عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
نتحدث هنا عن ثلاث مسائل في باب الأذان والإقامة:
- الأولى: الأذان للصلاة عن طريق مسجلات الصوت، حكمه، وهل تشرع إجابته؟
- الثانية: الحكم فيما إذا سمع قارئ القرآن، أو المصلي المؤذِّن.
- الثالثة: حكم الخروج من المسجد بعد الأذان.
أولًا: حكم الأذان عن طريق مسجلات الصوت
قد درس هذه المسألة مَجْمَع الفقه الإسلامي لرابطة العالـم الإسلام في دورته التاسعة، وأصدر فيها قرارًا، جاء فيه:
إن مجلس المـجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالـم الإسلامي المنعقد بدورته التاسعة، في مكة المكرمة، وبعد استعراض ما تقدم من بـحوث وفتاوى، والمداولة في ذلك، فإن مجلس المـجمع الفقهي الإسلامي تبين له ما يلي:
- أولًا: أن الأذان من شعائر الإسلام التعبدية الظاهرة المعلومة من الدين بالضرورة، بالنص وإجماع المسلمين؛ ولهذا: فالأذان من العلامات الفارقة بين بلاد الإسلام وبلاد الكفر، وقد حكي الاتفاق على أنه لو اتفق أهل بلدٍ على تركه لقُوتلوا.
- ثانيًا: التوارث بين المسلمين من تاريخ تشريعه في السنة الأولى من الهجرة وإلى الآن، بنقل العمل المستمر بالأذان لكل صلاةٍ من الصلوات الخمس في كل مسجدٍ، وإن تعدَّدت المساجد في البلد الواحد.
- ثالثًا: جاء في حديث مالك بن الحويرث : أن النبي قال: إذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم [1].
- رابعًا: أن النية من شروط الأذان؛ ولهذا لا يصح من المـجنون، ولا من السكران ونحوهما؛ لعدم وجود النية في أدائه، فكذلك في التسجيل المذكور.
- خامسًا: أن الأذان عبادةٌ بدنِيَّة، قال الموفق ابن قدامة رحمه الله في (المغني): “وليس للرجل أن يبني على أذان غيره؛ لأنه عبادةٌ بدنيَّةٌ، فلا يصح من شخصين كالصلاة”.
- سادسًا: أن في توحيد الأذان للمساجد بواسطة مُسجِّل الصوت على الوجه المذكور فيه عدة محاذير ومخاطر منها: أنه يفتح على المسلمين باب التلاعب بالدين، ودخول البدع على المسلمين في عباداتـهم وشعائرهم؛ لِمَا يفضي إليه من ترك الأذان بالكلية، والاكتفاء بالتسجيل.
وبناءً على ما تقدم: فإن مجلس المـجمع الفقهي الإسلامي يقرر ما يلي:
إن الاكتفاء بإذاعة الأذان في المساجد عند دخول وقت الصلاة بواسطة آلة التسجيل ونحوها، لا يجزئ، ولا يجوز في أداء هذه العبادة، ولا يحصل به الأذان المشروع، وأنه يجب على المسلمين مباشرة الأذان لكل وقتٍ من أوقات الصلوات في كل مسجدٍ، على ما توارثه المسلمون من عهد نبينا ورسولنا ، إلى الآن.
انتهى قرار المـجمع.
وأقول: أيها الإخوة، ينبغي التنبُّه في هذه المسألة، خاصةً في المطارات والمستشفيات والمـجمَّعات العامة، فلا يكتفى الأذان عن طريق المسجِّل، بل ينبغي أن يؤذن أحد المسلمين الموجودين في تلك المـجمعات.
حكم إجابة المؤذن عن طريق المسجل أو الإذاعة أو التلفاز
ولا تُشرَع إجابة المؤذن عن طريق المسجِّل.
وأما الأذان عن طريق الإذاعة أو التلفاز ونحوهما، فهل يشرع إجابة المؤذن؟
نقول: هذا فيه تفصيل:
فإن كان الأذان ينقل على الهواء مباشرة عبر الإذاعة أو التلفاز، ولـم يكن السامع قد أدى الصلاة التي يؤذن لها، فتشرع إجابة المؤذن في هذه الحال؛ لعموم قول النبي : إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول [2].
أما إذا كان الأذان لَـم ينقل على الهواء مباشرةً، وإنـما هو مُسجَّلٌ بصوت أحد الناس؛ فإنه لا تشرع إجابة المؤذن في هذه الحال؛ لأن هذا ليس أذانًا حقيقيًّا، وإنـما هو صوتٌ مسجلٌ ومحفوظٌ لأحد الناس، اشتمل على كلمات الأذان، وربَّـما يكون صاحب الصوت المسجل أذانه ميتًا، فهو شيءٌ مسموعٌ لأذانٍ سابقٍ.
ولكن إذا كان الأذان منقولًا على الهواء مباشرة، ولكن السامع له قد أدى الصلاة، كما لو كان الأذان منقولًا على الهواء مباشرةً عبر الإذاعة من مكة المكرمة، والسامع له في مدينة الرياض مثلًا، وقد أدى الصلاة، فهل تُشرع إجابة المؤذن في هذه الحال؟
ظاهر كلام كثيرٍ من الفقهاء أنه لا تشرع إجابته في هذه الحال؛ لأنه غير مدعوٍ بـهذا الأذان، وقد نقل ابن الملقِّن عن الرافعي أنه قال: “إذا سمع المؤذِّن وأجابه وصلى في جماعةٍ، فلا يُجيب الثاني؛ لأنه غير مدعوٍ به” وقال برهان الدين ابن مفلح الحنبلي في كتابه (المبدع في شرح المقنع): “لو سمع المؤذن وأجابه، وصلى في جماعةٍ، لا يجيب الثاني؛ لأنه غير مدعوٍ بـهذا الأذان”.
ثانيًا: حكم قارئ القرآن أو المصلي إذا سمع الأذان
فنقول: أما قارئ القرآن فإن المشروع له أن يقطع القراءة، وأن يجيب المؤذن؛ لأن الأذان يفوت، وقراءة القرآن لا تفوت.
وأما المصلي إذا سمع المؤذن فقد اختلف العلماء: هل يشرع في حقه إجابة المؤذن وهو يصلي أم لا؟ على ثلاثة أقوال:
- القول الأول: وهو قول جمهور الفقهاء: أنه لا يُشرع إجابة المؤذن في هذه الحال، بل قالوا: إن أجاب الأذان وهو يصلي بطلت صلاته، ويقابل هذا القول:
- القول الثاني: وهو أنه تشرع إجابة المؤذن في أثناء الصلاة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كما جاء ذلك في (الاختيارات) فقد نسب هذا القول إليه كذلك ابن مفلح في (الفروع) والمرداوي في (الإنصاف).
- القول الثالث: أنه يجيب المؤذن عدا الحيْعَلَة، أي في قوله: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح.
والأحوط في هذه المسألة هو قول الجمهور، وهو أنه إذا كان يصلي فلا يجيب المؤذن، خاصةً وأن الجمهور قد رتبوا على إجابة المؤذن في هذه الحال بطلان الصلاة.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “فصلٌ: إن سمع الأذان وهو يقرأ، قطع القراءة ليقول مثله؛ لأنه يفوت، والقراءة لا تفوت، فإن سمعه وهو يصلي لَـم يقل كقوله؛ لئلا يشتغل عن الصلاة بـما ليس منها، قال: وإن قالها ما عدا الحيعلة لَـم تبطل الصلاة لأنه ذكرٌ، وإن قال الدعاء فيها بطلت؛ لأنه خطابٌ لآدمي”.
ولكن مع قولنا: إن الأحوط في هذه المسألة: ألا يجيب المؤذن وهو يصلي: هل يشرع لهذا المصلي تدارك الأذان بعد انقضاء صلاته؟
نص بعض الفقهاء على أنه يشرع له ذلك، وقد نقل النووي رحمه الله في كتابه (المـجموع) عن إمام الحرمين أنه قال: “لو سمعه وهو في الصلاة فلم يتابعه ينبغي له أن يأتي به بعد السلام”.
وهكذا لو شُغِل عن متابعة المؤذن حتى فرغ من الأذان، فيُشرع له تدارك متابعة الأذان، ما لَـم يطل الفصل عرفًا.
قال النووي رحمه الله: “من سمع المؤذن ولـم يتابعه حتى فرغ، الظاهر أنه يتدارك على القرب، ولا يتدارك بعد طول الفصل”.
ثالثًا: حكم الخروج من المسجد بعد الأذان
وقد ورد النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان، فعن عثمان بن عفان ، قال: قال رسول الله : من أدركه الأذان في المسجد ثم خرج لَـم يخرج لحاجةٍ، وهو لا يريد الرجعة، فهو منافق [3]، أخرجه ابن ماجه، وله شواهد متعددة، يرتقي بـمجموعها إلى درجة الحسن أو الصحيح.
وفي (صحيح مسلمٍ) عن أبي هريرة أنه رأى رجلًا خرج من المسجد بعد الأذان، فأتبعه بصره، وقال: إن هذا قد عصى أبا القاسم [4].
قال الحافظ ابن عبد البر: “أجمعوا على القول بـهذا الحديث لمن لَـم يصلِّ، وكان على طهارة”.
ولكن إذا كان خروجه لحاجةٍ ثم يعود، أو يخرج ليصلي في مسجدٍ آخر، كأن يكون إمامًا لذلك المسجد مثلًا، فلا بأس بذلك.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “إذا أُذِّن في الوقت؛ كره له أن يخرج من المسجد إلا لحاجةٍ، ثم يعود”.
قال الإمام أحمد: “إذا أُذِّن وهو متوضئ فلا أرى أن يخرج من المسجد حتى يصلي، إلا أن يكون لحاجة”.
أسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم لِمَا يحب ويرضى، وأن يرزقنا الفقه في الدين، والعلم النافع، والعمل الصالح.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.