logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري/(10) باب كلام الرب مع جبريل- من حديث «إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدًا..»

(10) باب كلام الرب مع جبريل- من حديث «إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدًا..»

مشاهدة من الموقع

ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها:

قالت: ما غِرت على امرأةٍ ما غِرت على خديجة، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيتٍ في الجنة [1].

الشاهد: قولها: “أمره ربه”، الأمر لا يكون إلا بالكلام.

وهذا يدل على وجود الغيرة عند النساء، حتى إن عائشة رضي الله عنها غارت من خديجة وهي لم ترها أصلًا، لكن غارت من ثناء النبي عليها ومحبته لها، حتى إنه ربما ذبح الشاة وأرسل إلى صديقات خديجة.

خديجة رضي الله عنها امرأةٌ عظيمةٌ من عظيمات النساء، وامرأةٌ وفيَّةٌ، وعندها رجاحة عقلٍ، وقفت مع النبي وقفةً عظيمةً في الفترة المكية؛ ولما أتاها النبي وهو يقول: زَمِّلوني زَمِّلوني، دَثِّروني دَثِّروني؛ قالت: “كلا والله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتعين الملهوف” [2]، يعني: ومن كان كذلك؛ فالله لا يُخزيه.

ومن رجاحة عقلها: أنها ذهبت إلى ابن عمها ورقة بن نوفلٍ، وكان عنده علمٌ من الكتاب، قال: هذا هو الناموس الأكبر الذي أتى موسى، وآمن بالنبي ؛ ولذلك عَدَّه ابن القيم رحمه الله من الصحابة وترحم عليه.

فخديجة رضي الله عنها لم يُعدِّد النبي عليها؛ وفاءً لها، امرأةٌ عظيمةٌ ضحَّت، فهي من عظيمات النساء، فإكرامًا لها؛ لم يُعدِّد النبي عليها، لما توفيت بعد ذلك؛ تزوج النبي عليه الصلاة والسلام عِدَّة نساءٍ -كما هو معلومٌ- فأمره ربه ​​​​​​​ أن يبشِّر خديجة ببيتٍ في الجنة.

والشاهد: قولها: “أمره”، والأمر يكون بالكلام؛ وهو يدل على إثبات صفة الكلام لله .

والكلام: بحرفٍ وصوتٍ، لا كما تقول الأشاعرة: إنه كلامٌ نفسيٌّ، أو المعنى القائم بالنفس، وإنما بالحرف والصوت.

باب كلام الرب مع جبريل  ونداء الله ​​​​​​​ للملائكة

باب كلام الرب مع جبريل، ونداء الله للملائكة.

وقال مَعْمَرٌ: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ [النمل:6]، يُلْقَى عليك، وتَلَقَّاه أنت، أي: تأخذه عنه، ومثله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ [البقرة:37].

إثبات الكلام لله

إذنْ لا زال المؤلف رحمه الله في إثبات هذه المسألة: وهي إثبات الكلام لله سبحانه؛ لأنه حصل فيها لَغَطٌ كثيرٌ، خاصةً في زمن المؤلف، لمَّا قامت قائمة الجهمية، وأنكروا صفة الكلام لله ، وقالوا: القرآن مخلوقٌ وليس منزلًا، وامتحنوا الناس، وحصل ما حصل من المحنة العظيمة، فكان في ذلك الوقت هناك كلامٌ كثيرٌ حول هذه المسألة؛ ولهذا نجد المصنف ركَّز عليها رحمه الله تعالى.

ثم ساق المصنف حديث أبي هريرة ، قال:

قال رسول الله : إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدًا؛ نادى جبريل: إن الله قد أحب فلانًا فأَحِبَّه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريلُ في السماء: إن الله قد أحب فلانًا فأَحِبُّوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في أهل الأرض [3].

إن الله إذا أحب عبدًا نادى جبريل: هذا والله هو الشرف العظيم الذي ما بعده شرف! أن الله تعالى ينادي جبريل ويقول: إني أحب فلان بن فلانٍ فأَحِبَّه، فيحبه جبريل، وينادي في السماء، ويقول جبريل: إن الله قد أحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، فلا يراه أحدٌ أو يسمع به إلا وقد أحبه، فيا له من شرف عظيم! هذا والله الذي ينبغي أن يَعمل لمثله العاملون، ويتنافس فيه المتنافسون.

والشاهد: قوله: إن الله ينادي جبريل؛ ففيه إثبات صفة الكلام لله .

ثم ساق المصنف حديث أبي هريرة :

يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكةٌ بالنهار.. [4].

تكلمنا عن هذا الحديث في الدرس السابق، والشاهد: قوله: فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم، ففيه إثبات صفة الكلام لله تعالى.

ثم ذكر حديث أبي ذرٍّ :

عن النبي قال: أتاني جبريل فبشرني: أنه من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: وإن سرق وإن زنى [5].

جاء في روايةٍ أن أبا ذرٍّ  كررها، قال: قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: وإن سرق وإن زنى، قال: قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: وإن سرق وإن زنى، على رغم أنف أبي ذرٍّ [6].

ولكن هذا الحديث من نصوص الوعد، ينبغي أن يُفهم الفهم الصحيح؛ لأن الأخذ بهذا الحديث وإهمال نصوص الوعيد يوقع في الإرجاء؛ ولذلك ضلت المرجئة في هذا؛ لأنها أخذت بهذه النصوص وتركت نصوص الوعيد، والأخذ بنصوص الوعيد وإهمال نصوص الوعد يوقع فيما وقعت فيه الخوارج والمعتزلة من التكفير.

والصواب: الجمع بين النصوص، فيقال: إن مرتكب الكبيرة مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، وفي الآخرة تحت مشيئة الله، لكنه لا يخلد في النار؛ ولذلك قال: من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، لكن قد يعذب، قد يعذب في النار ما شاء الله، ثم يدخل الجنة، أي: أن مآله إلى الجنة، بشرط: ألا يشرك بالله شيئًا، حتى وإن حصل منه كبائر، فهو لا يخلد في النار.

باب قول الله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ

ثم قال المؤلف رحمه الله:

باب قول الله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ [النساء:166].

القرآن منزَّلٌ غير مخلوقٍ

أي: أَنزَل القرآن، ومراد المؤلف: أن الأمر غير الخلق، وقوله: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ [النساء:166]، أي: فيه عِلمُه الذي أراد أن يطلع العباد عليه من البينات والهدى والفرقان، وما يحبه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل.

قال مجاهدٌ: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [الطلاق:12]، قال: بين السماء السابعة والأرض السابعة.

يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ، أراد البخاري أن يُبيِّن أن الأمر غير الخلق، ثم ذكر حديث البراء بن عازبٍ :

قال: قال رسول الله : يا فلان، إذا أويت إلى فراشك؛ فقل.

جاء في الرواية الأخرى عند البخاري: فتوضأ وضوؤك للصلاة [7]؛ وهذا يدل على أن السنة للإنسان قبل أن ينام: أن يتوضأ.

هنا قال:

فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رهبةً ورغبةً إليك، لا مَلجأ ولا مَنجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإنك إن مت في ليلتك؛ مت على الفطرة، وإن أصبحت؛ أصبت أجرًا [8].

وجاء في روايةٍ: واجعلهن آخر ما تقول [9]، يعني: قبل أن تنام قل هذه الكلمات، احفظ هذا الدعاء، دعاءٌ عظيمٌ؛ ولذلك طلب النبي من البراء أن يعيده فأعاده، لكن قال في آخره: “وبرسولك الذي أرسلت”، قال: لا، وبنبيك الذي أرسلت [10].

والشاهد: قوله: وبكتابك الذي أنزلت؛ وهذا يدل على أن القرآن منزَّلٌ غير مخلوقٍ.

والقرآن من علم الله ، وصفةٌ له؛ فليس مخلوقًا، وقد احتج الإمام أحمد على كفر من قال: إن القرآن مخلوقٌ، بأن القرآن من علم الله، فمن زعم أن علم الله مخلوقٌ؛ فهو كافرٌ.

ثم ساق حديث ابن أبي أوفى ، قال:

قال رسول الله يوم الأحزاب: اللهم مُنزِل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب وزلزلهم [11].

وقوله: منزل الكتاب، يدل على أن القرآن منزلٌ غير مخلوقٍ.

ثم ساق حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما:

قال ابن عباسٍ: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا [الإسراء:110].

وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ يعني: بقراءتك، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا يعني: وكن بين ذلك؛ بين الجهر وبين الإسرار.

قال: أُنزِلَتْ ورسول الله متوارٍ بمكة، فكان إذا رفع صوته؛ سمع المشركون، فسبُّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، وقال الله تعالى: وَلاَ تَجهَر بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخِافِت بِهَا [الإسراء:110]، لا تجهر بصلاتك حتى يسمع المشركون، ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم وَابتَغِ بَينَ ذَلِكَ سَبِيلاً [الإسراء:110].

يعني: بين الجهر والإخفات سبيلًا، فيكون وسطًا بينهما.

أَسمِعهم ولا تجهر؛ حتى يأخذوا عنك القرآن.

باب قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

باب قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [الفتح:15].

وأراد المصنف بهذا أن يثبت صفة الكلام لله ، وأنه لا يختص بالقرآن.

قال: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطارق:13]: حقٌّ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [الطارق:14]: باللعب.

حكم سب الدهر

ثم ساق حديث أبي هريرة  أن النبي قال:

قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أُقلِّب الليل والنهار [12].

قال: بيدي الأمر: الأمر بيد الله ؛ وهذا يدل على تحريم سب الدَّهر، تحريم سب الزمن، سب الساعة، سب اليوم، فهذا لا يجوز.

وقوله: وأنا الدهر: الدهر ليس من أسماء الله ، وفسر النبي المراد بذلك، قال: أُقلِّب الليل والنهار، وقد خطَّأ العلماء ابن حزمٍ لما جعل الدهر من أسماء الله تعالى، قالوا: إن الدهر ليس من أسماء الله تعالى، وإنما المقصود بقوله: وأنا الدهر، جاء تفسيرها فيما بعدها: بيدي الأمر، أُقلِّب الليل والنهار.

ثم ساق المصنف حديث أبي هريرة  عن النبي  قال:

يقول الله : الصوم لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي، والصوم جُنةٌ، وللصائم فرحتان: فرحةٌ حين يفطر، وفرحةٌ حين يلقى ربه؛ ولَخُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك [13].

هذا الحديث المشهور أروده المصنف؛ لقوله: يقول الله ؛ ففيه إثبات صفة الكلام لله تعالى.

ثم ساق بسنده أيضًا حديث أبي هريرة، وسبق الكلام عنه في درس سابق:

بينما أيوب يغتسل عريانًا؛ خرَّ عليه رِجل جرادٍ من ذهبٍ، فجعل يحثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟! قال: بلى يارب، ولكن لا غنى بي عن بركتك [14].

سبق الكلام عن هذا، والشاهد: قوله: فناداه ربه؛ ففيه إثبات صفة الكلام لله تعالى.

وهو يدل على جواز الاغتسال عريانًا، وكانت عائشة رضي الله عنها تغتسل مع النبي من إناءٍ واحدٍ وتقول: “حتى أقول: دَعْ لي، دَعْ لي” [15]، ظاهر هذا: هو الاغتسال عريانًا، فلا بأس بذلك.

وقوله: لا غنى بي عن بركتك، سَمَّى هذا الذهب بركةً؛ لأنه أُرسِل إليه بدون صنع آدميٍّ ولا كَدِّه.

ثم ساق المؤلف بسنده:

عن أبي هريرة  أن رسول الله قال: يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلةٍ إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ [16].

ومحل الشاهد: أن الله تعالى ينادي عباده، يقول: من يدعوني؟ من يسألني؟ ففيه إثبات صفة الكلام لله .

وهذا من رحمة الله تعالى بعباده، أنه يتنزل في الثلث الأخير من الليل، وينادي عباده بهذا النداء؛ لهذا ينبغي للمسلم أن يغتنم هذا الوقت في قيام الليل، خاصةً طالب العلم، ينبغي أن يحرص على أن يصلي في هذا الوقت الفاضل، الوقت الذي يتنزل فيه الرب بالرحمة، وينادي عباده بهذا النداء: من يدعوني؟ من يسألني؟ من يستغفرني؟ ولا يليق بطالب العلم ألا يكون له نصيبٌ من قيام الليل.

ثم ساق المصنف بسنده: حديث أبي هريرة : 

أنه سمع رسول الله يقول: نحن الآخِرون السابقون يوم القيامة [17].

وهذه الأمة آخر الأمم، وأول الأمم دخولًا الجنة.

وبهذا الإسناد قال الله: أَنْفِق أُنْفِق عليك [18].

ولعل هذا هي المناسبة التي أورد لها البخاري هذا الحديث، فيها أنه بهذا الإسناد: قال الله؛ ففيه إثبات صفة الكلام لله .

ثم ساق الحديث السابق الذي تكلمنا عنه قبل قليلٍ، حديث أبي هريرة ، قال:

عن أبي هريرة  فقال:

يعني: قال جبريل  كما في الرواية الأخرى.

هذه خديجة أتتك بإناءٍ فيه طعامٌ، أو إناءٍ فيه شرابٌ، فأقرئها من ربها السلام، وبشرها ببيتٍ من قَصَبٍ، لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ [19].

قال: أقرئها من ربها السلام؛ ففيه إثبات صفة الكلام لله .

ثم ساق حديث أبي هريرة :

عن النبي قال: قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ [20].

وفيه إثبات صفة الكلام؛ لقوله : قال الله.

ثم ساق حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما:

كان النبي إذا تهجد من الليل قال: اللهم لك الحمد.. [21].

هذا سبق الكلام عنه، والتعليق عنه بالتفصيل، ومحل الشاهد: قوله: وقولك الحق، ففيه إثبات صفة الكلام لله .

ثم ساق بسنده حديث عائشة رضي الله عنها:

حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا -وكلٌّ حدثني طائفةً من الحديث الذي حدثني عن عائشة- قالت: ولكن والله ما كنت أظن أن الله يُنزل براءتي وحيًا يتلى، ولَشَأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمرٍ يتلى، ولكن كنت أرجو أن يَرَى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ [النور:11]، العشر الآيات.

قصة حادثة الإفك

قصة الإفك قصةٌ عجيبةٌ! لمَّا كان النبي مع أصحابه في إحدى الغزوات؛ ظنوا أن عائشة رضي الله عنها في الهودج، فارتحل الجيش، وعائشة رضي الله عنها ذهبت تبحث عن عقدٍ لها، فلما أتت؛ ما وجدتهم، ظنت أنهم سيرجعون لها فنامت، وكان صفوان بن المُعَطِّل إذا نام؛ لا يستطيع أحدٌ أن يوقظه، إلا أن يستيقظ بنفسه، مهما أوقظ لا يمكن أن يستيقظ، ويقال: إن عائلته كانت كذلك، بعض الناس -وهذه قلةٌ من الناس- إذا نام؛ لا يمكن لأحدٍ أن يوقظه، حتى لو كان بجواره مدفعٌ لا يستيقظ، فكان صفوان من هذا النوع، فالجيش ذهب، وبقي صفوان، لما أتى صفوان؛ رأى عائشة رضي الله عنها فاسترجع، قالت: “والله ما كلمني بكلمةٍ”، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون!، أناخ البعير، أتى بعائشة رضي الله عنها في الضحى، في حر الظهيرة، يعني إنسانٌ واثقٌ من نفسه، فقام عبدالله بن أُبَيٍّ -عليه من الله ما يستحق- وهو الذي أشاع الإفك في المدينة، والقصة مشهورة، إلى أن برأ الله تعالى عائشة، تقول عائشة رضي الله عنها: كنت أظن أن النبي عليه الصلاة والسلام سيرى رؤيا، ما كنت أظن أنه سينزل عشر آياتٍ في القرآن، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمرٍ، وهذا هو موضع الشاهد: “يتكلم الله”؛ ففيه إثبات صفة الكلام لله .

وقد قال عليه الصلاة والسلام: كمُل من الرجال كثيرٌ، ولم يكمُل من النساء إلا مريم وآسية بنت مزاحمٍ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام [22]، متفقٌ عليه.

ثم ساق المصنف حديث أبي هريرة :

أن رسول الله قال: يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئةً؛ فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها؛ فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي؛ فاكتبوها له حسنةً، وإذا أراد أن يعمل حسنةً فلم يعملها؛ فاكتبوها له حسنةً، فإن عملها؛ فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمئةٍ [23].

والشاهد: قوله: يقول الله؛ ففيه إثبات صفة الكلام لله .

وهذا من رحمة الله بعباده، أن السيئة إن لم يعملها لا تكتب عليه، إن عملها؛ كتبت سيئةً واحدةً، وإن تركها لله؛ كتبت حسنةً، وأما الحسنة إن لم يعملها؛ كتبت حسنةً واحدةً، إن هم بها ولم يعملها، فإن عملها؛ فإنها تضاعف إلى عشر أمثالها إلى سبعمئة ضِعفٍ.

ثم ساق المصنف حديث أبي هريرة :

أن رسول الله قال: خلق الله الخلق، فلما فرغ منه؛ قامت الرحم فقال: مه؟ قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك، قالت: بلى يا رب، قال: فذلك لك، ثم قال أبو هريرة: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد:22] [24].

والشاهد: أن الله تعالى قال هذا القول؛ فدل ذلك على إثبات صفة الكلام لله.

أقول: لو لم يَرِد في صلة الرحم إلا هذا الحديث؛ لكفى، تكفل الله للرحم بأن يصل من وصلها، وأن يقطع من قطعها، وهي متعلقةٌ بالعرش، يصل الله من وصل رحمه بكل خيرٍ وبرٍّ وتوفيقٍ وتيسيرٍ، ويقطع الله من قطع رحمه من كل خيرٍ وتوفيقٍ وتيسيرٍ.

ولذلك لا يمكن أن يكون قاطعٌ لرحمه سعيدًا أبدًا؛ لأن الله تكفل أن يَقطعه من كل خيرٍ، كيف يكون سعيدًا؟ حتى وإن حصَّل ثروةً، وإن حصَّل مالًا، لا يمكن أن يكون سعيدًا، والعاق لوالديه لا يمكن أن يكون سعيدًا؛ لأن العقوق أبلغُ ما يكون من قطيعة الرحم.

ثم ساق بسنده حديث زيد بن خالدٍ ، قال:

مُطِرَ النبي فقال: قال الله: أصبح من عبادي كافرٌ بي ومؤمنٌ بي [25].

ساقه المؤلف هنا مختصرًا؛ وذلك أنه نزل مطرٌ، فصلى النبي بالناس صلاة الصبح في الحديبية، ثم قال: أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال الله: أصبح من عبادي اليوم مؤمنٌ بي وكافرٌ؛ فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكوكب، وهذا يسميه العلماء بكفر النعمة.

إذا نزل المطر؛ لا يجوز نسبة المطر لغير الله، لا للمنخفض الجوي، ولا لنوء كذا، ولا لأي شيءٍ، قل: مطرنا بفضل الله ورحمته، إذا نزل المطر؛ كن حذرًا من أن تتكلم بكلامٍ سيئٍ؛ لأن هذا قد يكون فيه كفرٌ للنعمة، إذا نسبت المطر لغير الله، فهذا قد يكون كفرًا للنعمة، وهذا معنى قوله: أصبح اليوم من عبادي مؤمنٌ بي وكافرٌ، إذا كان النبي يقول هذا للصحابة ، ورسول الله بين أظهرهم، فكيف بزماننا؟!

أما التوقعات الجوية -كما ذكرنا في درس الأمس- فهذه لا تدخل في هذا، فلا بأس بها؛ لأنها لا تعدو أن تكون تفسيرًا لسنن الله في الكون.

ثم ساق المصنف حديث أبي هريرة ، حديثًا آخر:

أن رسول الله قال: قال الله: إذا أحب عبدي لقائي؛ أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي؛ كرهت لقاءه [26].

والشاهد: قوله: قال الله؛ ففيه إثبات صفات الكلام لله .

وقد جاء تفسير ذلك: أن هذا إنما يكون عند الاحتضار، فإن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، كلنا نكره الموت، قال: ليس ذاك، ثم بيَّن عليه الصلاة والسلام أن هذا عند الاحتضار، عندما تأتيه الملائكة لقبض روحه، فيحب لقاء الله، فيحب الله لقاءه، وأما الكافر فيكره لقاء الله، فيكره الله لقاءه [27].

ثم ساق بسنده حديث أبي هريرة :

قال الله: أنا عند ظن عبدي بي [28].

الشاهد: قوله: قال الله، وسبق الكلام عنه.

ثم ساق بسنده حديث أبي هريرة :

أن رسول الله قال: قال رجلٌ لم يعمل خيرًا قط: فإذا مات فحرِّقوه، واذْرُوا نصفه في البحر ونصفه في البر، فو الله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت؟ قال: من خشيتك وأنت أعلم، فغَفَر له [29].

الشاهد: قوله: فقال الله.

ساق المصنف هذا الحديث بعد حديثٍ واحدٍ بروايةٍ أخرى أوسع، نأخذ الروايتين جميعًا:

عن أبي سعيدٍ ، عن النبي : أنه ذكر رجلًا فيمن سلف، أو فيمن كان قبلكم، قال كلمةً، يعني: أعطاه الله مالًا وولدًا، فلما حضرت الوفاة؛ قال لبنيه: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أبٍ، قال: فإنه لم يَبْتَئر أو لم يبتئز عند الله خيرًا، وإن يقدر الله عليه؛ يعذبه، كما تُفَسِّر ذلك الرواية الأخرى، فانظروا إذا مت فأحروقني، حتى إذا صرت فحمًا؛ فاسحقوني، أو قال: فاسحكوني، فإذا كان يوم ريحٍ عاصفٍ فأَذْرُوني فيها، يعني: يريد أن يخفى على الله؛ ولذلك قال: لئن قدر الله عليَّ؛ لَيعذبَنِّي عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، قال نبي الله : فأخذ مواثيقهم على ذلك وربي، ففعلوا ثم أَذْرَوه في يومٍ عاصفٍ، فقال الله : كن، فإذا هو رجلٌ قائمٌ، قال الله: أي عبدي، ما حملك على أن فعلت ما فعلت؟ قال: مخافتك، أو فرقٌ منك، قال: فما تلافاه أن رَحِمَه عندها، وقال مرةً أخرى: فما تلافاه غيرها، حدثت به أبا عثمان، قال: سمعت هذا من سلمان، غير أنه زاد فيه: أَذْرُوني في البحر، أو كما حدَّث.

قال: لم يبتئر، فسَّره قتادة: لم يَدَّخر، هذا الرجل، قال: لم يعمل خيرًا قط، وخشي وخاف من الله ، وأوصى أولاده بأن يَحرقوه ثم يُذْرُوه في يومٍ عاصفٍ، وهذا شكٌّ في قدرة الله ، والشك في قدرة الله كفرٌ، ومع ذلك أمر الله تعالى بهذا الرجل، قال له: كن، قال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك، فغفر الله له [30].

هل من وقع في الكفر يكون كافرًا؟

وهذا نستفيد منه فائدةً: وهي أنه ليس كل من وقع في الكفر يكون كافرًا، هذه قاعدةٌ مفيدةٌ لطالب العلم، ليس كل من وقع في الكفر يكون كافرًا، هذا الرجل وقع في الكفر، لكنه لم يكفر؛ لأنه متأولٌ، ظن أن فعله هذا الشيء من خشية الله ؛ ولهذا غفر الله له، فليس كل من وقع في الكفر يكون كافرًا؛ ولذلك ينبغي للإنسان أن يحترز في مسائل التكفير، هي مَزَلَّة أقدامٍ، نَصِفُ العملَ بأنه كفرٌ، لكن عند تنزيله على المعين هذا فيه شروطٌ عند أهل العلم، ومن أبرز هذه الشروط: إقامة الحجة على هذا الإنسان، بأن يقال له: إن فعلك هذا كفرٌ، وإذا لم تتب إلى الله؛ فأنت كافرٌ، فإن أصر مع علمه؛ فيكفر أيضًا، ليس من أي أحدٍ، وإنما من العلماء فقط.

فهذه القصة إذنْ تدل على أنه ليس كل من وقع في الكفر يكون كافرًا، قد يكون له عذرٌ، قد يكون جاهلًا، قد يكون متأولًا مثل هذا الرجل، كان متأولًا، فعل ذلك لأجل خشية الله  فغفر الله له.

والشاهد: أن الله تعالى تكلم معه، قال: أيْ عبدي، ما حملك على ما فعلت؟، وهذا يدل على إثبات صفة الكلام لله تعالى.

فضل التوبة والاسغفار

ونختم بحديث أبي هريرة :

قال: سمعت النبي قال: إن عبدًا أصاب ذنبًا أو ربما قال: أذنب ذنبًا، فقال رب أذنبت وربما قال: أصبت فاغفر لي، فقال ربه: أَعَلِمَ عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا، أو أذنب ذنبًا فقال: رب أذنبت أو أصبت آخر فاغفره؟ فقال أَعَلِمَ عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا وربما قال: أصاب ذنبًا، قال: قال: رب أصبت أو أذنبت آخر فاغفره لي، فقال: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثلاثا، فليعمل ما شاء [31].

هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ، أولًا أورده المصنف رحمه الله؛ لأنه يقول: قال الله؛ ففيه إثبات صفة الكلام لله .

هذا الحديث ينبغي أن نفهمه الفهم الصحيح، هذا العبد الذي أذنب ذنبًا وتاب إلى الله، تاب إلى الله واستغفر، التوبة الصادقة حصل فيها ندمٌ وإقلاعٌ عن الذنب وعزمٌ على ألا يعود إليه، ثم مع مرور الوقت ضعفت نفسه فرجع للذنب مرةً ثانيةً، فتاب من جديدٍ مرةً أخرى واستغفر، فغفر الله له، ثم ضعفت نفسه فرجع للذنب، ثم رجع وتاب إلى الله صادقًا، واستوفى شروط التوبة فغفر الله له، وقال الله: أَعَلِمَ عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب؟ فليعمل عبدي ما شاء، يعني: كلما تاب توبةً صادقةً؛ يغفر له، وهذا من فضل الله وكرمه وسعة مغفرته جل وعلا.

ولهذا قال القرطبي رحمه الله في “المفهم”: يدل هذا الحديث على عظيم فائدة الاستغفار، وعلى عظيم فضل الله وسعة رحمته، وحلمه وكرمه، وهذا فيه سَلْوةٌ لبعض الناس، بعض الناس يقول: أنا أتوب ثم أرجع مرةً ثانيةً، نقول: توبتك الأولى صحيحةٌ، بشرط أن تكون صادق التوبة، وتحقق شروطها بالإقلاع عن الذنب والندم، والعزم على ألا تعود إليه، لكن لو قُدِّر أن نفسك ضعفت ورجعت للذنب مرةً ثانيةً؛ ارجع مرةً أخرى وتب إلى الله تعالى، ولو رجعت مرةً ثالثةً؛ ارجع وتب إلى الله تعالى، هذا ليس تلاعبًا؛ لأنك عندما تتوب تكون صادقًا، إنما التوبة التي لا تصح: أن الإنسان يقول: أتوب إلى الله، وفي قرارة نفسه أنه سيرجع للذنب، هذه التوبة التي لا تصح، لكن لو أنه عندما وقع منه الذنب؛ ندم وعزم على ألا يعود إليه عزمًا صادقًا، وأقلع عن الذنب؛ صحت التوبة، لو رجع للذنب مرةً أخرى ثم تاب إلى الله؛ صحت التوبة المرة الثانية والثالثة والرابعة وهكذا؛ ولهذا قال: فليعمل ما شاء، فيفهم هذا الحديث إذنْ بهذا الفهم.

وهذا يدل على فضل الاستغفار والتوبة، وأن الباب مفتوحٌ، والشيطان أحيانًا يأتي الإنسان يقول: أنت فعلت هذا الذنب، وسبق أن تبت ثم رجعت مرةً ثانيةً، أنت متلاعبٌ، هذا غير صحيحٍ، المهم أنك عندما تبت كنت صادقًا في توبتك.

ونقف عند هذا القدر، وما تبقى إن شاء الله فبه نختم هذه الدورة إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 3816، ومسلم: 2435.
^2 رواه البخاري: 4953، ومسلم: 252.
^3 رواه البخاري: 7485، ومسلم: 2637.
^4 رواه البخاري: 7429، ومسلم: 632.
^5 رواه البخاري: 7487.
^6 رواه البخاري: 5827، ومسلم: 94.
^7, ^10 رواه البخاري: 247، ومسلم: 2710.
^8 رواه البخاري: 7488.
^9 رواه أبو داود: 5046.
^11 رواه البخاري: 2933، ومسلم: 1742.
^12 رواه البخاري: 7491، ومسلم: 2246.
^13 رواه البخاري: 7492.
^14 رواه البخاري: 7493.
^15 رواه مسلم: 321.
^16 رواه البخاري: 1145، ومسلم: 758.
^17 رواه البخاري: 876، ومسلم: 855.
^18 رواه البخاري: 7496.
^19 رواه البخاري: 7497، ومسلم: 2432.
^20 رواه البخاري: 4779.
^21 رواه البخاري: 1120، ومسلم: 769.
^22 رواه البخاري: 3411، ومسلم: 2431.
^23 رواه البخاري: 7501.
^24 رواه البخاري: 7502، ومسلم: 2554.
^25 رواه البخاري: 7503.
^26 رواه البخاري: 7504.
^27 رواه أحمد: 12047.
^28 رواه البخاري: 7505، ومسلم: 2675.
^29 رواه البخاري: 7506.
^30 رواه البخاري: 7508.
^31 رواه البخاري: 7507، ومسلم: 2758.
zh