عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا أنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
نستأنف هذا الدرس بعد توقفه مدة الإجازة والاختبارات، وكنا قد وعدنا بأن نبدأ بشرح متنٍ جديدٍ، وهو (فصول الآداب، ومكارم الأخلاق المشروعة)، وهو موجودٌ على الأبواب صوَّر الإخوة عددًا من النسخ، من لم يأخذ فليتفضل الآن، يأخذونها بالأبواب، ثلاثمئة نسخةٍ، لكن لو نفدت ممكن من لم يحصل على شيءٍ يخبرنا، تتوفر الأسبوع القادم إن شاء الله.
مقدمة حول المتن
هذا المتن لأبي الوفاء ابن عقيلٍ الحنبلي، وهذا المتن كان مخطوطًا إلى ما قبل سنةٍ، ثم عُثر على مخطوطةٍ في تركيا، وحققها الشيخ عبدالله الفوزان، لكن اختُلف؛ هل هذا المتن كتابٌ مستقلٌّ ألَّفه، أم أنه داخلٌ في كتابه المشهور (الفصول في الفقه)؟ والذي أيضًا لا يزال مخطوطًا، ومن خلال السياق يظهر أنه ليس كتابًا مستقلًّا؛ وإنما هو داخلٌ ضمن كتاب المؤلف (فصولٌ في الفقه)، هذا هو الذي يظهر، أنه ليس كتابًا مستقلًّا؛ وإنما هو داخلٌ ضمن كتاب المؤلف (فصولٌ في الفقه) هذا هو الذي يظهر؛ لأنه لم يَجعل له مقدمةً، لم يجعل له خطبةً، ولم يُبيِّن غرضه من تأليفه، وإنما ابتدأ مباشرةً، وأما البسملة والحمد لله، هذه من وضع النُّسَّاخ، كما هو ظاهرٌ؛ ولأن المترجمين لأبي الوفاء لم يذكروا هذا الكتاب له، وإنما ذكروا له (الفصول في الفقه)؛ فلا شك في نسبة هذا الكتاب إليه، لكن فقط الخلاف: هل هو كتابٌ مستقلٌّ، أم أنه جزءٌ من كتاب (الفصول في الفقه)؟ والأقرب أنه جزءٌ من كتاب (الفصول في الفقه).
عناية العلماء بالآداب والأخلاق
والعلماء عُنُوا بالآداب والأخلاق، وصنفوا فيها مصنفاتٍ؛ فمنهم من صنف مصنفاتٍ مستقلةً، ومنهم من ألحقها بآخر كتابه، وممن صنَّف مصنفاتٍ مستقلةً في الآداب: البخاري، له كتاب (الأدب المفرد)، والخرائطي له (مكارم الأخلاق)، وأيضًا له (مساوئ الأخلاق) كتابان، وأيضًا ابن حبان له (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)، وغيرهم، أيضًا (منهاج القاصدين)، واختصره ابن قدامة في مختصر (منهاج القاصدين).
ومنهم من ألحق الكلام عن الآداب بكتابه؛ فابن أبي موسى الحنبلي له كتاب (الإرشاد في الفقه)، وفي آخره جُملٌ من الآداب، وكذلك ابن بَلْبَان الحنبلي، له (مختصر الإفادات)، ووضع في آخره جملةً من الآداب، وكذلك الحافظ ابن حجرٍ في (بلوغ المرام)، أيضًا في آخره أحاديث في الآداب والأخلاق، وأبو داود أيضًا ذكر في آخر سننه أحاديث في الآداب، وغيرهم.
فالعلماء إذنْ عُنُوا بباب الآداب والأخلاق، فإن هذا من الأمور العظيمة التي ينبغي لطالب العلم أن يُعنى بها، وأن يحرص عليها، ولذلك؛ تجد من طلاب العلم من عنده قوةٌ علميةٌ وقوةٌ في البحث، لكن لا يُستفاد منه بسبب سوء خلقه، تجد أن عنده شدةً في التعامل، وسوء خلقٍ يُنَفر الناس منه، بل ربما تجد هذا حتى من بعض العلماء الذين عندهم غزارةٌ في العلم، لكن لا يستفاد منهم عن الوجه الكبير، بسبب سوء الخلق أو الحِدَّة؛ لأن الله تعالى جَبَل النفوس على أن تنفر من غليظ الطبع، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159]، ولو كنت يا محمد فظًّا غليظ القلب لانفضوا، وهم الصحابة الذين يعلمون أن ما يقوله حقٌّ، بل وحيٌ، ومع ذلك لانفضوا من حولك، هذه من سنن الله ، أن الناس تنفر من الفظاظة ومن الغلظة، ومن سيئ الأخلاق.
فإذنْ: ينبغي لطالب العلم أن يُعنى بهذه الأبواب، وأن يحرص على التأدب بهذه الآداب.
ومن هنا نجد عناية العلماء بالتصنيف فيها، سواءٌ في مصنفاتٍ مستقلةٍ، أو في كتبهم.
وهذه الرسالة -وإن شئت قلت: المتن- حَوَت اثنين وعشرين فصلًا، وقال: «فصول الآداب ومكارم الأخلاق المشروعة»، حوت اثنين وعشرين فصلًا، وأكثر من مئةٍ وثلاثين نوعًا في الآداب والأخلاق، ومما تتميز به هذه الرسالة: أن فيها ذكرًا لهذه الآداب والأخلاق وتفاصيلها ودقائقها، التي ربما لا يُتَعرض لها في كثيرٍ من الدروس والشروح والمحاضرات، كما سيأتي.
إن شاء الله تعالى، الخطة: أن ننتهي من هذه الرسالة في هذا الفصل بإذن الله .
نبدأ أولًا بالمقدمة، وهي كما ذكرت ليست من كلام المصنف؛ وإنما من كلام النُّساخ، كما يظهر من السياق.
أيهما أفضل البدء بالبسملة أم الحمدلة؟
قال:
«بسم الله الرحمن الرحيم»
ونحن ذكرنا أيهما أفضل؛ البداءة بالحمد، أو البسملة في تصنيف الكتب؟
في تصنيف الكتب البسملة، إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [النمل: 30]، وكان النبي في كتبه لملوك ورؤساء العالم، يبدأ بـ: “بسم الله الرحمن الرحيم”، وفي صلح الحديبية أيضًا بدأ بـ: “بسم الله الرحمن الرحيم”.
أما بالنسبة لخُطَبه: في الخطب والمحاضرات والدروس والكلمات، ونحو ذلك مما ليس مكتوبًا، فأيهما أولى وأقرب للسنة، البداءة بالبسملة، أو بالحمد لله؟
بالحمد لله، أو بالحَمْدَلَة؛ لأن جميع خطب النبي كان يبدأها بـ”الحمد لله”، حتى خطبتي العيدين، وما يذكره بعض الفقهاء من أن الأفضل أن يبدأ الخطيب بالتكبير، فهذا قولٌ مرجوحٌ، ولا دليل عليه، وإنما استحسانٌ من بعض الفقهاء، ولا دليل عليه.
فالصواب أن خطبة العيد تبدأ بـ”الحمد لله”، بل جميع الخطب، وهكذا أيضًا حتى المحاضرات والدروس والكلمات، فالأقرب للسنة أن تبدأ بـ”الحمد لله”.
وإن بدأ بـ”بسم الله الرحمن الرحيم”، فلا بأس، لكن الكلام في الأفضل والأقرب للسنة في هذا.
وعندما نقول: «بسم الله». فهو عندنا جارٌّ ومجرورٌ، وهو متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ، مناسبٍ للسياق.
فعندما تقرأ، يعني: بسم الله أقرأ، وعندما تكتب، يعني: بسم الله أكتب، وعندما تأكل، بسم الله آكل، يكون متعلقًا بفعلٍ محذوفٍ مناسبٍ للمقام.
«بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين».
وقلنا: إن هذه من إضافة النُّسَّاخ.
«هذه نُبذةٌ من فصول الآداب ومكارم الأخلاق المشروعة، من تأليف الشيخ الإمام القدوة، أبي الوفاء بن عقيلٍ رحمه الله».
وهذا يدل على أنها من كلام النساخ، وليست من كلام المؤلف كما هو ظاهرٌ.
الآداب والأخلاق
الآداب: جمع أدبٍ، والأدب، قال ابن القيم: “حقيقة الأدب: استعمال الخُلُق الجميل”.
وقال غيره: إن الأدب هو استعمال ما يُحمد؛ قولًا وفعلًا.
والأدب مطلوبٌ من المسلم، مطلوبٌ أن يتأدب بالآداب، ويتأكدُ في حق طالب العلم، ولهذا؛ لما ذكر الله تعالى التَّفَسُّح في المجالس، قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا [المجادلة: 11]. أكمل الآية: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11].
ما العلاقة بين أول الآية وآخرها؟ أول الآية فيها الإرشاد إلى أدب التفسح في المجالس، وآخر الآية إشارةٌ إلى رِفعة أولي العلم، فما وجه الارتباط بين أول الآية وآخرها؟ من يذكر لنا؟
التفسح نوعٌ من الأدب، لكن ما العلاقة بين التفسح في المجالس، وبين رفعة الذين أوتوا العلم؟
هذه إجاباتٌ متقاربةٌ، أن من لوازم العلم الأدب، من لوازم العلم الذي يرفع الله صاحبة درجاتٍ: الأدب، فكأنه في أول آيةٍ يقول: التفسح في المجالس من الأدب، وأن هذا الأدب لا يقوم به على التمام، ولا يمتثل لهذا التوجيه وهذا الإرشاد من الله لهذا الأدب ولغيره من الآداب إلا الذين آمنوا والذين أوتوا العلم، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11].
فهذا يدل على أن من لوازم العلم الأدب، وأن الأدب هو من ألصق الأمور التي ينبغي أن يتصف بها، أو أبرز الصفات التي ينبغي أن يتصف بها طالب العلم، وأن طالب العلم المتأدب بهذه الآداب هو الذي يرفعه الله درجاتٍ.
وأما طالب العلم الذي لا يتأدب بالآداب، وإنما فقط يُحَصِّل علمًا من غير أن يتأدب بآداب طالب العلم، هذا لا تَحصُل له الرفعة، وإنما الرفعة درجاتٌ لمن تأدب بآداب العلماء، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11].
قال إبراهيم النَّخَعي: كانوا إذا أتَوُا الرجل ليأخذوا عنه، نظروا إلى سَمْته وصلاته وإلى حاله، ثم أخذوا عنه.
السَّمْت وأيضًا الصلاة، كونه مثلًا يحافظ على الصلوات الخمس مع الجماعة في المسجد، ومعروفٌ بأنه من أهل الصلاة.
وكذلك سمته سمت أهل العلم، وحاله حال أهل العلم، يتأدب بآداب العلم والعلماء، هذه أمورٌ لا بد منها فيمن يؤخذ عنه العلم.
“والأخلاق المشروعة”، الأخلاق: جمْع خُلقٍ، “ومكارم الأخلاق” يعني: مكارم الأخلاق المشروعة.
الأخلاق: جمع خُلُقٍ، والخُلُق: هيئةٌ راسخةٌ للنفس تصدر عنها الأفعال بسهولةٍ ويسرٍ، هذا تعريفه عند أرباب الأخلاق والسلوك.
فمثلًا: الحلم -لاحِظْ- الحلم: هيئةٌ راسخةٌ تَصدر عنه الأفعال بسهولةٍ ويسرٍ، والكرم خلقٌ، والشجاعة ثبات القلب، وهو من الأخلاق.
والأخلاق لا شك أنها منحةٌ من الله وهبةٌ، فيولد بعض الناس حليمًا كريمًا سخيًّا رحيمًا، حسن الأخلاق.
هل الأخلاق تكتسب؟
لكن اختُلف: هل الأخلاق الكريمة ومكارم الأخلاق تكتسب، أم لا تكتسب؟
فقال قومٌ: إنها لا تُكتسب، ولكن هذا قولٌ ضعيفٌ، والصواب: أنها تُكتسب، وإلا لو كانت لا تكتسب لم يكن لنصائح ومواعظ الأنبياء وتوجيهات الأنبياء فائدةٌ، ولقال الناس: نحن خُلقنا وجُبلنا على هذه الأخلاق، لا نستطيع أن نغيرها.
ومما يدل على أن الأخلاق تكتسب، ما جاء في “صحيح البخاري” عن أبي هريرة ، قال: جاء رجلٌ للنبي فقال: يا رسول الله، أوصني. قال: لا تغضب. قال: أوصني. قال: لا تغضب. قال: أوصني. قال: لا تغضب. فردد مرارًا، قال: لا تغضب [1].
فلو كان الحلم بترك الغضب لا يكتسب لقال هذا الرجل: يا رسول الله، أنا خُلقت وجُبلت على الغضب، كيف لا أغضب؟! ولم يكن لأمر النبي له بترك الغضب معنًى.
فكون النبي يأمره بترك الغضب، يعني بالاتصاف بصفة الحلم، فهذا دليلٌ على أن الأخلاق الحسنة -ومنها الحلم- تكتسب.
فإذنْ، الصواب: أن مكارم الأخلاق، وحسن الخلق؛ من الحلم والكرم والشجاعة وغيرها، أنها تكتسب، وقد تكلم عن هذا بالتفصيل الغزَّاليُّ في (إحياء علوم الدين)، وكذلك أيضًا ابن قدامة في (مختصر منهاج القاصدين)، وغيرهم، ممن كتب في الأخلاق، وخطَّأوا قول من قال بأن حسن الخلق لا يكتسب، قالوا: إن كلامه خطأ، ليس فقط مرجوحًا، بل خطأ؛ لأنه مخالفٌ للنصوص الكثيرة.
وبناءً على هذا ينبغي للمسلم أن يحرص على اكتساب الأخلاق الحسنة، والابتعاد عن الأخلاق السيئة.
ويقول أرباب الأخلاق والسلوك: إنك إذا أردت أن تكتسب خُلقًا حسنًا، فينبغي أن يكون ذلك بالتدريج، حتى يصبح هذا الخلق هيئةً راسخةً في النفس.
فمثلًا: إنسان يَعرف من نفسه شدة الغضب، يريد أن يصبح حليمًا، فيمرِّن نفسه على الحلم وترك الغضب، فيقول مثلًا: في اليوم الأول: لن أغضب مثلًا من الساعة الرابعة إلى الساعة الخامسة، مهما كان السبب لن أغضب، اتخذ قرارًا: لن أغضب، في اليوم الثاني: يجعلها ساعتين، في اليوم الثالث: أربع ساعاتٍ، في اليوم الرابع: اجعلها ثمان ساعاتٍ، وهكذا، فإنه لا يلبث إلا أن يصبح حليمًا.
وهكذا بالنسبة لسائر الأخلاق، رجلٌ يعرف من نفسه الشُّحَّ والبخل، فيمرِّن نفسه على الكرم، ويتعاطى الكرم، ويتكلف الكرم في البداية إلى أن يصبح كريمًا.
إنسانٌ يعرف مِن نفسه مثلًا الجُبْن وعدم الشجاعة، يتكلف إلى أن يصبح شجاعًا، وهكذا، فيستطيع الإنسان إذنْ أن يكتسب مكارم الأخلاق بالتمرين، إنما العلم بالتعلم، وإنما الحِلم بالتحلم [2]. فمن تكلف الخلق الحسن فإنه لا يَلبَث حتى يصبح هيئةً راسخةً للنفس.
جاء في قصة الأشج بن عبدالقيس، وهو في “صحيح مسلمٍ”: أن النبي قال له: إن فيك خَصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأَنَاة [3]، الأناة يعني: ترك العَجَلة، وعدم العجلة التثبت، وترك العجلة- قال: يا رسول الله، أجُبِلتُ عليهما أم تَخَلَّقتُ بهما؟ -وهذه الزيادة ليست في مسلمٍ، لكنها ثابتةٌ- قال: بل جُبِلتَ عليهما. قال: الحمد لله الذي جبَلَني على ما يحبه الله ورسوله [4].
لكن انظر إلى قوله: أجبلت أم تخلقت؟ يدل على أن هذا أن التخلق ممكنٌ، قال: بل جبلتَ عليهما.
فإذنْ: الأخلاق إما تكون جِبِلَّةً، وإما أن تكون مكتسبةً.
ترجمة لأبي الوفاء ابن عقيل
قال: “من تأليف الشيخ الإمام القدوة أبي الوفاء ابن عقيلٍ الحنبلي”.
وهو من أبرز فقهاء الحنابلة، وكان عنده حِدَّةٌ في الذكاء، ويقال في ترجمته: إنه من أذكياء بني آدم، يعني: من أبرز أذكياء بني آدم، يعني بعضهم يبالغ، يقول: هو أذكى بني آدم، لكن هذا فيه مبالغةٌ، لكن أبرز، أو من أذكياء بني آدم.
ولد سنة 431 للهجرة، ونشأ نشأةً علميةً.
قال: “عصمني الله في شبابي بأنواع من العصمة، وقَصَر محبتي على العلم، وما خالطتُ لعَّابًا قط، ولا عاشرت إلا أمثالي من طلبة العلم”. هذه ذكرها الذهبي في السير.
نشأته
فكان في نشأته، نشأ نشأةً علميةً، وكان في نشأته أيضًا فقيرًا، وتفقَّه على مذهب الإمام أحمد، لكنه ليس مقلدًا، وإنما له آراء يجتهد فيها حسَب ما يقتضيه الدليل، ولذلك انفرد بعِدَّة مسائل، وله اجتهاداتٌ خاصةٌ به، يقال في بعض التراجم التي ترجمت له: إنه كان عنده تأثرٌ بمذهب المعتزلة، وميلٌ إلى كلامهم، بسبب مصاحبته لواحدٍ منهم، انظر إلى أثر المصاحبة.
ثم إن الحنابلة شنَّعوا عليه وعاتبوه، فرجع وتاب، رجع وتاب من ذلك، والحمد لله.
مصنفات
وله مصنفاتٌ كثيرةٌ، من أبرزها كتابه العظيم (الفنون) وهو كبيرٌ جدًّا، قيل: إنه يقع في خمسمئة مجلدٍ، وقيل: أكثر من ذلك، قيل: ثمانمئة مجلدٍ، أفخم الكتب في تراث علماء المسلمين، ولا يزال مخطوطًا، لكن قبل أشهر جاءتني رسالة من أحد الإخوة، قال: إنه عثر على مخطوطة لهذا الكتاب، في مركز المخطوطات في الإمارات، أنها موجودةٌ الآن في مركز المخطوطات في الإمارات.
…
نعم، طبع منه مجلدان، لكن نقصد الكتاب كاملًا، قيل: إنه عثر على مخطوط الكتاب كاملًا، وإلا هو طبع منه مجلدان، وموجودةٌ مطبوعةً، لكن قيل: إنه عُثر على المخطوطة كاملةً، هذا أتتني رسالة عنه، لكن ما أدري عن صحة هذه المعلومة، لكنه كتابٌ عظيمٌ، لو عُثر على المخطوطة لهذا الكتاب، لا شك أنه كتابٌ عظيمٌ، يقع في خمسمئة مجلدٍ، وقيل: في ثمانمئة مجلدٍ، وهذا يدل على سعة العلم لهذا العالم الجليل، وأيضًا قوة الصبر والجَلَد، كيف ألَّف هذا الكتاب بهذه الضخامة وهذا الحجم؟! عندنا طالب الماجستير أو الدكتوراه، إذا أراد أن يكتب رسالته من خمسمئة صفحةٍ أو قريبًا من هذا، يبقى سنواتٍ حتى يكتب، وهذا خمسمئة مجلدٍ كتابٌ واحدٌ فقط.
وله كتاب (التذكرة في أصول الفقه)، وهو كتابٌ مطبوعٌ، وأيضًا (الواضح في أصول الفقه)، وهو -من اسمه- واضحٌ في عبارته، وهو من الكتب النافعة، وقد حُقق مطبوعًا من خمسة أجزاء.
وكتاب (الفصول في الفقه) -كما ذكرنا- الذي هذه الرسالة جزءٌ منه، لكن لا يزال في (فصول الفقه) مفقودًا، ويقال: إنه يوجد جزءٌ منه في بعض مراكز المخطوطات.
توفي ابن عقيلٍ الحنبلي رحمه الله سنة 513 في بغداد، ويقال: إن جنازته كانت جنازةً مهيبةً عظيمةً، حضرها خلقٌ عظيمٌ، حتى إنه قُدِّر من حضرها بثلاثمئة ألفٍ، وكما يقول الإمام أحمد: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز. فكانت من الجنائز المشهودة العظيمة رحمه الله تعالى.
أحكام السلام
“فصلٌ: السلام المبتدأ يكون من الماشي على القاعد، ومن الراكب على الماشي والجالس، والابتداء به سنةٌ، وإذا سلم الواحد من الجماعة المشاة أو الرُّكَّاب أجزأ عن الجماعة، وإذا رد واحدٌ من الجلوس أجزأ عن الجماعة”.
الشرح:
لعلنا نبدأ بالفصل الأول من هذه الفصول الاثني عشر، نبدأ به في هذا الدرس، وقد جعله في أحكام السلام.
قال: “السلام المبتدأ يكون من الماشي على القاعد”.
والسلام هو من الآداب العظيمة التي دعت إليها الشريعة الإسلامية؛ لكونه يجلب المحبة والمودة والألفة والأنس وزوال الوحشة بين المسلمين.
ولذلك؛ لو مر بك شخصٌ، ولم يسلم، فإنك تتوجَّس منه، وتشعر بشيءٍ من الوحشة، بخلاف ما إذا سلَّم، فإنك تشعر بشيءٍ من الأنس.
قال: “يكون من الماشي على القاعد، ومن الراكب على الماشي”.
وهذا قد ورد فيه حديث أبي هريرة أن النبي قال: يُسَلم الصغير على الكبير، والمارُّ على القاعد، والقليل على الكثير [5]. هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم.
الحكمة من كون الماشي يسلِّم على القاعد
اختُلف في الحكمة من كون الماشي يسلِّم على القاعد، فقيل: إن الماشي يكون في حالٍ أعلى من القاعد وأرفع، فطلب منه أن يسلم؛ لكون ذلك أدعَى للتواضع، وأبعد عن الكبر، وقيل: إن الحكمة: تشبيهًا له بالداخل على أهل المنزل، فكما أن الداخل على أهل المنزل يشرع له أن يسلم عليهم، فكذلك أيضًا الماشي على القاعد.
“والراكب على الماشي”، والحكمة من كون الراكب هو المأمور بالابتداء بالسلام، قيل أيضًا: إن ذلك أدعَى للتواضع، والبعد عن الكبر والعُجب، ونحو ذلك؛ لأن الراكب أحسن حالًا من الماشي، فطلب منه أن يسلم عليه؛ لئلا يتكبر عليه، كونه يجد مركوبًا، وهذا الماشي لا يجد مركوبًا؛ ولكونه أعلى منهم عمومًا.
“على الماشي والجالس”، وهكذا أيضًا القليل على الكثير؛ لأن الكثير لهم حقٌّ في هذا، فشرع للقليل أن يبتدئوا بالسلام عليهم، لو تقابل مثلًا اثنان، قابلوا خمسة أشخاصٍ، فيشرع للاثنين أن يبتدئوا بالسلام على هؤلاء الخمسة.
حكم الابتداء بالسلام
قال: “والابتداء به سنةٌ”، وهذا بإجماع أهل العلم؛ لقول الله تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا [النساء: 86]. وقد نُقل الإجماع على ذلك.
لكن هناك قول عند الظاهرية: أن ابتداء السلام واجبٌ. وقيل: إن هذا القول مخالفٌ للإجماع.
نعم.
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا [النساء: 86]؛ لأن الله تعالى قال: حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ. فدل هذا على مشروعية التحية التي هي تحية المسلمين: السلام.
وأيضا السنة دلت على هذا في أحاديث كثيرةٍ؛ منها:
قول النبي : حق المسلم على المسلم ستٌّ، وذكر منها: إذا لقيته فسلم عليه [6].
وكان النبي إذا أتى يومَ الجمعة، صعِد على المنبر سلَّم على الصحابة فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته [7].
قال: “وإذا سلم الواحد من الجماعة المُشَاة أو الرُّكَّاب أجزأ عن الجماعة”؛ لأن السلام -كما ذكرنا- هو سُنةٌ، وردُّه واجبٌ كما سيأتي، ومن الجماعة فرض كفايةٍ، فإذا سلَّم واحدٌ أجزأ، كما أنه يجزئ بردِّ السلام الواحدُ، فإذا كان يجزئ في رد السلام الواحد عن الجماعة، فكذلك أيضًا في ابتداء السلام يجزئ الواحد عن الجماعة.
وقد جاء في هذا حديثٌ في “سنن أبي داود”: أن النبي قال: يُجزئ عن الجماعة إذا مروا: أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجماعة: أن يرد أحدهم [8]. لكن في سنده ضعفٌ، لكنَّ العمل على هذا عند أهل العلم.
وإن كان الأفضل في الابتداء أن يسلم الجميع؛ لقول النبي : أفشوا السلام بينكم [9]، لكن يكفي أن يسلم أحدهم، فإن سلم الجميع كان ذلك أفضل وأكمل.
وصفة السلام
“وصفة السلام: سلامٌ عليكم، وصفة الرد: وعليكم السلام، والزيادة المأمور بها المستحبة: ورحمة الله وبركاته، ولا يستحب الزيادة على ذلك، ويستحب: ورحمة الله؛ ليترك للمجيب الزيادة المأمور بها، وهي قوله: وبركاته. بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء: 86]”.
قال: “وصفة السلام: سلامٌ عليكم”. يعني: بلفظ التنكير، وليس السلام عليكم، وهذا رأي المؤلف، يرى المؤلف رحمه الله: أن السلام يأتي منَكَّرًا، وأن سلام الأحياء عمومًا منكَّرٌ، وسلام الأموات مُعرَّفٌ، وهذا قد عزاه إلى المؤلف ابنُ مفلحٍ في (الآداب الشرعية).
والقول الثاني في المسألة: أن الأفضل في صفة السلام أن يكون مُعرَّفًا بـ(أل): السلام عليكم.
وإذا نظرنا لورود لفظ السلام في القرآن نجد أنه قد جاء منكرًا، وجاء معرَّفًا، جاء منكَّرًا؛ كما في قول الله تعالى: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ [الرعد: 24]، سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات: 79]، قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم: 47]. إلى غير ذلك من الآيات التي تأتي بلفظ: (سلامٌ) بالتنكير.
وجاء معرَّفًا؛ كما في قول الله تعالى عن يحيى وعيسى عليهما السلام: وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم: 33]، وكما في قول الله تعالى: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ [النساء: 94]، وكما في قول الله تعالى: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه: 47].
إذنْ: جاء منكَّرًا، وجاء معرفًا بـ(أل).
فنحتاج إلى أدلة أخرى ترجح: فنجد أن الأدلة في السنة في إلقاء التحية، تحية السلام، أتت بالتعريف بـ(أل).
ومن ذلك ما جاء في “الصحيحين” عن أبي هريرة ، عن النبي قال: خلق الله آدم طوله ستون ذراعًا ستون ذراعًا، كم مترٍ؟ قرابة ثلاثين مترًا، لو قلنا: هذا العمود، كم مترٍ؟ خمسة أمتارٍ، يعني طول هذا العمود ست مرات، لاحِظ عظمة الخلق، وعرضه ثلاثة عشر ذراعًا، وجاء في روايةٍ أخرى: «سبعة أذرعٍ» لكن أيضًا هذا خلقٌ عظيمٌ، ثم ما زال الخلق يتقاصر في الأعمار، ويتقاصر حتى في البنية، نوح لبث في قومه كم سنةٍ؟ ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا في الدعوة، فالأمم السابقة أطول أعمارًا، وأكبر أجسامًا، لكن الله تعالى عوَّض هذه الأمة بليلة القدر، التي العمل فيها قليلٌ، والأجر فيها عظيمٌ.
قال: خلق الله آدم طوله ستون ذراعًا، ثم قال: اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة، فانظر ما يحيُّونك به؛ فإنها تحيتك وتحية ذريتك من بعدك، فذهب فقال: السلام عليكم. فقالوا: السلام عليك ورحمة الله. فزادوه: ورحمة الله [10]. هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم.
قال: تحيتك وتحية ذريتك من بعدك، قال: السلام عليكم أتت معرفة بـ(أل)، ولم يقل: سلامٌ عليكم. وإنما: السلام عليكم. وهذا هو القول الراجح: أنَّ لفظ السلام، الأفضل: أن يؤتى به مُعرَّفًا بـ(أل)، يقال: السلام عليكم.
قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله في فتح الباري: “لو حذَف اللام فقال: سلامٌ عليكم. أجزأ..، لكن باللام أولى؛ لأنها للتفخيم والتكثير، وفي حديث التشهد: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته [11]. هذا كلام الحافظ ابن حجرٍ.
أيضًا النووي في شرحه على مسلمٍ، ذكر هذه المسألة، وقال: الأفضل: أن يقول: السلام عليكم. بالألف واللام.
فالقول الراجح إذنْ: أن الأفضل في لفظ السلام: أن يؤتى به معرفًا بـ(أل)؛ لأنه أفضل من: سلامٌ عليكم بالتنكير، لكن -كما قال ابن حجرٍ- لو قال: سلامٌ عليكم. أجزأ، وإنما الخلاف فقط في الأفضل.
وتجد بعض الناس، من بعض طلبة العلم، عندما يكتب خطابًا يقول: سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته. اعتقادًا منه إن هذه الصيغة أفضل، وهذا قولٌ مرجوحٌ، هو قول المؤلف، لكنه قولٌ مرجوحٌ، والراجح: أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إذنْ: عندنا قولان في المسألة:
قول: إن الأفضل: التنكير، وهو القول الذي مشَى عليه المؤلف.
وقول: إن الأفضل: أن يؤتى بلفظ السلام معرَّفًا بـ(أل)، وقلنا: إن هذا هو القول الراجح، وذكرنا أدلته من السنة، وإلا ففي القرآن ورد هذا وذاك، لكن ذكرنا أدلته من السنة من حديث أبي هريرة ، وهو في “الصحيحين”، وأيضًا في التشهد: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته [12]. وأيضًا أحاديث أخرى، لو بحثنا لوجدنا أحاديث كثيرةً.
فالأصل في السلام الوارد أنه يؤتى به بالتعريف، وكما ذَكَر أيضًا ابن حجرٍ من جهة النظر والمعنى: أنَّ الألف واللام فيها معنى التفخيم والتكثير.
صفة رد السلام
قال: “وصفة الرد: وعليكم السلام”. أي: من يرد السلام يأتي بالواو، فيقول: وعليكم السلام، والواو هذه إما أنها عاطفةٌ على السلام الأول؛ لمَّا قال: السلام عليكم. عطف وقال: وعليكم السلام، أو أنها للاستئناف.
لكن لو قال: عليكم السلام كما يفعل بعض العامة، يقول: السلام عليكم. يقول: عليكم السلام، من غير أن يقول: وعليكم السلام، أجزأ ذلك، لو قالها بدون واو أجزأ، لكن الأكمل أن يأتي بالواو، ولو قال: السلام عليك. أيضًا أجزأ؛ لأن في تحية الملائكة لمَّا قال: السلام عليكم. قالوا: السلام عليك، لكن الأحسن أن يأتي بالميم التي تدل على التفخيم: السلام عليكم.
طيب، إذا قال في رد السلام: السلام عليكم؛ لما سلمت عليه قلت: السلام عليكم، قال: السلام عليكم، ما قال: وعليكم السلام، يجزئ أو لا يجزئ؟ نعم هو يجزئ، والدليل حديث أبي هريرة السابق؛ لاحِظ ردت الملائكة، ماذا قالت الملائكة؟ لما قال: السلام عليكم. قالوا: السلام عليك ورحمة الله. ما قالوا: وعليكم السلام. حديث أبي هريرة السابق لما قال: اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة، فانظر ما يحَيُّونك به؛ فإنها تحيتك وتحية ذريتك من بعدك. فقال: السلام عليكم. قالوا: السلام عليك ورحمة الله [13]. فلو قال: السلام عليك. لا بأس، لكن الأفضل أن يقول: وعليكم السلام.
قال: والزيادة المأمور بها المستحبة: ورحمة الله وبركاته. ولا تستحب الزيادة على ذلك.
أكمل صيغ السلام
يعني: أكمل صيغ السلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأما قول المؤلف: “ولا تستحب الزيادة على ذلك”. يشير لِمَا جاء في بعض الروايات من زياداتٍ؛ وهي: “ومغفرته”. جاء في حديث عمران بن حصينٍ في قصة النفر الذين سلموا، قال: ثم أتى آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته. فقال النبي : أربعون هكذا تكون الفضائل [14]، لكن هذا الحديث ضعيفٌ، هذا الحديث -بهذه الزيادة- ضعيفٌ لا يثبت.
وبعضهم يزيد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه، أيضًا هذه كلها لا تثبت.
إذنْ: المشروع: الاقتصار على: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، من غير أن يزيد على ذلك.
قال: “ويستحب للمسَلِّم: أن يقتصر على قول: سلامٌ عليكم ورحمة الله”. هذا بناءً على رأي المؤلف في الإتيان بلفظ السلام بالتنكير، وقلنا: الصواب: أنه يؤتى به بالتعريف. لكن قال: “يستحب أن يقتصر على قول: سلامٌ عليكم ورحمة الله؛ ليترك للمجيب الزيادة المأمور بها، وهي قوله: وبركاته. بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء: 86]”.
يعني: يستحب أنك ما تأتي بالصيغة الكاملة، ما تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إما أن تقول: السلام عليكم ورحمة الله. حتى تتيح الفرصة لمن تسلم عليه لكي يرد بأحسن من تحيتك، فيقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. هذا هو رأى المؤلف رحمه الله، وهذا ليس عليه دليلٌ ظاهرٌ، إلا التعليل الذي ذكره فقط.
والقول الثاني في المسألة: أن المستحب: أن يأتي بالصيغة كاملةً، أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأن من يَرُد عليه، يرد عليه هذه التحية بمثلها، فيقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وأما رده بأحسن منها فيما لو اقتصر على أقل من ذلك، كأن يقول: السلام عليكم. أو يقول: السلام عليكم ورحمة الله. لكن الأكمل أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقول المؤلف هنا أنه يستحب أن يقتصر على قول: السلام عليكم ورحمة الله. هذا لا دليل عليه، والمعنى الذي ذَكَره لا يَسْلَم له، فالأفضل أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حكم إعادة السلام إذا حال حائل بين من سلَّم عليه
“وإذا سلَّم ثم حالَ بينه وبين من سلَّم عليه شجرةٌ أو جدارٌ، ثم الْتقَوا عادت سُنة السلام، كذلك كان أصحاب النبي ورضي عنهم”.
قال: “وإذا سلَّم ثم حال بينه وبين من سلَّم عليه شجرةٌ أو جدارٌ، ثم الْتقَوا عادت سُنة السلام، كذلك كان أصحاب النبي ورضي عنهم”.
إذا سلَّم على شخصٍ أو على جماعةٍ، ثم حال بينه وبين من سلَّم عليه شجرةٌ، أو جدارٌ، أو بناءٌ أو عمودٌ أو أي شيءٍ من الحوائل، فيستحب له أن يعيد السلام، يكرر السلام مرةً أخرى.
جاء في هذا حديث أنسٍ الذي أشار إليه المصنف، قال: كنا إذا كنا مع رسول الله فتُفَرِّق بننا شجرةٌ، فإذا التقينا سلَّم بعضنا على بعضٍ [15]. وهذا الحديث أخرجه البخاري في “الأدب المفرد”، وفي سنده مقالٌ، لكن يغني عنه ما جاء في “الصحيحين” في قصة المسيء صلاته، فإنه أتى للمسجد وصلى، ثم أتى النبي ، فسلَّم عليه فردَّ عليه السلام وقال: ارجع فصلِّ؛ فإنك لم تصلِّ. ثم ذهب وصلى، ثم أتى وسلَّم، فردَّ عليه السلام، قال: ارجع فصلِّ؛ فإنك لم تصلِّ. ثم ذهب وصلى، ثم أتى وسلم عليه فرد عليه السلام وقال: ارجع فصلِّ؛ فإنك لم تصلِّ. حتى قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني، فعلمه النبي الطمأنينة في الصلاة [16].
ووجه الاستدلال: أن هذا الرجل سلَّم كم مرةٍ؟ ثلاث مراتٍ، والحائل وقتٌ قصيرٌ، وجاء في بعض الروايات: أنه كان يأتي بتحية المسجد ركعتين، لاحِظ أن رجلًا يصلي ركعتين لا يطمئن فيهما، كم تأخذ من الوقت؟ أقل من دقيقةٍ، ومع ذلك يكرر السلام، وأقره النبي على تكرار السلام، فدل ذلك على أن تكرار السلام لا بأس به، إذا وُجد فاصلٌ زمنيٌّ، أو حائلٌ مكانيٌّ، فاصلٌ زمنيٌّ ولو دقيقةً، فهذا الرجل الفاصل بين سلامه الأول والثاني قصيرٌ.
أو حائلٌ مكانيٌّ -مثل ما ذكر المؤلف- شجرةٌ، جدارٌ، حائطٌ، أيُّ حائلٍ، وجاء عند البخاري في “الأدب المفرد” أيضًا: إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما شجرةٌ أو جدارٌ أو حجرٌ، ثم لقيه فلْيسلِّم عليه [17]، ولكن في سنده مقالٌ، لكن أصح ما ورد في ذلك قصة المسيء صلاته.
وعلى ذلك: إذا أتيت للمسجد فالسنة: أن تسلم على الجالسِين، فإذا أديت تحية المسجد، أو السنة الراتبة، هل يُشرَع لك أن تكرر السلام؟ نعم يشرع، فإذا فرغت من الصلاة، وأردت أن تذهب للبيت، يشرع أن تسلم، فتكرار السلام هنا لا بأس به، بل مندوبٌ إليه، ويدخل في إفشاء السلام، أفشوا السلام بينكم [18].
وأما من قال من أهل العلم: إن هذا غير مشروعٍ، فلا دليل عليه، بل الأدلة على خلاف قوله؛ لقصة المسيء صلاته، لاحِظ هنا كيف كرر السلام، وأقره النبي على ذلك.
حكم سلام جماعة المسجد على الإمام
وكان شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله يستدل بقصة المسيء صلاته على سلام جماعة المسجد على الإمام، وأن هذا لا بأس به، وهذا موجودٌ في بعض المساجد، إذا فرغوا من الصلاة، ومن الذكر، سلموا على الإمام، وبعض أهل العلم المعاصرين أنكر هذا، لكن هذا الإنكار لا وجه له، وكان الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله يستدِل بهذه القصة، قصة المسيء صلاته، على مشروعية السلام، وأن هذا السلام لا بأس به، ويدخل في إفشاء السلام المندوب إليه: أفشوا السلام بينكم [19]، وسيأتي الكلام عنه.
حكم السلام على النساء
“ويكره السلام على شَوَابِّ النساء؛ فإن ذلك يجلِب جوابهن، وسماع أصواتهن، وعساه يجلب الفتنة، وكم من صوتٍ جرَّ هوًى وعشقًا”.
قال: “ويكره السلام على شَوَابِّ النساء”.
الشواب: جمع شابَّة، والشَّابُّ: من بلغ إلى سن الثلاثين، وقيل: إلى الأربعين، لكن المشهور إلى سن الثلاثين، وبين الثلاثين والأربعين كهولةٌ، وما فوق الأربعين شيخوخةٌ.
فالمرأة الشابة يكره السلام عليها، وهذا قال به جماهير أهل العلم، وذكر المؤلف العلة في هذا، قال: “فإن ذلك يجلب جوابهن”. يعني: إذا سلمتَ على المرأة الشابة سترُدُّ عليك السلام، “وسماع أصواتهن، وعساه يجلب الفتنة، وكم من صوتٍ جرَّ هوًى وعشقًا”.
إذا سلَّم على المرأة الشابة سترد عليه السلام، وإذا ردت عليه السلام ربما يعني سبب صوتها فتنةً، وربما كان ذريعةً إلى أن يختلط بهذه المرأة ويحتَكَّ بها، ويقود ذلك إلى الوقوع في المحرم، ربما يَجعل السلام ذريعةً للاحتكاك بهذه المرأة، فيقول: أنا أريد أن أطبق السنة في إلقاء السلام، فيسلم على هذه المرأة، والمرأة ترد السلام، ثم يدخل معها في الحديث، ويقع ما لا تُحمد عُقباه.
فإذنْ: يكره السلام على المرأة الشابة، المرأة الشابة عند الحاجة للحديث معها يُتحدث معها مباشرةً، من غير أن يسلم عليها.
“ولا بأس بالسلام على العجائز والبارِزَات؛ لعدم الفتنة بأصواتهن، ولأن البَرْزَة تحتاج إلى السلام عليها ورد سلامها، وللحاجة تأثيرٌ بذلك؛ لجواز النظر إلى وجه المرأة للشاهد؛ ليحفظ الحِلْية فيقيم الشهادة، وكذلك الصائغ والمَغَازِلِيُّ، وكل من تعامله النساء من أرباب التجائر والصنائع”.
“ولا بأس بالسلام على العجائز والبارزات؛ لعدم الفتنة بأصواتهن، ولأن البَرْزَة تحتاج إلى السلام عليها، ورد سلامها، وللحاجة تأثير في ذلك”.
“لا بأس بالسلام على العجائز”، والعجائز: جمع عجوزٍ، وهي المرأة الكبيرة في السن، فلا بأس بالسلام عليها لانتفاء الفتنة؛ لأن هذه المرأة لا ترجو نكاحًا، ولا يترتب على السلام عليها فتنةٌ، ولأن هذا أيضًا مأثورٌ عن الصحابة ، كما في حديث سهل بن سعدٍ قال: كنا نفرح بيوم الجمعة. قلت لسهلٍ: لم؟ قال: كانت لنا عجوزٌ تأخذ من أصول سِلْقٍ لنا كنا نغرسه في أَرْبِعَائنا، فتجعله في قِدرٍ لها، فتجعل فيه حباتٍ من شعيرٍ -لا أعلم إلا أنه قال- ليس فيه شحمٌ ولا وَدَكٌ، فإذا صلينا الجمعة زرناها فقرَّبَته إلينا؛ فكنا نفرح بيوم الجمعة من أجل ذلك، وما كنا نتغدَّى ولا نَقِيل إلا بعد الجمعة.
المؤلف يرى أنه لا بأس بالسلام عليها، والذي يظهر -والله أعلم- هو التفصيل، فإن كان السلام عليها مَظِنَّة فتنةٍ، فلا يسلم عليها، وإن لم يكن مظنة فتنةٍ فلا بأس به، هذا هو الأظهر في هذه المسألة.
فتكون المسألة على ثلاثة أقسامٍ:
المرأة العجوز: لا بأس بالسلام عليها.
المرأة الشابة غير البرزة: لا يُسلَّم عليها.
المرأة البرزة: المؤلف يقول: يُسلَّم عليها؛ لأنه لا بأس بالسلام عليها، والذي يظهر هو التفصيل: إن كان السلام عليها مظِنَّة فتنةٍ، لا يسلم عليها، وإن لم يكن مظنة فتنةٍ فلا بأس.
…
نعم، من توجد في المستشفيات أو المحلات، هذه في حكم البَرْزَة، هذه من البرزة التي ذكرها الفقهاء، أو أنها هي نفسها برزةٌ، فلا بأس، لكن من غير توسعٍ بقدر الحاجة، يلقي السلام ويتكلم معها بقدر حاجته، من غير أن يتوسع في الحديث معها.
…
نعم.
هذا يُجزئ، لكنه خلاف الأَوْلى، خلاف الأفضل.
قال: “لجواز النظر إلى وجه…” أي: أن هذا لا زال المؤلف في التعليل في قوله: بأن البرزة يجوز السلام عليها، وكذلك أيضا عجائز.
قال: “لجواز النظر إلى وجه المرأة للشاهد؛ ليحفظ الحلية، فيقيم الشهادة، كذلك الصائغ والمغازلي”.
حكم النظر إلى وجه المرأة
يعني: يجوز للشاهد أن ينظر إلى وجه المرأة، حتى يَشهد عليها؛ أنَّ هذه هي فلانة بنت فلانٍ، وهذا قولٌ عند الحنابلة، قال الإمام أحمد: لا يشهد على امرأةٍ، حتى ينظر إلى وجهها، ويعرف كلامها. ولكن هذا القول محل نظرٍ، ليس بالضرورة في الشهادة أن ينظر إلى وجهها، وإنما يكتفي بمعرفتها، وأنها فلانة بنت فلانٍ، وليس هناك حاجةٌ للنظر إلى وجهها.
قال: “ليحفظ الحِلْية”.
الحلية: جمع حلي، ويعني هذا فيه إشارة إلى المقصود من النظر إلى وجه المرأة؛ ليحفظ الحلية، فيشهد عليها أنها قد أخذت مثلًا هذا الحلي، أو أنها تلبس هذا الحلي.
وكذلك الصائغ الذي يجعل الذهب حليًّا، والمَغازلي من يغزل القطن ونحوه، يقول: هؤلاء عندما يشهد عليهم عندما يجيء الشاهد ويشهد، أو الصائغ يريد أن يبيع، والمغازلي لكي..، فهؤلاء يجوز أن ينظر إلى وجه المرأة؛ لأن هذا نظرٌ لحاجةٍ، لكن هذا محل نظرٍ، القول الراجح: لا يجوز في هذه الصور كلها، لا يجوز النظر لوجه المرأة، إنما الذي يجوز، قال: “وكل من تعامله النساء من أرباب التجائر والصنائع” يجوز للرجل أن ينظر للمرأة التي يريد أن يتعامل معها في التجارة؛ لكي يعرف وجهها بعينها، ولكن هذا القول محل نظرٍ، والقول الراجح: أنه لا يجوز في ذلك كله، إنما الذي يجوز ولم يذكره المؤلف هو النظر للمرأة المخطوبة، هذا هو الذي وردت به السنة، وأما النظر ليتعامل معها في التجارة لم يأت عليه دليلٌ، الأصل أنه لا يجوز للرجل أن ينظر إلى وجه المرأة الأجنبية، لكن المرأة المخطوبة يجوز أن ينظر إليها، بل يسن؛ لقول النبي : إذا خطب أحدكم امرأةً، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل [20].
وهذا أمرٌ وأقل ما يفيده الأمر الاستحباب، فالنظر إلى المرأة المخطوبة مستحبٌّ، وهو من أسباب التوفيق بين الزوجين، ولهذا؛ قال: فإنه أحرى أن يُؤْدَم بينهما [21] أي: يكون ذلك سببًا للمحبة والمودة والألفة.
إذنْ نقول: النظر لوجه المرأة الأجنبية يجوز في حق المرأة المخطوبة، وسبق الكلام عنه في درسٍ سابقٍ بالتفصيل.
وأما النظر لوجه المرأة في التعاملات في التجارة في الصناعة، الذي أشار إليه المؤلف قلنا: هذا قولٌ مرجوحٌ والصواب: أن ذلك لا يجوز.
“ولا بأس بالسلام على الصبيان تعليمًا لهم للأدب، وتحبيبًا لحسن الخلق، وتدريبًا على حسن المعاشرة، ويستحب السلام عند الانصراف، كما يستحب عند الدخول، والدخول أشد استحبابًا”.
حكم السلام على الصبيان
قال: “ولا بأس بالسلام على الصبيان تعليمًا لهم للأدب، وتحبيبًا لحسن الخلق، وتدريبًا وتمرينًا على حسن المعاشرة” ذكر المؤلف هذه التعليلات، ولو أنه أشار لفعل النبي لكان هذا هو الأولى، فالسلام على الصبيان سنةٌ، وقول المؤلف: “لا بأس”. يعني: لا مانع. هذا محل نظرٍ، لو عبَّر بالاستحباب، لو قال المؤلف: ويستحب السلام على الصبيان؛ لكان هذا أجمل، فالسلام على الصبيان مستحبٌّ، ودليله: حديث أنسٍ أن النبي مر على صبيانٍ فسلم عليهم [22]، كما جاء ذلك في “الصحيحين”.
وأما ما ذكر المؤلف من التعليلات، فهذه تكون بعد الدليل، يعني يكفينا أن النبي سلَّم على الصبيان.
ومن جهة النظر: ما ذكره المؤلف: تعليمًا لهم الأدب، وتحبيبًا لحسن الخلق، وتدريبًا وتمرينًا على حسن المعاشرة.
حكم السلام عند الانصراف
قال: “ويستحب السلام عند الانصراف، كما يستحب عند الدخول، والدخول أشد استحبابًا”.
يعني: كما أنه يستحب السلام عند الدخول، فيستحب السلام كذلك عند الانصراف، وذلك؛ لحديث أبي هريرة أن النبي قال: إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، وإذا أراد أن يقوم فليسلم؛ فليست الأُولى بأحق من الآخرة [23]، هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي، وهو حديث حسنٌ أو صحيحٌ، وهو يدل على مشروعية السلام عند القيام من المجلس، إذا كنت في مجلس، وأردت أن تنصرف فسلم، إذا كنت في المسجد، وأردت أن تذهب تسلم، لكن عند الدخول أشد استحبابًا؛ لأن هذا هو الذي عليه أكثر الأحاديث.
ولفظ السلام الذي تكلمنا عن أحكامه وأدائه: السلام؛ إما أنه مأخوذٌ من اسم الله تعالى “السلام”، فإن الله تعالى من أسمائه: “السلام”، فعندما تقول: السلام عليكم. معناه: اسم الله عليكم، أي أنتم في حفظ الله تعالى ورعايته، أو أن المعنى الدعاء له بالسلامة من الآفات في الدين والدنيا، فتقول: السلام عليك. يعني أدعو لك بالسلامة من جميع الآفات في الدين والدنيا، أو أن السلامة ملازمةٌ لكم، ومصاحبةٌ لكم، ولهذا؛ عطف عليها بقوله: ورحمة الله وبركاته.
والذي يظهر أن كل هذه المعاني مرادةٌ، فقول: السلام عليكم. يعني: اسم الله عليكم، يعني: أنتم في حفظه، وهي دعاءٌ لأخيك بالسلامة من آفات الدين والدنيا، وأيضًا بمعنى: السلامة ملازمةٌ لكم، وكذلك: رحمة الله وبركاته، فكأنك تدعو لأخيك المسلم عندما تلقي عليه التحية تدعو له بهذا الدعاء.
فإذنْ هذه المعاني التي يدل لها لفظ السلام، لا شك أنها لو تُلقَى على أخيك المسلم تجلب الألفة والمحبة والمودة.
هناك أحكامٌ أخرى متعلقةٌ بالسلام: المصافحة والمعانقة وتقبيل اليد، وتقبيل القدم والقيام للقادم، هذه -إن شاء الله- سنتكلم عنها بالتفصيل في الدرس القادم، إن شاء الله تعالى.
ونكتفي بهذا القدر في مجالس فصول الأدب.
س:…؟
ج: الذي يظهر أنه لا يجب لا هذا ولا ذاك؛ لأن مجرد الكتابة لا يعتبر إلقاء للتحية، وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا [النساء: 86]، فهي مجرد كتابة، ولذلك؛ لو كان طلاقًا لم يقع إلا بالنية…، لكن يستحب الرد، أما القول بالإيجاب الذي يقتضي التأثيم فيحتاج إلى دليلٍ ظاهرٍ، وليس هناك دليلٌ ظاهرٌ، ولا تقوى الكتابة على أن تكون مثل الإلقاء.
الكتابة أضعف من كلام الشيء، أو إلقاء الشيء، ولذلك؛ ذكرنا أنه لو كتب الطلاق لا يقع إلا إذا نوى، أما الكتابة بحد ذاتها أضعف من الكلام، فتأثيم الناس يحتاج إلى دليلٍ، لو قلنا: كل من كتب السلام عليك يجب عليك أن ترد عليه وإلا أثمتَ. هذا يحتاج إلى دليلٍ، والذي يظهر أن ذلك مستحبٌّ ومن الفضائل، لكنه ليس واجبًا، إنما الواجب أن ترد عليه لو ألقى عليك السلام.
ومما يدل لهذا: أن من كتب لك رسالةً، لو لم ترُدَّ عليه السلام فإنه لا يُحدِث ذلك في نفسه شيئًا، بخلاف من ألقَى عليك السلام مشافهةً، وقال: السلام عليكم. ولم ترد عليه، يَحُزُّ هذا في نفسه، ويقول: لماذا لم يرد عليَّ السلام؟ لكن لو كتب رسالةً: السلام عليك. ولم ترد عليه، لا يُحدث هذا في نفسه نفس الأثر الذي يحدثه لو ألقَى عليك السلام مشافهةً، هذا هو الذي…
لكن -مع ذلك- رد السلام هو الأفضل والأكمل، يعني الكلام فقط هو في الوجوب.
…
نعم، هذا الذي يظهر، الذي يظهر أنه يسقط الوجوب بمجرد الرد، وأن الإكمال بتحيةٍ مثلها، أو أحسن منها، هذا على سبيل الأفضلية.
…
وإذا كان عملها يؤدي إلى فتنةٍ، تحصل الفتنة منها، أو بها، فنعم، تنصح بأن تترك هذا العمل، أما إذا كان لا يؤدي إلى فتنةٍ، وهي محتاجةٌ وبعيدةٌ عن مخالطة الرجال، فلا بأس أن تعمل مثلًا في تعليم النساء، منفصلاتٍ عن الرجال، أو تعمل في مجالٍ هي بعيدةٌ عن الرجال في بعض المصارف، خاصةً المصارف الإسلامية تكون النساء بعيداتٍ عن الرجال في مكانٍ مستقلٍّ منعزلٍ، فلا بأس.
أما إذا كانت تخالط الرجال، وتعمل في مكانٍ واحدٍ مع الرجال، لا شك أن هذا فتنةٌ عظيمةٌ.
ونكتفي بهذا القدر في أصول الآداب ومكارم الأخلاق المشروعة، فنسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعًا للصواب والهداية والخير والفلاح.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 6116. |
---|---|
^2 | رواه الطبراني في المعجم الأوسط: 2663. |
^3 | رواه مسلم: 17. |
^4 | رواه أبو داود: 5225. |
^5 | رواه البخاري: 6231، ومسلم: 2160. |
^6 | رواه مسلم: 2162. |
^7 | رواه ابن ماجه: 1109. |
^8 | رواه أبو داود: 5210. |
^9 | رواه مسلم: 54. |
^10 | رواه البخاري: 3326، ومسلم: 2841. |
^11 | رواه البخاري: 831، ومسلم: 402. |
^12, ^13, ^18, ^19 | سبق تخريجه. |
^14 | رواه أبو داود: 5196. |
^15 | رواه البخاري في الأدب المفرد: 1011. |
^16 | رواه البخاري: 757، ومسلم: 397. |
^17 | رواه البخاري في الأدب المفرد: 1010. |
^20 | رواه أبو داود: 2082. |
^21 | رواه الترمذي: 1087، وقال: حسنٌ، وابن ماجه: 1865، والنسائي: 3235، وأحمد: 18137. |
^22 | رواه البخاري: 6247، ومسلم: 2168. |
^23 | رواه أبو داود: 5208، والترمذي: 2706، وقال: حسنٌ، وأحمد: 7852. |