logo
الرئيسية/محاضرات/أحكام الهدي والأضحية

أحكام الهدي والأضحية

مشاهدة من الموقع

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين وسلَّم تسليم كثيرًا.

أيها الإخوة، أتحدث معكم في هذه المحاضرة عن أحكام الهدي والأضحية.

أحكام الهدي والأضحية

الهدي والأضحية اللذان هما من شعائر الله: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ [الحج:36]، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، وعما قريب سيُضحِّي المسلمون وسيُهدِي الحجاج؛ فيحسُن بالمسلم أن يتفقَّه في أحكام ومسائل الهدي والأضحية.

نتحدث معكم عن تعظيم شعائر الله تعالى بإراقة الدم، والتقرُّب إلى الله تعالى بالهدي والأضحية، ونتحدث كذلك عن الأفضل في الهدي والأضحية والضابط في ذلك، ونتحدث أيضًا عن شروط صحة الهدي والأضحية، وعن العيوب المانعة من الإجزاء، ونتحدث كذلك عن صفةِ نحر وذبح الهدي والأضحية وما ورد في ذلك، ووقت الذبح، وتعيين الهدي والأضحية، وما يتصل بذلك من مسائل وأحكام.

تعريف الهدي

الهدي إذا أُطلق بمعناه العام: يشمل كُلَّ ما يُهدى للحرم من الإبل والبقر والغنم وغير ذلك من الطعام واللباس. وأما بالمعنى الخاص: فهو يختصُّ بما يُذبَح تقرُّبًا إلى الله ​​​​​​​ من بهيمة الأنعام في الحرم.

وأما الأضحية فهي واحدة الأضاحي، ويقال لها: ضحيَّة، ولم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء تقرُّبًا إلى الله مشروعًا في جميع الأمم كما قال ربنا : وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج:34]، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ هذا يدل على أن هذا لجميع الأمم، جَعَلْنَا مَنْسَكًا يعني: دمًا، يُهريقون دمًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ.

وإراقة الدم تقرُّبًا إلى الله تعالى هي من أَجَلِّ العبادات، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "التقرُّب إلى الله تعالى بالذبح والنحر هو أجَلُّ العبادات المالية، كما أن الصلاة هي أجَلُّ العبادات البدنية". وقد جمع الله تعالى بينهما في قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، وفي قوله: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي أي: ذبحي، فقرن الله تعالى في هاتين الآيتين بين الصلاة وبين الذبح أو النحر؛ لأن الصلاة هي أجَلُّ العبادات البدنية، والنحر أو الذبح هو أجَلُّ العبادات المالية.

قال رحمه الله: هاتان العبادتان -الصلاة والنُّسك- تدلان على القُرْب والتواضع والافتقار وحسن الظن وقوة اليقين وطمأنينة القلب، وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها من سائر العبادات، كما عرَفه أرباب القلوب الحية والهمم العالية، وما يجتمع له في نحره من إيثار الله تعالى وحسن الظن به وقوة اليقين والوثوق بما في يد الله تعالى أمرٌ عجيبٌ إذا قارن ذلك الإيمان والإخلاص.

وقد امتثل النبي أمر ربه، فكان كثير الصلاة كثير النحر لربه حتى إنه عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع أهدى مائةً من البُدْن، نَحَرَ بيده الشريفة عليه الصلاة والسلام منها ثلاثًا وستين، قيل: والحكمة في اختيار هذا العدد -والله أعلم- لأجل أن تكون بعدد سنوات عمره، فكأن كُلَّ بدنةٍ عن سنة من عمره، والله تعالى أعلم، ثم أمر عليًّا فأكمل نَحْرَ البقية إلى تمام المائة.

ثم أمر النبي بأن يُؤخذ من كل بَدَنَةٍ بُضعة لحم -يعني: قطعة لحم- فجُمعت في قِدْرٍ، فأكل من لحمها وشرب من مرقها، وأمر بأن يُتصدَّق ببقية اللحم والجلود والجِلَال وغيرها، يُتصَدَّق بها على الحُجاج في وقته عليه الصلاة والسلام. فانظروا كيف أن النبي عظَّم مشاعر الله وأهدى مائةً من البُدْنِ، فكان ممتثلًا لأمر ربه فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162].

وبعض الناس يستكثر أن يشتري أضحية أو هديًا، تجده يسأل عن الرُّخَص، تجده إذا حجَّ يسأل ويقول: ما هو النُّسُك الذي ليس فيه ذبح هدي؟ فتجده يختار الإفراد، كل ذلك فرارًا من الذبح، وفي الأضحية ربما أنه لا يُضحِّي أو أنه يختار ما كان أرخص وأزهد ثمنًا، فنقول: إن ما يُنفقه المسلم في شراء الهدي أو الأضحية غُنْمٌ وليس غُرْمًا، وهو من تعظيم شعائر الله ، وكلما كان الهدي أكمل وأحسن كان أعظم أجرًا وثوابًا.

أفضل بهيمة الأنعام في الهدي والأضحية

وهذا يقودنا إلى معرفة أفضل بهيمة الأنعام في الهدي والأضحية، فنقول: أفضلها الإبل ثم البقر ثم الغنم؛ ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي قال: من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى فكأنما قرَّب بَدَنَة، ومن راح إلى الجمعة في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقرة، ومن راح إلى الجمعة في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشًا أقرن، ومن راح إلى الجمعة في الساعة الرابعة فكأنما قرَّب دجاجة، ومن راح إلى الجمعة في الساعة الخامسة فكأنما قرَّب بيضة، فإذا دخل الإمام طُوِيَت الصحف وأقبلت الملائكة تستمع الذكر[1]. فهنا ذكر النبي خمس ساعات، وذكر فيها بالنسبة للقُرْبان: الإبل ثم البقر ثم الغنم، فدلَّ ذلك على أنها أيضًا تترتب في الأفضلية؛ فالإبل هي أفضلها، يليها البقر، يليها الغنم.

ولا يصح أن يكون الهدي والأضحية وكذا العقيقة إلا من الإبل والبقر والغنم، على أن العقيقة: ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا بد أن تكون في الغنم الخاصة، وأما الهدي والأضحية فلا بد أن يكونا من الإبل والبقر والغنم، فهي مختصةٌ بالأزواج الثمانية التي ذكرها الله تعالى في سورة الأنعام: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الأنعام:143]، وهي: الإبل والبقر والضأن والمعز ذَكرها وأنثاها، أصبحت ثمانية: الإبل ذكرها وأنثاها، والبقر ذكرها وأنثاها، والضأن ذكرها وأنثاها، والمعز ذكرها وأنثاها، فأصبحت ثمانية، هذه الثمانية هي التي يُضحَّى منها، وهي التي يُهدى منها فقط.

وأفضل كل جنس أسمنه وأحسنه، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، قال: تعظيمها استسمانها واستحسانها. وفي "صحيح البخاري" عن سهل بن سعد قال: كنا نستسمن الأضاحي على عهد رسول الله  بالمدينة.

واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الأجر على قَدْر القيمة مطلقًا، أي: إن الضابط في الأفضل من الهدي والأضحية هو الأكثر ثمنًا، هذا هو الأقرب والله أعلم، وأن نقول: إن الأفضل في الهدي والأضحية هو الأغلى والأكثر ثمنًا؛ لأنه أحيانًا قد يكون الأسمن في وقتنا الحاضر ليس هو الأكثر ثمنًا، وحينئذ يكون الضابط في الأفضل في الهدي من كل جنس أنه الأغلى والأكثر ثمنًا؛ فمثلًا: إذا وجدت خروفًا قيمته ستمائة ريال، وآخر قيمته ألف ريال؛ فالأفضل أن تشتري الذي قيمته ألف ريال، هذا أعظم أجرًا وثوابًا، وأكثر تعظيمًا لشعائر الله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].

وكلما كانت البهيمة أكمل خِلقةً كانت أفضل وأعظم أجرًا وثوابًا، حتى قال العلماء: وما كان أحسن منظرًا فهو أفضل؛ ولهذا ضحى النبي بكبشين أمْلَحَين أقرنين[2]. ومعنى أملحين: الأملح هو ما بياضه أكثر من سواده؛ يعني: ما خالط بياضه سواد، لكن بياضه أكثر من سواده.

الاشتراك في الأضحية

وتُجزئ الشاة عن واحد، والبَدَنَة والبَقَرة عن سبعة، وهنا نقف مع مسألةٍ يكثُر السؤال عنها: وهي الاشتراك في الأضحية، فبعض الناس يقول: نحن في البيت نريد أن نشترك في الأضحية، يقول: أنا وأخي نشتري أضحيةً قيمتها ثمانمائة ريال مثلًا، أدفع أربعمائة ويدفع أخي أربعمائة، بدل أن يشتري كل واحد منا أضحية نشترك في أضحية، فهل هذا يجوز؟ وهل يُجزئ أم لا؟

نقول أولًا تأصيلًا لهذه المسألة: الاشتراك في الأضحية على قسمين: اشتراكٌ في المِلك، واشتراك في الثواب.

أما الاشتراك في المِلك يعني: اشترك شخصان فأكثر في أضحية، فهذا لا يجوز أن يكون في الغنم، ويجوز أن يكون في الإبل إلى سبعة، وفي البقر إلى سبعة. وأما الغنم فلا يصح الاشتراك في المِلك فيها مطلقًا.

وبناءً على ذلك؛ فإن المثال الذي أوردناه: أخوان يريدان أن يشتركا في شراء شاة ليُضَحِّيَا بها عن أنفسهما، نقول: إن هذا لا يجوز ولا يُجزئ؛ وذلك لأن الأضحية عبادةٌ وقُرْبةٌ إلى الله ، فلا يجوز إيقاعها ولا التعبُّد بها لله تعالى إلا على الوجه المشروع زمنًا وعددًا وكيفية، ولو كان التشريك في المِلك جائزًا في الأضحية بغير الإبل والبقر لفعله الصحابة ؛ فإنهم كانوا أحرص الناس على الخير، وفيهم فقراء كثيرون قد لا يستطيعون الأضحية كاملة، ولو فعلوه لنُقل عنهم؛ لأنه مما تتوافر الدواعي لنقله لحاجة الأُمَّة إليه، فدلَّ ذلك على أنه لا يُجزئ ولا يُشرع الاشتراك في الغنم. وأما الإبل فيُجزئ إلى سبعة، والبقر تُجزئ إلى سبعة.

وتفريعًا على ذلك نقول: لو اشترك اثنان في أضحيةٍ أو ثلاثة في أضحية ليُضَحِّيَا بها عن أنفسهم؛ لم يصح. لكن لو اشتركا في أضحية ليُضَحِّيَا بها عن شخص آخر، ولنفترض أنهما اشتركا ليُضَحِّيَا بها عن والدهما أو عن والدتهما فإن هذا يصح؛ لأنها لم تكن عن أكثر من واحد، وإنما هي عن شخص واحد وهو الأب أو الأم مثلًا.

فإذًا العبرة بمن يُضحَّى عنه، فلو اشترك إذًا اثنان أو أكثر في أن يجعلوا هذه الأضحية عن فلان، كأن يكون عن أبيهم أو أمهم؛ جاز ذلك، لكن أن يجعلوها عن أكثر من شخص؛ فإن هذا لا يجوز في الغنم ويجوز في الإبل والبقر إلى سبعة، هذا هو الاشتراك في الملك.

وأما الاشتراك في الثواب بأن يكون مالك الأضحية واحدًا ويُشرك معه غيره من المسلمين في ثوابها؛ هذا جائز ولا بأس به، فللإنسان أن يُشرك معه مَن شاء مهما كثر الأشخاص وفضل الله واسع، فله إذا اشترى أضحيةً أن يُشرك معه والديه وأولاده وزوجته وإخوانه وأخواته ومن شاء من المسلمين وفضل الله واسع. هذا هو الاشتراك في الثواب، وقد دلَّت له السنة كما جاء في "صحيح مسلم" من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي لما ذبح أضحيته قال: اللهم تقبَّل من محمد، وآل محمد، ومن أمة محمد ثم ضحى به[3].

وفي "مسند الإمام أحمد" من حديث عائشة[4] وأبي رافع[5] رضي الله عنهما: أن النبي كان يُضحِّي بكبشين: أحدهما عنه وعن آله، والآخر عن أُمَّته جميعًا. وفي حديث جابر[6] وأبي سعيد[7] رضي الله عنهما أنه يُضحِّي بكبشين أحدهما عنه والآخر عمن لم يضح من أمته. ولحديث أبي أيوب : أنه كان الرجل يذبح الأضحية عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون[8]، يعني: في عهد النبي .

وحينئذٍ نقول: التشريك في الثواب بابه واسع، وأمره واسع، وللإنسان أن يُشرِك في الثواب من شاء من المسلمين. وخلاصة ما سبق، نقول: الاشتراك ينقسم إلى قسمين:

  • اشتراكٌ في الملك، أي: في دفع ثمن الأضحية أو الهدي، وهذا لا يصح في الغنم إلا عن واحد، وفي الإبل والبقر عن سبعة.
  • والقسم الثاني: الاشتراك بالثواب، وهذا لا حَدَّ له، إذا كان المالك للأضحية واحدًا فله أن يُشرِك معه في الثواب من شاء من المسلمين.

ويسأل بعض الناس إذا كان في البيت أكثر من شخص وهم مقتدرون، فهل يُكتفى بأضحية واحدة، أم أن كل واحد من أهل البيت يُضحي؟

نقول: الأفضل أن كل واحد قادر على الأضحية يُضحِّي؛ لأنه كما ذكرنا الأضحية أمرها عظيم، هي أفضل العبادات المالية، وثوابها جزيل، وهي من تعظيم شعائر الله، فمن كان قادرًا على الأضحية فينبغي له أن يُضحِّي، ولو اكتفوا بأضحية واحدة عن أهل البيت أجزأ ذلك، لكن من كان قادرًا ينبغي له أن يخُصَّ نفسه بأضحية، والنبي أُسوتنا وقدوتنا كان كثير النحر والذبح، وأهدى في حجة الوداع مائة من البُدْنِ[9].

لو أراد إنسان أن يُضحِّي عن نفسه بأكثر من أضحيةٍ؛ هذا لا بأس به، بل هذا مندوبٌ إليه ومستحبٌّ، وله أسوة في النبي الذي أهدى مائة من البُدْنِ.

المقصود من الأضحية

الأضحية أيها الإخوة شعيرة من شعائر الله، والمقصود منها ذكره الله تعالى في قوله : لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، المقصود منها إذًا تقوى القلوب، "البُدْنِ" ليس المقصود اللحم ولا الدم؛ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ؛ فينبغي استشعار هذه المعاني.

وبهذا نعرف أن السُّنة أن يذبح الإنسان الأضحية في بلده، وأن يأكل منها ويتصدق، وأن هذا خيرٌ من أن يُوكِّل من يذبح له أضحيةً خارج البلاد؛ لأنه ليس المقصود من الأضحية اللحم: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، فحتى يتحقَّق المقصود من الأضحية يذبحها الإنسان في بلده: إما أن يذبحها بنفسه أو يُوكِّل من يذبحها ويحضر الذبح إذا أمكن؛ حتى يستحضر هذه المعاني، وحتى تحصل له تقوى القلب؛ فإن هذا هو المقصود شرعًا من الأضحية.

وأما أن الإنسان بمجرد دراهم يدفعها ولا يُضحِّي؛ هذا خلاف المشروع، دراهم يدفعها لمن يُضحِّي عنه في بلدٍ بعيدٍ ولا يُضحِّي هو في البلد الذي هو فيه، لا شك أن هذا خلاف المشروع، وربما يُفضي إلى عدم إظهار شعائر الله تعالى، وإظهارُ شعائر الله تعالى أمرٌ مطلوبٌ، إظهار هذه الشعيرة أمرٌ مطلوبٌ، وتعظيم شعائر الله تعالى أمرٌ مطلوبٌ: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[الحج:32].

الأضحية هي سنة أبينا إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقد أُمر إبراهيم الخليل بأن يذبح ابنه الذي وَهَبَه الله تعالى له ورزقه إياه بعدما بلغ من السن عتيًّا، بعدما جاوز الثمانين عامًا وكانت امرأته عاقرًا فبُشِّر بهذا الولد.

ما ظنُّك بإنسانٍ كبيرٍ في السن وامرأته عاقرٌ ثم يُبشَّر بولدٍ! ما ظنُّك بتعلُّقه ومحبَّته بهذا الولد! ثم لما كبر هذا الولد -وهو إسماعيل - وبلغ أحسنَ سِنٍّ يتعلَّق فيها الوالد بولده، بلغ معه السعي وهذه هي أحسنُ سِنٍّ يتعلَّق فيها الوالد بولده، ليس طفلًا لا يهتم به كثيرًا، وليس كبيرًا قد انفصل عن والده.

ابتُلي إبراهيم الخليل ببلاءٍ عظيمٍ بأن يذبح هذا الابن، وكان اختبارًا وبلاءً مبينًا وعظيمًا، لكنه عليه الصلاة والسلام امتثل أمر ربه، ورُزِق ابنًا صالحًا: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، فاستسلما لأمر الله تعالى وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103]، يعني: أكَبَّه على وجهه، قيل: إن إسماعيل قال: يا أبتِ، إذا أردت أن تذبحني فكُبَّني على وجهي، إني أخاف أن ترحمني فلا تذبحني، فتله للجبين ورفع السكين عازمًا ومستسلمًا لأمر الله تعالى، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ۝ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۝ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ۝ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:104-107]، فداه الله تعالى بكبشين عظيمين من الجنة، فكانت سُنَّة من بعده.

فالأضحية إذًا سُنَّة أبينا إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقد ذبح عليه الصلاة والسلام بعدما صلَّى بالناس وخطب بالناس خطبة العيد، ذبح في المصلَّى والناس ينظرون لأجل أن يتأسَّوا وأن يقتدوا به؛ ولهذا قال العلماء: السُّنة للإمام خاصةً أن يذبح في مُصلَّى العيد لأجل أن يقتدي به الناس.

شروط صحة الهدي والأضحية

ويُشترط لصحة الهدي والأضحية شروط:

  • الشرط الأول: أن تكون من بهيمة الأنعام، وهذا تكلَّمنا عنه قبل قليل.
  • والشرط الثاني: أن تكون قد بلغت السن المعتبرة شرعًا، وهو أن تكون ثَنِيًّا من الإبل أو البقر أو المعز، وجَذعًا إن كان من الضأن.
    والثَّنِيُّ من الإبل هو ما بلغ خمس سنين، ومن البقر ما بلغ سنتين، ومن المعز ما بلغ سنة واحدة، والجَذع من الضأن هو ما له ستة أشهر. فلا بد من التقيُّد بهذا السن المحدَّد شرعًا، فمن نحر جملًا عمره دون خمس سنين فإنه لا يصح هديًا ولا أضحية، وهكذا لو ذبح بقرة دون سنتين لا تصح هديًا ولا أضحية، وهكذا لو ذبح معزًا دون سنة لا يصح هديًا ولا أضحية، وهكذا لو ذبح ضأنًا دون ستة أشهر لا يصح هديًا ولا أضحيةً ولا عقيقةً كذلك.
  • الشرط الثالث وهو من أهم الشروط: السلامة من العيوب المانعة من الإجزاء شرعًا.

أبرز العيوب التي تمنع من إجزاء الهدي والأضحية

وما هي هذه العيوب؟

ذكر النبي أهم هذه العيوب في حديث البراء بن عازب ، قال: قام فينا رسول الله فقال: أربعٌ لا تجوز في الأضاحي -وفي رواية: لا تُجزئ- العوراء البيِّنُ عَوَرُها، والمريضة البيِّنُ مرضها، والعرجاء البيِّنُ ضَلَعُها، والعجفاء التي لا تُنقي. أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد وابن ماجه[10]، وهو حديث صحيح؛ قال الإمام أحمد: "ما أحسنه من حديث"، وصححه النووي وجمعٌ من الحفاظ.

فذكر النبي في هذا الحديث أربعًا لا تُجزئ في الأضاحي:

  • الأول: العوراء، وقيَّدها بقوله: البيِّن عورها، والعوراء هي التي انخفست عينها أو برزت، ومن باب أولى إذا كانت العوراء لا تُجزئ فالعمياء من باب أولى؛ إذًا عندنا العوراء والعمياء لا تُجزئان.
  • ثانيًا: المريضة البيِّن مرضها وهي التي ظهر عليها آثار المرض، وذلك ولا بد أن يكون المرض بيِّنًا بحيث يُقعدها عن المرعى والأكل، أما إن كان المرض غير بيِّن بأن كان مثلًا بها كسلٌ أو فتورٌ لا يمنعها من المرعى والأكل؛ فإنها تُجزئ، والسلامة منها أولى. ومن أمثلة المرض المانع من الإجزاء مثلًا: الجرب، الجرب مرضٌ بيِّنٌ ومانعٌ من الإجزاء في الهدي والأضحية وفي العقيقة كذلك.
  • الثالثة: العرجاء البيِّن ضَلَعُها بحيث إنها لا تستطيع المشي مع الصحيحات؛ لأن هذه العرجاء تتخلف عن البهائم في المرعى، فينقُص لحمها بسبب ذلك، ومن باب أولى إذا قلنا: إن العرجاء لا تُجزئ فالكسيرة لا تُجزئ من باب أولى.
  • رابعًا: العجفاء التي لا تُنقي، والعجفاء هي الهزيلة، وقولنا: لا تُنقي النَّقْيُ: هو المخ، يعني: التي ذهب مُخُّ عظامها فبها هزالٌ شديدٌ بحيث إن عظامها ليس فيها مخ، بل هي كما قال الموفق ابن قدامة: عظامٌ مجتمعة. والمخ يزول من العظام مع شدة الهُزال؛ إذا كانت البهيمة حزينة وكان هُزَالها كبيرًا فإن مُخَّ العظم يزول، أما لو كان الهُزَال ليس كبيرًا وبقي في العظام مخٌّ فإنها تُجزئ، والسمينة أولى منها، لكن من حيث الإجزاء إذا كان في عظامها مخٌّ فإنها تُجزئ.

هذه إذًا الأربعة المذكورة في الحديث، وأضفنا لها: العمياء والكسيرة فأصبحت ستًّا.

السابعة: العَضْبَاء: وهي التي ذهب أكثر أُذُنها أو قرنها؛ لحديث عليٍّ : أن النبي نهى أن يُضحَّى بأعْضَبِ الأذن والقرن. أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه[11]، وهو حديثٌ حسنٌ أو صحيحٌ بمجموع طرقه.

قال قتادة: سألت سعيد بن المسيب عن العضب، فقال: النصف فما فوق. وقد نص الإمام أحمد في رواية أبي طالب: أن العضباء هي ما ذهب نصف قرنها أو أذنها فأكثر. وكونها لا تُجزئ هذا من المفردات عند الحنابلة، والجمهور على أنها تُجزئ، ولكن ما دام أن الحديث قد صحَّ، فنقول: إن العَضْبَاء: التي ذهب أكثر من نصف قرنها أو ذهب نصف قرنها أيضًا لا تُجزئ، وهكذا إذا ذهب نصف أُذُنها أو أكثر من نصف أُذُنها فإنها لا تُجزئ. أما إذا ذهب أقل من النصف، أقل من نصف القرن أو أقل من نصف الأُذُن؛ فإنها تُجزئ مع الكراهة.

وإذا كانت العضباء لا تُجزئ، فإن مقطوعة الذَّنَب لا تُجزئ -وهذه رقم كم؟ هذه رقم ثمانية-، مقطوعة الذَّنَب لا تُجزئ قياسًا على مقطوعة الأُذُن بل إنها أولى؛ لأنها تستفيد من الذيل أكثر مما تستفيده من صِمَاخ الأُذُن، والذيل فيه مصلحةٌ كبيرةٌ للدفاع عما يُؤذي الحيوان، وحينئذٍ نقول: إن مقطوعة الذَّنَب لا تُجزئ.

وكذلك أيضًا -وهي التاسعة- مقطوعة الأَلية لا تجزئ؛ لأنه إذا كانت مقطوعة الأُذُن والقرن لا تُجزئ فمقطوعة الأَلية لا تُجزئ من باب أولى؛ لأن الأَلية عضوٌ مقصودٌ وذو قيمةٍ مُرادةٍ مقصودةٍ، فصار مقطوعها أولى بعدم الإجزاء من مقطوع الأُذُن والقرن. وقد صدر قرارٌ من مجلس هيئة كبار العلماء برئاسة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله بعدم إجزاء مقطوع الألية.

أما إذا كان ما قُطع من الألية دون النصف فإنها تُجزئ مع الكراهة، قياسًا على العَضَب إذا كان دون النصف، يعني: مقطوع الأُذُن والقرن إذا كان دون النصف فإنه يُجزئ مع الكراهة.

وبناءً على ذلك: نعرف حكم الأضحية أو الهدي بما يسمى بـ"الأغنام الأسترالية"، نقول: ما كان منها مقطوع الألية فإنه لا تُجزئ الأضحية به، وما كان منها ليس له أَلية أصلًا وإنما له ذيلٌ كذيلِ البقر فإن هذا تُجزئ الأضحية به ويُجزئ الهدي به كذلك.

كيف نعرف هل هو مقطوع الأَلية أو أن له ذيلًا بأصل الخِلقة؟ نرجع في ذلك لأهل الخبرة، أهل الخبرة بالمواشي يعرفون ما كان مقطوع الأَلية وما كان له ذيلٌ بأصل الخِلقة. فإذًا ما كان مقطوع الأَلية لا يُجزئ، أما ما كان له ذيلٌ بأصلٍ الخِلقة فإنه مجزئ.

وأما الهَتْماء: وهي التي سقطت بعض أسنانها، قال بعض العلماء: إنها لا تُجزئ. وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.

والقول الثاني: إنها تُجزئ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولكن الأولى السلامة منها، وهذا هو الأقرب والله أعلم: أن الهتماء التي سقطت بعض أسنانها أنها تُجزئ والسلامة منها أولى، وإنما قلنا: السلامة منها أولى لأن الأسنان فيها جمالٌ ومنفعةٌ، وفقدُ شيءٍ منها يُخِلُّ بذلك، وحينئذٍ فالأقرب أنها تُجزئ لكن إما مع الكراهة أو مع عدم الأولوية، يعني: أن غيرها أولى.

وأما الجَدَّاء وهي التي نشف ضرعها ويبَس فانقطع منها اللبن، فمن العلماء من قال: إنها لا تُجزئ، هذا هو المنصوص عليه من مذهب الحنابلة، ولكن الصحيح: أنها تُجزئ من غير كراهة؛ وذلك لأنه لا نقص في لحمها ولا في خِلقتها، واللبن غير مقصود في الأضحية، والأصل الإجزاء وعدم الكراهة حتى يقوم الدليل.

ونجد في الوقت الحاضر كثيرًا من الأغنام هي من هذا النوع، من الجَدَّاء التي قد نشف ضرعها؛ ولهذا نقول: الصحيح أنها تُجزئ من غير كراهة؛ لعدم الدليل، واللبن ليس مقصودًا في الأضحية حتى نقول: إنه يُكره أو إنها لا تُجزئ. الصواب في الجَدَّاء التي نشف ضرعها ويبَس أنها مجزئة.

وأما الصَّمْعاء -وهي صغيرة الأُذُن- والجَمَّاء التي لم يُخلَق لها قرنٌ فهذه تُجزئ من غير كراهة؛ لعدم ورود الدليل الدال على النهي عنها، ولعدم الإخلال بالمقصود.

وأما الخَصِيُّ فإنه لا تُكره الأضحية به، بل قال بعض العلماء: إنه يُستحب الأضحية بالخصي، لماذا؟ لأن الخِصَاء يزيد في سِمَن الحيوان ويطيب لحمه به، وقد جاء في "مسند الإمام أحمد" عن أبي رافع : أن النبي ضحى بكبشين موجوءين[12]؛ يعني: خصيين. إذًا الخصاء ليس مانعًا من الإجزاء، بل ربما نقول: إنه ينبغي اختيار ما كان خصيًّا؛ لأنه أطيب لحمًا، وهذا أمرٌ يعرفه أرباب المواشي: أن الخَصِيَّ يكون أطيب لحمًا، ويكون أسمن في الغالب.

هذه إذًا هي أبرز العيوب التي تمنع من الإجزاء، والعيوب الثمانية الأولى التي ذكرناها هي المانعة من الإجزاء، وما بعدها قلنا: إنه غير مانع، وإن كان بعضها اختلفوا فيه، ولكن الصحيح أنها لا تمنع من الإجزاء.

ونقول: إنه ينبغي المسلم أن يختار الأكمل والأطيب والأفضل، وذكرنا: أن الضابط في ذلك: هو ما كان أغلى وأكثر ثمنًا، وألا يستخسر المسلم ما يبذله من الدراهم في شراء الهدي والأضحية.

وإنك لتعجب من بعض الناس! تجد أنه يُبذِّر ويُنفق في كماليات، ربما في شراء ألعابٍ له ولأطفاله ونحو ذلك، وعندما يأتي الهدي أو الأضحية تجد أنه يبخل ويُحاول أن يأتي بالأعذار وربما إذا اشترى هديًا أو أضحيةً اشتراه بثمن بخس!

ونقول: هي شاة واحدة في العام، كيف تبخل بها على نفسك؟ وإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أُمِرَ بذبح ابنه، فامتثل أمر ربه، فكيف بمن يُؤمر بشاة ومع ذلك يتردَّد، وربما إذا اشترى شاةً بحث عما كان أرخص وأزهد ثمنًا!

آداب في ذبح النعم

والسُّنة في الإبل النحر، وفي البقر والغنم الذبح، وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36].

أما نحر الإبل فإنها تكون قائمة معقولة اليد اليسرى كما قال الله في سورة الحج: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ -البُدْن: هي الإبل- جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ.

وقوله: صَوَافَّ أي: قيامًا على ثلاث قوائم، قد صُفَّت يداها ورجلاها وهي قيام على ثلاث قوائم، وكذلك صُفَّت رجلاها وإحدى يديها، أي: إنها تكون معقولة اليد اليسرى، فهي يكون نحرها هكذا، تكون معقولة اليد اليسرى وهي قائمة، فينحرها، يطعنها في الوهدة، وقد كان النبي ينحر الإبل قيامًا كذلك[13]، أي: قيامًا على ثلاث قوائم قد صُفَّت رجلاها وإحدى يديها.

وأما غير الإبل وهي البقر والغنم، فالسُّنة فيها الذبح وهي على جنبها الأيسر موجهة إلى القبلة، ويقول الذابح وجوبًا: "بسم الله" يُسَمِّي، ولا يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، قالوا: لأنه لا يُناسب ذكر الرحمة هنا عند الذبح، وإنما يقول: "بسم الله"، والتسمية هنا واجبة، قد أمر الله تعالى بها وقال: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121]، ويقول استحبابًا: "الله أكبر"، يقول: "بسم الله والله أكبر"، فيُستحب أن يُكبِّر مع التسمية.

قال البخاري في "صحيحه": "باب التكبير عند الذبح"، ثم ساق بسنده حديثًا عن أنس قال: ضحَّى النبي بكبشين أملحين أقرنين[14]. "أملحين" سبق أن قلنا: إن الأملح هو ما به بياضٌ وسوادٌ لكن البياض أكثر من السواد. و"الأقرن" يعني: له قرنان، فيقول: إن وجود القرن في البهيمة يدل على قوتها.

وقال: ذبحهما بيده، وسمَّى وكبَّر، ووضع رِجله على صِفَاحِهما[15]. والصِّفَاح هي الجوانب، والمقصود هنا: أنه يضع رجله على صفحة عُنُق الأضحية ليكون ذلك أسهل في ذبحها.

ويقول كذلك بعد قوله: "بسم الله والله أكبر": "اللهم تقبَّل مني"، وإن كان الذابح وكيلًا عن غيره يقول: "اللهم تقبَّل من فلان"، هذا هو المحفوظ في الذكر الذي يُقال عند الذبح، والدليل على أنه يقول: "اللهم تقبَّل مني" ما جاء في "صحيح مسلم" أن النبي قال حين ضحَّى: اللهم تقبل من محمد، وآل محمد، وأمة محمد ثم ضحَّى[16].

فإذًا التسمية واجبة بالإجماع، وذكرها الله تعالى في القرآن، والتكبير: ذكرنا حديثَ أنسٍ في "صحيح البخاري"، وأيضًا "اللهم تقبَّل مني" هنا ذكرنا هذا الحديث الذي هو في "صحيح مسلم"، ورُوي أنه يُستحب أن يقول الذابح عند الذبح: "اللهم منك ولك"[17] ولكن الحديث المروي في ذلك ضعيف لا يصح ولا يثبت.

رُوي كذلك أنه يقول: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، اللهم منك ولك، إن صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، اللهم منك ولك لا شريك له[18]. والحديث أيضًا المروي في ذلك ضعيف لا يصح ولا يثبت.

فالمحفوظ إذًا من الذكر عند الذبح هو أن يقول: "بسم الله، والله أكبر، اللهم تقبل مني"، هذا هو المحفوظ من الذكر عند الذبح. وسبق أن قلنا: إن السنة أن يتولاها الذابح بنفسه إن كان يُحسن الذبح، أو يُوكِّل غيره، ولا أقل من أن يشهد الذبح إذا وكَّل غيره، وإن وكَّل غيره ولم يشهد الذبح أجزأ ذلك.

والذبح يصح من المرأة كما يصح من الرجل، حتى وإن كانت المرأة حائضًا فلا يضر ذلك.

وقت الذبح للهدي والأضحية

وأما وقت الذبح للهدي والأضحية هو من بعد صلاة العيد، وحينئذٍ من ذبح أضحيةً أو هديًا قبل صلاة العيد فإن شاته شاة لحم، ويستمر وقت الذبح إلى آخر يومين بعده، يعني: يوم العيد واليوم الحادي عشر والثاني عشر، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.

وقال بعض العلماء: إنه يستمر إلى ثلاثة أيام بعد الذبح، فتكون أيام الذبح أربعة، يوم العيد وثلاثة أيامٍ بعده، وهذا القول الأخير هو الأقرب والله أعلم في هذه المسألة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى. والدليل على ذلك هو قول الله تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج:28].

وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيره "الأيام المعلومات": إنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وإن كان قد قيل في تفسيرها: إنها عشر ذي الحجة. ولكن القول الآخر هو قولٌ مشهورٌ عند المفسرين، ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما: المراد بالأيام المعلومات في الآية أنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده؛ ولقول النبي : أيام التشريق أيامُ أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله ، وفي رواية: أيام التشريق أيامُ ذبحٍ[19].

وأيام التشريق هي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر؛ قال ابن القيم رحمه الله: "ولأن هذه الأيام تختص بكونها أيام منى وأيام التشريق، ويحرم صومها، فهي إخوةٌ في هذه الأحكام، فما الذي يُخرج الذبح من ذلك؟!".

والحاصل أن القول الراجح في أيام الذبح: إنها يوم العيد وثلاثة أيام بعده، معنى ذلك: أنه ينتهي وقت الذبح بغروب شمس اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة.

وكره بعض الفقهاء الذبح ليلًا في ليالي التشريق، هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة: أنه يُكره الذبح ليلًا؛ لحديثٍ قد رُوي في ذلك؛ ولأن النصوص الواردة إنما قد جاءت بلفظ "اليوم": وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [الحج:28]، واليومُ إذا أُطلق هو خاصٌّ بالنهار ولا يشمل الليل: سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [الحاقة:7].

ولكن الصحيح من أقوال العلماء: أن الذبح في ليالي التشريق لا يُكره، وهو قول جماهير الفقهاء؛ لعدم الدليل الدال على الكراهة، وأما ما ذُكر من الحديث فهو ضعيفٌ لا يصح ولا يثبت، قد عزاه الهيثمي للطبراني في "الكبير" وقال: "فيه راو متروك".

وأما ما قيل من أن النصوص قد جاء فيها لفظ "اليوم"، فنقول: المراد باليوم في النصوص الواردة "الليل والنهار" يعني: ما يشمل الليل والنهار، في قوله: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [الحج:28] يشمل الليل والنهار؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: أيام التشريقِ أيامُ أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله [20]، ومعلومٌ أن الأكل في أيام التشريق لا يختص بالنهار، وإنما يشمل النهار والليل، فدلَّ ذلك على أن المقصود من النصوص في التعبير بلفظ "اليوم" النهار والليل، هو يشمل النهار والليل.

وبهذا نعرف أنه لا يُكره الذبح في ليالي التشريق على الصحيح من قولي العلماء.

تعيين الهدي والأضحية

ومن أحكام الهدي والأضحية: أنهما يتعيَّنان بالقول، يعني يقول: هذا هديٌ، أو يقول: هذه أضحيةٌ، إذا قال: هذا هديٌ أو هذه أضحيةٌ؛ تَعَيَّنَا، وإذا تعيَّنا فلا يجوز بيعهما ولا هِبَتُهما، ويترتَّب على هذا التعيين أحكام شرعية.

فالتعيين إذًا بأن يقول: هذه أضحيةٌ أو هذا هديٌ، قاصدًا بذلك إنشاء تعيينها، أما لو قصد الإخبار عما في نِيَّته في المستقبل عما سيصرفها إليه في المستقبل؛ فإنها لا تتعيَّن بذلك؛ لأن هذا إخبارٌ عما في نِيَّته أن يفعل وليس إنشاءً في التعيين؛ ولهذا لو أنه كان مثلًا في شهر محرم قال: اشتريت هذه الشاة لأضحي بها، هل تتعين بهذا القول؟ لا تتعين؛ لأن هذا إخبارٌ، لكن لو أنه عيَّنها قال: هذه أضحيةٌ، أو هذا هديٌ؛ فإنه يتعيَّن بذلك.

ويتعيَّن الهدي كذلك بالإشعار والتقليد، وقد ذكر الله تعالى الإشعار والتقليد في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ [المائدة:2]، والإشعار معناه: أن يشُقَّ جانب سَنَامِه الأيمن بسكين حتى يسيل منه الدم، فمن يراه يعرف أنه هديٌ فلا يتعرَّض له أحد.

وقد كان الناس الجاهلية يُعظِّمون الشعائر والقلائد، وأتى الإسلام وأقرَّهم على ذلك، وأمر الله تعالى بتعظيمها وعدم استحلالها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ. والقلائد: من التقليد، وهو أن يُعلِّق نعالًا أو قِطَعَ قِرْبةٍ ونحوها على البهيمة فيُعرف أنها مُهداة للحرم فلا يتعرَّض لها أحد. فإذًا الهدي يتعيَّن بالإشعار وبالتقليد، ويتعيَّن الهدي والأضحية بأن يقول: هذا هديٌ أو: هذه أضحيةٌ، قاصدًا بذلك إنشاء التعيين لا الخبر.

هل يتعيَّن الهدي والأضحية بالنِّية حال الشراء؟ يعني: لو ذهبت إلى السوق واشتريت خروفًا تنوي أنه أضحية، هل يتعيَّن بهذه النية أو لا يتعيَّن؟

هذا محل خلاف بين العلماء؛ فمِن العلماء مَن قال: إنه يتعيَّن. وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد، وهو اختيار أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

والقول الثاني: إن الهدي والأضحية لا يتعيَّنان بالنية حال الشراء، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة؛ قياسًا على العتق والوقف والصدقة.

قياسًا على العتق! كيف هذا؟! لو اشترى عبدًا بنية أن يعتقه: هل يلزمه عتقه؟ لا يلزمه. لو اشترى بيتًا لأجل أن يُوقفه: هل يلزمه وقفه؟ لا يلزمه. لو وضع في جيبه دراهم بنية أن يتصدق بها: هل يلزمه إنفاذ الصدقة؟ لا يلزمه. فكذلك أيضًا هنا: لو اشترى شاةً بنية أنها أضحية فإنها لا تتعين ولا يلزم أن تكون أضحية. وهذا القول الأخير هو الأقرب والله أعلم: أن الأضحية لا تتعيَّن بالنية حال الشراء.

ما الذي يترتب على التعيين إذا عيَّن الأضحية أو الهدي إذا قال: هذه أضحيةٌ أو هذا هديٌ؟

يترتب على ذلك أمور:

الأمر الأول: أنه لا يجوز نقل المِلك فيها، لا يجوز بيعها، فلو عيَّنت أضحيةً قلت: هذه أضحيةٌ أو هذا هديٌ؛ لا يجوز أن تبيعه، بل تعيَّن أن تكون أضحية أو أن يكون هديًا، ولا يجوز هِبَته، ولا يجوز استبداله إلا بخيرٍ منه، وأيضًا لا يجوز أن يتصرَّف فيها تصرُّفًا مطلقًا، لا يستعملها في حرثٍ، ولا يركبها دون حاجة، ولا يشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها، هذا مما يترتب على التعيين. وأيضًا لا يُعطي الجزار أجرته منها، لا من اللحم ولا من الجلد؛ لأنها قد تعيَّنت وخرجت من مِلكه لله ، فلا يُعطي الجزار من لحمها أجرةً على الذبح، لكن لو أعطاه على أنه فقيرٌ صدقةً فلا بأس، لكن لا يُعطيه من لحمها أو جلدها أجرةً على الذبح، وقد جاء في الصحيحين: أن النبي أمر عليًّا ألا يُعطي الجزار شيئًا، وقال: نحن نُعطيه من عندنا[21].

وكذلك أيضًا يترتب على التعيين أنه لا يجوز أن يبيع منها شيئًا، وبهذا نعرف خطأ الذين يذبحون الهدي ثم يبيعون بعض لحمه، هذا لا يجوز، لا يجوز أن يُباع شيءٌ من الهدي ولا من الأضحية؛ لأنهما قد تعيَّنا لله ، ولا يبيع جلدها بل هي قد تعيَّنت لله تعالى بجميع أجزائها، وما تعيَّن لله تعالى لا يجوز أخذ العوض عليه.

حكم الأكل من الهدي والأضحية

والسنة أن يأكل من الهدي والأضحية وأن يتصدق، وقال بعض الفقهاء: يأكل ثُلُثًا، ويُهدي ثُلُثًا، ويتصدق بثُلُثٍ. ولكن هذا ليس عليه دليل ظاهر، وظاهر القرآن أنه يُقسِّمها قسمين: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]، فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36]، فيأكل ويتصدَّق، هذا هو الذي وردت به النصوص: أن يأكل وأن يتصدق.

والسنة الأكل، وقد قال الظاهرية بوجوب الأكل، ولكن الصحيح ما عليه جماهير العلماء أن الأكل مستحبٌّ وليس واجبًا.

فإذًا السنة أن يأكل من الهدي والأضحية وأن يتصدق، ولنا أُسوة في النبي ؛ فإنه حين نحر مائةً من البُدْن أمر بأن يُؤخذ من كل بَدَنة بضعة لحم، فجُمعت في قِدر فأكل من لحمها وشرب من مرقها[22].

فإذًا الأكل من الأضحية أو من الهدي سنة، والتصدُّق كذلك سنة، فيقسمها قسمين، يأكل قسمًا ويتصدق بقسم: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]، فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36].

حكم الأخذ من الشعر والأظفار لمن أراد أن يضحي

بقيت معنا مسألة لعلنا نرجئها بعد الأذان. إذًا لعلنا نكمل هذه المسألة مما يتعلق بالأضحية من أحكام: أن من أراد أن يُضحِّي ودخل عشر ذي الحجة فلا يجوز أن يأخذ من شعره ولا من أظفاره ولا من بشرته شيئًا؛ ويدل لذلك حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي قال: إذا دخل عشر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يُضحِّي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئًا[23]، وفي رواية أخرى عند مسلم: ولا من بشرته شيئًا. أخرجه مسلم في "صحيحه"[24]، وظاهر النهي أنه يقتضي التحريم.

واختلف العلماء في الحكمة من النهي للمضحِّي عن أن يأخذ شيئًا من شعره أو من أظفاره أو من بشرته، أقول: اختلف العلماء في الحكمة من النهي عن ذلك، فقيل: الحكمة في أن يبقى كاملَ الأجزاء؛ ليُعتَق من النار، لما روي أن الله تعالى يعتق بكل عضو من الأضحية عضوًا من المضحِّي، ولكن الحديث المروي في ذلك قال عنه ابن الصلاح: إنه غير معروف، ولم يجد له سندًا يثبُت به.

ثم أيضًا يَرِد عليه الحديث المروي في الصحيحين: أن النبي قال: أيما رجلٍ أعتق امرأً مسلمًا استنقذ الله بكل عضو منه عضوًا من النار[25]، ومعلومٌ أن من نوى العتق وأراد أن يعتق رجلًا مسلمًا فإنه لم يُنْهَ عن أن يأخذ شيئًا من شعره ولا من أظفاره، إذًا هذا القول محل نظر.

القول الثاني: إن الحكمة في النهي عن أن يأخذ مَن أراد أن يُضحِّي من شعره أو من أظفاره شيئًا هي أن يتشبَّه بالمحرِم، ولكن أيضًا هذا محل نظر؛ إذ إن بينهما فرقًا عظيمًا، بين من أراد أن يُضحِّي وبين المحرِم فرقٌ عظيمٌ، وهو مخالف له في أكثر الأحكام، فكيف يُقاس عليه؟! هذا قياسٌ لا يستقيم.

القول الثالث -واختاره ابن القيم رحمه الله- ولعله الأقرب: إن الحكمة هي توفير الشعر والظُّفر ليأخذه مع الأضحية، الحكمة هي توفير الشعر والظفر ليأخذه مع الأضحية، فيكون ذلك من تمام الأضحية عند الله تعالى، وكمال التعبُّد بها لله تعالى، كما أنه يُشرع عند الذبح عن الغلام عقيقة، وأن يُحلَق شعره بعد الذبح، بعدما يذبح العقيقة عن الغلام يُشرع أن يحلق شعره؛ ليكون ذلك من تمام العقيقة، هكذا أيضًا الأضحية يُشرع لمن أراد أن يُضحِّي ألا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئًا حتى يأخذها حين ذبح الأضحية أو بعد ذبح الأضحية، فيكون ذلك من تمام ذبح الأضحية. هذا هو أقرب ما قيل في الحكمة من هذا، والله أعلم.

بقى أن يقال -وهي آخر مسألة نتكلم عنها-: هل هذا الحكم يشمل المضحِّي والمضحَّى عنه، أم أنه خاصٌّ بالمضحي؟

هذا محل خلاف بين العلماء، والصحيح عند كثير من المحققين من أهل العلم: أن هذا الحكم خاص بالمضحِّي ولا يشمل المضحَّى عنه؛ لأن النبي قال: وأراد أحدكم أن يُضحِّي[26]، فهذا الحكم إذًا خاصٌّ بمن أراد أن يُضحِّي، وهذا هو اختيار شيخنا عبدالعزيز ابن باز رحمه الله.

فإذًا ربُّ البيت مثلًا إذا أراد أن يُضحِّي وبقية أفراد البيت لم يُرِد أحدٌ منهم أن يُضحِّي، وإنما سيُضحي عنهم ربُّ الأسرة، فحينئذ الذي يختص بهذا الحكم هو ربُّ البيت فقط، وأما بقية أفراد الأسرة لا يشملهم هذا الحكم، فلهم أن يأخذوا من شعورهم ومن أظفارهم، والحاصل أن هذا الحكم خاصٌّ لمن أراد أن يضحي.

أسأل الله تعالى أن يُوفِّقنا لما يحب ويرضى من صالح القول والعمل، وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأن يتقبل من حجاج بيته الحرام حجهم، وأن يُيسر لهم أمورهم، وأن يُوفقنا لتعظيم شرعه وحرماته.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقدم: جزى الله فضيلة الشيخ خير الجزاء، وجعل ما سمعناه في موازين حسناته يوم أن يلقاه.

الأسئلة

السؤال: وردت بعض الأسئلة، فضيلة الشيخ، هذا سائل يقول: أريد تفسيرًا لقول الله جل وعلا: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج:34]، وهل المَنْسَك لكل أُمَّةٍ المذكور في الآية الكريمة يدل على مَنْسَكِ اليهود والنصارى في السابق فقط، على أساس أن مَنْسَكهم الآن على باطل؟

الشيخ: نعم، يقول الله : وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا [الحج:34]، أي: لكل أُمَّة من الأمم، من اليهود والنصارى وغيرهم من الأمم، جَعَلْنَا مَنْسَكًا يعني: دمًا يُهريقونه، فهذا يدل على أن التقرُّب إلى الله بإراقة الدم موجودٌ عند جميع الأمم، كما أن الصيام مثلًا موجودٌ عند جميع الأمم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، وقد قيل: إنه كتب على جميع الأمم من وقت نوح عليه الصلاة والسلام إلى هذه الأمة.

هكذا أيضًا إراقة الدم تقرُّبًا إلى الله تعالى موجود عند جميع الأمم، ولكن معلومٌ أن اليهود والنصارى حرَّفوا دينهم وبدَّلوا وغيَّروا كما ذكر الله تعالى ذلك عنهم، ولكن لا يزال أيضًا التقرُّب إلى الله تعالى بالدماء موجودٌ خاصةً عند اليهود؛ ولهذا نجد أن اليهود يحرصون على التذكية، وأن تكون الذبيحة مُذَكَّاة بسكين ونحوها؛ ولهذا إذا ذهب الإنسان في طائرة ونحوها ولم يجد أكلًا أو شكَّ في الطعام الموجود أو اللحوم الموجودة هل هي ذُبحت على الطريقة الشرعية أم لا؟ فليطلب طعام يهوديٍّ؛ لأنهم يحرصون على أن يكون مُذكًّى تذكيةً شرعية، فطعام اليهود هم يحرصون على هذا ويتفقون مع المسلمين في هذا، وهم أشد من النصارى؛ لأن النصارى عندهم تساهلٌ في كثير من أمورهم.

وإن كانت أديان اليهود والنصارى وجميع الأديان غير دين الإسلام منسوخة، جميعها منسوخة؛ لقول الله : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85] ويقول عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده، لا يسمع بي يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ ثم لا يؤمن بي إلا كان من أصحاب النار[27]، لكن هذا يذكره الله تعالى أنه موجودٌ في الأمم السابقة، هذا التقرُّب إلى الله بإراقة الدم أمرٌ موجود لدى جميع الأمم.

السؤال: جزاكم الله خيرًا، وهذا سائل يقول: قلت في محاضرتك بأن على المسلم أن يُضحِّي في بلده، هل معنى ذلك: أن من وكَّل أحدًا يذبح عنه أضحيته خارج البلد أن هذه الأضحية لا تُجزئ؟

الشيخ: هي مجزئة، لكن كلامنا في الأفضل، الأفضل: هو أن تُقام هذه الشعيرة في البلد الذي فيه الإنسان؛ لأجل أن يذبحها بنفسه، أو يشهد الذبح على الأقل؛ لأن المقصود منها ليس اللحم والدم، ولكن المقصود منها تقوى القلوب: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، وعندما يُوكِّل الإنسان من يذبح عنه أضحيةً خارج البلاد لا يتحقَّق هذا المعنى، لكن ليس معنى هذا أنها لا تُجزئ، هي مجزئة، لكن الكلام في الأفضل.

السؤال: ويقول أيضًا: هل هناك فرقٌ بين ذبح الأضحية في أول أيام النحر وفي ذبحها آخر أيام التشريق من حيث الأفضلية؟

الشيخ: نعم، هناك فرق، ذبحها يوم العيد أفضل؛ لأن يوم العيد يدخل في عشر ذي الحجة، وعشر ذي الحجة العمل الصالح فيها أجره مضاعف، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي أخرجه البخاري في "صحيحه": ما من أيامٍ العمل فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر. قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيءٍ[28].

ومعلومٌ أن التقرُّب إلى الله تعالى بالذبح من أفضل العبادات، بل قلنا: إنه أفضل العبادات المالية، فينبغي أن يكون هذا الذبح وهذا النحر في العشر من عشر ذي الحجة، وبناءً على ذلك: فالذبح يوم العيد أفضل من الذبح في أيام التشريق بعده.

السؤال: وهذا سائل يقول: ما الأفضل في الذبح؛ أن يكون في البيت، أو في أماكن الذبح كالمسالخ والمطابخ؟

الشيخ: الذي ورد في هذا للإمام خاصة أنه يذبح في مصلَّى العيد، للإمام خاصةً؛ من له السلطة الأعلى في الدولة، أما مَن عداه فلم يَرِد في ذلك شيءٌ، الأمر فيه سعة، فتختار ما هو الأيسر والأرفق بك، ولم يَرِد في هذا شيءٌ يدل على أفضلية هذا أو هذا، إنما ورد هذا في حق الإمام خاصة.

السؤال: وهذا سؤالٌ ورد إلينا على (إيميل) البث الإسلامي لأنه تُعرض هذه المحاضرة على البث الإسلامي في الإنترنت، جاء سؤالٌ من فرنسا يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فضيلة الشيخ، عندنا في فرنسا وفي أوربا عمومًا لا تجد الخروف الذي عنده القرون؛ لأنهم يقطعونها ويكوونها في صغره، فهل يُجزئ في الأضحية والعقيقة أم لا؟

الشيخ: نعم، هذا فيه تفصيل: إن كان هذا الخروف ليس له قرونٌ بأصل الخِلقة فهذا يُجزئ من غير كراهة، أما إذا كان له قرونٌ لكنها قد قُصَّت فهذا هو الأعضب. وقد ذكرنا في المحاضرة أن العَضْباء إذا كان العَضَبُ النصف فأكثر فإنها لا تُجزئ؛ فإذا كان مقطوعَ كامل القرن فإن هذا لا يُجزئ، وهكذا لو كان مقطوع كامل الأُذُن أو أكثر من النصف عمومًا، ورجحنا أيضًا أنه حتى لو كان النصف لا يُجزئ، أما إذا كان المقطوع أقلَّ من النصف فإنه يُجزئ مع الكراهة.

وقول الأخ السائل: إنه لا يجد؛ هذا غير صحيح، المعروف أن هذا موجود، والأغنام التي ليس فيها هذا العيب موجودةٌ بكثرة في جميع البلدان، لكن ربما أشكل على الأخ، يظن أنه لا بد في الأضحية أن يكون له قرون، هذا ليس بصحيح، ربما كثيرٌ من الأغنام ليس لها قرونٌ أصلًا، فلا يلزم أن يكون الخروف أقرن، ولكن نقول: لو كان له قرنان فهنا عليك أن تتنبَّه، فلا يكون القرنان قد قُصَّا أو ذهب أكثرهما، أما إذا لم يكن له قرنان بأصل الخِلقة فإن هذا مُجزئٌ من غير كراهة.

السؤال: وهذا سائل يقول: أبي لا يريد أن يُضحِّي هذا العام، هل يجوز لي أن أُضحِّي عنه من دون أن أعلمه؟

الشيخ: نعم، أولًا إذا كان أبوك قادرًا فينبغي أن تنصحه، وأن تُبيِّن له؛ لأن بعض العامة يستهين بالأضحية، وكما ذكرنا هي سنة أبينا إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهي من شعائر الله، وهي أفضل العبادات المالية، فينبغي لك أن تُنبِّهه على ذلك إذا كان قادرًا، وبكل حال هي ليست واجبة، وإذا لم يتيسر أن يذبح أبوك وذبحت عنه كان ذلك حسنًا بل إن هذا من البِرِّ بوالدك، ولا يُشترط أن تُعلمه بهذا، حتى لو ذبحت عنه من غير أن تُعلمه فيكون ذلك حسنًا، ولك أن تذبح عن نفسك وتُشرِك معك والديك، نحن قلنا: إن الاشتراك في الثواب لا حَدَّ له، لك أن تُشرِك من شئت من المسلمين في الثواب.

السؤال: وهذا سؤال آخر يقول: نفع الله بك، هل آل الرجل يشمل من استقلَّ بمسكنٍ ومصرفٍ خاصٍّ؟ ولماذا العبرة بالاستقلال دون غيره؟

الشيخ: نعم، المعروف من هدي الصحابة أن الأضحية كانت عن الرجل وأهل بيته، فيذبح شاة واحدة عن الرجل وعن أهل بيته، وهو خاصٌّ بالبيت، وحينئذٍ إذا استقل الرجل ببيتٍ وسكنٍ مستقلٍّ فإنه تتأكَّد الأضحية في حقه، لكن حتى لو كان في البيت نفسه فيُستحب له أن يُضحِّي ولو كان ربُّ البيت يُضحِّي؛ لأنها -كما قلنا- من العبادات المالية التي أجرها وثوابها عظيم وهي عمل صالح. وأما الصحابة فمعلومٌ ما كانوا عليه من الفقر وشَظَفِ العيش؛ ولذلك إذا قدر الإنسان واستطاع أن يُضحِّي عن نفسه فإن السنة أن يُضحِّي، وهو عمل صالح ومأجورٌ ومثابٌ عليه إن شاء الله ولو كان من في البيت يُضحِّي، ولا مانع أن يكون في البيت أكثر من أضحية، لا مانع أن يكون أضحيتان أو ثلاث أو أربع، هذه كلها أعمالٌ صالحةٌ، تقرُّبٌ إلى الله بإراقة الدم، من أفضل الأعمال الصالحة، لا مانع من هذا، لكن من كان مستقلًّا في بيتٍ فإن أضحيته تتأكَّد في حقه أكثر من الموجود في البيت ويُضحِّي عنه والده أو ربُّ الأسرة عمومًا.

السؤال: وهذا سائل يقول: أحسن الله إليك، اشتريت أضحيةً، ولكن فيها ورمة حول العنق، ولكن صاحبها يقول: إن الورم في طريقه للزوال؟

الشيخ: هذه التي أشار لها الأخ السائل والتي تُسمى بالطلوع تكون في بعض الأغنام، هذه لا تمنع من الإجزاء، ولكن الأفضل السلامة منها، "كلما كانت البهيمة أكمل خِلقةً وأسلمَ من العيوب كلما كانت أفضل" هذه قاعدة؛ ولهذا نحن قلنا: حتى ما كان أجمل منظرًا فهو أفضل؛ ولذلك نقول: الأفضل أن تُضحِّي بغيرها، لكن لو ضحيت بها كان ذلك مجزئًا ولا بأس.

السؤال: وهذا سائل يقول: هل يجوز ذبح أكثر من أضحية في العام الواحد؟

الشيخ: نعم، بل إن هذا مندوبٌ إليه لمن قدر، من قدر وأراد أن يُضحِّي بأكثر من أضحية كان هذا حسنًا، وله أسوة في النبي ، وقد أهدى عليه الصلاة والسلام مائة من البُدْن مع أنه يكفيه واحدة بل يكفيه سُبع بَدَنَة، ومع ذلك أهدى مائةً من البُدْن تعظيمًا لشعائر الله ، وضحَّى عليه الصلاة والسلام بكبشين أملحين أقرنين، فهو عليه الصلاة والسلام كان كثير النحر لربِّه، لو أراد الإنسان أن يُضحِّي بأكثر من أضحية كان ذلك حسنًا.

السؤال: وهذا سائل يقول: هل يجوز توكيل الجمعيات الخيرية بذبح الأضحية من الداخل وتوزيعها على الفقراء في الداخل؟

الشيخ: نعم، لا بأس بهذا بشرط أن يكون القائمون عليها ثقات ويتحرون توفر الشروط في الأضحية، الشروط التي ذكرناها في هذه المحاضرة، وأن تكون في الوقت المحدد شرعًا، فإذا تحقَّقت هذه الشروط فلا بأس بتوكيلهم.

السؤال: وهذا سائل يقول: هل يجوز على من حج مفرِدًا أن يُضحِّي؟

الشيخ: من حج مفرِدًا معلومٌ أنه لا هدي عليه، الهدي إنما هو على المتمتع والقارن، ولكن الأضحية تبقى سُنِّيتُها في حق الحاج حتى لو حج متمتعًا أو قارنًا أو مفرِدًا، فالسنة له أن يُضحِّي، فوجود الهدي لا يمنع من سُنِّية الأضحية؛ ولهذا فإنه إذا أراد يذبح هديًا ويذبح أضحية، ومعلومٌ أنه ليس عليه هدي، وحينئذٍ له أن يُضحِّي أو يُوكِّل من يذبح الأضحية عنه في بلده، يعني مثلًا: لو كان من الرياض وحجَّ يُوكِّل من يذبح عنه أضحيةً في الرياض ويحج، ثم إذا كان مفرِدًا لا هدي عليه، فإذا كان قارنًا أو متمتعًا فإنه يذبح هديًا في الحرم.

السؤال: وهذا سائل يقول: ما حكم الدم الذي يكون بعد الأضحية؟ سواءٌ أصاب الثياب أم كان مع اللحم في حين الطبخ؟

الشيخ: أما ما كان دمًا مسفوحًا: وهو الدم الذي يخرج وقت الذبح من الرقبة، فهذا دمٌ نجسٌ كما قال الله تعالى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ [الأنعام:145].

وأما الدم الذي يبقى في العروق بعد الذبح فإن هذا طاهرٌ ولا بأس به، وقد أخبرت عائشة رضي الله عنها بأن الدم يكون على البُرْمة فيطبخونه في القِدر ويأكلونه على عهد النبي . وفي هذا دلالة على أنه ليس بنجس؛ إذ لو كان نجسًا لما جاز طبخه وأكله، فدل ذلك على أن الدم الذي يكون في العروق ليس بنجس، فهو طاهر من حيث الطهارة، ويجوز أكله أيضًا مع اللحم، لو افترضنا مثلًا أنه لم ينضج هذا اللحم فأكله إنسانٌ فلا حرج ما دام دمًا في العروق، إذًا الدم النجس هو الدم المسفوح الذي يخرج من الرقبة عند الذبح.

السؤال: السائل الذي من فرنسا يقول: فضيلة الشيخ ما تكاد ترى خروفًا بالقرون في فرنسا، فربما هناك قانونٌ يقضي بقطعها وحرقها عند ولادة الخروف، فهل يُجزئ؟

الشيخ: نقول أولًا: لا يُشترط لمن أراد أن يُضحي أن يشتري خروفًا ذا قرون، هناك خرفانٌ ليس لها قرون، بإمكان الأخ السائل أن يختار خروفًا أو شاةً ليس لها قرون، أما إذا كان له قرونٌ فلا بد من التقيُّد بهذا القيد بألا يكون قد قُطع قرنه، أما مقطوع القرن فإنه لا يُجزئ، وحينئذ إذا كان الواقع كما ذكر الأخ السائل من أن ذات القرون تُستأصل قرونها، فيبحث عن الأغنام من غيرها، يبحث مثلًا عن الشِّيَاه فإنها ليست بذات قرون، وكذلك الإبل والبقر، فيمكن أن يجد من بهيمة الأنعام ما ليس له قرونٌ ويُضحِّي به، إذا كان جميع الضأن عندهم من ذات القرون فيبحث عما ليس له قرونٌ باعتبار أن ذوات القرون عندهم تُستأصل قرونها، نقول: هذه التي قد استُأصلت جميع قرونها لا تُجزئ في الأضحية، وحينئذٍ عليه أن يبحث عن غيرها من بهيمة الأنعام ممن ليس له قرون.

السؤال: وهذا سائل يقول: هل يجوز أن أُهدي من الأضحية للأقارب الذين ضحَّوا عن أنفسهم؟

الشيخ: نعم، الأمر في هذا واسع، نحن ذكرنا كلام أهل العلم في ذلك، وأن منهم من قال: يُهدي ثُلُثًا، ويأكل ثُلُثًا، ويتصدق بثُلُث، وذكرنا أن الأقرب أنه يأكل ويتصدق، والهدية بابها واسع فلا بأس أن يُهدي أقاربه وجيرانه من أُضحيته؛ هذا حسنٌ، والأمر في هذا واسع ويرجع لما يراه المُضحِّي من المصلحة.

السؤال: وهذا سائل يقول: هل يجوز كسر عظام العقيقة والأضحية؟

الشيخ: أما الأضحية فلا إشكال في كسر عظامها، لم يَرِد فيها شيء. لكن الذي ورد هو في العقيقة خاصةً، قد رُوي عن عائشة رضي الله عنها أن العقيقة لا تُكسر عظامها تفاؤلًا بسلامة المولود؛ فإذا ذبحت عقيقة عن الغلام فإنك تفصل اللحم عن العظم ولا تكسر العظم؛ تفاؤلًا بسلامة المولود، وهذا مرويٌّ عن عائشة رضي الله عنها ونصَّ عليه الفقهاء، هذا في العقيقة خاصة، وهذا ليس بواجب، هذا أمرٌ استحسنه بعض العلماء وليس واجبًا، يعني: حتى لو كسر عظمًا في العقيقة لا شيء عليه، لكن نقول: هذا استحسنه بعض الفقهاء، واستدلوا بهذا الأثر المروي عن عائشة رضي الله عنها، وهذا خاصٌّ بالعقيقة، ولا يشمل الهدي ولا الأضحية.

السؤال: هذا سائل يقول: حاجٌّ يُريد الحج، وبعد ذهابه إلى الحج يريد أن يُضحِّي، هل يجوز لهذا الحاج أن يُضحِّي عنه وعن أهل بيته؟

الشيخ: نعم، سبق سؤالٌ قريبٌ من هذا، قلنا: نعم، إن الحاج يُهدي ويُضحِّي، السُّنة في حقه أن يُهدي ويُضحِّي، يُهدي إذا كان قارنًا أو متمتعًا، ويُضحِّي على كل حال، سواءٌ كان قارنًا أو متمتعًا أو مفرِدًا.

السؤال: وهذا سائل يقول: جاء في حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما في حجة النبي أنه قال: لسنا ننوي إلا الحج، ولسنا نعرف العمرة[29] ما معنى ذلك؟ جزاكم الله خيرًا.

الشيخ: معنى ذلك: أنهم قبل حجة الوداع كان المستقر عندهم والمعتَقد الذي كان موجودًا عند العرب: وهو أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وقد أراد النبي أن يُبطل هذا المعتقَد الموجود عندهم، فأمرهم أولًا أمرَ إرشادٍ، ثم لما دنوا من مكة أكَّد عليهم، ثم لما فرغوا من السعي عند المروة أمرهم أمرَ إلزامٍ بأن من لم يسُق الهدي فإنه يفسخ الحج إلى عمرة، يعني: يكون متمتعًا؛ ولهذا فإن القول الصحيح في هذه المسألة هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن التمتع كان واجبًا في حقِّ الصحابة خاصة؛ ولهذا قال أبو ذَرٍّ : "كانت لنا خاصة"، أما في حق غيرهم فمُخيَّر بين الأنساك الثلاثة، لكن في حقِّ الصحابة لإبطال هذه العقيدة وهذا المعتقَد الذي كان موجودًا عندهم؛ أمرهم النبي أمرَ إلزامٍ بأنَّ مَن لم يسُق الهدي يفسخ الحج إلى عمرةٍ ويكون متمتعًا، فقالوا: يا رسول الله، كيف ننطلق إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيًّا؟ فقال النبي : افعلوا ما آمركم به[30].

معنى هذا: أن المتمتع إذا تحلَّل فله أن يُجامع أهله، هم تعجبوا كيف يكون هذا؟! لأن عندهم عقيدة أن هذا لا يكون، وأن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فأراد النبي بهذا الأمر إبطال هذه العقيدة؛ ولذلك أمرهم، وقال: افعلوا ما آمركم به قالوا: يا رسول الله، أي الحِل؟ قال: الحِلُّ كله[31]، معنى ذلك: أنك إذا أتيت بالعمرة متمتعًا بها تحلَّلت من كل شيءٍ، وجاز للمتمتع بعد التحلُّل من العمرة حتى أن يجامع زوجته؛ ولذلك قال : الحِلُّ كله.
فهذا هو الغرض من هذا، فهي واجبةٌ في حق الصحابة فقط لأجل إبطال هذا المعتقَد، أما في حق غيرهم فهم مخيرون بين الأنساك الثلاثة: التمتع والإفراد والقِران، وأفضلها المتمتع في حقِّ من لم يسُق الهدي، ويتعين القِران في حق من ساق الهدي.

السؤال: وهذا سائل يقول: من اعتمر في أشهر الحج، ثم رجع إلى أهله، ثم أراد الحج، فهل الأفضل له القِران -لأن فيه الهدي- أم الإفراد؟ وهل يُشرع الهدي للمفرد؟

الشيخ: الأفضل له القِران؛ لأنه إذا أتى بالقِران أتى بعمرةٍ وحجٍّ، وأما الإفراد فإنه يأتي بالحج وحده؛ ولأن القِران فيه هديٌ والإفراد ليس فيه هديٌ، فالقِران أفضل، وما دام أنه قد أتى بعمرةٍ في أشهر الحج ورجع لأهله فقد انقطع تمتعه، وحينئذ عندما يريد الذهاب فهو مخيَّرٌ بين الأنساك الثلاثة، وحيث إن الأخ سأل عن المفاضلة بين القران والإفراد، في هذه الحال نقول: القِران أفضل؛ لأنه يأتي فيه بعمرة وحج، ويُثاب عليه ثواب عمرةٍ وحجٍّ، بينما الإفراد ثواب الحج فقط، والقِران فيه هديٌ والإفراد ليس له هديٌ؛ فكان القِران أفضل من الإفراد.

السؤال: وهذا سائل يقول: ما الحكم فيمن لم يذكر اسم الله على الأضحية؟

الشيخ: إذا كان متعمدًا فإنها لا تصح ولا تُجزئ: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121]، أما إذا كان ناسيًا فالأضحية مجزئة.

ولكن اختلف العلماء: هل يحل أكل لحمها أو لا يحل؟

فمن العلماء من قال: إنه يُباح أكل لحمها وهو قول الجمهور، وقال بعضهم: إنه لا يُباح أكل لحمها حتى لو تركها ناسيًا، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية واختاره الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله.
والخلاف في هذه المسألة خلافٌ قويٌّ؛ ولهذا ينبغي أن يحرص المضحِّي على ذلك: أن يستحضر التسمية، وكذلك التكبير، وكذلك الدعاء بأن يتقبَّل الله منه، يقول: "بسم الله، والله أكبر، اللهم تقبَّل منه"، هذا ينبغي أن يحرص عليه المسلم؛ لأنه لو نسي التسمية فعند بعض أهل العلم لا يحل له أن يأكل من لحمها لأدلةٍ كثيرةٍ لا يتسع المقام لسردها.

وأُحيل الأخ السائل على رسالة للشيخ محمد العثيمين رحمه الله "رسالة في الأضحية"، ذكرَ أحكام الهدي والأضحية مفصَّلة، وتكلم عن هذه المسألة بالتفصيل، ورجح القول بأنه لا تحِلُّ هذه الذبيحة ولو ترك التسمية ناسيًا؛ لأن التسمية أمرٌ مهم، قد أمر الله تعالى بها، ونهى عن الأكل مما لم يُذكر اسم الله عليه: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121].

السؤال: وهذا سائل أيضًا من فرنسا يقول: قريبًا إن شاء الله ستزداد عندي مولودة، فهل يجوز أن أُعِدَّ وليمة بالخروف الذي سأذبحه وأدعو الناس لتناوله؟

الشيخ: لعله يقصد: الأضحية هل تجزئ عن العقيقة، أم لا؟

ذكر بعضهم أن الأضحية تُجزئ عن العقيقة، وسُئل الإمام أحمد عن ذلك فقال: "أرجو أن تُجزئ الأضحية عن العقيقة"، فنقول: إذا كانت حالة الأخ ميسورة فينبغي أن يُضحِّي أضحية ويعُقَّ عقيقةً أخرى، يعني: لا يجعل الأضحية والعقيقة في شاةٍ واحدة. وإذا كان الأخ فقيرًا أو لا يستطيع أن يُضحِّي وأن يعُقَّ عن ولده؛ فحينئذٍ -على قول بعض العلماء- لا بأس أن يجمع بين الأضحية والعقيقة في شاة واحدة.

المقدم: جزى الله فضيلة الشيخ خير الجزاء، ونفعنا بما قال وسمعنا، وجعل ذلك في ميزان حسناته يوم أن يلقاه؛ إنه جواد كريم.

^1 رواه البخاري: 881، ومسلم: 850.
^2 رواه البخاري: 5558، ومسلم: 1966.
^3, ^16 رواه مسلم: 1967.
^4 رواه أحمد: 25843.
^5 رواه أحمد: 27190.
^6 رواه أحمد: 14837، وأبو داود: 2795.
^7 رواه أبو داود: 2795، وابن ماجه: 3121، وأحمد: 15022.
^8 رواه الترمذي: 1505، وابن ماجه: 3147.
^9, ^29 رواه مسلم: 1218.
^10 رواه أحمد: 18667، وأبو داود: 2802، والترمذي: 1497، والنسائي: 4370، وابن ماجه: 3144.
^11 رواه أبو داود: 2805، والترمذي: 1504، والنسائي4377.
^12 رواه أحمد: 25843، وابن ماجه: 2548.
^13 رواه البخاري: 1713، ومسلم: 1320.
^14, ^15 رواه البخاري: 5564، ومسلم: 1966.
^17 رواه أحمد: 12736، وأبو داود: 2794، وابن ماجه: 3120.
^18 رواه أحمد: 15064، وأبو داود: 2795، وابن ماجه: 3121.
^19 رواه مسلم: 1141.
^20, ^26 سبق تخريجه.
^21 رواه مسلم: 1317.
^22 سبق تخريجه
^23 رواه أبو داود: 2791.
^24 رواه مسلم:1977.
^25 رواه البخاري: 2517، ومسلم: 1509.
^27 رواه مسلم: 153.
^28 رواه البخاري: 969.
^30 رواه أحمد: 14409، وابن ماجه: 2980.
^31 رواه البخاري: 3832، ومسلم: 1240.
مواد ذات صلة
zh