الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(91) أذكار ما بعد الصلاة
|categories

(91) أذكار ما بعد الصلاة

مشاهدة من الموقع

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

تحدثنا سابقًا عن ما يشرع من الأذكار أدبار الصلوات، وكان آخر ما تكلمنا عنه التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثًا وثلاثين، وختم ذلك بقوله: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير.

حكم التسبيح بالمسبحة ونحوها

السنة: أن يكون عدُّ التسبيح بأصابع اليد اليمنى.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “عدُّ التسبيح بالأصابع سنة، كما قال النبي للنساء: سبِّحنَ واعقدنَ بالأصابع، فإنـهنَّ مسئولات مُستنْطَقَات [1].

وأما عدُّه بالنوى والحصى ونحو ذلك فحسن، وكان من الصحابة  من يفعل ذلك، وقد رأى النبي أم المؤمنين تُسبِّح بالحصى، وأقرَّها على ذلك، وروي أن أبا هريرة كان يسبح به”.

وأما التسبيح بالمسبحة فهو جائزٌ؛ وليس ببدعة، ولكن الأفضل أن يكون التسبيح بالأنامل، وإنـما قلنا: ليس ببدعة؛ لأن الإنسان لا يقصد التعبُّد لله بـها، وإنـما يقصد بـها ضبط عدد التسبيح أو التهليل أو التحميد أو التكبير، فهي وسيلةٌ لضبط العدد وليست مقصودة؛ لكنها وسيلةٌ مرجوحةٌ مفضولةٌ، والأفضل منها التسبيح بالأصابع، كما أرشد إلى ذلك النبي ، وأخبر بأنـهنَّ مُستنطقات.

ثم إنّ التسبيح بالأصابع أقرب إلى حضور القلب، واستحضار معاني الذكر من التسبيح بالمسبحة، ثم إن التسبيح بالمسبحة قد يـجرُّ إلى الرياء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “التسبيح بـما يُجعل في نظامٍ من الخرز ونحوه، من الناس من كرهه، ومنهم من لَـم يكرهه، وإذا أُحسِنَت فيه النية فهو حسنٌ غير مكروه، وأما اتخاذه من غير حاجةٍ، أو إظهاره للناس، مثل تعليقه في العنق، أو جعله كالسوار في اليد، أو نحو ذلك، فهذا إما رياءٌ للناس، أو مظنَّةٌ للمُرَاءة ومشابـهة المرائين من غير حاجة، والأول محرمٌ، والثاني أقل أحواله الكراهة”.

وكلامنا فيما سبق: فيما إذا اتخذ الإنسان المسبحة للتسبيح بـها، أما اتخاذها للزينة، ونحو ذلك؛ فلا يدخل في هذا، والأصل فيه الإباحة، والله تعالى أعلم.

قراءة آية الكرسي

ويستحب قراءة آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] دبر كل صلاةٍ مكتوبة.

ويدل لذلك: حديث أبي أمامة  قال: قال رسول الله : من قرأ آية الكرسي دُبُر كل صلاةٍ مكتوبةٍ، لَـم يـمنعه من دخول الجنة إلا الموت [2]، أخرجه النسائي، وابن حبان.

وقد اختلف في درجة هذا الحديث، فمن العلماء من ضعَّفَه، وقد بالغ ابن الجوزي فأدخله في كتابه (الموضوعات) وقد تُعُقِّب من عددٍ من أهل العلم.

قال ابن القيم رحمه الله: “هذا الحديث تفرَّد به محمد بن حُـمَير، عن محمد بن زياد الألهاني، عن أبي أُمامة، ورواه النسائي عن حسين بن بِشْرٍ عن محمد بن حُـمير، وهذا الحديث من الناس من يصححه، ويقول: الحسين بن بِشْرٍ قد قال فيه النسائي: لا بأس به، وفي موضعٍ آخر قال: ثقة، وأما المـحمدان فاحتجَّ بـهما البخاري في صحيحه، قالوا: فالحديث على رسْـمِه.

ومنهم من يقول: هو موضوعٌ، وقد أدخله أبو الفَرَج ابن الجوزي في (الموضوعات) وتعلَّق على محمد بن حُـمَير، وأن أبا حاتم الرازي قال: لا يحتج به، وقال يعقوب بن سفيان: ليس بقوي.

وأنكر عليه ذلك بعض الحفَّاظ، ووثَّقوا محمدًا، وقالوا: هو أجل من أن يكون له حديثٌ موضوع، وقد احتجَّ به أجل من صنَّف في الحديث الصحيح، وهو البخاري، ووثقه أشد الناس مقالةً في الرجال، وهو يحيى بن مَعين.

وقد رواه الطبراني في معجمه أيضًا، من حديث عبدالله بن حسن عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله : من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة، كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى [3].

قال ابن القيم: “وقد روي هذا الحديث من حديث أبي أمامة، وعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن عمر، والمغيرة ين شعبة، وجابر بن عبدالله، وأنس بن مالك وفيها كلها ضعف، ولكن إذا انضمَّ بعضها إلى بعضٍ، مع تباين طرقها، واختلاف مخارجها، دلَّت على أن الحديث له أصلٌ، وليس بـموضوع..

قال: وبلغني عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية أنه قال: ما تركتها عقب كل صلاةٍ”.

والحاصل: أن هذا الحديث الوارد في مشروعية قراءة آية الكرسي دبر كل صلاةٍ مكتوبة، قد روي من عدة طرقٍ، وهو ثابتٌ بـمجموع طرقه وشواهده، وهو إما حسنٌ أو صحيح، وقد صححه الحافظ ابن كثير في تفسيره.

قال الحافظ المنذري: “رواه النسائي، والطبراني بأسانيد أحدها صحيح”.

قراءة سورة الإخلاص والمعوِّذتين

ويُشرع كذلك قراءة سورة الإخلاص والمعوِّذتين، وقد أخرج أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد، بسندٍ صحيح عن عقبة بن عامرٍ  قال: “أمرني رسول الله أن أقرأ بالمعوِّذات في دبر كل صلاةٍ” وفي روايةٍ: “بالمعوذتين” [4].

والمعوِّذتان هما سورة: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، و: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ.

وصح عنه أنه قال: قل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، والمعوِّذتين، حين تـمسي وحين تصبح ثلاث مرات، تكفيك كل شيءٍ [5]، أخرجه الترمذي وقال: “حديثٌ حسنٌ صحيح”.

وتأمل قوله عليه الصلاة والسلام: تكفيك كل شيءٍ أما سورة الإخلاص فهي تعدل ثلث القرآن، فقد جاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري  قال: قال النبي لأصحابه: أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلةٍ؟! فشقَّ ذلك عليهم، وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟! فقال: الله الواحد الصمد ثلث القرآن [6].

وفي (صحيح مسلمٍ) عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: احشدوا -أي: اجتمعوا- فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فحشد من حشد، ثم خرج نبي الله ، فقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ثم دخل فقال بعضنا لبعضٍ: إني أُرَى هذا خبرٌ جاءه من السماء، فذاك الذي أدخله، ثم خرج نبـي الله ، فقال: إني قلت لكم: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنـها تعدل ثلث القرآن [7].

وإذا كانت سورة الإخلاص تعدل ثُلث القرآن في الأجر والثواب، فإن من قرأها ثلاث مراتٍ، كأنـما قرأ القرآن كاملًا.

وأما المعوذتان: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، و: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] فإنهما قد تضمَّنتا الاستعاذة بالله تعالى من جميع الشرور التي يـمكن أن تصيب العبد.

قال ابن القيم رحمه الله: “تضمنت هاتان السورتان الاستعاذة من الشرور كلها، بأوجز لفظٍ وأجمعه، وأدلِّه على المراد، وأعمِّه استعاذةً، بحيث لـم يبق شرٌّ من الشرور، إلا دخل تحت الشرِّ المستعاذ منه فيهما.

قال: وهاتان السورتان عظيمٌ نفعهما، والحاجة إليهما شديدةٌ، بل الضرورة إليهما، وأنـهما لا يستغني عنهما أحدٌ قط، وأن لهما تأثيرًا خاصًا في دفع السحر والعين وسائر الشرور”.

والحاصل: أنه يشرع لكل مسلمٍ ومسلمةٍ أن يقرأ بعد كل صلاة مكتوبةٍ آية الكرسي، وسورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، و: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، و: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، ويكرر سورة الإخلاص والمعوِّذتين بعد صلاة الصبح وصلاة المغرب ثلاث مراتٍ.

ويلحق بعض العلماء قول: “ربِّ قني عذابك يوم تبعث عبادك” بالأذكار التي تقال بعد الصلاة؛ استدلالًا بـما جاء في (صحيح مسلمٍ) عن البراء قال: “كنا إذا صلينا خلف رسول الله ، أحببنا أن نكون عن يـمينه، يقبل علينا بوجهه، فسمعته يقول: ربِّ قني عذابك، يوم تبعث -أو تجمع- عبادك[8].

وقد رواه مسلمٌ في صحيحه من طريق ثابت بن عُبيد، عن عُبيد بن البراء، عن البراء به.

وقد خالف عبيدًا الجماعة من الثقات الذين رووه عن البراء أن النبي كان يقول هذا الذكر عند النوم، وليس بعد الصلاة، كما عند أحمد والنسائي وابن ماجه وغيرهم [9].

فتكون رواية عُبيدٍ هذه روايةً شاذَّةً في أحسن الأحوال.

وبناءً على ذلك: يكون المـحفوظ أن هذا الذكر إنـما يقال عند النوم، وليس بعد الصلاة.

أيها الإخوة، هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة، إن شاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه أبو داود: 1501، والترمذي: 3583، وأحمد: 27089.
^2 رواه النسائي في السنن الكبرى: 9848.
^3 رواه الطبراني في المعجم الكبير: 2733.
^4 رواه أبو داود: 1523، والترمذي: 2903، وأحمد: 17417.
^5 رواه أبو داود: 5082، والترمذي: 3575، والنسائي: 5428، وأحمد: 22664.
^6 رواه البخاري: 5015.
^7 رواه مسلم: 812.
^8 رواه مسلم: 709.
^9 رواه أبو داود: 5045، والترمذي: 3399، وابن ماجه: 3877، والنسائي: 10529، وأحمد: 18631، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.