الرئيسية/برامج تلفزيونية/عقود المعاوضات المالية- جامعة الإمام/(22) عقود المعاوضات المالية- تتمة أحكام الإجارة وعقد الاستصناع
|categories

(22) عقود المعاوضات المالية- تتمة أحكام الإجارة وعقد الاستصناع

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هذه هي المحاضرة الأخيرة، المحاضرة الثانية والعشرين في هذه المادة مادة عقود المعاوضات المالية.

وكنا قد وصلنا في المنهج إلى بقية مسائل الإجارة، وعقد الاستصناع. هذا هو المتبقي في المنهج.

المنهج ابتدأ بعقود بعقد البيع، ثم الربا والصرف، ثم السلَم، ثم عقود التوريد، ثم عقد الإجارة، ثم عقد الاستصناع.

وتكلمنا في المحاضرة السابقة عن جملة من المسائل المتعلقة بعقد الإجارة، تكلمنا عن شروط صحة الإجارة، وشروط العين المؤجرة، وحكم أخذ الأجرة على أعمال القُرب.

تتمة أحكام الإجارة

هذا كله بيناه في المحاضرة السابقة، في هذه المحاضرة أيضًا نستكمل ما تبقى من مسائل وأحكام الإجارة، ثم بعد ذلك نتكلم عن عقد الاستصناع، نوع عقد الإجارة سبق أن أشرنا إلى أن العقود تنقسم إلى ثلاثة أقسام.

  1. عقود لازمة.
  2. عقود جائزة.
  3. عقود لازمة من وجه، جائزة من وجه آخر.

العقد اللازم معناه: أنه ليس لأحد من الطرفين فسخ العقد إلا برضا الطرف الآخر.

بينما الجائز يجوز لكل من الطرفين الفسخ، ولو بغير رضا الطرف الآخر، فمن العقود اللازمة التي مرت معنا البيع، فالبيع من العقود اللازمة.

ومن العقود الجائزة مثلًا الوكالة، يجوز لكل من الموكل والوكيل الفسخ ولو بغير رضا الطرف الآخر.

العقود اللازمة من وجه، الجائزة من وجه آخر، كالرهن، وهو لازم من جهة من عليه الحق، وهو الراهن، وجائز من جهة من له الحق، وهو المرتهن.

ما نوع العقد في الإجارة؟

والإجارة ما نوع العقد فيها؟ هل هو عقد لازم أم جائز؟ إذا نظرنا إلى الإجارة نقول: الإجارة هي في الحقيقة نوع من البيع، هي بيع منافع، ونحن قلنا: إن البيع عقد لازم، وبناء على ذلك تكون الإجارة عقدًا لازمًا، إذًا نوع العقد في الإجارة أنها عقد لازم من الطرفين، يعني: من المؤجر ومن المستأجر، وهذا باتفاق العلماء؛ وبناء على ذلك ليس لأحد منهما الفسخ إلا برضا الطرف الآخر، فهي تأخذ أحكام البيع في هذا؛ ولذلك لا نحتاج إلى أن نفصل الكلام فيها؛ لأنها من جهة وقت اللزوم تلزم عندما يحصل تفرق بالأبدان من مكان عقد الأجرة، وهذه التفاصيل كلها مرت معنا عندما تكلمنا عن أنواع الخيار، ومنها خيار المجلس، فنقول: ما قلناه في البيع، ينطبق كذلك على الإجارة؛ لأن الإجارة في الحقيقة نوع من البيع هي بيع منافع.

أقسام الأجير

أنتقل بعد ذلك للكلام عن الأجير الخاص، والأجير المشترك، فيقسم الفقهاء الأجير إلى قسمين:

  • أجير خاص.
  • وأجير مشترك.

فالأجير الخاص: من قدر نفعه بالزمن، والأجير المشترك: من قدر نفعه بالعمل.

فالأجير الخاص يستأجر مدة معلومة، يستحق المستأجر نفعه في جميعها، ولا يشاركه فيها أحد، ويقدر نفعه فيها بالزمن.

ومن أمثلة الأجير الخاص السائق مثلًا الذي يتعاقد معه الإنسان لمدة معينة كسنة أو سنتين مثلًا، ومثل ذلك الخادم والعامل، ونحو ذلك، فهذا يعتبر أجيرًا خاصًا؛ لأن المستأجر يختص بنفعه في تلك المدة دون سائر الناس.

وأما الأجير المشترك فهو من قدر نفعه بالعمل، ولا يختص به واحد، بل يتقبل أعمالاً لجماعة في وقت واحد، يتقبل أعمالًا لجماعة في وقت واحد، ومن أمثلة ذلك مثلًا في وقتنا الحاضر الغسال، فالغسال يتقبل أعمالًا من عدد من الناس، في وقت واحد يغسل لهذا ثيابه، ويغسل لهذا، ويغسل لهذا، ويغسل لهذا، فهذا الغسال يعتبر أجيرًا مشتركًا، وليس أجيرًا خاصًا.

مثلًا فني إصلاح السيارة الميكانيكي مثلًا الذي يصلح السيارة يعتبر أجيرًا مشتركًا يصلح سيارتك، ويصلح سيارة فلان وفلان وفلان، فهو يتقبل أعمالًا من أناس، وليس خاصًا بك، فهذا يُسمّى أجيرًا مشتركًا، يُسمّى أجيرًا مشتركًا.

الطباخ قد يكون أجيرًا خاصًا، وقد يكون أجيرًا مشتركًا، لو كان طباخًا يطبخ لإنسان وحده فقط، هذا يعتبر أجيرًا خاصًا، لكن لو كان يطبخ له ولغيره فهذا يعتبر أجيرًا مشتركًا.

هل يلزم الأجير أن يقوم بالعمل بنفسه؟

من استأجر أجيرًا خاصًا أو مشتركًا هل يلزم ذلك الأجير أن يقوم بالعمل بنفسه؟ أو أن له أن ينيب غيره؟ وهل يضمن ذلك الأجير ما تلف بفعله؟

أقول: أما إن اشترط على الأجير العمل بنفسه، فقد اتفق الفقهاء على وجوب عمله بنفسه، وليس له أن يستنيب غيره، وأما إذا لم يشترط عليه ذلك فله أن يعمل بنفسه إذا كان أجيرًا مشتركًا، له أن يعمل بنفسه، وله أن يوكل من يقوم بالعمل عنه.

أما إذا كان الأجير خاصًا، فيلزمه أن يعمل بنفسه، وليس له أن ينيب من يعمل عنه، إلا إذا أذن له المستأجر في هذا إذًا إذا شرط عليه ذلك فيلزمه الوفاء بالشرط، إذا لم يشترط عليه ذلك إن كان الأجير خاصًا يلزمه أن يعمل بنفسه، وإذا كان الأجير مشتركًا فله أن يعمل بنفسه، أو يعمل بأجرائه، يعني: بمن ينيبه تحت إشرافه؛ لأن العقد إنما وقع على عمل في ذمته؛ ولذلك له أن يستنيب فيه يعني مثلًا استأجرت طباخًا ليطبخ لك طعام وليمة هذا الطباخ بالنسبة له يعتبر أجيرًا مشتركًا؛ لأنه يطبخ لك ولغيرك، له أن يطبخ بنفسه، وله أن ينيب غيره في الطبخ تحت إشرافه، إلا إذا شرطت عليه أن يطبخ لك بنفسه، فالمسلمون عند شروطهم.

ضمان الأجير الخاص ما تلِف بفعله

أما بالنسبة للضمان فإن كان الأجير خاصًا، فإنه لا يضمن ما تلف بيده، إلا إذا تعدّى أو فرط؛ وذلك لأن الأجير الخاص أمين أو نائب عن المالك، فلم يضمن إلا بالتعدي أو التفريط، وهذه المسألة محل اتفاق بين الفقهاء.

التعدي معناه: فعل ما لا يجوز، والتفريط ترك ما يجب، نوضح هذا بمثال: سائق يعمل عند إنسان بمرتب شهري، حصل خلل في هذه السيارة التي يقودها هذا السائق من غير تعدٍ من هذا السائق، ومن غير تفريط منه، فإن هذا السائق لا يضمن ما يحصل بسبب ذلك الخلل؛ ولذلك فإن صيانة هذه السيارة، وإصلاح هذا الخلل على صاحبها، وليس على هذا السائق، لكن لو أن هذا السائق حصل منه تعد كأن أسرع سرعة كبيرة فتسبب في حادث مروري لأجل تلك السرعة، يعني أصبح مثلًا يسير بالسيارة بمائة وثمانين كيلو مترًا مثلًا في الساعة، أو مائتي كيلو متر، فتسبب في حادث، فإن هذا السائق يضمن التلف الحاصل في السيارة لأجل تعديه، كذلك لو حصل أيضًا منه تفريط، كأن ترك السيارة مفتوحة، وبداخلها المفاتيح فسرقت السيارة، وهنا يضمن السائق قيمة تلك السيارة؛ لكونه فرط في حفظها.

مثال آخر: إذا وقع إناء من الخادم في البيت فانكسر، فإن الخادم لا يضمن ذلك الإناء، إلا إذا كان بتعدٍّ منه أو تفريط، عامل يعمل بمرتب شهري في مصنع أو معمل أو ورشة، فتسبب بطريق الخطأ في كسر آلة من الآلات، أو في إتلافها، فإنه لا يضمن إلا إذا حصل منه تعدٍ أو تفريط.

التعدي كأن يكلف الآلة فوق طاقتها فيتسبب ذلك في انكسارها فإنه يضمن، والتفريط كأن يحصل منه إهمال فيما تحتاج إليه الآلة من تزييت، ونحو ذلك، فإنه يضمن في تلك الحال.

كيفية ضبط التعدي والتفريط

كيف نضبط التعدي والتفريط؟

المرجع في ذلك للعُرف، لا يمكن ضبطه بضابط معين، وإنما المرجع في ذلك للعُرف، ما عدّه الناس في عُرفهم تفريطًا أو تعديًا كان كذلك وما لا فلا.

الأجير المشترك يضمن التلف إذا كان منه تعدٍّ أو تفريط باتفاق العلماء، مثال ذلك: رجل وضع ثوبه عند غسال لغسله، ثم إن هذا الغسال وضع مادة تغير بسببها لون الثوب، أو أن هذا الغسال نسي الثوب تحت الآلة التي يكوى بها فتلف بسبب ذلك الثوب، فإن هذا الغسال يضمن ذلك التلف إذا كان بتعد أو تفريط، فإن الأجير المشترك يضمن.

ضمان الأجير المشترك ما تلف بفعله

إذا حصل التلف من الأجير المشترك بغير تعدٍ ولا تفريط، فهل يضمن؟

الأجير المشترك في هذه الحال هذا محل خلاف بين الفقهاء، يعني مثال ذلك لو أنّ الثوب تلف عند الغسال، من غير تعدٍّ من ذلك الغسال ولا تفريط، احترق المحل مثلًا، احترق محل جاره، ثم وصل الحريق الى محله، وليس له في ذلك أي يد، لا تعدٍ ولا تفريط، يعني احترقت ملابس هؤلاء الذين وضعوا ثيابهم عنده، هل يضمن هذا الغسال؟ يضمن لهم الثياب؟

اختلف الفقهاء في هذه المسألة، مسألة ضمان الأجير المشترك ما تلف بفعله من غير تعدٍ منه ولا تفريط.

  • القول الأول: أنه يضمن ما تلف بفعله، ولو كان بغير تعدٍ منه ولا تفريط، وإلى هذا ذهب الحنفية، يعني: ذهب الجمهور من الحنفية والمالكية، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة، وقد روي هذا القول عن علي بن أبي طالب ، وروي عنه أنه كان يُضمِّن الأُجراء، ويقول: لا يصلح الناس إلا على هذا، كان يُضمِّن الأجراء، ويقول: لا يصلح الناس إلا على هذا.
  • القول الثاني: أن الأجير المشترك لا يضمن ما تلف بفعله، ما دام أن ذلك بغير تعدٍ منه ولا تفريط، وإلى هذا القول ذهب الشافعية، وهو رواية عند الحنابلة.

وهذا القول الأخير وهو القول بعدم تضمين الأجير المشترك إذا كان تلفه بغير تعدٍّ منه، ولا تفريط، هذا هو القول الراجح في المسألة؛ ولهذا قال صاحب الإنصاف: “والنفس تميل إليه”، هذا هو القول الأظهر؛ وذلك لأن هذا الأجير المشترك هو في الحقيقة أمين، والأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط، وقد رجح هذا القول من المعاصرين الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله، حيث يقول: “الصحيح أن الأجير غير ضامن، سواء كان خاصًا أو مشتركًا؛ لأنه من الأمناء الذين لا يضمنون إلا بالتعدي أو التفريط”.

وأما ما روي عن علي فيحمل في تضمينهم على ما إذا كان ثمة تعدٍ أو تفريط، وإلا فليسوا غاصبين، حتى يرتب عليهم الضمان.

وأيضًا فالضمان مرتب على اليد والتصرف، فإذا كانت اليد يدًا متعدية رتب عليها الضمان، وإذا كان التصرف ممنوعًا رتب عليه الضمان، والأجير يده غير عادية، وتصرفه غير ممنوع، بل مأمور به من جهة المؤجر؛ ولهذا القول الصحيح: أن الأجير المشترك أيضًا أنه لا يضمن إذا حصل التلف بغير تعدٍ منه، ولا تفريط.

نريد إذا أن نلخص ما سبق؛ نقول:

الأجير ينقسم إلى قسمين: أجير خاص، وهو من قُدِّر نفعه بالزمن كالسائق مثلًا، وأجير مشترك من قُدِّر نفعه بالعمل كالغسال مثلًا.

الأجير الخاص لا يضمن مطلقًا، إلا إذا تعدى أو فرط، والأجير المشترك إذا تعدى أو فرط، فإنه يضمن، وأما إذا لم يتعد ولم يفرط، هل يضمن أم لا؟ محل خلاف بين العلماء، والقول الراجح: أنه أيضًا كالأجير الخاص، لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط.

ما تنفسخ به الإجارة

وننتقل بعد ذلك إلى المبحث الأخير معنا في الإجارة، وهو ما تنفسخ به الإجارة، تنفسخ الإجارة بتلف العين المؤجرة، كدابة استأجرت مثلًا فماتت، فتنفسخ الإجارة؛ لأن المنفعة قد زالت بالكلية، لو كان أيضًا ارتضع صبيًا استأجر صبيًا على إرضاعه، فمات المرتضع، فإنه تنفسخ الإجارة كذلك.

هل تنفسخ الإجارة بموت المتعاقدين أو أحدهما؟ رجل مثلًا أجّر عقارًا لخمس سنوات، ثم مات المؤجر، أو مات المستأجر، هل تنفسخ الإجارة؟

نقول: لا تنفسخ، نص الفقهاء على أنه لا تنفسخ الإجارة بموت المتعاقدين، أو بأحدهما مع سلامة المعقود عليه؛ وذلك لأنها عقد لازم، وهذا هو المذهب، وهو قول جمهور أهل العلم؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فتحت خيبر، سأل اليهود رسول الله أن يقرهم فيها على أن يعملوا نصف ما يخرج منها من الثمر أو الزرع، فقال رسول الله : نقركم فيها على ذلك ما شئنا [1]، متفق عليه.

وتُوفي النبي ، ولم يرد أن أبا بكر جدد الإجارة، ولو كانت الإجارة تنفسخ لموت المؤجر لجدد أبو بكر العقد؛ ولأن الإجارة عقد لازم، فلا تنفسخ بموت أحد المتعاقدين، ما دام أن استيفاء المنفعة باقٍ، وبناء على ذلك لو أن رجلًا أجر غيره دارًا بخمس سنوات مثلًا، أو عشر سنوات أو أكثر أو أقل، ثم مات المؤجر، فإنه لا تنفسخ الإجارة، بل يقوم وارثة مقامه، أو أن المستأجر هو الذي مات فلا تنفسخ الإجارة، بل يقوم وارثه مقامه، بل يقوم وارثه مقامه.

قال الفقهاء: إن اكترى يعني استأجر دارًا، فانهدمت، أو أرضًا لزرع فانقطع ماؤها، أو غرقت، أو نحو ذلك، يعني تعذر استيفاء المنفعة من العين المؤجرة، قالوا: انفسخت الإجارة في الباقي من المدة، مثل ذلك أيضًا رجل استأجر بيتًا، ثم بعد ذلك حصل مشكلة في هذا البيت مثلًا الكهرباء أصبح فيها مشكلة، بحيث لا يستطيع هذا الرجل أن يسكن في هذه الدار بدون كهرباء، الكهرباء فيها مشكلة، ولم يتيسر إصلاحها، أو أن السباكة أو مثلًا الصرف الصحي، أو غير ذلك.

المهم أن هذا الرجل لم يتمكن من استيفاء المنفعة في هذه الدار، فنقول: إن الإجارة تنفسخ فيما تبقى من المدة، تنفسخ الإجارة فيما تبقى من المدة.

أما ما مضى، فإن عقد الإجارة فيه صحيح، من استُأجر لعمل فمرض أقيم مقامه من ماله من يكمل العمل ما لم تشترط مباشرته، وأما إذا وجد المستأجر العين معيبة، أو حدث بها عنده عيب، فله الفسخ في هذه الحال، وعليه أجرة ما مضى إن كان قد مضى مدة عليه أجرة ما مضى.

هل يجوز بيع العين المؤجرة؟

رجل أجر عمارة لمدة عشر سنوات، ثم بعد ذلك بعد سنة أو سنتين أو أكثر أو أقل بدا له أن يبيعها، فهل يجوز له ذلك؟

نقول: نعم يجوز باتفاق العلماء، يجوز بيع العين المؤجرة، ولا تنفسخ الإجارة بهذا البيع، وهذا هو الذي عليه جماهير أهل العلم؛ وذلك لأن المعقود عليه في البيع هو العين، والمعقود عليه في الإجارة هو المنافع، فلا تعارض بينهما، لكن المشتري إذا لم يكن يعلم بذلك فله الفسخ؛ لأنه قد غره، لو أن رجلًا أجر بيته عشر سنوات، أجر هذا العقار عشر سنوات، ثم باعه، والمشتري لم يعلم بأن هذا العقار قد أجر هذه المدة فله الفسخ؛ لأنه قد غره بذلك.

وأما إذا علم المشتري بذلك، وأقدم على الشراء وهو يعلم بأن هذا العقار قد أجر هذه المدة، فنقول: يلزمه ذلك، وليس له الفسخ في هذه الحال، هذه أبرز المسائل المتعلقة بالإجارة.

ونكتفي بهذا القدر فيما يتعلق بمسائل وأحكام الإجارة.

عقد الاستصناع

وننتقل بعد ذلك للمبحث الأخير معنا في المنهج، وهو عقد الاستصناع.

عقد الاستصناع وعدنا بأن نتكلم عنه، وهو آخر فقه معنا في مفردات المنهج، فما هو عقد الاستصناع؟

عقد الاستصناع هو من العقود المعروفة من قديم الزمان، وقد برزت الحاجة إليه في الوقت الحاضر بسبب ما يرى من تقدم صناعي كبير في شتى المجالات.

وتكلم عنه الفقهاء في كتبهم، فجمهور الفقهاء تكلموا عنه في ثنايا كلامهم عن السلَم، واشترطوا له شروط السلَم، وصرحوا بعدم جوازه وصحته إذا لم تُوفر له شروط السلَم التي من أبرزها شرط تعجيل الثمن، قالوا: فلا بد أن يعجل المستصنع الثمن للصانع وإلا لم يصح، وأما الحنفية فقد اعتبروا الاستصناع عقدًا ونوعًا متميزًا بأحكامه وشروطه؛ ولذلك أبرز من عني بالاستصناع من الفقهاء هم فقهاء الحنفية.

ما معنى عقد الاستصناع؟

الاستصناع لغة: طلب صناعة الشيء، واستصنع الشيء أي: دعا إلى صنعه، والصناعة هي حرفة الصانع، وعمله الصنعة.

ومعنى الاستصناع اصطلاحًا: أن يطلب إنسان من آخر شيئًا لم يُصنع بعد؛ ليصنع له طبق مواصفات محددة بمواد من عند الصانع، مقابل عوض محدد، ويقبل الصانع بذلك؛ هذا هو تعريف عقد الاستصناع.

مرة أخرى: أن يطلب إنسان من آخر شيء لم يُصنع بعد؛ ليُصنع له طبق مواصفات محددة، بمواد من عند الصانع، مقابل عوض محدد، ويقبل الصانع بذلك.

ويلاحظ من هذا التعريف: أن العقد إنما يقع على شراء ما سيصنعه له الصانع، فتكون إذا العين والعمل كلها من الصانع، العين والعمل من الصانع جميعًا.

وأما إذا كانت العين من المستصنع لا من الصانع فإن العقد في الحقيقة يكون عقد إجارة، وليس استصناعًا، مثال ذلك إذا ذهب إلى الخياط، وطلب منه أن يخيط له ثوبًا والقماش من الخياط، ويقوم بخياطته، هذا عقد استصناع، لكن لو أن الإنسان أحضر للخياط قماشًا، وطلب منه أن يخيطه له مقابل أجر معلوم، هذا ليس باستصناع، هذا في الحقيقة إجارة، وليس باستصناع.

إذًا عندنا الآن صورتان: أن يأتي رجل للخياط يطلب منه أن يخيط له ثوبًا، وتكون مادة الثوب يعني القماش من الخياط، هذا يعتبر استصناعًا، لكن لو أن هذا الإنسان أحضر له المادة، أتى له بالقماش، وقال: خِط لي هذا القماش، فصله لي ثوبًا، فهذا يعتبر إجارة، وليس باستصناع، فهذا هو الفرق بينهما.

مثال آخر: رجل طلب من المقاول أن يبني له بيتًا بمواصفات معينة، والمواد على حساب المقاول، فهذا يعتبر عقد استصناع، لكن إذا كانت المواد يأتي بها طالب البناء، وليس المقاول، فليس هذا بعقد استصناع، وإنما هو إجارة، فانتبهوا بارك الله فيكم، انتبهوا للفرق بين الإجارة، وبين الاستصناع.

ما حكم الاستصناع؟

اختلف الفقهاء في حكمه على قولين:

الاستصناع بالمعنى السابق منع منه جمهور الفقهاء إلا إذا تحققت فيه جميع شروط السلَم، ومنها: تقديم الثمن الذي هو رأس المال في مجلس العقد، فإنه إذا توفرت شروط السلَم يصح، ويكون سلمًا ويسميه بعضهم بالسلَم في الصناعات.

وجمهور الفقهاء إذن يقولون: نحن نجيز الاستصناع بشرط أن يكون سلَما، يعني مثلًا عندما يذهب الخياط لا بد أن ينقد له جميع الثمن مقدمًا، وإلا لما صح عند الجمهور.

القول الثاني: ذهب الحنفية إلى جواز الاستصناع، وأنه عقد مستقل متميز عن السلًم بمسائله وأحكامه.

والقول الراجح: هو قول الحنفية، وعليه عمل المسلمين من قديم الزمان إلى وقتنا هذا؛ ولهذا قال بعض العلماء: يشبه أن يكون هذا إجماعًا عمليًّا من المسلمين على جواز الاستصناع، ولا يسع الناس في الحقيقة إلا هذا القول، وهو قول الحنفية.

نريد أن نوضح مسألة أو نطبق مسألة بناء على قول الجمهور، وعلى قول الحنفية، رجل ذهب للخياط، وأحضر معه قماشًا، وقال: خط لي هذا القماش ثوبًا، هذا ليس باستصناع، هذا يعتبر إجارة، طيب رجل ذهب للخياط، وقال: خط لي ثوبًا، وطلب أن يخيط له ثوبًا، والقماش من عند الخياط، ونقده الثمن، فقيمة هذا الثوب مثلًا مائة وخمسين ريالًا، نقد له الثمن مقدمًا، وقال: خط لي ثوبًا، فهذا جائز عند الجمهور، وعند الحنفية، لكن الجمهور يعتبرونه سلَمًا، والحنفية يعتبرونه استصناعًا.

طيب الصورة الثالثة: رجل ذهب للخياط، وقال: خط لي ثوبًا، والقماش من عند الخياط، وأعطاه مقدمًا خمسين ريالًا، وقال: الباقي أعطيك إياها فيما بعد، فهذا جمهور الفقهاء يمنعون منه؛ لأنهم يقولون: هو سلَم افتقد لشرط تعجيل الثمن، والحنفية يجيزونه ويقولون: هذا هو عقد استصناع، وهو عقد مستقل ومتميز عن السلَم.

والقول الراجح: أنه يجوز، وأنه بناء على ترجيحنا لجواز عقد الاستصناع، والحاجة في الحقيقة ماسة إلى الاستصناع في الوقت الحاضر، الذي أصبح فيه الحصول على كثير من السلع إنما يتم عن طريق الاستصناع، وفي المنع من الاستصناع حرج كبير على الأمة، وقد قال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].

فالقول بإباحة الاستصناع يتفق مع الأصول والقواعد الشرعية القاضية بالتيسير على المكلفين، ورفع الحرج عنهم، وقد أباحت الشريعة الإسلامية السلَم، مع أنه بيع معدوم؛ وذلك لحاجة عموم الناس إليه، وما فيه من الغرر، فهو مغتفر بجانب المصالح الكبيرة المترتبة عليه، وكذلك أيضًا أباحت الشريعة العرايا، مع أنه بيع رطب بتمر للحاجة؛ وذلك لأجل التوسعة والتيسير على المكلفين، ورفع الحرج عنهم، والاستصناع هو من هذا الباب، خاصة وأن الأصل في باب المعاملات الحل والإباحة.

شروط الاستصناع

يشترط للاستصناع على القول بجوازه شروط:

  • الشرط الأول: تحديد مواصفات الشيء المطلوب صناعته تحديدًا وافيًا، يمنع من التنازع عند التسليم. وذلك بذكر الصفات التي يختلف بها الثمن، فيذكر جنس المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة، وهذا شرط من شروط صحة السلَم، وهو كذلك شرط في الاستصناع، بل ربما يكون اشتراطه في الاستصناع آكد؛ لأن إجراء عقد الاستصناع مع عدم الاتفاق على تحديد مواصفات المستصنع مظنة للتنازع بين الطرفين.
  • الشرط الثاني: تحديد الأجل؛ وذلك قطعًا للتنازع، ولا يشترط في عقد الاستصناع تعجيل الثمن، بل يجوز تأجيله، ويجوز تأخيره إلى وقت القبض، أو بعده، ويجوز تقسيطه، بخلاف السلَم الذي يشترط لصحته تعجيل الثمن كله.

حكم الشرط الجزائي في الاستصناع

يجوز أيضًا أن يتضمن عقد الاستصناع شرطًا جزائيًا على الصانع، لاحظ على الصانع، إذًا وليس على المستصنع، إذا لم ينفذ ما التزم به، أو تأخر في تنفيذه، ولا يجوز الشرط الجزائي على المستصنع.

مثال ذلك: رجل اتفق مع مقاول على أن يبني له بيتًا بمبلغ معين في مدة لا تزيد على سنة، وشرط عليه شرطًا جزائيًا، بأنه إذا تأخر في بناء ذلك البيت بعد تلك المدة، فإنه يخصم عليه مائة ريال عن كل يوم تأخير، فلا بأس بذلك إذا حصل التراضي بين الطرفين، ما لم تكن هناك ظروف قاهرة، حالت دون تنفيذ البناء في الوقت المحدد، كمرض، ونحوه.

أما لو شرط الصانع الذي هو المقاول على المستصنع الذي هو طالب البناء احتساب غرامة تأخير كل يوم عن كل يوم تأخير إذا تأخر في تسديد ما عليه من مستحقات، فإن هذا لا يجوز؛ لأنه حينئذٍ يكون نظير ربا الجاهلية إما أن تقضي، وإما أن تربي.

والشرط الجزائي: يجوز في غير الديون، وأما في الديون فإنه لا يجوز، بل هو يكون من ربا الجاهلية، إذا الشرط الجزائي لا يجوز على المستصنع، ويجوز على الصانع.

قرار مجمع الفقه الاسلامي في عقد الاستصناع

وأختم هذه المحاضرة بأن أشير إلى قرار مجمع الفقه الاسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي بشأن عقد الاستصناع فقد أصدر فيه قرارًا في دورة مؤتمره السابع، وجاء فيه:

  • أن عقد الاستصناع هو عقد وارد على العمل والعين في الذمة ملزم للطرفين، إذا توفرت فيه الأركان والشروط.
  • ثانيًا: يشترط في عقد الاستصناع ما يلي:
    • أ- بيان جنس المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة.
    • ب- أن يحدد فيه الأجل.
  • ثالثًا: يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله، أو تقسيطه الأقساط المعلومة لآجال محددة.
  • رابعًا: يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطًا جزائيًا بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان، ما لم تكن هناك ظروف قاهرة.

والمقصود بالشرط الجزائي في قرار المجمع الشرط على الصانع، وليس على المستصنع، يعني: على المقاول مثلًا أنك تنجز تبني لي هذا البيت خلال سنة، فإذا تأخرت فعليك غرامة تأخير عن كل يوم هذا يجوز، لكن لو كان على العكس، لو كان المقاول هو الذي يشرط على طالب البناء؛ لأنك إذا تأخرت في تسليم الأجرة عليك مثلًا مبلغ قدره كذا، هذا لا يجوز؛ لأن الشرط الجزائي في الديون محرم، بينما الشرط الجزائي في غير الديون جائز.

بهذا نكون قد انتهينا من مفردات المنهج، وكان آخر مفردة هي عقد الاستصناع، وما يتعلق به من مسائل وأحكام.

وفي ختام هذه المحاضرة، أسأل الله ​​​​​​​ للجميع الفقه في الدين، والعلم النافع.

وأوصي الأخوة بالتركيز على ما قيل والضبط، وستكون الأسئلة إن شاء الله تعالى في هذه المفردات التي شرحت، ولكن الأسئلة ربما تكون دقيقة؛ ولذلك أوصي الأخوة بالتركيز والضبط لما قيل، وقد كانت مفردات المنهج متضمنة لعقد البيع، وما يتعلق به، تعريفه وأركانه وشروطه، والشروط فيه، والبيوع المنهي عنها، والخيار، والقبض، وأحكام التصرف في المبيع قبل قبضه، والإقالة.

ثم تكلمنا بعد ذلك عن بيع الأصول والثمار، ثم الربا، تعريفه وحكمه وأنواعه، وعلة التحريم في الأصناف الربوية، ثم الصرف تعريفه وأركانه وشروطه.

ثم ذكرنا صورًا من المعاملات المصرفية والبدائل الشرعية عن المحرم منها، ثم بعد ذلك تكلمنا عن السلَم تعريفه وحكمه والحكمة منه، وأركانه وشروطه، ثم جملة من الأحكام المتعلقة بانتقال الملك في العوضين والتصرف في دين السلَم قبل قبضه، وتعذر المسلّم فيه عند حلول الأجل، والإقالة في السلَم، وتوثيق الدين المسلّم فيه، والاتفاق على تقسيط المسلّم فيه على نجوم.

ثم تكلمنا عن تداول السندات، ثم تكلمنا عن عقود التوريد، ثم انتقلنا بعد ذلك للكلام عن عقد الإجارة: تعريفها وحكمها وشروط صحتها وشروط العين المؤجرة، ونوع عقد الإجارة من حيث اللزوم، ومتى تنفسخ، ثم قبل ذلك تكلمنا عن الأجير الخاص والأجير المشترك، وأحكامهما، والضمان بالنسبة لهما، ثم ما تنفسخ به الإجارة، وما تستحق به الأجرة.

ثم ختمنا الحديث في هذه المادة عن عقد الاستصناع، وعرّفناه، وبينا تكييفه الفقهي، وحكمه وشروطه وآثاره، وما يتعلق بذلك من مسائل وأحكام.

أسأل الله للجميع الفقه في الدين، والعلم النافع.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2338، ومسلم: 1551.
مواد ذات صلة