عناصر المادة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بعدما تكلمنا عن الصلح وأحكامه في الحلقات السابقة، ننتقل في هذه الحلقة للكلام عن أحكام الجوار.
ويتكلم كثيرٌ من الفقهاء عن أحكام الجوار بعد كلامهم عن أحكام الصلح؛ وذلك لأن الجوار مظنّةٌ لحصول المنازعات والمشاكل، وهذه المنازعات يمكن حلّها عن طريق الصلح.
حقوق الجار
وقبل أن نتكلم عن شيءٍ من أحكام الجوار نُذكِّر بأهمية حق الجار، وقد أوصى ربنا بالإحسان إليه، فقال سبحانه: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء:36]، فقد ذكر الله تعالى في هذه الآية أنواعًا من الجيران:
- الأول: الجار ذي القربى، أيْ الذي بينك وبينه قرابة، فهذا له ثلاثة حقوق: حق الإسلام، وحق الجوار، وحق القرابة.
- الثاني: الجار الجنب، وهو الجار الذي ليس بينك وبينه قرابة، كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره، فهذا له حقان: حق الإسلام، وحق الجوار.
وأما لو كان الجار غير مسلم فله حقٌ واحد وهو حق الجوار. - وأما الصاحب بالجنب، فقال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره: “الصواب من القول في معنى قول الله: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ، الصّاحب إلى جنب، كما يقال: فلانٌ بجنب فلان وإلى جنبه، وقد يدخل في هذا الرفيق في السفر، والمرأة -أي الزوجة- والمنقطع إلى الرجل الذي لازمه..؛ لأن كلهم بجنب الذي هو معه، وقريبٌ منه، وقد أوصى الله تعالى بجميعهم لوجوب حق الصاحب على المصحوب”.
وقد أوصى النبي بالجار في أحاديث كثيرة، وليس المقام مقام ذكرها، ولكن نكتفي بذكر حديثٍ واحد منها فقط، لو لم يرد في بيان عظيم حق الجار إلا هذا الحديث لكان كافيًا، وهذا الحديث قد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما يقول فيه النبي : ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سيوّرثه [1]، وفي لفظٍ: حتى ظننت أنه يجعل له ميراثًا [2].
أحكام إجراء الماء على أرض الجار
ونعود بعد ذلك للكلام عن أحكام الجوار، فنقول:
من أحكام الجوار: أن الجار إذا احتاج إلى إجراء الماء على أرض جاره، وتصالحا على ذلك بعوضٍ، جاز هذا الصلح لدعاء الحاجة إلى ذلك، ثم إن كان هذا العوض في مقابل الانتفاع، مع بقاء ملك صاحب الأرض عليه، فهذا العقد يُعتبر إجارة، وإن كان مع زوال الملك اعتُبِر بيعًا.
ولكن إن رفض صاحب الأرض أن يجري جاره ماءه على أرضه، فإن لم يكن للجار حاجةٌ، ولا ضرورة، فليس له أن يجري ماءه على أرض جاره إلا بإذنه.
أما إذا كان هناك ضرورة مثل أن يكون له أرضٌ للزراعة، ولا طريق للماء إليها إلا عن طريق أرض جاره، فهل يجوز له أن يُمِرَّ الماء عن طريق أرض جاره بلا إذنه؟
اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: والصواب أنه يجوز له ذلك، ويجبره الحاكم في حالة امتناعه منه؛ وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ويدل له قصة الخليفة ابن الضحاك لما ساق خليجًا لأرضه من العُريض وهو وادٍ بالمدينة، فأراد أن يُمِرَّه في أرض محمد بن مسلمة فأبى، فكلّم فيه عمر بن الخطاب فدعا عمر محمدًا، وقال له: “لِم تمنع أخاك ما ينفعه، وهو لك نافعٌ تسقي به أولًا وآخرًا، وهو لا يضرُّك؟ فقال محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرّن به ولو على بطنك، فأمر عمر أن يُمَرَّ به ففعل” [3]، أخرجه الإمام مالكٌ في الموطأ بسند صحيح.
حكم الأغصان الممتدة في حق الجار
ومن أحكام الجوار: أنه إذا امتدت أغصان أشجاره في هواء جاره، أو في قرار ملكه، وجب على مالك الأغصان إزالتها، إما بقطعها، أو ليّها إلى ناحيةٍ أُخرى؛ ليخلي ملك الغير، فإن أبى مالك الأغصان أن يعمل شيئًا من ذلك فلجاره الذي هو صاحب الهوى أو القرار أن يزيل ضرره بليّ تلك الأغصان إن أمكن، فإن لم يمكن إلا بقطعها فله أن يقطعها؛ لأنه بمنزلة الصائل فيدفعه بأسهل ما يمكن، وإن تصالحا على بقاء الأغصان جاز ذلك، سواء كان ذلك بعوضٍ أو على أن ثمرتها بينهما.
حكم إحداث الإنسان في ملكه ما يضر جاره
ومن أحكام الجوار: أنه لا يجوز للإنسان أن يُحدث في ملكه ما يضرُّ بجاره؛ لقول النبي : لا ضرر ولا ضرار [4].
ومن صور الإضرار بالجار: فتح نوافذ تُطِلُّ على بيت جاره، ومن ذلك أن يضع في بيته ماشية يصدر منها أصوات وروائح مزعجة لجيرانه.
ومن ذلك: أن يضع في بيته مقهى أو ملعبًا يجتمع فيه الناس، وتحصل بسببه الأذيّة لجاره من إزعاجهم… إلى غير ذلك من أنواع الضرر.
والقاعدة: أنه لا يجوز للإنسان أن يُحدِث ما يضرُّ جاره، ولو كان ذلك في ملكه، فإن فعل ألزمه الحاكم بإزالة ما يضر جاره.
حكم التصرف في الجدار المشترك
ومن أحكام الجوار: أنه إذا كان بينه وبين جاره جدارٌ مشترك، فليس له أن يتصرَّف فيه إلا بإذنه، ويجوز له وضع الخشب ونحوه على الجدار المشترك، أو الخاص بالجار عند الضرورة، بشرط ألا يتضرر الجدار بذلك.
ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي قال: لا يمنعن جارٌ جاره أن يضع خشبه على جداره ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين؟ والله لأرمين بها بين أكتافكم [5].
فدل هذا الحديث على أنه ليس للجار أن يمنع جاره من وضع الخشب ونحوه في جداره، ويجبره الحاكم إذا امتنع؛ لأنه حقٌ ثابتٌ لجاره بحكم الجوار.
وقول أبي هريرة في هذا الحديث: “ما لي أراكم عنها معرضين؟” يحتمل معنيين:
- المعنى الأول: ما لي أراكم عن هذه السنة معرضين، والله لأرمينَّ بها بين أكتافكم، وخصَّ الأكتاف بالذكر؛ لأنها موضع التحمُّل.
- المعنى الثاني: “ما لي أراكم عنها معرضين” أيْ: تمنعون من وضع الخشب “والله لأرمين بها” أي: بالخشب “بين أكتافكم” أيْ: لأُلزمنّكم بذلك، قال: هذا لأنه لما قال هذا الكلام كان أميرًا على المدينة.
حكم الصُّعود على الأسطح التي تكشف بيوت الجيران
ومن أحكام الجوار: ما ذكره الفقهاء من أنه إذا كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخر، فليس لصاحب السطح الأعلى الصعود على سطحه على وجهٍ يُشرف على سطح جاره، إلا أن يبني سترة تستره، وكذلك ليس له أن يفتح النوافذ من بيته على وجهٍ يكشف بها جاره.
ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين أن النبي قال: لو أن رجلًا اطّلع عليك فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح [6]، وإذا كان لا يجوز للإنسان أن يُحدِث في ملكه ما يضرُّ بجاره فلا يجوز له كذلك أن يُحدث في طرقات المسلمين ما يضايق به المارّين في تلك الطرقات.
فليس له أن يلقي في طرق المسلمين النفايات وأجزاء البناء والأحجار والحديد والإسمنت، ونحو ذلك، يقول الله : وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58]، فعلى المسلم أن يحترم حقوق إخوانه المسلمين، وأن يبتعد عن كل ما يُحدث الأذية أو الضرر لإخوانه المسلمين.
نسأل الله تعالى أن يُبصّر المسلمين في دينهم، وأن يوفقهم لتطبيق أحكامه.
وإلى لقاءٍ في حلقةٍ قادمة إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.