الرئيسية/برامج تلفزيونية/عقود المعاوضات المالية- جامعة الإمام/(10) عقود المعاوضات المالية- تتمة بيع الأصول والثمار ووضع الجوائح
|categories

(10) عقود المعاوضات المالية- تتمة بيع الأصول والثمار ووضع الجوائح

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تتمة بيع الأصول والثمار

هذه هي المحاضرة العاشرة من هذه المادة، مادة عقود المعاوضات المالية، وقد تكلمنا في المحاضرة السابقة عن بيع الأصول والثمار، ولم نستكمل الحديث عن هذا الباب، فلعلنا نستكمل في هذه المحاضرة الحديث عنها، ثم ننتقل منه بعد ذلك إلى باب آخر.

هل صلاح بعض ثمرة الشجرة صلاح لجميعها؟

وصلنا إلى مسألة صلاح بعض ثمرة الشجرة، هل هو صلاح لجميعها أم لا؟

أقول: صلاح بعض الثمر صلاح بعض ثمرة الشجرة، هو في الحقيقة صلاح لجميعها، فيباح بيع جميعها، قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “لا نعلم فيه خلافًا”، وقلنا: إنه لا يجوز بيع الثمر قبل بدو صلاحه، لكن هل معنى ذلك: أنه لا بد من أن يبدو صلاح جميع ثمر الشجرة، أو يكفي أن يبدو الصلاح في بعض الثمر؟ مثلًا شجرة برتقال، أراد صاحبها أن يبيعها، قلنا: لا يجوز البيع حتى يبدو الصلاح، هل لا بد أن يبدو الصلاح في جميع الثمر، في جميع ثمر هذه الشجرة، أو يكفي أن يبدو الصلاح في واحدة، أو اثنتين أو ثلاث ويكفي هذا، ويستدل به على أنه قد بدا الصلاح في ثمر هذه الشجرة عمومًا؟

نقول: لا يُشترط أن يبدو الصلاح في جميع الثمر، وإنما يكفي أن يبدو الصلاح في بعض ثمرة الشجرة، وقد حكاه الموفق رحمه الله اتفاقًا بين أهل العلم.

هل صلاح بعض ثمرة الشجرة صلاح لذلك النوع في البستان؟

هل يكون صلاح بعض ثمرة الشجرة صلاحًا لذلك النوع من البستان، ولذلك النوع في البستان؟ يعني مثلًا في مثالنا السابق هذا رجل عنده برتقال، وعنده أشجار أخرى، فإذا بدا الصلاح في ثمرة شجرة واحدة من أشجار البرتقال، هل يكون ذلك صلاحًا لجميع أشجار البرتقال في بستان هذا الفلاح؟

هذه المسألة محل خلاف بين العلماء، والأظهر -والله أعلم- أنه يكون صلاحًا لجميع ذلك النوع الذي في البستان، وهذا ذهب إليه الشافعي، وهو قول الشافعي، ومحمد بن الحسن من الحنفية، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة، وهذا أيضًا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ وذلك لأن اعتبار الصلاح في الجميع يشق، اعتبار الصلاح في الجميع يشق، ويُؤدي إلى الاشتراك، وإلى اختلاف الأيدي، فوجب أن يتبع ما لم يبدو صلاحه من نوعه لما بدا صلاحه، وقياسًا على الشجرة الواحدة، فكما أن صلاح بعض ثمرة الشجرة صلاح لها باتفاق العلماء، فكذا أيضًا صلاح ثمرة شجرة واحدة يُعتبر صلاحًا لذلك النوع الذي في البستان.

الصور التي يجوز فيها بيع الثمر قبل بدو صلاحه

استثنى الفقهاء صورتين يجوز فيهما بيع الثمر قبل بدو صلاحه، فقلنا: الأصل أنه لا يجوز بيع الثمر قبل بدو صلاحه، لكن الفقهاء استثنوا صورتين يجوز فيهما بيع الثمر قبل بدو صلاحه، وكما يقال: كل قاعدة لها مستثنيات، إذًا نستطيع أن نضع سؤالًا متى يجوز بيع الثمر قبل بدو صلاحه؟ أو نقول مثلًا: ما الصور التي يجوز فيها بيع الثمر قبل بدو صلاحه؟

نقول:

  • الصورة الأولى: إذا بيع الثمر قبل بدو صلاحه بأصوله؛ وذلك بأن يبيع الثمر مع الشجر، فيصح ذلك ويدخل الثمر تبعًا، مثال ذلك رجل عنده مزرعة وفيها نخيل، ثم إنه أراد أن يبيع هذه المزرعة كاملة، وهذا النخل فيه الثمر، لكن لم يبدو صلاحه، يعني لا زال بسرًا، لا زال ثمر النخل بسرًا ولم يبد فيه الصلاح فنقول: لا بأس بأن يبيع مزرعته، وثمر هذا النخل يدخل تبعًا، فلا نقول: إنه لا يجوز البيع في هذه الحال؛ لكون ثمر هذا النخل لم يبد صلاحه، وإنما يجوز بيعه؛ لأنه يدخل تبعًا، وكذا أيضًا لو باع الزرع الأخضر مع أرضه، جاز ذلك، لو باع الزرع الأخضر مع أرضه جاز ذلك، ودخل الزرع الأخضر تبعًا.
    وقد نقل الموفق ابن قدامة رحمه الله الإجماع على هذا، ويدل له من السنة قول النبي : من باع نخلًا بعد أن تُؤبر فثمرتها للذي باعها، إلا أن يشترطه المبتاع [1]، من باع نخلًا بعد أن تُؤبر  يعني بعد أن تُلقح، فثمرتها للذي باعها، إلا أن يشترطه المبتاع يعني: المشتري؛ ولأنه إذا باعها مع الأصل حصلت تبعًا، فلم يضر احتمال الغرر فيها، كما احتملت الجهالة في بيع اللبن في الضرع مع بيع الشاة، وأساسات الحيطان، وعند الفقهاء قاعدة، وهي أنه يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا، فيغتفر في التبع ما لا يغتفر في الشيء المستقل، ويتسامح في التبع ما لا يتسامح في الشيء المستقل، فإذًا إذا بيع الثمر بأصوله فيجوز بيع الثمر قبل بدو صلاحه؛ لأن الثمر حينئذٍ تبع للأصل؛ ويجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالًا.
  • الصورة الثانية: بيع الثمر قبل بدو صلاحه، والزرع قبل اشتداد حبه، بشرط القطع في الحال؛ فيجوز ذلك إذا كان يمكن الانتفاع بهما إذا قطعا، وقد نقل ابن قدامة الإجماع على ذلك، كيف بشرط القطع في الحال؟
    يعني يقول صاحب المزرعة: أنا أبيعك بسر هذا النخل بشرط أن تقطعه في الحال، وتنتفع به مثلًا علفًا لدوابك، أو أبيعك هذا الزرع الأخضر بشرط أنك تحصده الآن، وتعلفه دوابك، هذا لا بأس به، هذا لا بأس، إذا كان من شرط القطع في الحال، لا بأس به؛ لماذا؟ قالوا: لأن المنع من بيع الثمر قبل بدو صلاحه، إنما هو لخوف التلف وحدوث العاهة، وهذا مأمون فيما يقطع في الحال، يعني لماذا نهى الشارع عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه؟ أشرنا في المحاضرة السابقة أن الحكمة من ذلك هي أنه عرضة للعاهات والآفات؛ ولذلك جاء في بعض الروايات ويأمن العاهة [2]؛ لكن إذا اشترط البائع على المشتري القطع في الحال، فقد أمنا من ذلك، يعني أمنا من حدوث العاهة؛ لأنه سوف يقوم ويجذ هذه الثمرة في الحال، وكذلك يحصد هذا الزرع في الحال، فينتفي المعنى الذي لأجله نهى الشارع عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، وعن بيع الحب قبل اشتداده.
    ولكن هنا لا بد أن ينتفع المشتري بهذا الثمر، لا بد أن ينتفع بهذا الثمر الذي قد اشتراه قبل بدو صلاح، بأن يجعله مثلًا علفًا للدواب، ونحو ذلك، أما إذا لم ينتفع به، فإن هذا لا يجوز؛ لأن هذا في الحقيقة إضاعة للمال، وقد نهى النبي
    عن إضاعة المال، ويعني أي إنسان عاقل لا يمكن أن يشتري مثل هذا الثمر أو الزرع إلا وهو ينتفع به، والغالب أنه يشتريه علفًا للبهائم وللدواب، لكن لو قدر أن رجلًا اشتراه ولم ينتفع به، يعني اشتراه هكذا بدون قصد الانتفاع به، فهذا في الحقيقة سفه، وهذا يعتبر نوع من إضاعة المال، وقد نهى النبي عن إضاعة المال، إذًا هاتان صورتان يجوز فيهما بيع الثمر قبل بدو صلاحه.
  • أضاف بعض الفقهاء صورة ثالثة، وهي أن يبيع الثمر قبل بدو صلاحه، أو الزرع الأخضر لمالك الأصل، يعني لمالك الشجر، ومالك الأرض التي فيها ذلك الزرع، لمالك الأصل؛ وذلك كأن يستأجر رجل بستانًا من آخر، ثم يريد المستأجر أن يبيع على المؤجر، الذي هو المالك للأصل يريد أن يبيع عليه الثمرة قبل بدو صلاحه، فأجاز ذلك بعض الفقهاء، وعلّلوا بأنه يجتمع الأصل والثمرة للمشتري، أشبه ما لو اشتراهما معًا؛ ولأنه إذا باعهما لمالك الأصل، فقد حصل التسليم للمشتري على الكمال؛ لكونه مالكًا لأصولها فصح، كبيعها مع أصلها.

ولكن ذهب بعض الفقهاء إلى عدم جواز هذه الصورة، ودخولها في عموم النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه؛ ولأن العلة التي لأجلها نهى النبي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه هي في الحقيقة متحققة في هذه الصورة، وهذا هو الأقرب، فالأقرب عدم استثناء هذه الصورة الثالثة؛ لعموم الدليل، فيكون إذًا الصواب في هذه المسألة أنه لا يستثنى إلا الصورة الأولى والثانية فقط، واللتان حكى الموفق ابن قدامة الإجماع عليهما، أما الصورة الثالثة فيعني ما عللوا به الحقيقة هو تعليل عليل، لا يقف في مقابلة النص؛ ولهذا الصواب عدم استثناء الصورة الثالثة.

وضع الجوائح

ننتقل بعد ذلك إلى مسألة مشهورة عند الفقهاء، وهي مسألة وضع الجوائح، إذا بيعت الثمرة بعد بدو صلاحها، ثم أصيبت بآفة سماوية، لا صنع للآدمي فيها، وهي ما تسمى بالجائحة، وجمعها جوائح، إذا أصيبت بآفة سماوية، لا صنع للآدمي فيها، فأتلفته كالمطر والبرد الشديد والحر الشديد والجراد والآفات الوبائية التي تصيب الثمار عمومًا، فمن الذي يتحمل الخسارة في هذه الحالة؟ هل هو البائع أم المشتري؟

مثال ذلك رجل عنده مزرعة، وفيها نخيل، بعد أن بدا صلاح ثمر هذا النخل، باعه على زيد من الناس بمائة ألف ريال مثلًا، ثم أنه بعد مضي مثلًا أسبوعين أو ثلاثة أو أقل أو أكثر، أصيب هذا الثمر بآفة سماوية، إما بِحر شديد أثر عليه أو بغبار أثر عليه أو ببرد شديد، أو يعني مع أن يعني موسم التمر غالبًا يكون في الحر في بلادنا، وفي البلاد القريبة، لكن يعني لو قدر يعني شيء من هذا، المهم أنه آفة سماوية، غبار أو حر شديد، أو يعني أي آفة سماوية، أو مطر مثلًا، فتلف هذا الثمر، ثمر النخل، من الذي الآن يتحمل الخسارة؟ البائع للنخل الآن قبض مائة ألف ريال، المشتري لا زال الثمر على رؤوسه، فهل نقول: يتحمل الخسارة المشتري؟ أو نقول: يتحمل الخسارة البائع؟

الجواب قد دلت السنة الصحيحة على أن البائع هو الذي يتحمل الخسارة، وليس المشتري، وهذا ما يسميه العلماء بوضع الجوائح، يجب على البائع أن يضع الجائحة، وحينئذٍ فإن للمشتري أن يرجع على البائع، وأن يسترد منه الثمن، يرجع المشتري على البائع، ويسترد منه الثمن، الذي دفعه له، وهذا كما قلنا: هو ما يسميه العلماء بوضع الجوائح.

حكم وضع الجوائح

والصحيح أن وضع الجوائح واجب، ويدل ما جاء في صحيح مسلم، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنّ النبي أمر بوضع الجوائح، وجاء في صحيح مسلم أيضًا عن جابر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : لو بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق [3]، وأيضًا جاء عن أنس أن النبي قال: إذا منع الله الثمرة، فبما تستحل مال أخيك؟ [4]، وفي رواية: إن لم يثمرها الله فبما يستحل أحدكم مال أخيه؟ [5]؛ ففي هذه يعني الروايات في قوله عليه الصلاة والسلام: لا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا [6]، وقوله: بما يستحل أحدكم مال أخيه وما جاء في معناها من الروايات الأخرى، في هذا دليل على وجوب وضع الجوائح، على وجوب وضع الجوائح، وأنه يجب على البائع أن يعيد الثمن للمشتري، فيما لو أصاب ذلك الثمر جائحة، وقد جعل النبي عدم إعادة البائع للثمن في هذه الحال استحلالًا لمال أخيه المسلم بغير حق.

وحينئذٍ هذا يعني لا شك أنه دليل ظاهر يدل على وجوب وضع الجوائح؛ ولأنه لا يقال مثل هذا إلا فيما إذا كان أمرًا لازمًا، وأمرًا واجبًا، وفيه رد على من قال من الفقهاء: إن وضع الجوائح مستحب.

فإذًا نقول: إن ظاهر هذه الروايات يدل على الوجوب؛ لأنه قال: بما يستحل أحدكم مال أخيه؟ لو كان الأمر مبنيًا على الاستحباب لما قال عليه الصلاة والسلام: بما يستحل أحدكم مال أخيه وإنما أتى بعبارة يعني فيها شيء من الإرشاد والتوجيه، ومن غير أن يأتي بهذه العبارة التي فيها يعني شيء من الوعيد، وأن من فعل ذلك ولم يضع الجائحة، فيكون قد استحل مال أخيه بغير حق، إذا كان التلف لبعض الثمرة رجع المشتري على البائع فيما يقابله من الثمن؛ لعموم الحديث، وقد علّل العلماء تضمين البائع جائحة الثمرة؛ بأن قبض الثمرة على رؤوس النخل بالتخلية، هو في الحقيقة قبض غير تام، فهو كما لو لم يقبضها.

حكم التلف إذا كان يسيرًا

طيب، لكن إذا كان التالف يسيرًا لا ينضبط، إذا كان التالف يسيرًا لا ينضبط، فإنه يفوت على المشتري، ولا يكون من مسؤولية البائع، كما لو أكل منه الطير، أو تساقط في الأرض، ونحو ذلك؛ لأن هذا مما جرت به العادة، ولا يسمى جائحة، ولا يمكن الاحتراز منه، وقدر ذلك بعض الفقهاء بما دون الثلث، والأقرب أنه لا يقدر بقدر معين؛ لأن التقدير بابه التوقيف، وإنما المرجع فيه إلى العرف، هذا في ما يتعلق بتلف الثمرة بجائحة سماوية.

حكم تلف الثمرة إذا كان بفعل آدمي

إذا تلفت الثمرة بفعل آدمي، بنحو حريق أو برش مبيدات، أو نحو ذلك، فيخير المشتري في هذه الحال، بين فسخ البيع، ومطالبة البائع بما دفع من الثمن، ويرجع البائع على المتلف، فيطالبه بضمان ما أتلف، وبين إمضاء البيع، ومطالبة المتلف ببدل ما أتلف، إذًا إذا كان التلف بفعل آدمي فإن المشتري مخير بين أن يفسخ البيع، ويطالب البائع بالثمن، والبائع يرجع إلى المتلف، وبين أن يمضي البيع، ويرجع هو مباشرة، يعني يرجع المشتري على المتلف، هو مخير بين هذين الأمرين.

حكم الثمرة إذا لم يجذها المشتري في أوانها فأصابتها جائحة

إذا بلغت الثمرة أوان الجذاذ فلم يجذها المشتري حتى أصابتها جائحة، لا يجب وضع الجائحة في هذه الحال، والذي يتحمل الخسارة في هذه الحال هو المشتري؛ لماذا؟ لأنه في الحقيقة -المشتري- مفرط، مفرط بتأخره عن جذاذ الثمرة في وقت الجذاذ، مع قدرته على ذلك، فكان الضمان عليه، ولو اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، فأمكنه قطعها، فلم يقطعها حتى تلفت، فإنها أيضًا من ضمان المشتري لتفريطه، لكن لو اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، وتلفت قبل إمكان قطعها، فإن الذي يتحمل الخسارة من؟ هو البائع الذي يتحمل الخسارة في هذه الحالة على ما تقدم.

حكم إذا استأجر أرضًا فزرعها فتلف الزرع

طيب نختم بهذه المسألة إذا استأجر أرضًا فزرعها، فتلف الزرع، فلا شيء على المؤجر، قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “لا نعلم فيه خلافًا”؛ لأن المعقود عليه منافع الأرض، ولم يتلف، وإنما تلف مال المستأجر فيها، هذه أبرز المسائل المتعلقة بوضع الجوائح، وتأتي استكمالًا لما تبقى من المسائل والأحكام في بيع الأصول والثمار.

بهذا نكون -أيها الأخوة- قد انتهينا من الكلام عن أحكام ومسائل البيوع، وبعد ذلك بقي معنا في المنهج: الربا والصرف والسلم والإجارة والاستصناع، البيع -إذًا- نكون قد انتهينا من مسائله وأحكامه، بعد ما تكلمنا عن تعريفه وأركانه وشروطه والشروط فيه، والبيوع المنهي عنها، والخيار، وأحكام الخيار والإقالة، وبيع الأصول والثمار، كل هذه تكلمنا عنها.

مقدمة في الربا

ننتقل بعد ذلك إلى باب -حقيقة- هو من أهم الأبواب، وهو باب الربا والصرف، ولعلنا فيما تبقى من وقت هذه المحاضرة نأخذ مقدمة في الربا، وسوف إن شاء الله نستكمل الحديث عن مسائل وأحكام الربا في محاضرة قادمة، لكن فيما تبقى من وقت هذه المحاضرة؛ لعلي أقدم بمقدمة عن الربا، وعظيم خطره وإثمه عند الله ​​​​​​​.

الربا -أيها الإخوة- هو من كبائر الذنوب، ومن السبع الموبقات، وقد حرّمه الله تعالى في جميع الشرائع السماوية، وأخبر سبحانه أنه حرّم الربا على اليهود، ولكنهم خالفوا، فأخذوا الربا، وقد نهوا عنه، كما قال سبحانه: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ۝وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:160-161].

إذًا الربا محرم في جميع الشرائع السماوية، وقد وردت النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة محذرة من الربا أشد التحذير، ومبينة عظيم إثمه عند الله ​​​​​​​؛ ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: “إن الربا قد جاء فيه من الوعيد ما لم يجئ في غيره”.

وذكر القرطبي في كتابه الجامع لأحكام القرآن، لما تكلم عن آيات الربا، ذكر عن الإمام مالك بن أنس، أن رجلًا جاءه، يستفتيه، فقال: يا أبا عبدالله، إني رأيت البارحة رجلًا سكرانًا يتعاقر، يريد أن يصطاد القمر، يعني من شدة سكره، ذهب عقله، فقام يقفز قفزات يريد أن يصطاد القمر، إنه لا عقل له، ذهب عقله، بشرب الخمر، قال: هذا الرجل، فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشر من الخمر، يعني هذا الرجل تأثر من هذا الموقف، فقال: امرأته طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشر من الخمر، فأتى يستفتي الإمام مالك، هل تطلق امرأته أم لا؟ فقال الإمام مالك: ارجع حتى أنظر في مسألتك، كان السلف عندهم حرص على التثبت في الفتيا، والتأني والتأمل، وعدم التعجل، فأتاه هذا الرجل من الغد، فقال الإمام مالك: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغد، فقال الإمام مالك: امرأتك طالق؛ إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئًا أشر من الربا؛ لأن الله قد آذن فيه بالحرب فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]، لماذا أفتاه الإمام مالك بطلاق امرأته؟ لأنه حلف بالطلاق أنه ليس هناك شيء أخبث وأشر من الخمر، الإمام مالك قال: لا هناك شيء أخبث وأشر من الخمر، وهو الربا؛ ولذلك أفتاه بوقوع طلاق امرأته، وهذا يدل على عظيم إثم الربا، وعظيم ذنبه ومعصيته، وأنه من كبائر الذنوب؛ ولهذا بيّن الله سبحانه في كتابه الكريم أنّ الذين يأكلون الربا لا يقومون -أي من قبورهم عند البعث- إلا كما يقوم المصروع حال صرعه؛ وذلك لتضخم بطونهم، بسبب أكلهم الربا في الدنيا، كما قال سبحانه: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275].

قال ابن كثير: “أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له؛ وذلك أنه يقوم قيامًا منكرًا”، قال ابن عباس: “آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونًا يخنق” وجعل الله تعالى هذه العلامة لآكل الربا؛ وذلك لأنه أرباه في بطنه، فأثقله فيه، فهو يخرج يوم القيامة من قبره يقوم ويسقط، ويقال: إنهم يبعثون يوم القيامة -يعني أكلة الربا- قد انتفخت بطونهم كالحبالى، كلما قاموا سقطوا، والناس يمشون عليهم.

قال بعض أهل العلم: وذلك شعار، إنما ذلك شعار يعرفون به يوم القيامة، ثم العذاب من وراء ذلك، فهذا إذًا يدل على عظيم هذا الذنب، وعظيم هذه المعصية، وسوف أستكمل إن شاء الله تعالى الحديث عن بقية ما ورد في عظيم شأن الربا من النصوص من الكتاب والسنة في المحاضرة القادمة إن شاء الله تعالى إلى ذلك الحين أستودعكم الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2206.
^2 رواه مسلم: 1535.
^3, ^6 رواه مسلم: 1554.
^4 رواه البخاري: 2198، ومسلم: 1555.
^5 رواه مسلم: 1555.
مواد ذات صلة