المسألةَ الترجيح فيها ليس بينًا؛ ولذلك يؤخذ بالأحوط وقول الأكثر.
السؤال: ما حكم لُبس الشُّرَّاب الذي يكون تحت الكعب؟ وكذلك الحذاء على الراجح؟
الجواب: هو مِن حيث الجواز فيجوز، لكن ليس له أن يمسح عليه ما دام تحت الكعب، الكلام في المسح، أما الجواز فلا إشكال في الجواز، ليس له أن يمسح إلا إذا كان ساترًا لمحل الفرض: القدم والكعب.
السؤال: ما الحكم لو ظهر بعض شعر الرأس مع وجود العمامة؟ فهل المسح على الجميع؟
الجواب: نعم، المسح على الجميع، بشرط أن تكون هذه العمامة يَشُق نَزْعها؛ لأنه جاء في بعض الروايات أن النبي مَسَح على العمامة وعلى الناصية[18]؛ يعني مقدمة الرأس.
وهذا يدل على أنه قد يخرج أيضًا بعضُ الشعر، لكن المأخذ هو مشقة النَّزْع، إذا كان يَشُق نَزْعها فله أن يمسح عليها، وغالب عمائم الناس الآن لا يَشُق نَزْعها.
السؤال: إذا كان الجورب الفَوْقاني أو كانت النعل لا تستر المكان الواجب، فهل يمسح عليه دون الجورب الأول؟
الجواب: لك أن تمسح عليه بشرط أنك لا تخلع النعل أو الكَنَادر، يعني بعض الناس يلبس كَنَادِرَ على الجورب، أو مثلًا البُسْطار الذي يلبسها الجنود أو العسكريون، هذا لا بأس أن تمسح عليه، لكن بشرط أنك لا تخلعه، فإذا خلعتَه فلا بد أن تمسح على التحتاني حينئذٍ، يتعلق الحكم بالتحتاني.
لكن، لو أنك ستُبقيه، لَبِسْتَ مثلًا هذا الجورب وفوقه الكَنَادر، وأبقيتها ثم تُصلي فيها، فلا بأس أن تمسح عليها ما دامت باقيةً ولم تخلعها.
السؤال: …
الجواب: نعم، إنسان مثلًا دخل عليه وقت أذان الظهر وهو في الرياض، وتوضَّأ ومسح على الخفين، مدة المسح بالنسبة له يومٌ وليلة. لكنه، بعد صلاة الظهر مشى، سافر، هل يُكمل يومًا وليلة أو يكمل ثلاثة أيام بلياليهن؟
على المذهب يُكمل يومًا وليلة، وعلى القول الراجح: ثلاثة أيام بلياليهن؛ لأن العبرة بحاله، حاله الآن: مسافرٌ أو مقيم؟ مسافر؛ إذن له أن يَقصُر، له أن يترخَّص -يعني- بثلاثة أيامٍ بلياليهن بالنسبة للمسح.
السؤال: …
الجواب: كذلك، الحكم واحد.
نأخذ آخر سؤال.
السؤال: إذا كان يَشُق عليه غَسل الجبيرة ومسحها، ولكن لا يشق عليه التيمم، فهل يكون التيمم لهذا الجُرح فقط؟
الجواب: إذا كانت المشقةُ مُعتبَرةً، مشقة ظاهرة، مِن حيث لا يتضرَّر ويتحرَّج، فهو لا ينتقل للتيمم، لكن إذا كانت المشقة يسيرة؛ فمن المعلوم أن المريض عندما يمسح أو عندما يتحرَّج أو عندما يشق عليه؛ يشق عليه الحرج، فهذه المشقة يعني لا اعتبار لها.
فلا بد مِن مشقة -يعني- ظاهرة، فإذا كانت مشقةٌ ظاهرة؛ يعني المشقة -يا إخوان- ضَبْطُها أيضًا فيه إشكال عند بعض الناس.
يعني تجد بعضَ الناس الآن، خاصة بعض كبار السن، تجدهم يُصَلُّون جالسين وهم قادرون على القيام، تجدهم في أمور الدنيا ما شاء الله ولا أنشط منهم، ولكن في الصلاة اختلى بنفسه وصلَّى وهو جالس.
هذا -يعني- حقًّا فيه إشكال، لو كانت أمور دنياه مثل الصلاة ما خالف؛ ولذلك ذكر الشافعي عن رجلٍ يقول: رأيت رجلًا جاوز عمره تسعين عامًا، يُعلِّم الجواري الغناء قائمًا، فإذا أتى إلى الصلاة صلى جالسًا.
نسأل الله العافية، هذا موجود منذ قديم الزمان، تجد بعض كبار السن يصلي وهو جالس، يا فلان، أنت الآن في أمور دنياك -ما شاء الله- ما فيه أحدٌ أنشطَ منك، وإذا أتيت الصلاةَ أتيتَ لك بألف عذر!
مسألة المشقة هذه، الحقيقة، الناس، فهم المشقة فيه إشكال.
وتجد بعض الناس على العكس، تجده يَشُق على نفسه مع أنه يجوز له مثلًا أن يصلي جالسًا، ومع ذلك يحتمل.
فيعني لا إفراط ولا تفريط، لكن الغالب على الناس هو التفريط.
مداخلة: الناس تقصر في الصلاة كذلك.
الشيخ: هذا صحيح، إي نعم، لا يقدر أن يقف ربما مدة طويلة، لكن إذا أتى الصلاةَ صلى جالسًا، وتجد بعضهم أيضًا لا يسجد مع قدرته على السجود.
طيب، نُريد أن نضع ضابطًا بالنسبة للقيام في الصلاة، وقيام الصلاة الفقهاء ضبطوه، قالوا: له أن يصلي جالسًا إذا كان لو قام لكان هذا القيامُ سببًا في تفويت الخشوع عليه في الصلاة، إذا كان سببًا -لو قام فينتظر فقط مثلًا أن يركع الإمام ولا يخشع في صلاته؛ قلنا له: بأن يصلي جالسًا.
لكن إذا كانت المشقة يسيرة، فهذه المشقة اليسيرة تَرِد حتى للشباب أيضًا، أحيانًا الإنسان يكون مُتعَبًا فتَشُق عليه الصلاة، خاصة صلاة الفجر مثلًا، إذا كان سهرانًا مثلًا ربما تَشُق عليه صلاة الفجر.
فيعني المشقة اليسيرة هذه لا بد من احتمالها، والكلام في المشقة التي يَفُوت بسببها الخشوع، فكون الناس، بعض الناس، خاصة العامة، عندهم إشكالات في فَهْم المشقة، ويُفتون أنفسهم بأنفسهم في هذا.
نسأل الله للجميع التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
والسلام عليكم.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 108، ومسلم: 3. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 533. |
^3 | رواه البخاري: 206، ومسلم: 274. |
^4 | رواه البخاري: 387، ومسلم: 272. |
^5 | رواه ابن ماجه: 556. |
^6, ^7, ^9, ^10, ^15, ^17 | سبق تخريجه. |
^8 | رواه أحمد: 22383، وأبو داود: 146. |
^11 | رواه أحمد: 737، وأبو داود: 162. |
^12 | رواه أحمد: 3056، وأبو داود: 336، وابن ماجه: 572. |
^13, ^18 | رواه مسلم: 274. |
^14 | رواه مسلم: 275. |
^16 | رواه البخاري: 1566، ومسلم: 1229. |