الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(82) صفة الصلاة- صفة السجود والحكمة منه
|categories

(82) صفة الصلاة- صفة السجود والحكمة منه

مشاهدة من الموقع

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

لا زلنا في الحديث عن صفة الصلاة، وحديثنا في هذه الحلقة عن: صفة السجود؛ فنقول:

صفة السجود:

بعد الرفع من الركوع يَـخِرُّ المصلي مكبِّـرًا ساجدًا، من غير رفع اليدين.

ويدل لذلك: ما جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: “أن النبي كان لا يرفع يديه حين يسجد، ولا حين يرفع رأسه من السجود” [1].

ما الذي يقدم عند السجود الركبتين أم اليدين؟

هل يُقدِّم الركبتين على اليدين عند السجود، أو يقدم اليدين على الركبتين؟

اختلف العلماء في ذلك:

  • فذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة، إلى أن المشروع تقديم الركبتين على اليدين.
  • وذهب المالكية إلى أن المشروع تقديم اليدين على الركبتين، وهو روايةٌ عن أحمد.

قال ابن القيم رحمه الله: “كان النبي يضع ركبتيه قبل يديه، ثم يديه بعدهما، هذا هو الصحيح الذي رواه شريكٌ عن عاصم بن كُلَيب، عن أبيه، عن وائل ابن حُجْر ، قال: “رأيتُ رسول الله إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نـهض رفع يديه قبل ركبتيه” [2]، ولـم يرو في فعله ما يخالف ذلك.

وأما حديث أبي هريرة يرفعه: “إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه” [3]، فالحديث -والله أعلم- قد وقع فيه وهمٌ من بعض الرواة، فإن أوله يخالف آخره، فإنه إذا وضع ركبتيه قبل يديه، فقد برك كما يبرك البعير، فإن البعير إنـما يضع يديه أولًا.

ولـمَّا علم أصحاب هذا القول ذلك، قالوا: ركبة البعير في يديه لا في رجليه، فهو إذا برك وضع ركبتيه أولًا، فهذا هو المنهي عنه -قال ابن القيم-: وهو فاسدٌ لوجوه:

أحدها: أن البعير إذا برك فإنه يضع يديه أولًا، وتبقى رجلاه قائمتين، فإذا نـهض فإنه ينهض برجليه أولًا، وتبقى يداه على الأرض، وهذا هو الذي نـهى عنه النبي ، وفعل خلافه، وكان أول ما يقع منه على الأرض الأقرب منها فالأقرب، وأول ما يرتفع عن الأرض منها الأعلى فالأعلى، وكان يضع ركبتيه أولًا، ثم يديه، ثم جبهته، وإذا رفع رأسه أولًا، ثم يديه ثم ركبتيه، وهكذا.. عكس فعل البعير.

وهو  قد نـهى في الصلاة عن التشبُّه بالحيوانات، فنهى عن بروكٍ كبروك البعير، والتفاتٍ كالتفات الثعلب، وافتراشٍ كافتراش السبع، وإقعاءٍ كإقعاء الكلب، ونقرٍ كنقر الغراب، فهدي المصلي مخالفٌ لهدي الحيوانات.

الثاني: أن قولهم: ركبتا البعير في يديه، كلامٌ لا يُعقَل، ولا يعرفه أهل اللغة، وإنـما الركبة في الرجلين، وإن أطلق على اللتين في يديه اسم الركبة، فعلى سبيل التغليب.

الثالث: أنه لو كان كما قالوه، لقال: “فليبرك كما يبرك البعير” وإن أول ما يـمسُّ الأرض من البعير يده، وسر المسألة: أن من تأمَّل بروك البعير، وعلم أن النبي نـهى عن بروكٍ كبروك البعير؛ علم أن حديث وائل بن حجر هو الصواب..

قال رحمه الله: وكان يقع لي أن حديث أبي هريرة مـما انقلب على بعض الرواة متنه وأصله، حتى رأيت أبا بكر بن أبي شيبة قد رواه كذلك عن أبي هريرة ، عن النبي قال: إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرك كبروك الفحل [4] ورواه الأثرم كذلك..

قال رحمه الله: وأما الآثار المـحفوظة عن الصحابة، فالمـحفوظ عن عمر بن الخطاب : أنه كان يضع ركبتيه قبل يديه، ذكره عبدالرزاق، وابن المنذر، وغيرهما، وهو المروي عن ابن مسعودٍ، ذكره الطحاوي.

وسئل إبراهيم النخعي عن الرجل يبدأ بيديه قبل ركبتيه إذا سجد، فقال: أو يصنع ذلك إلا أحمق أو مجنون؟!

وأكثر الناس على هذا القول، أي: تقديم الركبتين على اليدين.

وأما القول الآخر، وهو: تقديم اليدين على الركبتين، فإنـما يُحفظ عن الأوزاعي ومالك” انتهى كلام ابن القيم رحمه الله مختصرًا من تحقيقٍ مطوَّلٍ حول هذه المسألة.

والحاصل: أن القول الصحيح الذي عليه كثيرٌ من المـحققين من أهل العلم: أن المشروع هو تقديم الركبتين على اليدين عند السجود، ولكن لو كان الإنسان يشق عليه تقديم ركبتيه قبل يديه، بأن كان مريضًا أو كبيرًا في السن ونحو ذلك فلا بأس أن يقدم يديه على ركبتيه.

وحينئذٍ يُحمل النهي على ما إذا لَـم يوجد سببٌ يقتضيه، أما إذا وجد سببٌ يقتضيه فلا بأس به.

والمشروع للمصلي أن يُـمكِّن جبهته وأنفه من الأرض.

حكم السجود على حائل:

وأما سجوده على حائلٍ:

  • فإن كان متصلًا بالمصلي، فيكره أن يسجد عليه إلا لحاجة، كأن يسجد على جزءٍ من عِمَامتِه، أو غُتْـرَتِه، أو مِشْلحِه، ونحو ذلك.

ويدل لذلك: ما جاء في الصحيحين عن أنسٍ  قال: “كنا نصلي مع النبي في شدة الحر، فإذا لَـم يستطع أحدنا أن يُـمكِّن جبهتَه من الأرض؛ بسط ثوبه فسجد عليه” [5] فقوله: “إذا لَـم يستطع أحدنا أن يـمكن جبهته من الأرض؛ بسط ثوبه” يدل على أنَّـهم لا يفعلون ذلك مع الاستطاعة، وإنـما يفعلونه عند عدم الاستطاعة.

وبناءً على ذلك نقول: إن السجود على الثوب والغترة ونحوهما مـمَّا يتصل بالمصلي، إن كان لغير حاجةٍ؛ كان مكروهًا، وإن كان لحاجةٍ كشدة حرٍّ أو بردٍ ونحو ذلك، فيجوز من غير كراهة.

  • وأما إذا كان الحائل منفصلًا عن المصلي: كسجادةٍ ونحوها، ومثل ذلك فُرُش المساجد في الوقت الحاضر، فلا بأس بالسجود عليه من غير كراهة، ومن غير تقييد ذلك بالحاجة.

ويدل لذلك: ما ورد عن النبي : “أنه كان يصلي على الخُمْرَة المتخذة من خوص النخل، وعلى الحصير المتخذ منه”.

وليس للمصلي أن يسجد على عضوٍ من أعضاء السجود، كأن يضع جبهته على كفَّيه مثلًا، أو يضع يديه بعضهما على بعض، أو رجليه بعضهما على بعض، ولا تصح صلاته إذا فعل ذلك.

الحكمة من السجود:

والحكمة من مشروعية السجود: أنه من كمال التعبُّد لله تعالى، والذُّل له، فإن الإنسان يضع أشرف ما فيه وهو وجهه، بحذاء أسفل ما فيه وهو قدمه، ويضعه على موطئ الأقدام، يفعل كل هذا تعبُّدًا لله تعالى، وتقرُّبًا إليه.

ومن أجل هذا التَطَامُن والنزول الذي فعله لله تعالى؛ صار أقرب ما يكون الإنسان من ربِّه وهو ساجد، مع أنه لو قام لكان أعلى وأقرب، لكن لنزوله لله ​​​​​​​، صار أقرب إلى الله تعالى.

هذه هي الحكمة والسر في هذا السجود العظيم؛ ولهذا: فينبغي أن يستشعر المسلم في صلاته هذا الذل والتطامن والتواضع لله ​​​​​​​، حتى يدرك لذَّة السجود وحلاوته، ويعرف أنه أقرب ما يكون إلى الله تعالى في هذه الحال.

قال ابن القيم رحمه الله: “ثم يَـخرُّ المصلي ساجدًا لله تعالى على أشرف ما فيه وهو الوجه، فيُعفِّره في التراب ذلًا بين يديه، ومسكنةً وانكسارًا، وقد أخذ كل عضوٍ من البدن حظَّه من هذا الخضوع، حتى أطراف الأنامل، ورؤوس الأصابع، ونُدِب له أن يسجد معه ثيابه وشعره فلا يَكفَّه، ثم أُمر أن يُسبِّح باسم ربه الأعلى، فيذكر علوه سبحانه في حال سفوله هو، ويُنزِّهه عن مثل هذه الحال، وأن من هو فوق كل شيءٍ، وعالٍ على كل شيءٍ، يُنزَّه عن السفول بكل معنى، بل هو الأعلى بكل معنًى من معاني العلو.

ولـمَّا كان هذا غاية ذل العبد وخضوعه وانكساره؛ كان أقرب ما يكون الرَّب منه في هذه الحال، فأُمِر أن يجتهد في الدعاء؛ لقربه من القريب المـجيب، وقد قال تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، وكان الركوع كالمقدمة بين يدي السجود، والتوطئة له، فينتقل من خضوعٍ إلى خضوعٍ أكمل وأتم منه، وأرفع شأنًا، وفصل بينهما بركنٍ مقصودٍ في نفسه، يجتهد فيه في الحمد والثناء والتمجيد، وجُعِل بين خضوعين: خضوعٍ قبله -يعني: الركوع- وخضوعٍ بعده -يعني: السجود- وجُعِل خضوع السجود بعد الحمد والثناء والمـجد”.

هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن بقية المسائل والأحكام المتعلقة بالسجود في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 738
^2 رواه أبو داود: 838، والترمذي: 268، وابن ماجه: 882، والنسائي في لسنن الكبرى: 680، بنحوه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
^3 رواه أبو داود: 840.
^4 مصنف ابن أبي شيبة: 2727
^5 رواه البخاري: 385، ومسلم: 620
مواد ذات صلة