عناصر المادة
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
لا يزال الحديث موصولًا عن صفة الصلاة، وكان آخر ما تكلمنا عنه صفة نهوض المصلي للركعة الثانية.
القراءة في الركعة الثانية
والسنة للمصلي إذا نـهض للركعة الثانية: أن يشرع في قراءة الفاتحة مباشرة.
والسنة له: أن يأتي قبلها بالبسملة، فإن البسملة آيةٌ من القرآن، نزلت للفصل بين السور، تقرأ في بداية كل سورة، ما عدا سورة التوبة.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “ويصنع المصلي في الركعة الثانية كما صنع في الأولى؛ لأن النبي وصف الركعة الأولى للمسيء في صلاته، ثم قال: افعل ذلك في صلاتك كلها [1]؛ وهذا لا نعلم فيه خلافًا إلا أن الثانية تنقص النيَّة، وتكبيرة الإحرام، والاستفتاح؛ لأن ذلك يراد لافتتاح الصلاة، ولا نعلم في ترك هذه الأمور الثلاثة خلافًا، فيما عدا الركعة الأولى”.
حكم الاستعاذة في الركعة الثانية
وهل يُستحب له أن يستعيذ في هذه الحال، أو يترك الاستعاذة اكتفاءً بقراءتـها في الركعة الأولى؟
هذا محل خلافٍ بين أهل العلم، وسبب الخلاف في هذه المسألة: هو الخلاف في القراءة في الصلاة: هل هي قراءةٌ واحدة، أو أنّ كل ركعةٍ لها قراءة مستقلة؟
فمن قال: إن القراءة في الصلاة قراءةٌ واحدة، قال: يكفي فيها استعاذةٌ واحدة.
ومن رأى: أن كل ركعةٍ لها قراءة مستقلة، قال: يستحب التعوُّذ في أول كل ركعة.
قال ابن القيم رحمه الله: “كان النبي إذا نـهض افتتح القراءة ولـم يسكت، كما كان يسكت عند افتتاح الصلاة، فاختلف الفقهاء: هل هذا موضع استعاذةٍ أم لا؟ بعد اتفاقهم على أنه ليس موضع استفتاح، وفي ذلك قولان، هما روايتان عن أحمد، وقد بناهما بعض أصحابه على أن قراءة الصلاة: هل هي قراءةٌ واحدةٌ، فيكفي فيها استعاذةٌ واحدة، أو قراءة كل ركعةٍ مستقلةٌ برأسها؟ ولا نزاع بينهم أن الاستفتاح لمـجموع الصلاة.
قال رحمه الله: والاكتفاء باستعاذةٍ واحدةٍ أظهر؛ للحديث الصحيح عن أبي هريرة : “أن النبي كان إذا نـهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بـ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] ولـم يسكت [2]؛ وإنـما يكفي استعاذةٌ واحدةٌ؛ لأنه لَـم يتخلَّل القراءتين سكوتٌ، بل تخلَّلهما ذكرٌ، فهي كالقراءة الواحدة إذا تخلَّلها حمدٌ لله، أو تسبيحٌ، أو تـهليلٌ، أو صلاة على النبي ، ونحو ذلك”.
وظاهرٌ من كلامه: أنه يختار القول بالاكتفاء باستعاذةٍ واحدةٍ في الركعة الأولى، وهو بـهذا يكون قد خالف شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد نقل عنه صاحب (الإنصاف) أنه اختار القول: بأنه يستحب للمصلي أن يتعوَّذ في ابتداء الركعة الثانية.
وقال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: “عموم قول الله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل:98]، يقتضي الاستعاذة في أول كل ركعةٍ في ابتداء القراءة، وقد استحبَّ التعوُّذ في كل ركعة الحسن وعطاء وإبراهيم النخعي”.
وقال النووي: “الأصح في مذهبنا -يعني: مذهب الشافعية- استحباب التعوُّذ في كل ركعة، وبه قال ابن سيرين، وقال أبو حنيفة: يختص التعوُّذ بالركعة الأولى”.
والقول باختصاصه بالركعة الأولى هو الصحيح من مذهب الحنابلة.
هذه أقوال العلماء في المسألة، والأمر في ذلك واسع، سواءٌ استعاذ في ابتداء كل ركعة، أو اكتفى بالاستعاذة في الركعة الأولى، ولكن الأقرب من حيث الدليل -والله تعالى أعلم- هو ما اختاره الإمام ابن القيم رحمه الله: من أن الأفضل الاكتفاء بالاستعاذة في الركعة الأولى؛ وذلك لقوة ما استدل به، فإنه قد استدل بحديث أبي هريرة : “أن النبي كان إذا نـهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بـ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] ولـم يسكت” وهذا الحديث حديثٌ صحيحٌ، أخرجه الإمام مسلمٌ في صحيحه، ودلالته على الاكتفاء بالتعوُّذ في الركعة الأولى ظاهرة.
ثم إن دعاء الاستفتاح إنـما يكون لمـجموع الصلاة، ولا يُشرع أن يستفتح في ابتداء كل ركعةٍ ما عدا الركعة الأولى في قول عامة أهل العلم، والاستعاذة كالاستفتاح في ذلك.
ثم إن قارئ القرآن خارج الصلاة لو تخلل قراءته تسبيحٌ، أو حمدٌ، أو تكبيرٌ، أو تـهليلٌ، لَـم يُشرع له إعادة الاستعاذة، فكذلك هو في الصلاة قد استعاذ في أول القراءة، ثم تخلَّلها أذكارٌ من تكبيرٍ وتسبيحٍ ودعاء، ثم عاد للقراءة في الركعة الثانية، فيكتفى بالاستعاذة في أول الصلاة، والله تعالى أعلم.
مقدار القراءة في الركعة الثانية
والسنة: أن تكون القراءة في الركعة الثانية دون القراءة في الركعة الأولى؛ كما يدل لذلك حديث أبي قتادة في الصحيحين.
صفة الجلوس للتشهد
ثم بعد أن يصلي الركعة الثانية بقيامها وركوعها وسجودها وقعودها، يجلس للتشهد: إما التشهد الأول إن كانت الصلاة ثلاثية وهي المغرب، أو رباعية وهي الظهر والعصر والعشاء، وإما التشهد الأخير إن كانت سوى ذلك.
والسنة: أن يجلس في هذا التشهُّد مُفتَرشًا؛ وذلك بأن يجعل رجله اليسرى تحت مقعدته، كأنـها فراشٌ له، ويخرج رجله اليمنى من الجانب الأيـمن ناصبًا لها، ويجعل يديه على فخذيه، وأطراف أصابعه عند ركبتيه.
ويدل لذلك: ما جاء في (صحيح مسلمٍ) عن ابن عمر رضي الله عنهما: “أن النبي كان إذا جلس في الصلاة، وضع يديه على ركبتيه، ورفع أصبعه اليمنى التي تلي الإبـهام، فدعا بـها، ويده اليسرى على ركبته اليسرى باسطها عليها” [3].
وهناك صفةٌ أخرى لليدين قد وردت بـها السنة: وهي أن يضع اليد اليمنى على الركبة اليمنى، واليد اليسرى يُلقِمها الركبة اليسرى كأنه قابضٌ لها.
ويدل لذلك: ما جاء في (صحيح مسلم) عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما قال: “كان رسول الله إذا قعد يدعو، وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بأصبعه السبَّابَة، ويُلقِم كفَّه اليسرى ركبته” [4].
صفة وضع اليدين في التشهد
والحاصل: أن لوضع اليدين في التشهد صفتين، قد وردت بـهما السنة:
- إما أن يجعلهما على الفخذين.
- أو على الركبتين؛ فاليمنى على حرف الفخذ، واليسرى يلقمها الركبة.
وأما الأصابع: فأصابع اليد اليسرى تكون مبسوطًة على الفخذ اليسرى، وأما أصابع اليد اليمنى، فقد ورد فيها صفتان:
- الأولى: أن يقبض أصابعه كلها إلا السبَّابة فيشير بـها، ففي (صحيح مسلم) عن ابن عمر رضي الله عنهما: “أن النبي كان إذا جلس في الصلاة وضع كفَّه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، وأشار بأصبعه التي تلي الإبـهام، ووضع كفَّه اليسرى على فخذه اليسرى” [5].
- الثانية: أن يقبض من اليد اليمنى الخنصر -وهو الأصبع الصغير- والبنصر -وهو الأصبع الذي يليه- ويُحلِّق الإبـهام مع الوسطى، والوسطى هي الأصبع الذي يلي البنصر، فيكون الإبـهام مع الوسطى على شكل حلقة، ويشير بالسبَّابة؛ ويدل لذلك حديث وائل بن حجر في صفة صلاة رسول الله ، وجاء فيه: “وجعل حد مرفقه الأيـمن على فخذه اليمنى، ثم قبض ثنتين من أصابعه، وحلَّق حلقةً ثم رفع أصبعه فرأيته يُـحرِّكها، يدعو بـها”. [6].
فهاتان صفتان قد وردت بـهما السنة.
والأفضل أن يفعل هذه تارة، والأخرى تارة؛ ليأتي بالسنة على جميع وجوهها.
والحاصل: أنـهما صفتان:
- إما أن يقبض جميع أصابعه، ويشير بالسبَّابة.
- وإما أن يقبض الخنصر والبنصر، ويُحلِّق بالإبـهام مع الوسطى، ويشير بالسبَّابة.
والسبَّابة التي يشير بـها: هي ما بين الإبـهام والوسطى، وسميت سبابة؛ لأن الإنسان يُشير بـها عند السبِّ، وتسمى: سبَّاحة؛ لأنه يشير بـها عند تسبيح الله .
وقد جاء في (صحيح مسلمٍ) من حديث عبدالله بن الزبير قال: “وأشار بأصبعه السبَّابة” وفي حديث وائل بن حجر: “ورفع أصبعه فرأيته يُـحرِّكها يدعو بـها” [7]، أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد بسندٍ صحيحٍ.
فدلت هذه الروايات على أن السنة: الإشارة بالسبَّابة، وتحريكها عند الدعاء، يشير بـها، ويُحرِّكها عند الدعاء إشارةً إلى علو الله .
أيها الإخوة، هذا ما تيسر عرضه في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.