عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج، والتي سأبتدئ الحديث فيها عن أحكام صلاة الكسوف.
معنى الكسوف والخسوف
صلاة الكسوف من باب إضافة الشيء إلى سببه، أي الصلاة التي سببها الكسوف.
والكسوف والخسوف بمعنى واحد قالوا: كسفت الشمس وخسفت، وكسف القمر وخسف.
وقال بعضهم: الكسوف للشمس، والخسوف للقمر.
أما القمر فإن الله تعالى قال: وَخَسَفَ الْقَمَرُ [القيامة:8]، وأما الشمس فقد جاء في صحيح مسلم عن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: “لا تقولوا كسفت الشمس؛ ولكن قولوا: خسفت”.
ولكن الأحاديث الصحيحة قد جاءت باستعمال لفظ الكسوف للشمس، وهذا هو المشهور في استعمال الفقهاء.. أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر، وقد ذكر الجوهري أن هذا هو الأفصح.
ولأجل هذا الاختلاف قال البخاري رحمه الله في صحيحه: “بابٌ هل يقول: كسفت الشمس أو خسفت؟”.
والحاصل مما سبق: أن الكسوف والخسوف بمعنى واحد، فيقال: كسفت الشمس وخسفت، وكسف القمر وخسف، ولكن الأفصح أن يقال: كسفت الشمس، وخسف القمر.
وقد عرّف بعض الفقهاء الكسوف بأنه: ذهاب ضوء أحد النيّرين أو بعضه، والواقع أنه لا يذهب وإنما ينحجب، ولهذا فإن التعبير الدقيق في الكسوف أن نقول في تعريفه: انحجاب ضوء أحد النيّرين أيْ الشمس أو القمر بسببٍ غير معتاد، فسبب كسوف الشمس أن القمر يحول بينها وبين الأرض فيحجبها عن الأرض إما كلها أو بعضها، ولكن لا يمكن أن يحجب القمر الشمس عن جميع الأرض لأنه أصغر منها بكثير، حتى لو كسفها عن بقعة على قدر مساحة القمر لم يحجبها عن البقعة الأخرى؛ لأنها أرفع منه بكثير، ولذلك لا يمكن أن يكون الكسوف كليًّا في الشمس في جميع أقطار الدنيا أبدًا، إنما يكون في موضعٍ معيّنٍ مساحته بقدر مساحة القمر.
متى يحصل الكسوف أو الخسوف؟
وبهذا يتبين أنه لا يمكن أن يكون الكسوف للشمس إلا في آخر الشهر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “لا يمكن أن تُكسف الشمس إلا في التاسع والعشرين أو الثلاثين أو آخر الثامن والعشرين؛ لأنه هو الذي يمكن أن يكون القمر فيه قريبًا من الشمس فيحول بينها وبين الأرض، وكذلك القمر سبب خسوفه حيلولة الأرض بينه وبين الشمس؛ لأن القمر يستمد نوره من الشمس، ولهذا سمى الله تعالى القمر نورًا، فقال : تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [الفرقان:61]، وقال: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [نوح:16].
وعلى هذا لا يمكن أن يُخسف القمر إلا في ليالي الإبدار، أيْ ليلة الرابعة عشر أو الخامسة عشر؛ لأنها الليالي التي يمكن أن تحول الأرض بينه وبين الشمس.
ما السبب الشرعي للكسوف؟
والسبب الشرعي هو تخويف الله تعالى؛ كما قال النبي : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته؛ وإنما يخوف الله بهما عباده [1].
فهذا السبب الشرعي هو الذي يفيد العباد ليرجعوا إلى الله تعالى، وأما السبب الحسي فليس ذا فائدة كبيرة، ولهذا لما يبيّنه النبي ، ولو كان فيه فائدةٌ كبيرة للناس لبيّنه عن طريق الوحي، ومثل هذه الأمور الحسّية يكل الله تعالى أمر معرفتها إلى الناس وإلى تجاربهم، حتى يدركوا ما أودع الله في هذا الكون من الآيات الباهرة بأنفسهم.
وأما الأسباب الشرعية أو الأمور الشرعية التي لا يمكن أن تدركها العقول ولا الحواس فهي التي يبيّنها الله تعالى للعباد.
كيف يجتمع السبب الحسي والشرعي؟
فإن قال قائل: كيف يجتمع السبب الحسي والشرعي ويكون الحسي معلومًا معروفًا للناس قبل أن يقع، والشرعي معلومٌ بطريق الوحي، فكيف يمكن أن نجمع بينهما؟
فالجواب: أن لا تنافي بينهما؛ لأن الأمور العظيمة كالخسف بالأرض والزلازل والصواعق وشبهها التي يحس الناس بضررها، وأنها عقوبة لها أسبابٌ طبيعية يقدّرها الله تعالى حتى تكون عن مسببات، وتكون الحكمة من ذلك هي تخويف العباد؛ فالزلازل لها أسبابٌ، والصواعق لها أسبابٌ، والبراكين لها أسباب، والعواصف لها أسبابٌ؛ لكن يقدّر الله تعالى هذه الأسباب من أجل استقامة الناس على دين الله تعالى، قال الله : ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
ولكن تضيق قلوب بعض الناس عن الجمع بين السبب الحسي والشرعي، وأكثر الناس أصحاب ظواهر لا يعتبرون إلا بالشيء الظاهر، ولهذا تجد أن الكسوف والخسوف لما علم الناس أسبابهما الحسيّة؛ ضعف أمرهما في قلوب كثيرٍ من الناس حتى أصبح أمرًا عاديًا.
ولما كُسِفت الشمس في عهد النبي وكان ذلك في السنة العاشرة من الهجرة، وكان من قدر الله تعالى أن وقت كسوفها في اليوم الذي مات فيه إبراهيم ابن النبي ، فقال الناس: إنما كُسفت لموت إبراهيم، ففزع النبي لما كُسفت الشمس فأخطأ بدرع بعض أهل البيت فأخذه، حتى أُدرِك بردائه، جاء في حديث أبي موسى رضي الله عنه عند مسلم: “فقام فزعًا يخشى أن تكون الساعة قد قامت”.
ولكن قال كثيرٌ من أهل العلم: إن هذا ظنٌ من الراوي لما رأى فزع النبي واستعجاله، وإلا فالنبي يعلم بأن الساعة لا تقوم حتى تظهر أشراطها الكبرى، من الدجال وطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك.
وقد صلى النبي بالناس صلاةً طويلة، قرأ في الركعة الأولى نحوًا من سورة البقرة؛ كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين، وفي الركعة الثانية نحوًا من سورة آل عمران؛ كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود: “وتقدَّم أثناء صلاة الكسوف فتقدّمت الصفوف، وتأخر فتأخرت الصفوف، ثم خطب الناس فأثنى على الله تعالى بما هو أهله، ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، ولكن الله تعالى يخوّف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة، ثم قال: لقد رأيت في مقامي هذا كل شيءٍ وعِدْتُم، قالوا: رأيناك تناولت شيئًا في مقامك، ثم رأيناك تكعكعت -أيْ تأخرت- فقال: إني رأيت الجنة فتناولت عنقودًا ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، فذلك حين رأيتموني أتقدم، ورأيت جهنم يحطم بعضها بعضًا، فذلك حين رأيتموني تأخرت، وفي رواية البخاري: وأُريت النار فلم أرَ منظرًا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: بِم يا رسول الله؟! قال: بكفرهن، قيل: بكفرهن بالله؟ قال: يكفرن العشير -أيْ الزوج- ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئًا؛ قالت: ما رأيت منك خيرًا قط، قال: ورأيت فيها عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، وهو الذي سيّب السوائب، وكان عمرو بن لحي الخزاعي أول من أتى بالأصنام إلى مكة، وكان الناس قبل ذلك على دين إبراهيم، قال: ورأيت امرأة من بني إسرائيل تُعذَّب في هرّة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، قال: ورأيت صاحب المحجن يجر قصبه -أيْ أمعاءه- في النار، كان يسرق الحاج بمحجنه فإن فُطن له قال: إنما تعلّق بمحجني، وإن غُفِل عنه ذهب به [2].
وهذا أيها الإخوة يدل على أن سرقة الحجاج واقعةٌ في الناس من قديم الزمان.
هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة؛ ونستكمل الحديث عن بقية أحكام صلاة الكسوف في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.