logo
الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(31) أحكام الضمان- رجوع الضامن في ضمانه وتعريف الكفالة

(31) أحكام الضمان- رجوع الضامن في ضمانه وتعريف الكفالة

مشاهدة من الموقع

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نتناول معكم في هذه الحلقة من هذا البرنامج جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بباب الضمان، نتناول جملة منها في هذه الحلقة، ثم بعد ذلك ننتقل إلى أحكام الكفالة، والتي لها ارتباطٌ ظاهرٌ بالضمان.

رجوع الضامن في ضمانه

فنقول: من مسائل الضمان: أنه عقدٌ لازم، فليس للضامن أن يرجع في ضمانه، قال البخاري في صحيحه: “بابٌ من تكفّل عن ميّتٍ دينًا، فليس له أن يرجع، وبه قال الحسن”.

ثم ساق البخاري بسنده عن سلمة بن الأكوع : “أنَّ النبي  أُتي بجنازة ليصلي عليها، فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أُتي بجنازة أُخرى، فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: نعم، قال: فصلوا على صاحبكم قال أبو قتادة: عليَّ دينه، يا رسول الله، فصلى عليه” [1].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلّقًا على قول البخاري: “من تكفَّل عن ميّتٍ دينًا، فليس له أن يرجع” قال: “أيْ عن الكفالة، بل هي لازمةٌ له، فقد استقر الحق في ذمته”.

ثم بيَّن الحافظ وجه الدلالة من حديث سلمة بن الأكوع السابق على هذا الحكم، فقال: “وجه الأخذ منه أنه لو كان لأبي قتادة أن يرجع لما صلى النبي على المدين حتى يوفي أبو قتادة الدين؛ لاحتمال أن يرجع، فيكون قد صلى على مدينٍ دينه باقٍ عليه، فدل على أنه ليس له أن يرجع”.

وقال الموفق ابن قدامة رحمه الله في كتابه المغني: “لا يدخل الضمان ولا الكفالة خيارٌ؛ لأن الخيار جُعِل ليُعرف ما فيه الحظ؛ والضمين والكفيل قد دخلا على أنه لا حظ لهما؛ ولأنه عقدٌ لا يفتقر إلى القبول فلم يدخله خيارٌ كالنذر، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، ولا نعلم فيه خلافًا”.

وبهذا يتبيَّن أيها الإخوة أن الضمان عقدٌ لازم، ولا يدخله الخيار، فلو أراد الضامن الرجوع في ضمانه، فليس له ذلك، أقول: هذا لأن بعض الناس بعدما يضمن عن غيره ضمانًا، ثم يتبيَّن له ما يترتب على ضمانه من تبعات يحاول أن يرجع في ضمانه، فنقول: إنه لا يملك الرجوع حينئذٍ.

تعدد الضامنين

ومن مسائل الضمان: أنه يجوز تعدد الضامنين، فيجوز أن يضمن الحق اثنان فأكثر، سواء ضمن كل واحد منهما جميعه أو جزءًا منه، ولا يبرأ أحدٌ منهم ببراءة الآخر، ويبرؤون جميعًا ببراءة المضمون عنه.

ومن هذا الباب ما يفعله بعض من يبيع بالتقسيط من مؤسسات وأفراد، من اشتراط أكثر من ضامنٍ على المشتري، فلا بأس بذلك وللبائع الذي هو المضمون له أن يطالب من شاء منهم.

الضمان عمَّا لم يجب

ومن مسائل الضمان: أن الضمان كما أنه يصح عمّا قد وجب وثبت من الدين، فيصح كذلك عمّا لم يجب، كأن يقول: ما بعت فلانًا، فأنا ضامنٌ له، أو ما تقرضه فلانًا، فأنا له ضامن.

مثال ذلك: رجلٌ من الناس له قريبٌ أو صديق، وطلب هذا الرجل من تاجر من التجار أن يتعامل مع قريبه، أو صديقه بالبيع بالأجل، وحتى يشجع هذا التاجر على ذلك، قال له: أنا ضامنٌ لكل ما تبيعه فلانًا -أيْ ذلك القريب أو الصديق- فهذا الضمان صحيح في قول جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة.

ويدل ذلك قول الله ​​​​​​​ في قصة يوسف: وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف:72] ففي هذه الآية ضمان حمل بعيرٍ لمن يأتي بالصاع وهو ضمانٌ لما لم يجب؛ لأن الصاع لم يأتِ بعد، وهذا وإن كان في شرع من قبلنا إلا أنه لم يرد في شرعنا ما يخالفه فيما يظهر والله أعلم، بل ورد في السنة ما يدل عليه، وهو قول النبي : الزعيم غارم [2]، أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: “حديثٌ حسن”.

وقوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: الزعيم غارم، يشمل كل ضامن، سواء ضمن ما وجب أو ما لم يجب، والله تعالى أعلم.

حكم ضمان عهدة المبيع

ومن مسائل الضمان أنه يصح ضمان عهدة المبيع، ويسمى بضمان الدرَك عن البائع للمشتري وعن المشتري للبائع، فضمانه عن المشتري للبائع، معناه: أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه.

وضمانه عن البائع للمشتري معناه: أن يضمن عن البائع الثمن متى ما خرج المبيع معيبًا، ونحو ذلك.

مثال ذلك: رجلٌ يريد أن يشتري سيارة عن طريق معرضٍ من معارض السيارات، ويخشى أن يجد في تلك السيارة عيبًا، ونحو ذلك، فطلب من صاحب المعرض أن يضمن له ثمن تلك السيارة عن بائعها متى ما كان فيها عيبٌ، ونحو ذلك، فهذا الضمان صحيحٌ في قول جمهور الفقهاء.

ضمان الدين الحالّ مؤجلًا

ومن مسائل الضمان: أنه يصح ضمان الدين الحالِّ مؤجلًا، كأن يحل على رجلٍ دينٌ فيأتي من يضمنه عنه مؤجلًا لمدة سنة، أو سنتين، أو أكثر، أو أقل، فيصح هذا الضمان ويكون حالًّا على المضمون عنه، ويكون مؤجلًا على الضامن، أي: أن الدائن يملك مطالبة المضمون عنه دون الضامن ما لم يحل ذلك الأجل الذي قد حدده الضامن.

قال الإمام أحمد رحمه الله في رجل ضمن ما على فلانٍ أن يؤديه في ثلاث سنين، قال: هو عليه ويؤديه كما ضمن.

ويدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلًا لزم غريمًا له بعشرة دنانير على عهد رسول الله ، فقال: ما عندي شيءٌ أعطيكه، فقال: والله لا فارقتك حتى تعطيني أو تأتيني بحميل -أيْ بضامن-، فقال النبي : كم تستنظره؟ قال: شهرًا، فقال رسول الله : فأنا أحمل له -أيْ أضمن عنه- وجاء في هذا الحديث أن النبي قضى عنه ذلك الدين بعد مضي تلك المدة [3]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه بإسناد صحيح.

وهذا الحديث نصٌ في صحة ضمان الدين الحالَّ مؤجلًا.

وبهذا نكون قد انتهينا أيها الإخوة المستمعون من الكلام عن مسائل وأحكام الضمان، بعدما تكلمنا عن حقيقته وعن جملة من شروطه ومسائله، ثم ذكرنا نماذج لبعض المسائل المتعلقة بالبنوك والمرتبطة بالضمان، ثم ختمنا الكلام عن الضمان بذكر جملة من المسائل التي تقدمت في هذه الحلقة.

ولعل من المناسب أن ننتقل بعد ذلك إلى الكفالة، والتي سبق أن قلنا: إن لها ارتباطًا بالضمان.

تعريف الكفالة

وتُعَرَّف الكفالة في اللغة: بأنها مصدر “كفل” بمعنى التزم.

وفي الاصطلاح: بأنها التزام رشيد إحضار من عليه حقٌ ماليٌ لربَِّه.

ويسميها بعض الناس اليوم بالكفالة الحضورية، وسبق القول: بأن من الفقهاء من يطلق الكفالة على الضمان، ويطلق الضمان على الكفالة، ولكن جمهور الفقهاء يُطلقون الكفالة، ويريدون بها التزام إحضار النفس، ويطلقون الضمان ويريدون به التزام المال.

فالعقد في الكفالة واقعٌ على بدن المكفول؛ ولذلك فإنها تصح ببدن كل من عليه حقٌ ماليٌ كالدين، ولا تصح ببدن من عليه حدٌ ولا قصاص؛ لأنه لا يمكن استيفاء القصاص أو الحد من الكفيل إذا تعذّر إحضار المكفول الذي هو الجاني.

رضا الكفيل والمكفول

ولا تصح الكفالة إلا برضا الكفيل؛ لأنه لا يلزمه الحق ابتداءً إلا برضاه، أما المكفول فهل يُشترط لصحة الكفالة رضاه؟ اختلف الفقهاء في ذلك:

فمنهم من اشترط رضاه، ومنهم من لم يشترط ذلك.

والأقرب -والله أعلم- هو اعتبار رضاه؛ لأن المقصود من الكفالة هو إحضاره فلا بد من رضاه بذلك؛ ولأن الكفالة معروفٌ وإحسانٌ إليه، فإذا كانت الكفالة بغير رضاه لم تُصبح معروفًا ولا إحسانًا.

متى تنقل الكفالة إلى ضمان؟

ومن مسائل الكفالة: أنها قد تنقلب ضمانًا؛ وذلك فيما إذا كفل رجلٌ آخر وتعذّر إحضار المكفول مع حياته، أو غاب ومضى زمنٌ يمكن إحضاره فيه؛ فإن الكفيل يضمن ما عليه من الدين؛ لعموم قول النبي : الزعيم غارم [4].

ويُستثنى من ذلك ما إذا شرط الكفيل البراءة من الدين عند تعذُّر إحضار المكفول، فلا يلزمه ضمان الدين حينئذٍ عملًا بشرطه.

ولذلك ينبغي تنبيه من يريد أن يكفل غيره بما يسمى اليوم بالكفالة الحضورية بأنه إن تعذّر عليه إحضار المكفول، فإن كفالته تنقلب إلى ضمان ما عليه من الدين، ولكن يمكن أن يتحاشى ذلك بأن يشترط -أيْ الكفيل- البراءة من الدين عند تعذُّر إحضار المكفول.

أسأل الله تعالى لي ولكم التوفيق إلى سُبُل الخيرات والمسارعة إلى الطاعات.

وإلى لقاءٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2295.
^2 رواه أبو داود: 3565 والترمذي: 1265، وابن ماجه: 2405، وأبو داود: 3565.
^3 رواه أبو داود: 3328، وابن ماجه: 2406.
^4 سبق تخريجه.
مواد ذات صلة
zh