عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
تتمة باب الإحرام
حياكم الله جميعًا في هذا الدرس، وهذا هو الدرس الثالث في هذه الدورة العلمية في كتاب الحج في شرح “دليل الطالب”، وكنا قد وصلنا إلى قول المصنف رحمه الله: “وأن يشترط..”، كلام المؤلف عن الاشتراط في الحج.
حكم الاشتراط في الحج
قال:
وأن يشترط فيقول: اللهم إني أريد النسك الفلاني، فيسره لي، وتقبله مني، وإن حبسني حابسٌ، فمَحِلي حيث حبسْتَني.
أولًا: قوله: أن يقول: “اللهم إني أريد النسك الفلاني، فيسره لي، وتقبله مني”، هذا محل نظرٍ؛ لأن هذا يحتاج إلى دليلٍ، ولم يَرِد عن النبي ، ولا عن أحدٍ من الصحابة ، ولا عن أحد من التابعين أنهم كانوا يقولون ذلك.
ثم ما الفرق بين أن يقول: اللهم إني أريد النُّسك الفلاني، أو يقول: عندما يريد أن يصلي: اللهم إني أريد أن أصلي صلاة المغرب، أو صلاة العشاء، أو صلاة الظهر؟
لا فرق، هذا العمل، الصواب أنه غير مشروعٍ، الصواب: أنه لا يشرع أن يقول ذلك، والسنة: أن يقتصر على الإهلال بأن يقول: لبيك عمرةً، أو لبيك حجًّا، أو لبيك عمرةً وحجًا.
الاشتراط عند الإحرام
وأما قوله: “وإن حبسني حابسٌ..”، فهذا هو الاشتراط، هذا الذي يسميه الفقهاء: الاشتراط عند الإحرام، وقد اختلف العلماء في مشروعيته على ثلاثة أقوالٍ:
- القول الأول: أنه لا يشرع الاشتراط مطلقًا؛ لأن النبي لم يشترط.
- القول الثاني: أنه يشرع الاشتراط مطلقًا؛ لأن النبي أرشد إليه ضُباعة بنت الزبير رضي الله عنها لما أرادت أن تحج وهي مريضةٌ، فقال لها النبي : حجي واشترطي أن مَحِلي حيث حبستني، فإن لك على ربك ما استثنيت [1].
- القول الثالث: أن الاشتراط مشروعٌ في حق من احتاج إليه، وليس مشروعًا في حق من لم يحتج إليه، من احتاج إليه؛ كالمريض، أو امرأةٍ تخشى أن يأتيها الحيض، أو إنسانٍ يخشى من عائقٍ يُعيقه، وهو في هذه الظروف الآن، ظروف (كورونا)، ويخشى أنه لو أحرم بالحج أن يصاب بهذا الوباء، أو نحو ذلك، ولا يستطيع أن يكمل الحج، فيشرع في حقه الاشتراط.
ولهذا نقول: إنه ينبغي لمن أراد أن يحج هذا العام مع هذه الظروف، وانتشار وباء (كورونا) في العالم، أقول: ينبغي لمن أراد أن يحج أن يشترط عند الإحرام، فيقول: اللهم لبيك حجًّا، وإن حبسني حابسٌ، فمَحِلي حيث حبستني؛ لأنه لا يدري ما يعرض له، حتى وإن كان أخذ الجرعتين، فإنه من المحتمل أيضًا أن يصاب؛ لأن الجرعتين قد لا تمنع من الإصابة بهذا الوباء؛ فالأفضل أن يشترط.
وفائدة هذا الاشتراط: أنه لو قُدِّر أنه أصيب، أو أتاه عائقٌ يعيقه؛ يتحلل ولا شيء عليه، بينما إذا لم يشترط فيكون حكمه حكم المحصَر، وسيأتي الكلام عن أحكام المحصر.
لكن إذا كان الإنسان لا يحتاج إلى الاشتراط، فلا يشرع في حقه الاشتراط؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يشترط، ولم يأمر به أحدًا ممن حج معه، وقد حج معه قرابة مئة ألفٍ، لم يأمر به إلا امرأةً واحدةً فقط كانت مريضةً.
فعلى هذا نقول: إن الأقرب -والله أعلم- أن الاشتراط مشروعٌ في حق من احتاج إليه، وليس مشروعًا في حق من لم يحتج إليه.
باب محظورات الإحرام
ثم قال المؤلف رحمه الله:
باب محظورات الإحرام
انتقل المؤلف للكلام عن محظورات الإحرام، والمراد بمحظورات الإحرام، أي: المحرمات بسبب الإحرام.
قال:
وهي سبعة أشياء:
يعني: سبعة محظوراتٍ، بعضهم يجعلها ثمانيةً، وبعضهم يجعلها تسعةً، والاختلاف هنا في إدخال بعضها في بعضٍ، يعني مثلًا: هل تقليم الأظفار يعتبر محظورًا مستقلًّا، أو أنه يدخل في إزالة الشعر؟ مثلًا: المباشرة، هل تُفرَد بمحظورٍ مستقلٍّ، أو أنها تدخل مع الوطء؟ وعلى كل حالٍ لا مشاحَّة في الاصطلاح.
الأول: لبس المخيط
قال:
أحدها: تعمد لبس المخيط على الرجال.
المَخِيط: هو اللِّباس المفصَّل على قدر العضو أو الأعضاء، سواءٌ كان بخياطةٍ أو بغير خياطةٍ، وهذا هو المخيط، مثل هذا الثوب مثلًا المفصل، أو الفانيلا، أو السراويل، هذا هو المخيط، وليس المقصود بالمخيط ما فيه خيوطٌ، بعض العامة يفهم أن المقصود بالمخيط: ما فيه خيوطٌ، وهذا غير صحيحٍ، بل إن اللباس لو نسج نسجًا بدون خيوطٍ، ومفصلًا على قدر العضو؛ يعتبر مخيطًا، مثل الفانيلا، مثلًا الفانيلا لو نسجت نسجًا من غير خيوطٍ تعتبر من المخيط.
إذنْ ليس المقصود من المخيط ما فيه خيوطٌ، وإنما المقصود بالمخيط: ما فُصِّل على قدر العضو أو الأعضاء.
وهذا المصطلح -أعني المخيط- لم يرد من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، ولا من كلام الصحابة ، يقال: إن أول من أطلقه إبراهيم النخعي، وتبعه على ذلك جماهير الفقهاء.
قال:
حتى الخفين.
يعني: يحرم على المحرم أن يلبس الخفين؛ لأن النبي قال: من لم يجد النعلين؛ فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين [2].
وكذلك من لم يجد إزارًا، فليلبس السراويل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ومن لم يجد إزارًا؛ فليلبس السراويل [3].
حكم لبس الكَمَّام للمحرم
وهذه المسألة يُحتاج إليها في الظروف الحالية مع ظروف وباء (كورونا)، فلُبس الكمَّام، أولًا: لبس الكمام هو يعتبر تغطية وجهٍ، وقول من قال: إنه ليس تغطيةً، هذا غير ظاهرٍ؛ بدليل أن الكمام لو وضعته على الرأس؛ لاعتبر تغطيةً.
وهذا يقودنا إلى مسألةٍ، وهي: حكم تغطية الوجه للمُحرِم، وهذه قد اختَلَف فيها الفقهاء على قولين:
- القول الأول: أن تغطية الوجه للمحرم محرمةٌ؛ لحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن رجلًا وقَصَته راحلته وهو محرمٌ فمات، فقال رسول الله : اغسلوه بماءٍ وسدرٍ، وكفِّنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه ولا وجهه؛ فإنه يُبعث يوم القيامة ملبيًا [4].
قوله: ولا وجهه، قالوا: إن هذا يدل على تحريم تغطية وجه المُحرِم؛ لأنه إذا كان هذا في شأن المُحرِم الميت؛ ففي المحرم الحي من باب أولى.
- القول الثاني: أن تغطية الوجه بالنسبة للمُحرِم لا بأس بها، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء، قالوا: لأنه لم يثبت في ذلك نهيٌ، والأصل هو الجواز، وأما رواية: ولا تخمروا رأسه، ولا وجهه، فالمحفوظ من الرواية -من حيث الصناعة الحديثية- هي الرواية التي اتفق عليها البخاري ومسلم: ولا تخمروا رأسه، أما زيادة: ولا وجهه [5]، فهي شاذةٌ، وقد أوردها الإمام مسلمٌ بعد عدة رواياتٍ، فأورد أكثر الروايات بلفظ: ولا تخمروا رأسه، ثم بعد ذلك ساق رواية: ولا وجهه؛ للتنبيه على ضعفها، فهي غير محفوظةٍ.
وعلى هذا يكون القول الراجح: هو القول الثاني، وهو أن المحرم ليس ممنوعًا من تغطية وجهه؛ وعلى هذا نقول: المحرم إذا كان رجلًا؛ لا بأس أن يلبس الكمامة، ولا حرج عليه في ذلك؛ لأنه ليس ممنوعًا من تغطية وجهه على القول الراجح.
وأما بالنسبة للمرأة: فلا بأس أيضًا بأن تلبس المرأة المحرمة الكمامة، بشرط: أن تكون الكمامة على قدر الفم والأنف، ولا تكون مغطيةً لمعظم الوجه؛ لأنها إذا كانت مغطيةً لمعظم وجه المحرمة؛ فإنها تشبه النقاب، والمحرمة ممنوعةٌ من النقاب، لكن تجعل المرأة المحرمة الكمامة على الفم والأنف فقط.
حكم لبس الإزار الذي على شكل التنورة
طيب: وهنا مسألةٌ، وهي: حكم لبس الإزار والمخيط الذي يكون على شكل ما يسمى بـ(التَّنُّورة)، بحيث يكون مُحيطًا من جميع الجوانب، فهل يجوز لبسه للمحرم أم لا؟
قولان لأهل العلم:
- القول الأول: أنه يجوز، ومن أبرز من ذهب إلى هذا: الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، واستدل أصحاب هذا القول بأنه لا فرق بين هذا الإزار المخيط وغير المخيط، فكل منهما يسمى إزارًا.
- والقول الثاني: أنه لا يجوز لبس هذا الإزار، وإليه ذهب أكثر العلماء المعاصرين؛ لكونه مخيطًا؛ ولكونه في معنى النُّقْبة التي منع منها الفقهاء، فإن النُّقْبة عند الفقهاء: نوع من السراويل، هي السراويل التي يكون لها حُجْزَةٌ من غير نَيْفَقٍ [6]، كما قال أهل اللغة، فهي كالسراويل بلا أكمامٍ.
والقول الراجح: أنه لا يجوز لبس هذا الإزار المخيط الذي على شكل تَنُّورةٍ؛ لأنه من المخيط الممنوع منه المُحرِم، وأما القول بأنه يسمى إزارًا، فهو وإن سمى إزارًا إلا أنه في حقيقة الأمر أقرب للسراويل، والتسمية لا تغير من الحقيقة شيئًا، العبرة بالحقيقة، ومعلومٌ أنه يحصل بلبس هذا النوع من اللباس من الترفه شيءٌ ظاهرٌ، بل بعض الناس يفضله حتى على لبس السراويل.
فالأقرب -والله أعلم- أنه لا يجوز للمحرم أن يلبس هذا النوع من الإحرام المخيط، الذي يكون على شكل تَنُّورةٍ، نقول: إن المُحرِم ممنوعٌ منه على القول الراجح.
الثاني: تغطية الرأس
الثاني: تعمُّد تغطية الرأس من الرجل، ولو بِطِينٍ، أو استظلالٍ بمَحْمِلٍ.
تغطية الرأس ممنوعٌ منها المحرم؛ لنهي النبي المحرم عن لبس العمائم والبرانس [7]، لكن قسَّم الفقهاء تغطية الرأس إلى خمسة أقسامٍ.
تغطية الرأس تنقسم إلى خمسة أقسامٍ:
- القسم الأول: قسمٌ جائزٌ بالإجماع، مثل أن يضع على رأسه حناء، أو أن يُلَبِّد رأسه، يعني: يضع على رأسه شيئًا شبيهًا بالصمغ، وهذا قد فعله النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا لا بأس به وجائزٌ.
- القسم الثاني: أن يغطيه بما لا يقصد به التغطية والستر، كحمل العفش ونحوه، وهذا أيضًا لا بأس به.
- القسم الثالث: أن يغطي رأسه بما لا يعد لبسًا، لكنه ملاصقٌ يقصد به التغطية، وهذا لا يجوز، ومثاله: المثال الذي أشار إليه المصنف بقوله: “ولو بطينٍ”، فإن هذا لا يجوز؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: ولا تخمروا رأسه [8].
- القسم الرابع: أن يستر رأسه بما يلبس عادةً على الرأس؛ كالطاقية والعمامة والغترة والشماغ، ونحو ذلك، فهذا لا يجوز بالإجماع.
- القسم الخامس: أن يظلل رأسه بتابعٍ؛ كالشمسية، أو بمنفصلٍ؛ كالخيمة، وهذا اختَلَف فيه الفقهاء؛ فمنهم من قال: إنه لا يجوز، وإليه أشار المؤلف بقوله: “أو استظلالٍ بمَحمِلٍ”، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، والقول الثاني: أنه جائزٌ؛ لأن النبي استظل بالقبة التي ضُربت له بنَمِرة [9]، ولأنه لما كان يرمي جمرة العقبة ظلل بثوبٍ يقيه من حر الشمس [10]، وهذا هو القول الراجح أنه يجوز الاستظلال بالمَحمِل، ومثله الشمسية، ومثله أيضًا سقف السيارة والخيمة، ونحو ذلك.
والقول الأول شِبه مهجورٍ، والذي عليه عمل الناس اليوم: هو القول الثاني، وهو أنه لا بأس بالاستظلال بهذه الأشياء.
حكم تغطية الوجه للمحرمة
قال:
وتغطية الوجه من الأنثى، لكن تسدل على وجهها للحاجة.
أي: لا يجوز للأنثى أن تغطي وجهها وهي محرمةٌ، لكن عند مرور الرجال الأجانب فإنها تسدل الغطاء على وجهها للحاجة، فيكون تغطية الوجه -على كلام المؤلف- بالنسبة للمحرمة من محظورات الإحرام، وهذا أحد الأقوال في المسألة.
والقول الثاني: أن تغطية الوجه للمحرمة ليست من محظورات الإحرام، وأن المرأة المحرمة إنما هي ممنوعةٌ فقط من لبس النقاب والبرقع ونحوهما مما هو مفصَّلٌ على الوجه، أما الغطاء الذي ليس مفصلًا على الوجه، فليست المرأة المحرمة ممنوعةً منه؛ لعدم الدليل الدال على أن تغطية الوجه للمحرمة من محظورات الإحرام، إنما فقط الذي وردت به السنة نهي المحرمة عن النقاب: لا تنتقب المرأة المحرمة [11]، وهذا هو القول الراجح، اختاره ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى وجمعٌ من المحققين من أهل العلم.
فإذنْ المرأة، نقول: إنها تغطي وجهها عن الرجال الأجانب، لكن بغير النقاب، هي فقط ممنوعةٌ من لبس النقاب.
ثمرة الخلاف في هذه المسألة: إذا لم تكن المرأة أمام رجالٍ أجانب، فغطت وجهها بغير النقاب، فعلى القول الأول الذي قال به المؤلف رحمه الله: يقول: إنها قد ارتكبت محظورًا، وعلى القول الثاني: إنه لا بأس بذلك.
وقال ابن تيمية رحمه الله: “إن النبي سوَّى بين وجه المرأة ويديها، وكلاهما كبدن الرجل لا كرأسه”، يعني: وجه المرأة ويداها كبدن الرجل، لا كرأس الرجل، معنى ذلك: أنها هي فقط ممنوعةٌ من لبس المخيط المفصَّل؛ النقاب والبرقع والقفازين فقط.
وأما مجرد تغطية المرأة لوجهها عند المرور بالرجال الأجانب ليست ممنوعةً المرأة المحرمة منه، وأما ما يُروى حديث: إن إحرام المرأة في وجهها، فهذا يتناقله بعض العامة، وليس حديثًا عن النبي .
وأيضًا: معناه غير صحيحٍ؛ لأن المرأة -كما قلنا- كبدن الرجل، وليس كرأس الرجل، وبدن الرجل ليس ممنوعًا من تغطيته، إنما هو ممنوعٌ من أن يغطيه بالمفصَّل الذي سميناه: المخيط.
إذنْ الحاصل: أن المرأة المحرمة إنما هي ممنوعةٌ فقط من لبس النقاب والبرقع والقفازين، ما عدا ذلك هي كغير المحرمة بالنسبة للباس.
إذنْ المرأة المحرمة بالنسبة للباس إنما هي ممنوعةٌ فقط من لبس النقاب والبرقع ونحوهما، ومن لُبس القفازين، وما عدا ذلك فهي كغير المحرمة بالنسبة للباس.
حكم لبس المحرمة للجوارب
ما حكم لبس المحرمة لجوارب الرِّجلين؟
نقول: لا بأس بذلك، بل قال بعض أهل العلم: إنه مستحبٌّ؛ لأنه أكمل في الستر، فبعض العامة تشتبه عليه هذه المسألة؛ يظن أن المرأة المحرمة ممنوعةٌ من جوارب الرجلين كجوارب اليدين -يعني القفازين- وهذا غير صحيحٍ، إنما هي فقط ممنوعةٌ من القفازين في اليدين، وليست ممنوعةً من جوارب الرجلين.
الثالث: الطيب
الثالث من محظورات الإحرام: قصد شم الطيب، ومس ما يعلق به.
الطيب ممنوعٌ منه المحرم، سواءٌ كان بقصد شمه أو لمسه، سواءٌ كان في الثوب أو في البدن، أو في غيرهما؛ لقول النبي لما سُئل عما يلبس المحرم، قال: ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسه الزعفران ولا الوَرْس [12]، و”الورس” يعني: نباتٌ أصفرٌ طيب الرائحة، ومثله: الزعفران.
وأما منع المحرم من قصد شم الطيب، فلأن النبي منع المحرم من التطيب، فقصد شمه يأخذ هذا المعنى.
حكم استعمال الصابون المعطر
طيب إذنْ المحرم ممنوعٌ من الطيب بجميع أنواعه، طيب هل للمحرم أن يستعمل الصابون المعطر؟
نقول: إذا كان الصابون معطرًا، ومن مكوناته: عطر؛ فليس للمحرم أن يستعمله؛ لأنه حينئذٍ يكون قد مس الطيب.
ولذلك إذا أراد المحرم أن يستعمل الصابون، فيستخدم الصابون غير المعطر، ومثل ذلك (الشامبو) غير المعطر، وكذلك أيضًا بالنسبة للمرطبات والأدهان ونحوها، يحرص على أنها تكون غير معطرةٍ.
قال:
واستعماله في أكلٍ أو شربٍ، بحيث يظهر طعمه أو ريحه.
يعني: لا يجوز للمحرم أن يستعمل الطيب في أكلٍ أو شربٍ، بحيث يظهر طعم الطيب أو رائحته، مثل الزعفران، فليس للمحرم أن يشرب الزعفران مع القهوة أو مع الشاي أو نحوهما؛ لأنه طيب، والنبي اعتبره طيبًا.
لكن المؤلف قيد هذا بأن يظهر طعمه أو ريحه، فإن كان لا يظهر طعمه ولا ريحه؛ فلا يمنع منه.
حكم من ارتكب محظورًا ناسيًا أو جاهلًا أو مكرهًا
قال:
فمن لبس أو تطيب، أو غطى رأسه ناسيًا أو جاهلًا أو مكرهًا؛ فلا شيء عليه، ومتى زال عذره أزاله في الحال، وإلا فدى.
كلام المؤلف هنا في محظورات الإحرام مفرَّقٌ غير مرتبٍ، وأدخل بعض العبارات في بعضٍ، كان ينبغي أن يؤجل هذا الكلام إلى الكلام عن الفدية، وعلى كل حال من ارتكب شيئًا من محظورات الإحرام السابقة ناسيًا أو جاهلًا أو مكرهًا، فكما قال المؤلف: إنه لا شيء عليه، وسيأتي الكلام عن هذه المسألة بمزيدٍ من التفصيل عند الكلام عن الفدية.
الرابع: إزالة الشعر من البدن
قال:
الرابع: إزالة الشعر من البدن ولو من الأنف، وتقليم الأظفار.
المُحرِم ممنوعٌ من إزالة الشعر؛ لقول الله تعالى: وَلَا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]، حتى ولو كان الشعر من شعر الأنف، لا يزيل الشعر لا من رأسه، ولا من يديه، ولا من ساقيه، ولا من صدره، ولا حتى من أنفه، قالوا: لأنه بإزالة الشعر يحصل الترفه.
كذلك أيضًا: المحرم ممنوعٌ من تقليم الأظفار من يدٍ أو رجلٍ، ونُقل إجماع العلماء على ذلك، وبعض الفقهاء يعد إزالة الشعر وتقليم الأظفار محظورين؛ كصاحب “زاد المستقنع”، وبعضهم؛ كالمؤلف، يجعلهما محظورًا واحدًا، ولا مشاحة في الاصطلاح.
ثم قال المصنف رحمه الله:
الخامس: قتل الصيد
الخامس: قتل صيد البر الوحشي المأكول.
المراد بالصيد: الحيوان الحلال البري المتوحش بأصل الخلقة، هذا هو تعريف الصيد، الحيون الحلال البري المتوحش بأصل الخلقة، وبعضهم يعبر بـ: الحيوان المأكول البري، أو المتوحش بأصل الخلقة.
فما كان لا يحل أكله ليس صيدًا، وكذلك الحيوانات البحرية ليست صيدًا، وكذلك: إذا لم يكن متوحشًا بأصل الخلقة ليس صيدًا؛ مثل الإبل والبقر والغنم، هذه لا تعتبر من الصيد، فقتل الصيد إذنْ هو من محظورات الإحرام، والمؤلف عقد لقتل الصيد فصلًا مستقلًا وفصَّل فيه، ولكنه هنا ذكره على سبيل الإجمال.
والدليل لذلك: هو قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96].
قال:
والدلالة عليه، والإعانة على قتله.
يحرم الدلالة على الصيد، والإعانة على قتله؛ لما في ذلك من الإعانة على الإثم، ولقصة أبي قتادة لما صاد أبو قتادة حمارًا وحشيًّا، وأهداه للنبي ، والصحابة محرمون، وأبو قتادة كان حلالًا، فلما سألوا النبي عن ذلك، قال: هل منكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمها [13]، فدل ذلك على تحريم الإعانة على قتل الصيد، أو الإشارة إليه، أو الدلالة عليه.
قال:
وإفساد بيضه.
لا يجوز التعرض للصيد مطلقًا، حتى مجرد إفساد بيضه لا يجوز.
وقتل الجراد.
لأن الجراد معدودٌ من الصيد الذي ليس له مثلٌ، فلا يجوز قتل الجراد في الحرم، ولا من المُحرِم.
والقمل.
يقول المؤلف: أنه لا يجوز قتل القمل للمحرم، هذه المسألة محل خلافٍ بين الفقهاء:
- فالقول الأول: أنه لا يجوز كما قال المؤلف؛ لأنه لو كان قتل القمل جائزًا لقتله كعب بن عجرة ولم يحتج إلى حلق رأسه.
- والقول الثاني: أنه يجوز قتل القمل، وهو رواية عن الإمام أحمد؛ لِمَا ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلًا سأله، قال: إني قتلت قملةً وأنا محرمٌ، قال ابن عمر رضي الله عنهما: “هي أهون قتيلٍ”، وسأل رجلٌ محرمٌ ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: أخذت قملةً فألقيتها، ثم طلبتها فلم أجدها، قال ابن عباسٍ: “تلك ضالةٌ لا تُبتغى”، ولأن القمل من أكثر الهوام أذًى؛ فأبيح قتله؛ كسائر ما يؤذي.
والراجح والله أعلم: هو القول الثاني، وهو أنه يجوز قتل القمل؛ لأنه مؤذٍ بطبعه؛ فهو كسائر الفواسق التي أمر النبي بقتلها في الحل والحرام [14].
أما حديث كعب بن عجرة [15]، فإن كعبًا لم يكن ممنوعًا من قتل القمل، لكن لكثرته في رأسه لم يكن له سبيلٌ إلى التخلص منه إلا بحلق شعر رأسه.
فالقول الراجح إذنْ: أنه يباح للمحرم قتل القمل، ولا جزاء عليه.
قال:
لا للبراغيث.
يعني: فيجوز قتلها، قال:
بل يسن قتل كل مؤذٍ.
يعني: مطلقًا؛ لقول النبي : خمس فواسق يُقتَلن في الحل والحرم: الفأرة، والعقرب، والحِدَأَة، والغراب، والكلب العقور [16].
السادس: عقد النكاح
السادس: عقد النكاح، ولا يصح.
يحرم على المحرم عقد النكاح؛ لقول النبي : لا يَنكِح المحرم، ولا يُنكِح، ولا يَخطِب [17]، فلا يجوز للمحرم أن يتزوج، ولا أن يُزَوِّج محرمًا، ولا أن يكون وليًّا في عقد النكاح، ولا يصح عقد النكاح لو عقده.
على ذلك: لو أن رجلًا أو امرأةً لم يتم حجه؛ كأن يكون ترك طواف الإفاضة لأي سببٍ من الأسباب، ثم بعد ذلك تزوج؛ فإن نكاحه غير صحيحٍ، فعليه أن يجدد عقد النكاح بعد أن يُتِم حجه أو عمرته.
السابع: الوطء في الفرج ودواعيه
السابع من محظورات الإحرام: الوطء في الفرج ودواعيه.
الوطء هو أشد محظورات الإحرام، إن كان قبل التحلل الأول، أو بعد التحلل الأول، يترتب عليه أمورٌ سيأتي الكلام عنها بالتفصيل في باب الفدية إن شاء الله.
قال:
والمباشرة دون الفرج، والاستمناء.
فهذه محرمةٌ على المحرم، وسيأتي الكلام عن الفدية في باب الفدية إن شاء الله.
فهذه محظورات الإحرام، عدها المؤلف سبعةً، وبعضهم يجعلها ثمانيةً، وبعضهم يجعلها تسعةً، ولا مشاحة في الاصطلاح؛ لأن بعضهم يدخل بعضها في بعضٍ؛ مثل تقليم الأظفار، منهم من يفرده، ومنهم من يدمجه مع إزالة الشعر؛ فيكون محظورًا واحدًا.
ثم تكلم المؤلف بعد ذلك عن الفدية، مع أنه عقد لها بابًا، ولو أنه جمع الكلام كله في باب الفدية؛ لكان ذلك أحسن في الترتيب.
قال:
وفي جميع المحظورات الفدية، إلا قتل القمل وعقد النكاح.
وسيبين المؤلف المقصود بالفدية، وسبق أن القول الراجح: هو جواز قتل القمل، وأنه لا فدية في قتلها عند الجميع.
قال:
وفي البيض والجراد قيمته مكانه.
سيأتي الكلام عن هذا عند الكلام أيضًا عن جزاء الصيد.
والجراد -كما قلنا- هو من الصيد الذي ليس له مِثلٌ.
وفي الشعرة أو الظفر إطعام مسكينٍ، وفي الاثنين إطعام اثنين، وفيما زاد فديةٌ.
يعني: أنه يجب في الشعرة الواحدة إطعام مسكينٍ واحدٍ، وفي تقليم الظفر الواحد إطعام مسكينٍ واحدٍ، وفي الشعرتين إطعام مسكينين، وفي الظفرين إطعام مسكينين، قال: “وفيما زاد فديةٌ”، يعني في ثلاث شعراتٍ، أو في ثلاثة أظفارٍ: دمٌ.
فعندهم إذنْ: الشعرة الواحدة: إطعام مسكينٍ واحدٍ، شعرتان: إطعام مسكينين، ثلاثٌ: دمٌ.
تقليم ظفرٍ واحدٍ: إطعام مسكينٍ، تقليم ظفرين: إطعام مسكينين، تقليم ثلاثة أظفارٍ: دمٌ، هذا هو المذهب عند الحنابلة والشافعية.
وقال بعض أهل العلم: إذا حلق أربع شعراتٍ فعليه فديةٌ.
وقال بعضهم: ربع الرأس، وهو مذهب أبي حنيفة.
وقال بعضهم: إذا حلق ما يحصل به إماطة الأذى، فعليه فديةٌ، وهذا هو مذهب المالكية، وهو القول الراجح في هذه المسألة؛ لأن التحديد بابه التوقيف، التحديد بثلاث شعراتٍ أو أربعٍ أو ربع الرأس؛ يحتاج إلى دليلٍ، وليس هناك دليلٌ يدل لهذا، والله تعالى يقول: وَلَا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، فجعل الله تعالى مناط الحكم: الأذى، قال: أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ، فيكون من حَلَق أو أزال من الشعر ما يحصل به إماطة الأذى؛ فعليه الفدية.
ولقصة كعب بن عجرة [18]، فإنه قد حلق جميع رأسه، أما إزالة الشعرة أو الشعرتين والثلاث والأربع، هذه لا يحصل بها إماطة الأذى، ولا يترتب عليها فديةٌ، ومما يدل لذلك: ما جاء في “الصحيحين” عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، أن رسول الله احتجم وهو محرمٌ في رأسه [19]، والحديث رواه البخاري ومسلمٌ أيضًا، والحجامة تستلزم حلق بعض الشعر.
قال:
والضرورات تبيح للمحرم المحظورات ويفدي.
يعني: إذا اضطر أو احتاج المحرم لفعل محظورٍ من محظورات الإحرام؛ جاز ذلك مع وجوب الفدية؛ كأن يحتاج لحلق رأسه، كما حصل لكعب بن عجرة [20]، فيجوز له ذلك ويفدي.
أو كان عنده مثلًا مشكلةٌ صحيةٌ فلبس السراويل؛ فيجوز ذلك مع دفع الفدية، أو يكون عنده مشكلةٌ في قدميه فيلبس الجورب مع الخفين؛ فهنا يجوز ذلك وعليه فديةٌ.
ومثل ذلك: المرأة التي يكون نظرها ضعيفًا فتريد أن تلبس النقاب وهي محرمةٌ للحاجة لذلك، فيجوز، لكن يلزمها أن تدفع الفدية، فمن احتاج إلى محظورٍ من محظورات الإحرام؛ جاز له أن يفعله مع دفعه الفدية.
باب الفدية
ثم انتقل المؤلف رحمه الله للكلام عن أحكام ومسائل الفدية، قال:
باب الفدية
وهي ما يجب بسبب الإحرام أو الحَرَم.
“ما يجب بسبب الإحرام” ظاهرٌ، و”ما يجب بسبب الحرم” سيتكلم المؤلف عنه، وهو متعلقٌ بالصيد في الحرم.
قال:
وهي قسمان: قسمٌ على التخيير، وقسمٌ على الترتيب:
فقسمٌ على التخيير؛ كفدية اللبس، والطيب، وتغطية الرأس، وإزالة أكثر من شعرتين أو ظفرين، والإمناء بنظرةٍ، والمباشرة بغير إنزال منيٍّ.
هذه الأمور كلها فديتها على التخيير.
طيب مخيرٌ بين ماذا؟ قال:
يخير بين ذبح شاةٍ، أو صيام ثلاثة أيامٍ، أو إطعام ستة مساكين.
وهذه فديةٌ منصوصٌ عليها في قول الله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196].
والكلام عن الفدية يطول، فلعلنا نرجئ الكلام عنه -إن شاء الله- للدرس القادم، نعيد -إن شاء الله- بداية الكلام من قول المؤلف: “وهي قسمان..”؛ لأن الكلام عنها يطول، ووقت هذا الدرس انتهى، فإن شاء الله نفتتح درسنا القادم بالكلام عن مسائل وأحكام الفدية.
نكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 5089، ومسلم: 1207. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 1841، ومسلم: 1178. |
^3 | رواه البخاري: 1843. |
^4 | رواه البخاري: 1265، ومسلم: 1206. |
^5 | رواه مسلم: 1206. |
^6 | نيفق السراويل: الموضع المتسع منها. لسان العرب لابن منظور: (نفق). |
^7 | رواه البخاري: 1543، ومسلم: 1177. |
^8, ^18, ^20 | سبق تخريجه. |
^9 | رواه مسلم: 1218. |
^10 | رواه مسلم: 1298. |
^11 | رواه البخاري: 1838. |
^12 | رواه مسلم: 1177. |
^13 | رواه البخاري: 1824، ومسلم: 1196. |
^14, ^16 | رواه مسلم: 1198. |
^15 | رواه البخاري: 1814، ومسلم: 1201. |
^17 | رواه مسلم: 1409. |
^19 | رواه البخاري: 5701، ومسلم: 1202. |