الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(46) أحكام الشركة- الأصل الذي بنيت عليه الشراكة في الإسلام
|categories

(46) أحكام الشركة- الأصل الذي بنيت عليه الشراكة في الإسلام

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كنا قد تكلمنا في الحلقة السابقة عن جُملة من أحكام ومسائل الشركة، ووعدنا باستكمال الحديث عنها في هذه الحلقة.

الأصل الذي بُنيت عليه الشراكة في الإسلام

فنقول: إنَّ الشركة في الإسلام مبنية على أصلٍ وهو اشتراك الشريكين في المغنم والمغرم، أيْ في الربح والخسارة؛ ولذلك يشترط الفقهاء أن يكون الربح فيها مشاعًا معلومًا، كالثلث والربع والنصف، ونحو ذلك، ويمنع الفقهاء من أن يكون الربح دراهم معلومة؛ لأن اشتراط ربحٍ مضمون في الشركة يقلبها من كونها شركة إلى قرضٍ بفائدة، وبهذا يتبيَّن أن ما تفعله بعض الشركات والبنوك من دعوتها للناس للمساهمة في مشاريعها والأعمال التي تقوم بها مع ضمان ربح تلك المساهمات أن هذا أمرٌ محرّم شرعًا؛ لأنه يمثّل في حقيقة الأمر قرضًا بفائدة.

ولكن يمكن تصحيح هذه المعاملة بعدم ضمان الربح، بل جعل الأمر قابلًا للربح والخسارة، مع تحديد الربح في حالة تحققه بنسبة مشاعة كالثلث أو الربع، ونحو ذلك.

وهذا التأصيل الذي أشرت إليه قد قرره مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من رابطة العالم الإسلامي، وفيما يلي أنقل نص قرار المجمع:

“إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورتها الرابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة قد نظر في هذا الموضوع، وقرَّر:

أنه لا يجوز في المضاربة أن يحدد المضارب لرب المال مقدارًا معينًا من المال؛ لأن هذا يتنافى مع حقيقة المضاربة؛ ولأنه يجعلها قرضًا بفائدة؛ ولأن الربح قد لا يزيد على ما جُعِل لربِّ المال فيستأثر به كله، وقد تخسر المضاربة أو يكون الربح أقل مما جُعِل لربِّ المال، فيغرم المضارِب.

والفرق الجوهري الذي يصل بين المضاربة والقرض بفائدة -الذي تمارسه البنوك الربوية- هو: أنَّ المال في يد المضارِب أمانة لا يضمنه إلا إذا تعدى أو قصَّر، والربح يُقسم بنسبة شائعة متفقٍ عليها بين المضارب ورب المال، وقد أجمع الأئمة الأعلام على أن من شروط صحة المضاربة أن يكون الربح مشاعًا بين رب المال والمضارب، دون تحديد قدرٍ معينٍ لأحدهما”.

حكم التساوي في الربح والخسارة بين الشريكين

الربح يكون بين الشريكين على حسب ما شرطاه، ولا يلزم التساوي بينهما في الربح، بل يصح التفاوت في الربح، فيصح أن يشترط أحد الشريكين ثلاثة أرباع الربح، وللآخر الربع، أو لأحدهما الثلثان، وللآخر الثلث؛ لأنه ربما يكون أحد الشريكين أكثر حذقًا، أو مهارة من الآخر، هذا بالنسبة للربح، وأما الخسارة في الشركة -ويسميها بعض الفقهاء بالوضيعة- فإنها تكون على قدر رأس المال، فإن كان مال الشريكين متساويًا فالخسارة بينهما نصفان، وإن كان أثلاثًا، فالخسارة تكون أثلاثًا، وهكذا.

حكم اشتراط أحد الشريكين التفاوت في الخسارة

ولكن ماذا لو اشترط أحد الشريكين التفاوت في الخسارة من غير اعتبارٍ لرأس المال، كأن يشترط أحد الشريكين أنه لا يتحمّل سوى ربع خسارة الشركة، ويتحمل شريكه ثلاثة أرباع الخسارة، والمال بينهما نصفان مثلًا، أو يشترط أحد الشريكين أنه لا يتحمّل شيئًا من الخسارة فيما لو خسرت الشركة، ونحو ذلك؟

نقول: هذا الشرط لا يصح، ولكن هل يفسد عقد الشركة، أو أن العقد يبقى صحيحًا، وإنما يفسد الشرط فقط؟ اختلف العلماء في هذه المسألة: فالمشهور من مذهب الشافعية أن هذا الشرط يُفسد العقد.

وذهب الحنفية والحنابلة إلى أن الشرط يفسد فقط دون العقد، فيفسد الشرط عندهم دون عقد الشركة.

ولعل هذا القول الأخير هو الأظهر والله تعالى أعلم؛ لأن الأصل في العقود الصحة؛ ولأن تصحيح العقد ما أمكن أولى من بطلانه.

أنواع شركة العقود

وبعد هذا التقعيد للربح والخسارة في الشركة، نعود للكلام عن أنواع شركة العقود على وجه التفصيل، وكنا قد أشرنا إليها إجمالًا في الحلقة السابقة.

فنبتدئ في النوع الأول من أنواع شركة العقود وهو:

شركة العِنان

والعِنان بكسر العين، سُمّيت بذلك لتساوي الشريكين في المال والتصرُّف، كالفارسين إذا سوّيا بين فرسيهما وتساويا في السير، فكان عِنان فرسيهما سواء.

ومعناها في اصطلاح الفقهاء: أن يشترط شخصان فأكثر بماليهما ليعملا فيه ببدنيهما وربحه لهما، فتبيَّن بذلك أن شركة العنان تجمع بين المال والبدن.

ونوضح -أيها الإخوة- هذا النوع من الشركة بالمثال:

رجلان أرادا أن يشتركا في فتح محلٍ لبيع الأجهزة أو الأثاث أو الفواكه والخضار، ونحو ذلك، فدفع كلٍ منهما مبلغًا من المال، وعملا في هذا المحل سويًا، فهما قد اشتركا في المال، فكلٌ منهما دفع مالًا، وقد اشتركا كذلك في العمل، فكلٌ منهما يعمل في هذا المحل، هذا النوع من الشركة يسمى شركة العنان، وهي جائزة بالإجماع كما قال ابن المنذر رحمه الله تعالى.

ومن أحكام هذه الشركة: أنه ينفذ تصرُّف كلِّ من الشريكين في مال الشركة بحكم الملك في نصيبه، وبحكم الوكالة في نصيب شريكه؛ لأن لفظ الشركة يُغني عن الإذن من كلٍّ منهما للآخر.

حكم كون رأس مال الشركة من غير النقدين

واتفق العلماء على أنه يجوز أن يكون رأس مال الشركة من النقدين المضروبين، واختلفوا في كون رأس المال من غير النقدين، كأن يكون من العروض، والقول الصحيح هو جواز ذلك؛ لأن مقصود الشركة تصرّفهما في المالين جميعًا، وكون ربح المالين بينهما وهو حاصلٌ في العروض كحصوله في النقود، وهذا القول هو الذي عليه عمل المسلمين من قديم الزمان.

شرط صحة شركة العِنان

ويُشترط لصحة شركة العِنان أن يشترطا -أيْ الشريكان- لكلٍّ منهما جزءًا من الربح مشاعًا معلومًا، كالنصف أو الربع أو الثلث، ونحو ذلك؛ لأن الربح مشتركٌ بينهما، فلا يتميز نصيب كلٍ منهما إلا بالاشتراط والتحديد.

وقد سبق القول: بأنه لا بد أن يكون الربح مشاعًا -أيْ محددًا بالنسبة كالنصف أو الربع مثلًا-، وأنه لا يصح أن يكون الربح محددًا بقدرٍ معيّنٍ من المال؛ لأنه قد يتحقق ربح ذلك المعيَّن، وقد لا يتحقق، ولكن إن اشتركا من غير ذكرٍ للربح لم يصح ذلك في قول بعض الفقهاء.

وقال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “إذا لم يذكرا الربح، فإن الربح يكون بينهما على قدر المالين”.

هل شركة المساهمة تُعتبر شركة عِنان؟

وشركة المساهمة في الوقت الحاضر تُعتبر شركة عِنان؛ لأن المساهمين قد اشتركوا في المال وفي العمل، حتى وإن لم يباشروا أعمال الشركة بأنفسهم؛ فإنهم قد وكّلوا مجلس الإدارة في القيام عنهم بأعمال الشركة.

ولكن إذا كان مجلس الإدارة مساهمًا ويأخذ مكافأته -نسبة من الربح-، فإن الشركة تكون حينئذٍ شركة عِنان ومضاربة؛ لأن مجلس الإدارة سيتكفّل بالعمل في مقابل نصيبٍ من الربح.

نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن بقية أنواع شركة العقود في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

نلتقي بكم بخير في الحلقة القادمة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مواد ذات صلة