الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(44) الوكالة- التوكيل في الطلاق والرجعة والخلع
|categories

(44) الوكالة- التوكيل في الطلاق والرجعة والخلع

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كنا قد تكلمنا في الحلقة السابقة عن جُملة من مسائل وأحكام الوكالة، وكانت آخر مسألة تكلمنا عنها هي مسألة التوكيل في النكاح، وأشرنا في آخر الحلقة إلى التوكيل في الطلاق، ووعدنا باستكمال الكلام عن هذه المسألة في هذه الحلقة؛ فنقول وبالله التوفيق:

التوكيل في الطلاق والرجعة والخلع

كما أنه يصح التوكيل في النكاح، فيصح التوكيل كذلك في الطلاق، فيجوز للزوج أن يوكِّل من يطلِّق عنه، ولكن ليس للوكيل أن يطلق أكثر من واحدة؛ لأن الأمر المطلق يتناول أقل ما يقع عليه الاسم، وهو هنا طلقة واحدة، إلا أن يجعل الزوج للوكيل أن يطلِّق أكثر من واحدة فيصح حينئذٍ.

قال الفقهاء: ويجوز أن يكون الوكيل في الطلاق امرأة، فيجوز أن يوكِّل الزوج أمه أو أخته مثلًا في تطليق زوجته، وقد ذكر الفقهاء أنه يجوز للزوج أن يوكِّل الزوجة في تطليق نفسها، واستدلوا لذلك بأن النبي خيّر نساءه بين أن يردن الله ورسوله والدار الآخرة، أو يردن الحياة الدنيا، وهذا مثل الطلاق.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “إن قال لامرأته طلّقي نفسكِ فلها ذلك كالوكيل، فإن نوى عددًا فهو على ما نوى، وإن أطلق من غير نيّةٍ لم تملك إلا واحدة”.

وكما أنه يجوز التوكيل في الطلاق، فيجوز التوكيل كذلك في الرجعة، كأن يطلق رجلٍ زوجته، وهو يريد أن يسافر مثلًا، ويخشى ألا يضبط العدة، فيوكِّل من يراجعها عنه، فلا بأس بذلك كما قرره أهل العلم.

ويجوز التوكيل كذلك في الخُلْع، لكن لا بد أن يذكر الموكِّلُ للوكيل العوض الذي تقع عليه المخالعة.

التوكيل في المطالبة بالحقوق وإثباتها

ومن أحكام الوكالة كذلك: أنه يجوز التوكيل في المطالبة بالحقوق وإثباتها، والمحاكمة فيها، سواء كان الموكِّل حاضرًا أو غائبًا، ولو بغير رضا خصمه؛ لأنه حقٌ تجوز النيابة فيه، فكان لصاحبه الاستنابة بغير رضا خصمه؛ ولأن هذا هو المأثور عن الصحابة .

فقد روي أن علي بن أبي طالب وكّل أخاه عقيلًا عند أبي بكر ، وقال: “ما قُضي له فلي، وما قُضي عليه فعليَّ”.

وفي سنن البيهقي عن عبدالله بن جعفر، قال: “كان علي بن أبي طالب يكره الخصومة، فكان إذا كانت له خصومة وكّل فيها عقيل بن أبي طالب، فلما كبُر عقيل وكّلني”، وفي رواية: أن عليًا، قال: “إنَّ للخصومة قُحَمًا -أيْ مهالك- وإن الشيطان يحضرها، وإني لأكره أن أحضرها”.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “وهذه قصصٍ اشتهرت؛ لأنها في مظنّة الشهرة، فلم ينقل إنكارها؛ ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك؛ فإنه قد يكون له حقٌ، أو يُدّعى عليه، ولا يُحسن الخصومة، أو لا يحب أن يتولاها بنفسه”.

حكم توكيل الوكيل غيره فيما وكِّل فيه

هل يجوز للوكيل أن يوكِّل غيره فيما وكِّل فيه؟ كأن يوكّل رجلٌ آخر في بيع سيارته، فهل للوكيل أن يوكِّل غيره في بيع هذه السيارة؟

نقول: لا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال:

  • الحالة الأولى: أن ينهى الموكِّل وكيله عن التوكيل، فلا يجوز له أن يوكِّل حينئذٍ باتفاق العلماء.
  • الحالة الثانية: أن يأذن الموكِّل للوكيل في التوكيل، فيجوز له أن يوكِّل بالاتفاق كذلك.
  • الحالة الثالثة: أن يُطلق الموكِّل الوكالة فلا يأذن له بالتوكيل، ولم يصدر منه نهيٌ عن التوكيل، فنقول: ليس للوكيل أن يوكِّل فيما وكِّل فيه، إلا في مسائل معدودة نصّ عليها الفقهاء وهي:
    • المسألة الأولى: أن يكون العمل الموكَّل فيه لا يتولاه مثله، كالأعمال الدنيئة في حق أشراف الناس المرتفعين عن فعلها في العادة.
    • المسألة الثانية: أن يعجز عن العمل الذي وكِّل فيه.
    • المسألة الثالثة: إذا كان لا يُحسن العمل الذي وكِّل فيه.

ففي هذه الأحوال له أن يوكِّل، ولكنه إذا وكَّل فلا يوكِّل إلا أمينًا؛ لأنه لم يؤذن له في توكيل من ليس بأمين.

حكم شراء الوكيل ما وكِّل ببيعه

ومن أحكام الوكالة: أن من وكِّل في بيعٍ أو شراء، فليس له أن يبيع أو يشتري من نفسه؛ لأن العُرْف في التوكيل في البيع والشراء بيع الإنسان من غيره وشراؤه من غيره، وكذلك لا يصح بيعه وشراؤه من والده وولده وزوجته وسائر من لا تُقبل شهادته له؛ لأنه متّهمٌ في حقهم كتُهْمَته في حق نفسه.

واستثنى بعض الفقهاء من هذا: ما إذا كان البيع في المزايدة، قالوا: فللوكيل أو لولده أو لسائر من لا تُقبل شهادته له -أيْ للوكيل- لهم أن يزيدوا على مبلغ ثمنه فيما انتهى إليه السعر؛ لأنه تنتفي التهمة حينئذٍ.

وأقول في وقتنا الحاضر ومع تيسُّر وسائل الاتصالات والمواصلات: بإمكان هذا الوكيل أن يتّصل بالموكِّل ويستأذنه في البيع والشراء لنفسه أو لولده، ونحو ذلك، فإن أذن الموكِّل للوكيل بذلك صحّ هذا بالاتفاق، وكان أبعد عن التهمة، وأطيب لقلب الموكِّل.

حكم ضمان الوكيل ما تلِف بيده

ومن أحكام الوكالة: أن الوكيل أمينٌ، ومعنى قولنا: إنه أمين: أنه لا يضمن ما تلِف بيده إذا لم يتعد ولم يفرِّط.

مثال ذلك: وكَّل رجلٌ آخر في بيع سلعة من السِلَع، ثم إن هذه السلعة تلفت بيد الوكيل من غير تعدٍ منه ولا تفريط؛ فإن هذ الوكيل لا يضمن قيمة هذه السلعة.

أما إذا كان التلف بتعدٍ منه أو تفريط فإنه يضمن، مثال ذلك: وكَّل رجلٌ آخر في بيع سيارته، ثم إن هذا الوكيل أوقف هذه السيارة في الطريق لشراء حاجة له، أو لغير ذلك، وترك السيارة مفتوحة وبداخلها المفاتيح، فسُرِقت هذه السيارة، فنقول: إن هذا الوكيل يضمن لكونه قد فرّط في حفظ هذه السيارة.

ومثال التعدي: ما لو أسرع هذا الوكيل بهذه السيارة سرعة كبيرة، فوقع لها بسب هذه السرعة حادث اصطدام، فإن الوكيل يضمن التلف الحاصل بهذه السيارة بسبب تعديه.

وإذا قلنا: إن الوكيل لا يضمن إلا بتعديه أو تفريطه، فإنه يُقبل قوله كذلك فيما وكِّل فيه من قدْر الثمن، ونحو ذلك، فلو اختلف الموكِّل والوكيل في قدر الثمن الذي بيعت به السيارة -الموكَّل في بيعها-، فإن كان هناك بيّنة، فالقول قول صاحب البيّنة، سواء كان الموكِّل أو الوكيل، أما إن لم يكن هناك بيّنة فالقول قول الوكيل.

حكم أخذ الأجرة على الوكالة

ومن أحكام الوكالة: أنه يجوز أخذ الأجرة عليها، فلو قال: وكّلتك في بيع هذه السيارة ولك كذا من المال صح ذلك، ولو قال: بع هذه السيارة بكذا فما زاد فهو لك صحّ أيضًا، وقد روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “لا بأس أن يقول: بع ثوبي بعشرة، فما زاد فهو لك”.

متى تبطل الوكالة؟

ومن أحكام الوكالة: أنها تبطل بفسخ أحدهما -أي الوكيل أو الموكِّل-؛ لأن الوكالة عقدٌ جائزٌ كما سبق بيان ذلك في الحلقة السابقة.

فلكلٍ من الوكيل والموكِّل له أن يفسخها متى ما شاء، ولكن ينبغي عند فسخ الوكالة عدم التشهير والإساءة للطرف الآخر، ويلاحظ أن بعض الموكِّلين عندما يعلنون في الصحف عن فسخ وكالاتهم لبعض موكّليهم يكون هذا على وجهٍ يسيء للوكيل، وربما لُمِز الوكيل عند إعلان فسخ الوكالة ببعض العبارات التي يُفهم منها تخوينه، ونحو ذلك، وهذا في الحقيقة تعدٍ على حق أخيه المسلم، والله ​​​​​​​ يقول: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].

وتبطل الوكالة كذلك بموت أحدهما -أيْ الموكِّل أو الوكيل-، وبجنونه المطبق؛ لأن الوكالة تعتمد الحياة والعقل، فإذا انتفيا انتفت صحتها.

وتبطل كذلك بالحجر على السفيه وكيلًا كان أو موكِّلًا لزوال أهليّة التصرُّف.

هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مواد ذات صلة