عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
يتجدد بكم اللقاء في هذه الحلقة، وقد سبق أن تكلمنا في الحلقة السابقة عن:
شروط ثبوت الشفعة
- الشرط الأول: المطالبة بها على الفور ساعة العلم بالبيع.
وقد أشرنا إلى خلاف الفقهاء في هذه المسألة، وأن القول الأظهر عند كثير من المحققين من أهل العلم هو: عدم اشتراط هذا الشرط، وأن الشُفْعة حقٌ من الحقوق لا يسقط إلا بما يدل على الرضا بإسقاطه، وأن ما استُدِلَّ به على ثبوت الشفعة على الفور ضعيفٌ، لا يصح عن النبي .
وننتقل بعد ذلك للحديث عن الشرط الثاني، فنقول:
- الشرط الثاني: أن يكون انتقال نصيب الشريك بعوضٍ مالي كالبيع، وما كان في معنى البيع؛ أما إن انتقل نصيب الشريك بغير عوضٍ كالإرث والهبة والوصية ونحو ذلك فلا شُفعة.
ونوضح هذا بالمثال: رجلان مشتركان في أرض لكل منهما نصفها، ثم إن أحدهما توفي فلا شُفعة لشريكه في نصيبه، بل إن ورثة هذا المتوفى يحلّون محلّه، وهكذا لو أن أحدهما قد وهب نصيبه أو أوصى به فلا تثبت الشفعة لشريكه؛ إلا أن يكون ذلك على سبيل الحيلة، كأن يُظهِر بأنه قد وهب نصيبه لفلان من الناس، وهو في حقيقة الأمر قد باعه إياه، وإنما يُظهر أنه قد وهب لئلا يشفع عليه شريكه، فهذه حيلةٌ محرّمة، ولا تسقط بها الشفعة.
وقد تكلمنا بالتفصيل عن الحيل المحرّمة في باب الشفعة في الحلقة السابقة.
- الشرط الثالث: أن تكون الشفعة في أرضٍ يمكن قسمتها وما يتبعها من غراسٍ وبناء.
وبناءً على هذا الشرط لا تثبت الشفعة في المنقولات أو فيما لا ينقسم، كالحيوان والسيارة ونحو ذلك، وهذا هو قول جمهور الفقهاء.
والقول الثاني في المسألة: هو ثبوت الشفعة في المنقول وفيما لا ينقسم؛ لعموم قول النبي : الشُفْعة فيما لم يقسم؛ ولأن الشفعة إنما ثبتت لدفع الضرر والضرر فيما لا ينقسم أبلغ منه فيما ينقسم.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “واحتُج لهذا القول بحديث جابر الصحيح: “قضى رسول الله بالشفعة في كل ما لم يُقسم” [1]، وهذا يتناول المنقول والعقار”.
وأقول: لعل هذا القول الأخير -أعني ثبوت الشفعة في المنقولات وفيما لا ينقسم- لعله الراجح في هذه المسألة، والله تعالى أعلم.
أيها الإخوة! وتفريعًا على هذا القول نقول: إذا اشترك رجلان في محلٍّ لبيع بضائع، أو أقمشة، أو أجهزة ونحو ذلك، وباع أحد الشريكين نصيبه؛ فإن لشريكه الآخر أن يشفع وأن يشتري من شريكه نصيبه بالثمن الذي قد باعه به، وبذلك فإنه يستأثر بالمحل جميعه.
شفعة الجوار
ولكن ماذا عن شفعة الجوار؟ وهل للجار أن يشفع في حق جاره؟ أم لا؟
نقول: أما إذا لم يكن بين الجارين اشتراكٌ في أي حقٍّ من الحقوق، كأن يكون بيته بجوار بيته وليس بينهما أيُّ اشتراك، أو تكون مزرعته بجوار مزرعته وليس بينهما أيُّ اشتراك؛ فإن الشُفْعة لا تثبت للجار في هذه الحال؛ وذلك لانتفاء المعنى الذي لأجله شُرِعت الشفعة وهو الضرر الحاصل للشريك أو الجار.
وأما إذا كان بينهما اشتراكٌ في حقٍّ من الحقوق، كجدارٍ أو طريقٍ أو بئرٍ ونحو ذلك، فقد اختلف الفقهاء في ثبوت الشفعة للجار في هذه الحال.
والقول الذي عليه أكثر المحققين من أهل العلم هو القول بثبوت الشُفْعة في هذه الحال، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمة الله تعالى على الجميع.
ويدل لهذا القول ما جاء في صحيح البخاري عن أبي رافع قال: سمعت النبي يقول: الجار أحقُّ بسقبه [2]، زاد الترمذي: ينتظر به وإن كان غائبًا، إذا كان طريقهما واحدًا [3].
وقوله في هذا الحديث: “بسقبه” بالسين، ويقال: “بصقبه” بالصاد.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “السقبُ: بالسين المهملة، وبالصاد أيضًا، ويجوز فتح القاف وإسكانها: القُربُ والملاصقة”.
ويدل لهذا القول أيضًا حديث سمرة بن جندب : أن النبي قال: جار الدار أحقُّ بالدار [4]، أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد، وقال الترمذي: حديثٌ حسن صحيح.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “الصواب القول الوسط الجامع بين الأدلة، وهو قول البصريين وغيرهم من فقهاء الحديث: أنه إن كان بين الجارين حقٌ مشتركٌ من حقوق الأملاك، من طريقٍ أو ماءٍ أو نحو ذلك ثبتت الشفعة، وإن لم يكن بينهما حقٌ مشترك البتة، بل كان كل واحدٍ منهما متميّزًا ملكه وحقوق ملكه فلا شفعة، وهذا الذي نص عليه أحمد في رواية أبي طالب..”.
قال: “وهذا القول هو أعدل الأقوال وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وحديث أبي رافع صريحٌ فيه؛ فإنه قال: الجار أحق بسقبه يُنتظر بها وإن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحدًا، فأثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريق، ونفاها به مع اختلاف الطريق بقوله: فإذا وقعت الحدود وصُرِّفت الطرق فلا شفعة [5]”.
قال رحمه الله: “والقياس الصحيح يقتضي هذا القول، فإن الاشتراك في حقوق الملْك شقيق الاشتراك في الملْك، والضرر الحاصل بالشركة فيها كالضرر الحاصل بالشركة في الملك أو أقرب إليه..”.
قال: “ورفعه -أيْ الضرر- مصلحةٌ للشريك من غير مضرّة على البائع ولا على المشتري، فهذا المذهب أوسط المذاهب وأجمعها للأدلة وأقربها للعدل”.
هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن بقية أحكام الشفعة في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، فأستودعكم الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.