logo
الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(14) بيع الأصول والثمار- مسائل متفرقة في بيع الثمار

(14) بيع الأصول والثمار- مسائل متفرقة في بيع الثمار

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.

أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج.

أيها الإخوة:

كنا قد تكلمنا في الحلقة السابقة عن جُمْلةٍ من المسائل والأحكام المتعلقة ببيع الأصول والثمار، ووعدنا باستكمال الحديث عن بقية المسائل في هذا الباب في هذه الحلقة.

مسائل متفرقة في بيع الثمار

هل يُباح بيع جميع الثمر لصلاح بعضه؟

فنقول وبالله التوفيق: مما ذكره الفقهاء في هذا الباب أن صلاح بعض ثمرة الشجرة صلاحٌ لجميعها، فيباح بيع جميعها بذلك.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “لا نعلم فيه خلافًا”، ولكن هل يكون صلاح بعض ثمرة الشجرة صلاحًا لذلك النوع الذي في البستان؟

اختلف العلماء في ذلك، والأظهر -والله أعلم-: أنه يكون صلاحًا، وإلى هذا ذهب الشافعي ومحمد بن الحسن من الحنفية، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

وذلك لأن اعتبار الصلاح في الجميع يشقّ، ويؤدي إلى الاشتراك واختلاف الأيدي، ووجب أن يتبع ما لم يبدو صلاحه من نوعه لما بدا، وقياسًا على الشجرة الواحدة، فكما أن صلاح بعض ثمرة الشجرة صلاحٌ لها بالاتفاق، فكذلك أيضًا صلاح ثمرة شجرة واحدة يُعتبر صلاحًا لذلك النوع الذي في البستان.

صورتان يجوز فيها بيع الثمر قبل بدو الصلاح

وقد استثنى الفقهاء صورتين يجوز فيها بيع الثمر قبل بدو الصلاح:

  • الصورة الأولى: إذا بيع الثمر قبل بدو صلاحه بأصوله؛ وذلك بأن يبيع الثمر مع الشجر فيصح ذلك، ويدخل الثمر تبعًا، وكذلك لو باع الزرع الأخضر مع أرضه جاز ذلك، ودخل الزرع الأخضر تبعًا.
    وقد نقل الموفق ابن قدامة رحمه الله الإجماع على ذلك، واستدل بقول النبي : من باع نخلًا بعد أن تؤبّر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترطه المبتاع [1]، قال: “ولأنه إذا باعها مع الأصل حصلت تبعًا، فلم يضر احتمال الغرر فيها، كما احتملت الجهالة في بيع اللبن في الضرع، مع بيع الشاة وأساسات الحيطان”. 
  • الصورة الثانية: بيع الثمر قبل بدو الصلاح، وبيع الزرع قبل اشتداد حبِّه بشرط القطع في الحال، فيجوز ذلك إذا كان يمكن الانتفاع بهما إذا قُطع، وقد نقل الموفق ابن قدامة رحمه الله الإجماع على ذلك أيضًا؛ وذلك لأن المنع من بيع الثمر قبل بدو صلاحه إنما هو لخوف التلف وحدوث العاهة، وهذا مأمونٌ فيما يُقطع في الحال، ولكن لا بد من أن ينتفع المشتري بهذا الثمر الذي اشتراه قبل بدو صلاحه بشرط القطع في الحال، كأن يجعله علفًا للدواب مثلًا، أما إذا لم ينتفع به إذا قُطع فإن هذا لا يجوز لكونه إضاعة للمال، وقد «نهى النبي عن إضاعة المال» [2].
  • وأضاف بعض الفقهاء صورة ثالثة: وهي أن يبيع الثمر قبل بدو صلاحه أو الزرع الأخضر لمالك الأصل، أيْ لمالك الشجر ومالك الأرض؛ وذلك كأن يستأجر رجلٌ بستانًا من آخر، ثم يريد المشتري أن يبيع على المؤجِّر -وهو المالك للأصل- الثمر قبل بدو صلاحه، أجاز ذلك بعض الفقهاء، وعلّلوا لذلك بأنه يجتمع الأصل والثمرة للمشتري، أشبه ما لو اشتراهما معًا؛ ولأنه إذا باعهما لمالك الأصل فقد حصل التسليم للمشتري على الكمال؛ لكونه مالكًا لأصولها فصح كبيعها مع أصلها، وذهب بعض الفقهاء إلى عدم جوازه في هذه الصورة، ودخولها في عموم النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه؛ لأن العلة التي لأجلها نهى النبي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه متحققةٌ في هذه الصورة، وأقول: لعل هذا القول الأخير -والله تعالى أعلم- هو الأرجح والأسعد بالدليل.

حكم الثمر إذا تلِف بعد البيع بآفة سماوية

وإذا بيعت الثمرة بعد بدو صلاحها، ثم أُصيبت بآفة سماوية لا صنع لآدمي فيها فأتلفَتها؛ وذلك كأن تصاب بالمطر أو البرد أو الحر الشديد، أو البرَد الشديد، أو الجراد، أو الآفات الوبائية التي تصيب الثمار فتتلفها، فمن الذي يتحمل الخسارة في هذه الحال، هل هو البائع أو المشتري؟

الجواب: قد دلّت السنة على أن البائع هو الذي يتحمل الخسارة في هذه الحال، وحينئذٍ فإن للمشتري أن يرجع على البائع، وأن يسترد منه الثمن الذي دفعه له، وهذا ما يسمى بوضع الجوائح، وقد جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: “أن النبي أمر بوضع الجوائح” [3].

وفي صحيح مسلم أيضًا عن جابر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : لو بعت من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ [4].

وفي صحيح مسلم أيضًا عن أنس بن مالك  أن النبي  قال: إذا منع الله الثمرة فبِم تستحل مال أخيك؟ [5]، وفي رواية: إن لم يثمرها الله فبِم يستحل أحدكم مال أخيه؟ [6].

وفي قوله : لا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، وفي قوله: بِم يستحل أحدكم مال أخيه؟ وما جاء في معنى ذلك من الروايات أقول: في ذلك دليلٌ على وجوب وضع الجوائح، وأنه يجب على البائع أن يعيد الثمن للمشتري فيما لو أصاب ذلك الثمر جائحة.

وقد جعل النبي عدم إعادة البائع للثمن في هذه الحال جعله استحلالًا لمال أخيه المسلم بغير حق.

وإذا كان التلف لبعض الثمرة رجع المشتري على البائع فيما يقابله من الثمن؛ لعموم الحديث، وقد علّل العلماء تضمين البائع جائحة الثمرة بأن قبض الثمرة على رؤوس النخل بالتخلية قبضٌ غير تام، فهو كما لو لم يقبضها، ولكن إذا كان التالف يسيرًا لا ينضبط، فإنه يفوت على المشتري، ولا يكون من مسؤولية البائع؛ وذلك كما لو أكل منه الطير أو تساقط في الأرض، ونحو ذلك؛ لأن هذا مما جرت به العادة، ولا يسمى في عرف الناس جائحة، ولا يمكن التحرُّز منه.

 وقد قدّر بعض الفقهاء ذلك بما دون الثلث، والأقرب -والله أعلم- أنه لا يتحدد بذلك، بل يُرجع فيه إلى العرف؛ لأن التحديد يحتاج إلى دليل، ولا دليل هنا يدل عليه.

هذا أيها الإخوة فيما يتعلق بتلف الثمرة بجائحة سماوية.

حكم الثمر إذا تلف بعد البيع بفعل آدمي

أما إذا تلفت بفعل آدميٍ بنحو حريق، أو برش مبيدات كيماوية مثلًا، ونحو ذلك، فيخيّر المشتري في هذه الحال بين فسخ البيع ومطالبة البائع بما دفع من الثمن، ويرجع البائع على المتلف فيطالبه بضمان ما أتلف، وبين إمضاء البيع ومطالبة المتلف ببدل ما أتلف.

حكم الثمر إذا تلف بعد البيع بتفريط المشتري

وإذا تلفت الثمرة بتفريط من المشتري؛ وذلك بأن تبلغ الثمرة أوان الجذاذ فلم يجذّها المشتري حتى أصابتها جائحة، فلا توضع الجائحة في هذه الحال، وحينئذٍ فالمشتري وهو الذي يتحمّل الخسارة في هذه الحال؛ وذلك لأنه مفرِّطٌ بتأخره عن جذاذ الثمرة في وقت الجذاذ مع قدرته على ذلك، فكان الضمان عليه.

ولو اشترى ثمرة بعد بدو صلاحها بشرط القطع، فأمكنه قطعها فلم يقطعها حتى تلفت فهي من ضمان المشتري كذلك؛ وذلك لتفريطه، أما إن تلفت قبل إمكان قطعها فإن الخسارة يتحملها البائع في هذه الحال على ما تقدم، أما إن استأجر أرضًا فزرعها فتلف الزرع فلا شيء على المؤجِّر.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “لا نعلم فيه خلافًا”؛ لأن المعقود عليه منافع الأرض ولم يتلف، وإنما تلف مال المستأجر فيها.

أيها الإخوة المستمعون: هذا ما تيسر في هذا الباب من الأحكام والمسائل، وإلى لقاء في حلقة قادمة إن شاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2206.
^2 رواه البخاري: 1477.
^3, ^4 رواه مسلم: 1554.
^5 رواه البخاري: 2198، ومسلم: 1555.
^6 رواه مسلم: 1555.
مواد ذات صلة
zh