عناصر المادة
دروس من الحرم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، نسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
كنا قد بدأنا بالأمس في “باب أحكام سجود السهو” من “شرح العمدة في الفقه”، وذكرنا جملة من أبرز الأحكام التي يحتاج إليها المسلم، وننتقل بعد ذلك إلى: “باب صلاة التطوع”.
نبدأ، أولًا نستمع لعبارة المؤلف:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لمؤلف هذا الكتاب ولشيخنا ولجميع الحاضرين.
باب صلاة التطوع
قال المؤلف رحمه الله:
باب صلاة التطوع
وهي على خمسة أضرب: أحدها: السنن الراتبة، وهي التي قال ابن عمر رضي الله تعالى عنه: عشر ركعات حفظتهن من رسول الله : ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيتي، وركعتين بعد العشاء في بيتي، وركعتين قبل الفجر، حدثتني حفصة أن رسول الله كان إذا طلع الفجر وأذن المؤذن صلى ركعتين، وهما آكدها، ويستحب تخفيفهما، وفعلهما في البيت أفضل، وكذلك ركعتي المغرب.
باب صلاة التطوع، التطوع المقصود به: التنفل، وصلاة التطوع: هي صلاة النافلة، والنافلة من النَّفْل، وكذا التطوع: وهو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، فهو رديف للمستحب: ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.
والإكثار من التطوعات من أسباب نيل محبة الله ، لذلك؛ قال الله في الحديث القدسي الذي أخبر به النبي : وما تقرب إلي عبدي بأحبَّ مما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه [1]. فدل هذا على أن كثرة النوافل من أسباب نيل محبة الله ، ثم إن كثرة التطوع تفيد الإنسان فائدة عظيمة: وهي أنه يسد بها النقص والخلل الذي يكون في الفرائض، وهذا من رحمة الله بعباده، فمثلًا في باب الصلاة هل نحن نؤدي الصلاة المفروضة كما أمر الله ؟
يعتري صلاة الإنسان ما يعتريها من النقص والخلل، ولذلك؛ فنحن بحاجة للتطوع لتكميل هذا النقص والخلل الواقع في الفريضة، وكما جاء في الأثر: أن أول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة، وأول ما ينظر من الصلاة الفرائض، فإن كان فيها نقص، فيقال: انظروا هل له من تطوع [2]، فتكمل وترقع بها كما يرقع الثوب.
وبعض الناس يقول: هذا التطوع إذا تركتُه ليس علَيَّ إثم؟
نقول: صحيح إذا تركته ليس عليك إثم، ولكن أنت بحاجة لتكميل الفرائض، هل أتيت بالفرائض كما أمر الله؟
فينبغي للمسلم إذنْ أن يحرص على الإكثار من التطوعات بعد المحافظة على الفرائض.
وقد ذكر المؤلف رحمه الله جملة من هذه التطوعات في باب الصلاة، وإلا فإن التطوعات أشمل من الصلاة، تطوع في باب الصيام، تطوع في الحج، تطوع في الزكاة، تطوع في جميع الأعمال فيها تطوعات، تطوع مثلًا في باب الصيام، أن تصوم نافلة كصيام يوم وإفطار يوم، أو صيام مثلًا يوم الاثنين، ونحو ذلك، تطوع في الحج، أن تحج حجة نافلة، تطوع في الزكاة أن تتصدق.
أنواع صلاة التطوع:
لكن الكلام هنا منحصر في التطوع في باب الصلاة قسمه المؤلف إلى خمسة أنواع:
قال: وهي –أي: صلاة التطوع- خمسة أضرب:
- أحدها: السنن الراتبة، السنن الرواتب، ومعنى الراتبة يعني الثابتة المستمرة التي كان النبي يحافظ عليها في الحضر ولا يتركها.
ما هي هذه السنن الرواتب؟
قال: هي التي قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: عشر ركعات حفظتهن من رسول الله : ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب في بيته، وركعتان بعد العشاء في بيته، وركعتان قبل الفجر [3]. فيكون المجموع عشر ركعات.
ولكن جاء في أحاديث أخرى: أن السنن الرواتب اثنتا عشرة ركعة، وذلك بأن تكون السنة الراتبة قبل الظهر أربع ركعات، وهذا قد جاء في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أن النبي كان يصلي أربع ركعات قبل الظهر؛ كما في الصحيح [4].
كما أنه جاء أيضًا في حديث أم حبيبة رضي الله عنها الذي أخرجه مسلم في “صحيحه” من طريق النعمان بن سالم قال: حدثني عمر بن أوس قال: حدثني عَنْبَسَة بن أبي سفيان قال: حدثتني أم حبيبة رضي الله تعالى عنها: أن النبي قال: من صلى ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بُنِيَ له بهن بيت في الجنة [5]. وزاد الترمذي وهن: أربع ركعات قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر [6]. فرواية الترمذي فسرت المقصود بهذه الاثنتي عشرة ركعة، وأنها السنن الرواتب.
أخرج مسلم حديث أم حبيبة رضي الله عنها بهذا اللفظ الذي ذكرت، ثم قال: قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله يقول ذلك. وقال عنبسة بن أبي سفيان الراوي عن أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعت أم حبيبة. وقال عمر بن أوس: فما تركتهن منذ سمعت عنبسة. وقال النعمان بن سالم: فما تركتهن منذ سمعت عمر بن أوس. وأنت يا أخي الكريم لا تتركهن منذ أن سمعت هذا الحديث العظيم.
فينبغي أن نحافظ على هذه الثنتي عشرة ركعة جميعًا، وألا ندعها في الحضر، هذا هو هدي النبي ، انظروا إلى مبادرة السلف الصالح! منذ أن سمعوا هذا الحديث حافظوا على هذه السنن، لاحِظ قول أم حبيبة رضي الله عنها: ما تركتهن منذ سمعت النبي يقولها. والرواة من بعد أم حبيبة؛ عنبسة وعمر بن أوس والنعمان بن سالم، كل واحد يقول: ما تركتهن. وهذا يبين لنا عظيم فقه السلف، وأنه الفقه العظيم الذي يظهر أثره وثمرته على صاحبه، عندما يستمع المسلم لفائدة يعمل بها مباشرة، فإذا سمعت مثلًا هذا الحديث: من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة، بني له بهن بيتًا في الجنة. ابدأ من الآن حافظ على هذه الاثنتي عشرة ركعة، لا تتركها.
فإذن، هذا هو القول الثاني في المسألة: أن السنن الرواتب اثنتي عشرة ركعة، وهو الأرجح.
والقول الأول: أنها عشر ركعات، وهو الذي مشى عليه المؤلف، وإنما قلنا: إن القول الثاني أرجح؛ لأنه قد تضمن زيادة فعل أولًا، ولأنه قد ورد من قول النبي ، ودلالة القول أقوى وأصرح من دلالة الفعل، فإنه عليه الصلاة والسلام ربما يترك الشيء لمصلحة أرجح، فمثلًا: أخبر بأن أفضل الصيام صيام داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، لكن هل كان النبي من هديه أنه كان يصوم يومًا، ويفطر يومًا؟
الجواب: لا، بل كان يصوم حتى يقول القائل لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل لا يصوم، فكان ربما حث على الشيء لكن لم يفعله لمصلحة أرجح.
ومن القواعد المقررة عند الأصوليين: أن دلالة القول أصح من دلالة الفعل وأقوى، وإذا تعارضت دلالة القول ودلالة الفعل فتقدم دلالة القول.
وحتى أبسُطَ هذه المسألة: لو رأيت عالمًا من العلماء يقرر حكمًا في مسألة، يقرر استحباب جلسة الاستراحة مثلًا، ثم رأيته يصلي ولم يجلس جلسة الاستراحة فأيهما ينسب إليه قوله أو فعله؟
قوله؛ لأنه يحتمل أنه لم يجلس جلسة الاستراحة لمرض مثلًا في ركبتيه، أو مثلًا لذهول وغفلة ونسيان، أو لغير ذلك من الأسباب.
فإذا قرر ذلك بقوله فهذا أقوى، معنى ذلك: أنه يرى هذا الرأي.
إذنْ دلالة القول أقوى وأصح من دلالة الفعل.
وعلى ذلك فالفعل الراجح في عدد السنن الراتب: أنها اثنتا عشرة ركعة: أربع ركعات قبل الظهر، لكن يصليها ركعتين ويسلم، ثم ركعتين، وركعتان بعدها، يعني بعد الظهر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، سنتكلم عنها.
ما آكد السنن الرواتب؟
إذنْ، هذه هي السنن الرواتب، آكَدُ هذه السنن: ركعتا الفجر، ولذا؛ أفردها المؤلف بالذكر، قال: حدثتني حفصة -القائل من؟ ابن عمر، وحفصة من؟ أخته- أن رسول الله كان إذا طلع الفجر وأذن المؤذن صلى ركعتين -يعني في بيته، ركعتي الفجر- قال: وهما آكدها يعني: هما: ركعتا الفجر، آكد السنن الرواتب.
ومما يدل على ذلك: أن النبي كان لا يدعها لا سفرًا ولا حضرًا، حتى في حال السفر كان يصلي ركعتي الفجر، وهذا يدل على تأكدها، ويدل لذلك أيضًا قول النبي : ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها [7]. وهذا يدل على فضل هاتين الركعتين.
سنة القراءة في راتبة الفجر
قال: “ويستحب تخفيفهما”؛ لقول عائشة رضي الله تعالى عنها: كان النبي يخفف الركعتين اللتين قبل الفجر حتى إني لأقول: هل قرأ فيهما بأم القرآن [8].
والمعروف عن النبي أنه كان يقرأ فيهما بعد الفاتحة: قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرن: 1]. في الركعة الأولى، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1]. في الركعة الثانية [9].
وأيضًا جاء في “صحيح مسلم”: أن النبي كان يقرأ فيهما بعد الفاتحة في الركعة الأولى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا [البقرة: 136]، سورة البقرة، وفي الركعة الثانية: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء [آل عمران:64]، في الركعة الثانية [10].
وجاء أيضا في رواية أخرى عند مسلم: أن النبي كان يقرأ فيهما في الركعة الأولى بعد الفاتحة: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136]، وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا [آل عمران:52] [11] التي في سورة آل عمران: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا .
ففيها إذن ثلاث سنن:
الأولى: قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ .
الثانية: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ التي في البقرة وقُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ التي في آل عمران.
الثالثة: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ التي في البقرة وقُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا التي في آل عمران.
والسنة أن يأتي بهذه تارة، وهذه تارة، وهذه تارة، حتى يأتي بالسنة على جميع وجوهها، هذا هو الأفضل والأكمل، ولو قرأ من غير هذه السور أو الآيات فلا بأس، الأمر في هذا واسع.
أين تُصلى صلاة التطوع؟
قال: وفِعْلُهما في البيت أفضل، يعني فِعل ركعتي الفجر في البيت أفضل، وكذلك ركعتا المغرب، ركعتا المغرب ينبغي الحرص على أن يصليهما في البيت؛ لأنه لم ينقل عنه أنه صلاهما في المسجد، ولهذا؛ لما سئل الإمام أحمد: أتجزئ الركعتان بعد المغرب في المسجد؟ قال: لا أدري، كان المسجد مسجد النبي في عهد الصحابة بعد صلاة المغرب كان يخلو، فلا يوجد من يصلي فيه، وذلك؛ لأن الناس كانوا يذهبون لبيوتهم ويؤدون ركعتي المغرب.
فإذنْ: ركعتا الفجر وركعتا المغرب مستحب صلاتهما في البيت.
وأيضًا هنا جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: وركعتان بعد العشاء في بيته.
وبالجملة فإن الأفضل في صلاة التطوع أن تكون في البيت إلا المكتوبة، أفضل الصلاة أن تكون في البيت إلا المكتوبة؛ لقول النبي : أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة [12] يعني: إلا الفريضة، فإذا تيسر أن تجعل صلاة النافلة في البيت فهذا هو الأفضل والأكمل.
وقال : لا تجعلوا بيوتكم مقابر [13]. يعني ينبغي إحياء البيت بالصلاة وبالذكر وبالطاعة، ولكن في مثل هذه الأماكن الفاضلة مثل المسجد الحرام والمسجد النبوي فإن الصلاة في مسجد النبي تعدل ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وهذا يدل على أن الصلاة في المسجد الحرام فضلها أكثر من ألف صلاة.
هل الأفضل أن تصلى النوافل في المسجد الحرام أم البيت؟
هل الأفضل أن تجعل النوافل في البيت؟ أم أن الأفضل أن تصلى في المسجد الحرام اغتناما لفضل بقعة المكان؟
من أهل العلم من قال: إن الأفضل أن تصلى في البيت، قالوا: لأن مسجد النبي الصلاة فيه تعدل ألف صلاة فيما سواه، ومع ذلك كان يصلي في البيت، وكذلك الصحابة .
ومن أهل العلم من قال: إن اغتنام بقعة المكان أفضل.
هناك قول ثالث وهو قول بالتفصيل، وهو التفريق بين المقيم وبين الوافد؛ فالمقيم في مكة أو المدينة صلاة النوافل في بيته أفضل؛ استدلالًا بما أُثِر عن النبي وصحابته في ذلك، وأما الوافد فإن صلاته في المسجد الحرام أو المسجد النبوي أفضل، وذلك اغتناما لفضل البقعة؛ لأن الصلاة في المسجد الحرام وفي المسجد النبوي أجرها مضاعف.
وسبق أن رجحنا القول بأن هذا التضعيف خاص بالمسجد، وهذا القول الثالث هو الراجح، والله أعلم، التفريق بين المقيم والوافد؛ فالمقيم نقول: الأفضل أن تجعل النوافل كلها في البيت، أما الوافد -كحال أكثر الحاضرين- نقول صَلِّ في المسجد الحرام، اغتنم فضل البقعة، هذا هو الأقرب في هذه المسألة، والله أعلم.
وإذا فاتت السنن الرواتب فإنها تقضى؛ لعموم قول النبي : من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها [14]. وهذا يشمل الفريضة والنافلة.
ننتقل للضرب الثاني:
نستمع لعبارة المؤلف:
الضرب الثاني: الوتر، ووقته: ما بين صلاة العشاء والفجر، وأقله: ركعة، وأكثره: إحدى عشرة، وأدنى الكمال: ثلاث بتسليمتين، ويقنت في الثالثة بعد الركوع.
- الضرب الثاني من صلاة التطوع: صلاة الوتر.
حكم صلاة الوتر
وصلاة الوتر اختلف العلماء في حكمها؛ فجمهور العلماء على أنها مستحبة استحبابًا مؤكدًا، وذهب الحنفية إلى وجوبها.
والقول الراجح: قول الجمهور أنها مستحبة استحبابًا مؤكدا؛ لأنه لا دليل يدل على وجوبها، وما روي في ذلك من بعض الأحاديث فإنها لا تثبت، ولحديث الرجل الذي أخبره النبي بأن الواجب عليه خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تَطَّوَّع [15]. فصلاة الوتر إذنْ مستحبة استحبابًا مؤكدًا، وقد كان النبي لا يدعها لا سفرًا ولا حضرًا، فينبغي لك أخي المسلم أن تحرص عليها، وألا تدعها حتى في حال السفر.
وقت صلاة الوتر
قال: “ووقته”، يعني: وقت الوتر ما بين صلاة العشاء والفجر، ووقت الوتر يبدأ من بعد صلاة العشاء ويمتد إلى طلوع الفجر، كله وقت لصلاة الوتر؛ لقول النبي : إن الله زادكم صلاة أو قال: أمدكم بصلاة وهي صلاة الوتر فصلوها ما بين العشاء إلى الفجر [16] رواه الإمام أحمد بسند جيد.
عدد ركعات الوتر
وأقله: ركعة؛ لقول النبي : الوتر ركعة من آخر الليل [17] رواه مسلم.
وأكثره قال المؤلف إحدى عشر ركعة؛ لقول عائشة رضي الله تعالى عنها: ما كان النبي يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة. متفق عليه.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا حدَّ لأكثره؛ لعموم قول النبي : صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر بواحدة [18] متفق عليه.
وهذا هو القول الراجح: أنه لا حد لأكثر صلاة الوتر؛ فإن قوله: مثنى مثنى. يدل على أنه لا حد لأكثرها.
مثنى مثنى، يعني: ركعتين ركعتين، فهذا هو الأقرب، أنه لا حد لأكثرها، لك أن تصلي ما شئت ثم تختم بواحدة، هي التي توتر بها.
وقد نقلنا في درس الأمس عن الإمام أحمد رحمه الله: أنه كان يتطوع من غير الفريضة بثلاثمئة ركعة في اليوم والليلة، ثم بعد ذلك لما حصلت له المحنة وضرب وضعف بدنه، أصبح يتطوع بمئة وخمسين ركعة؛ لأن الحافظ عبدالغني المقدسي، صاحب كتاب: “العمدة”، كان يقتدي بالإمام أحمد في هذا، كان يصلي في اليوم والليلة ثلاثمئة ركعة.
وبعض الناس يستبعد هذا، لكن هذا ليس ببعيد، هؤلاء أناس صالحون أكبر همهم الدار الآخرة، وربما يعني هذا العدد الكبير يكون مع تخفيف القراءة والركوع والسجود.
ومن الناس من يختار كثرة العدد؛ لقول النبي : واعلم أنك لن تسجد لله سجدة، إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة [19].
ومنهم من يختار الإطالة في القيام والركوع والسجود، لا شك أن هذا هو الأفضل؛ لأنه هدي النبي ، لكن أحيانًا قد يرى الإنسان أن الأرفق به والأليق بحاله أن يخفف القراءة والركوع والسجود، ويكثر من عدد الركعات.
إذنْ: القول الراجح: أنه لا حد لأكثر الوتر، لا حد لأكثره.
قال: “وأدنى الكمال: ثلاث بتسليمتين”.
أدنى الكمال: ثلاث ركعات، لكن بتسليمتين، يعني يصلي ركعتين، ثم يصلي ركعة، قالوا: لأن الواحدة قد اختلف في كراهتها، فكان أدنى الكمال ثلاث، ولكن هذا التعليل عليل؛ فإن الواحدة قد ورد فيها حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق: الوتر ركعة من آخر الليل [20]. وهو حديث صحيح أخرجه مسلم في “صحيحه”.
وعلى هذا أقول: بناء على ذلك: ذهب بعض العلماء إلى أن أدنى الكمال: ركعة واحدة، وهذا هو القول الراجح، أدنى الكمال ركعة واحدة؛ للحديث السابق: الوتر ركعة من آخر الليل. ولأنه لا دليل يدل على أن أكمل الكمال ثلاث.
حكم القنوت في الوتر وغيره
قال: ويقنت في الثالثة بعد الركوع، وقد ورد القنوت في صلاة النوازل، ورد القنوت في النوازل في صلاة الفرائض، وقد قنت النبي شهرًا يدعو على بعض قبائل العرب لمَّا قتلوا القراء، وأكثر الأحاديث على أن القنوت في صلاة الفجر وصلاة المغرب، لكن أيضًا ثبت القنوت في صلاة الظهر والعصر والعشاء، لكن هذا القنوت يكون عندما ينزل بالمسلمين نازلة، وأما عندما لا تنزل نازلة، أو أن النازلة تستمر فلا يشرع القنوت، قد جاء عند الترمذي، بسند صحيح، عن سعد بن طارق الأشجعي، قال: قلت يا أبي، صليت خلف النبي ، وخلف أبي بكر وعمر وعثمان، وسنتين من خلافة عمر، أكانوا يقنتون بعد الفجر؟ قال: أي بني محدث، فهذا الصحابي الجليل يخبرنا أنه لم يكن النبي ولا الخلفاء الراشدون يقنتون بصفة دائمة مستمرة بعد صلاة الفجر.
إذنْ: المشروع: أن يكون القنوت عندما ينزل بالمسلمين نازلة فقط، على أن النازلة إذا استمرت لم يشرع القنوت، وإلا لو قلنا: إنه يشرع. فنازلة احتلال اليهود لفلسطين لها أكثر من خمسين عامًا ومستمرة، لو قلنا: إنه يشرع القنوت بصفة دائمة. معنى ذلك: أن المسلمين يقنتون دائما؛ لأنهم قد أصيبوا باحتلال فلسطين، ولذلك؛ قيد العلماء القنوت في النازلة بألا تكون مستمرة، تكون طارئة، وألا تستمر.
وأما القنوت في الوتر: فلم يحفظ عن النبي ولو مرة واحدة أنه قنت في صلاة الوتر، لكن جاء في الحديث الذي علمه الحسن لمَّا قال: ما أقول إذا قنت؟ قال: قل اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت.. [21] على خلافٍ في ثبوته أيضًا.
وقاس بعض العلماء القنوت في الوتر على القنوت في النوازل، وأكثر أهل العلم على مشروعيته، الأقرب: أن القنوت في الوتر مشروع، لكن مع ذلك، مع تقريرنا لكونه مشروعًا، ينبغي عدم المداومة عليه، وإنما يأتي به أحيانًا، ويتركه أحيانًا؛ لأن المداومة عليه يُشكِل عليها: أن ظاهر هدي النبي أنه لم يكن يقنت؛ فقد صلى معه بعض الصحابة صلاة الوتر، ولم ينقلوا أنه قنت، وإنما قلنا: إنه مشروع؛ لحديث الحسن رضي الله عنه، وما جاء في معناه، وعلى ذلك فالأفضل أن يأتي بقنوت الوتر أحيانًا ويتركه أحيانًا.
أقول أيها الإخوة: ينبغي أن نحافظ على الوتر، وألا ندعه، ومن لم يكن من الحاضرين محافظًا على الوتر، فليبدأ من الآن، من أطهر بقعة من هذا المكان، يبدأ ويقرر من الآن المحافظة على صلاة الوتر، فإن استطعت أن تجعل الوتر في الثلث الأخير من الليل فهذا هو الأفضل؛ فقد قال النبي : ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من داعٍ فأستجيبَ له؟ هل من سائلٍ فأعطيَه؟ هل من مستغفرٍ فأغفرَ له؟ وذلك كل ليلة [22] رواه مسلم.
انظر إلى رحمة هذا الرب العظيم لعباده! وعظيم لطفه وكرمه وفضله! كيف ينادي عباده كل ليلة حين يبقى الثلث الأخير: هل من داع؟ هل من سائل؟ هل من مستغفر؟.
وأيضًا: أخبر النبي بـأن في الليل ساعة، لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة [23] رواه مسلم.
والمقصود بالساعة: ليست هي الساعة التي هي ستون دقيقة، المقصود بها ماذا؟ لحظات الليل؛ فيه لحظات، باب الدعاء فيه مفتوح، إذا دعوت استجيب لك، وأرجى هذه اللحظات: قُبَيلَ أذان الفجر، إن استطعت أن تخصصه في الدعاء، فهذا أرجى ما يكون موافقة لساعة الإجابة، كما أن ساعة الإجابة في الجمعة، ليس المقصود بها ستين دقيقة، المقصود بها لحظات يسيرة، أقرب ما قيل فيها: أنها قُبَيلَ غروب الشمس من يوم الجمعة، ومن حين أن يدخل الخطيب إلى أن تُقضى الصلاة، فإن استطعت أن تجعل الوتر في الثلث الأخير من الليل فهذا هو الأفضل، فإن لم يمكنك ذلك فتوتر قبل أن تنام، وهذا قد وصى به النبي بعض الصحابة؛ كأبي هريرة وأبي الدرداء رضي الله عنهما، فأبو هريرة كان يسهر لمراجعة ما حفظه من أحاديث عن النبي ، كان يخشى ألا يقوم، ووصاه النبي بأن يوتر قبل أن يرقد [24]، فإذا لم يتيسر لك الوتر من آخر الليل فأوتر قبل أن تنام، فإن لم يتيسر لك لا هذا ولا ذاك، فلا أقل من أن توتر بعد صلاة العشاء، لكن لا تدع الوتر.
حكم من فاته الوتر بالليل
إذا كنت نويت أن توتر قبل الفجر، لكن غلبك النوم استيقظت لصلاة الفجر وقد فاتك الوتر فما العمل؟
يشرع قضاؤها شفعًا، تقضيها شفعًا، ما بين طلوع الشمس إلى الظهر، ويدل لهذا: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أن النبي كان إذا أصابه وجع أو غيره، فلم يصل صلاة الوتر، صلاها من النهار ثنتي عشرة ركعة [25]، فإذا فاتتك الوتر فاقضها شفعًا من النهار، ولو بعد الظهر، والمقصود بقضائها من النهار: أن تُقضى من النهار شفعًا.
إذنْ: ينبغي المحافظة على الوتر، وحتى في حال السفر إذا أذن الفجر وأنت لم توتر، فلا بأس أن توتر، في أظهر أقوال أهل العلم، قد أُثِر هذا عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم، نقله ابن عبدالبر عن ثمانية من الصحابة رضي الله عنهم، أنهم كانوا يوصون بالوتر حتى ولو أذن الفجر، وقد رُوي في ذلك حديث عن النبي : من نام عن وتره أو نسيه، فليصله إذا أصبح [26]. وَجَوَّد إسنادَه بعض أهل العلم؛ فلا بأس إذنْ بأن توتر بعد طلوع الفجر في بعض الأحيان، لا تجعله بصفة مستمرة، خاصة وأن وقت الفجر في معظم التقاويم في العالم الإسلامي فيه تقديم، في معظم التقاويم في العالم الإسلامي، فينبغي الاحتياط لصلاة الفجر في هذا، وعلى هذا حَمَل بعض أهل العلم قول النبي : أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر [27]. حملوه على ألا تصلِّيَ صلاة الفجر إلا بعد ما يغلب على ظنك طلوع الفجر.
هذا ما يتعلق بصلاة الوتر.
ننتقل بعد ذلك للضرب الثالث:
الضرب الثالث: التطوع المطلق، وتطوع الليل أفضل من تطوع النهار، والنصف الأخير أفضل من الأول، وصلاة الليل مثنى مثنى، وصلاة القاعد على النصف من صلاة القائم.
وقت التطوع المطلق
التطوع المطلق: هو التطوع الذي لم يقيد بسبب ولا بوقت؛ وإنما يصليه المسلم متى ما شاء، فهذا وقته مفتوح لك، أن تصلي ما شئت، ما عدا أوقات النهي التي سيأتي الكلام عنها، إن شاء الله، فلو أنك بعد صلاة المغرب قلت: سأجلس في المسجد الحرام إلى صلاة العشاء، وأريد أن أتطوع تطوعًا مطلقًا لا بأس، صل مثنى مثنى، صل ركعتين ركعتين ركعتين، هذا طيب.
ومثل ذلك: إذا أتيت مثلًا المسجد الجامع يوم الجمعة، وأنت تنتظر دخول الخطيب، ما هو أفضل عمل صالح تعمله وأنت في الجامع تنتظر دخول الخطيب؟ الصلاة، أحب عمل إلى الله الصلاة.
بعض الناس لا يعرف من الأعمال الصالحة إلا تلاوة القرآن، لا شك أنه عمل صالح، لكن ما أحسن أن تجعل تلاوة القرآن داخل الصلاة، ولو أن تقرأ في المصحف لا مانع، كان كثير من السلف يوم الجمعة يصلون ركعتين ركعتين، إلى قُبيل دخول الخطيب، إلى وقت النهي، قُبيل دخول الخطيب بخمس دقائق، هكذا أيضًا متى ما تيسر لك، خاصة في هذه البقعة، إذا تيسر لك أن تكثر من الصلاة صل ما شئت؛ مثنى مثنى، بعد صلاة المغرب صل ركعتين ركعتين ركعتين، بعد العشاء أكثر من الصلاة ما استطعت إلى ذلك سبيلًا؛ فإنها أحب عبادة إلى الله، أحب العمل إلى الله هذا النوع من العبادة، يحبها الله ، ولذلك؛ لمَّا فُرضت الصلاة فرضت على صفة خاصة، عُرِج بنبينا محمد حتى جاوز السبع الطباق، ووصل إلى أعلى مكان وصله بشر، وفرض الله عليه وعلى أمته هذه العبادة، ثم لمَّا فرضها، فرضها خمسين صلاة في اليوم والليلة، ثم خففت إلى خمس في الفعل، لكنها لم تخفف في الأجر والثواب، فهذه العبادة أحب عبادة إلى الله ، احرص على أن تكثر من الصلاة ما استطعت إلى ذلك سبيلًا.
أيهما أفضل التطوع بالليل أم بالنهار؟
قال: “وتطوُّع الليل أفضل من تطوع النهار”؛ لقول النبي : أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل [28] رواه مسلم، فتطوع الليل أفضل؛ كما قال الله : إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًاإِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا [المزمل:6-7].
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ، ما معنى: نَاشِئَةَ اللَّيْلِ؟
الصلاة بعد القيام من النوم، صلاة الليل، بعد القيام من النوم: هي ناشئة الليل، هذا معنى الناشئة، صلاة الليل بعد القيام من النوم، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا يعني: أكثر مواطأة بين القلب واللسان، أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلً يعني: أصْوَب قراءة، وأهْيَأ للتدبر.
سبحان الله! لاحِظ، كل هذه من فوائد صلاة الليل، صلاة الليل أخبرنا ربنا أنها أكثر مواطأة بين القلب واللسان؛ يخشع الإنسان فيها، يجد الخشوع والراحة والطمأنينة وحلاوة الإيمان ولذة العبادة، يجدها في صلاة الليل، خاصة التي تكون بعد النوم في آخر الليل، ويتدبر فيها القرآن: إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا، الإنسان في النهار تكثر مشاغله، فلا يتهيأ له الوقت للتدبر وللتأمل، وربما لا يحصل له أيضًا في كثير من الأحيان المواطأة بين القلب واللسان، هذا يُبيِّن لنا أهمية صلاة الليل، خاصة الناشئة، ناشئة الليل.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 6502. |
---|---|
^2 | رواه أبو داود: 864، والترمذي: 413، وقال: حسنٌ، وابن ماجه: 1425. |
^3 | رواه البخاري: 1180. |
^4 | رواه البخاري: 1182. |
^5 | رواه مسلم: 728. |
^6 | رواه الترمذي: 415، وقال: حسنٌ صحيحٌ. |
^7 | رواه مسلم: 725. |
^8 | رواه البخاري: 1171، ومسلم: 724. |
^9 | رواه مسلم: 726. |
^10, ^11 | رواه مسلم: 727. |
^12 | رواه البخاري: 731. |
^13 | رواه مسلم: 780. |
^14 | رواه الترمذي: 177، وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي: 614، وابن ماجه: 698، وأصله عند مسلم: 681. |
^15 | رواه البخاري: 46، ومسلم: 11. |
^16 | رواه أحمد: 23851. |
^17 | رواه مسلم: 752. |
^18 | رواه البخاري: 990. |
^19 | رواه أحمد: 22140. |
^20 | سبق تخريجه. |
^21 | رواه النسائي: 1745. |
^22 | رواه مسلم: 758. |
^23 | رواه مسلم: 757. |
^24 | رواه البخاري: 1981، ومسلم: 721. |
^25 | رواه أبو داود: 1342، وأحمد: 24636. |
^26 | رواه الترمذي: 466. |
^27 | رواه الترمذي: 154، وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي: 547. |
^28 | رواه مسلم: 1163. |