الرئيسية/برامج تلفزيونية/تفسير آيات الأحكام/(1) آيات الوصية من سورة البقرة
|categories

(1) آيات الوصية من سورة البقرة

مشاهدة من الموقع

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:9].

على جميع المكلفين أن يتعلموا دينهم، وأن يتفقهوا في دينهم، كل واحد من الرجال والنساء عليه أن يتفقه في دينه، عليه أن يتعلم ما لا يسعه جهله، هذا واجب؛ لأنك مخلوق لعبادة الله، ولا طريق إلى معرفة العبادة، ولا سبيل إليها إلا بالله، ثم بالتعلم والتفقه في الدين، فالواجب على المكلفين جميعًا أن يتفقهوا في الدين، وأن يتعلموا ما لا يسعهم جهله، كيف يصلون؟ كيف يصومون؟ كيف يزكون؟ كيف يحجون؟ كيف يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟ كيف يعلمون أولادهم؟ كيف يتعاونون مع أهليهم؟ كيف يدعون ما حرم الله عليهم؟ يتعلمون، يقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين [1].

المقدم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مرحبًا بكم أيها المشاهدون الكرام في سلسلة جديدة من الدروس العلمية نستهل بعون الله فيها “تفسير آيات الأحكام”، يصاحبنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ سعد بن تركي الخثلان، رئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية، وأستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، حياكم الله يا فضيلة الشيخ.

الشيخ: أهلًا حياكم الله، وبارك فيكم، وحيا الله الإخوة المشاهدين.

المقدم: شيخنا الفاضل موضوعنا في هذه الحلقة هو آيات الوصية من سورة البقرة، نستأذنكم في سماع تلاوة لهذه الآيات، ثم نعود بإذن الله إلى الشرح والتعليق.

بسم الله الرحمن الرحيم

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ۝فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:180-182].

المقدم: مرحبًا بكم من جديد، تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآيات.

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

أهمية العناية بالقرآن العظيم

فأولًا: أنا سعيد بالمشاركة في هذه الحلقات في تفسير آيات الأحكام، وقبل أن أبدأ في التعليق على معاني هذه الآيات، أُذكِّر بأهمية العناية بالقرآن العظيم، هذا القرآن الذي هو كلام الله ، والذي جعله الله تعالى الآية لنبيه محمد .

فإن الله تعالى أعطى كل نبي آية؛ لأجل أن يؤمن البشر، فإنه عندما يأتي النبي لهؤلاء الأقوام، ويقول: إنه نبي، فيريدون منه آية، أمرًا معجزًا يبرهن على أنه نبي ورسول مرسل من عند الله ، فأعطى الله تعالى مثلًا موسى العصا، وعيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وصالح الناقة.

فما هي الآية التي أعطاها الله نبينا محمدًا ؟ هي هذا القرآن العظيم، وهذا من حكمة الله سبحانه؛ لكي تبقى هذه الآية باقية إلى قيام الساعة، تراها الأجيال، وتقرؤها الأجيال، فهذا القرآن هو آية نبينا محمد .

وقد حوى من الأسرار والعجائب شيئًا عظيمًا، وتكفل الله ​​​​​​​ بحفظه، ونرى هذا الحفظ قائمًا، لم يتغير في هذا القرآن حرف واحد منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، نقرؤه غضًّا طريًّا، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة يقرؤونه، هذا القرآن العظيم هو السر الذي غيّر الصحابة.

الصحابة قبل الإسلام، ماذا كانوا؟ مثلًا: عمر بن الخطاب ماذا كان قبل الإسلام؟ لم يكن له أهداف، من الصباح إلى المساء لم يكن له أهداف، وإنما كان يذهب ويجول ويصول، ماذا كان بعد الإسلام؟ أصبح من عظماء التاريخ.

وهكذا بقية الصحابة، من الذي غيّر الصحابة؟ ما هو السر في التغيير العظيم لحياة هؤلاء، ومن بعدهم من التابعين وتابعيهم؟ هو هذا القرآن العظيم هو السر، هذا القرآن العظيم إذا ارتبطنا به فهو أعظم أسباب الثبات، وأعظم أسباب قوة الإيمان، والارتباط بالله .

فينبغي أن يهتم كل مسلم ومسلمة بالارتباط بهذا القرآن الكريم تلاوة وتدبرًا وحفظًا وفهمًا، ونحن إن شاء الله في هذه الحلقات ستكون حلقات تدبرية في معاني وأحكام آيات من كتاب ربنا .

آيات الوصية في سورة البقرة

وهذه هي الحلقة الأولى نبتدئ فيها بالآيات عن الوصية في سورة البقرة، وهي هذه الآيات الثلاث، ولعل منهجنا في تفسير آيات الأحكام أننا نقسم الحديث إلى قسمين:

قسم عن المعاني، ثم القسم الثاني عن الأحكام، فنبتدئ على بركة الله تعالى:

ابتدأ الله ​​​​​​​ هذه الآيات عن الوصية بقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ [البقرة:180] نبدأ أولًا بالكلام عن المعاني:

تفسير قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ

أولًا: هذه الآيات على ما قال بعض المفسرين نزلت لما كان العرب في الجاهلية يضارون في الوصية، فإذا حضر أحدهم الموت أوصى لغير الورثة بكل ماله، وكان هذا شائعًا عند أهل الجاهلية.

فجاءت هذه الآية لتجعل الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، ثم نسخ بعد ذلك ما كان للورثة بآيات الوارثين، وبقيت الآيات في حق غير الوارثين.

كُتِبَ عَلَيْكُمْ [البقرة:180] كُتب، أي: فُرض، فمعنى كتب: فرض، وهذا يدل على وجوب هذه الوصية، لكنها نسخت في حق الوارثين بآيات المواريث في سورة النساء، وحتى في حق غير الوارثين، الوصية ليست واجبة إلا في مواضع سنبينها إن شاء الله في الأحكام.

إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ يعني: جاءت علامته ومسبباته، والقرائن التي تدل عليه، وهي يعني حالة الاحتضار، حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ يعني: وقت الاحتضار، فكان مطلوبًا من الإنسان أول الإسلام أن يوصي قبل نزول آيات المواريث، كان واجبًا عليه أن يوصي عند حضور الموت.

إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الخير هو المال الكثير، ويفهم من هذا أنه إذا لم يترك مالًا كثيرًا فلا يوصي، لا تشرع له الوصية حينئذٍ، وهذا مما سنبينه إن شاء الله، إِنْ تَرَكَ خَيْرًا يعني: مالًا كثيرًا، الْوَصِيَّةُ كتب عليه الوصية، يعني: فرضت الوصية.

الوصية لمن؟ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ وهذا كما ذكرنا قد نُسخ في حق الوارثين بآيات النساء، بِالْمَعْرُوفِ يعني: من غير إفراط ولا تفريط.

حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ هذا يؤكد وجوبها في أول الأمر قبل النسخ.

تفسير قوله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ..

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [البقرة:181] يعني: هنا هذه الوصية من الله بالعناية بالوصية، وأنها تنفذ كما أراد الموصي، ومثل ذلك أيضًا: الوقف ينفذ كما أراد الموقف، وهذا يقتضي العناية بألفاظ الموصي والموقف، وأنه الأصل أنه لا يجوز تبديلها، ولا يجوز تغييرها، إلا إذا كان تغييرها لما هو أصلح من جنسها على القول الراجح.

لكن إنسان يريد أن يبدِّل ويعدِّل في هذه الوصية وهذا الوقف، ليس له ذلك؛ ولهذا تجد أن بعض الناس عندهم وصية، أو عندهم، وقف في أمور معينة، يقول: لا، نريد أن نجعلها في مسجد، هذا غير صحيح، الموصي ما أراد المسجد، لو أراد المسجد لجعل الوصية في المسجد، أرادها في أمور معينة، فالناظر على هذا الوقف أو الوصية إن كان يستطيع تنفيذ الوصية أو الوقف كما أراد الموصي أو الموقف وإلا يعتذر عنها، يسلمها للقاضي، والقاضي إما أن يشرف عليها، أو يسلمها لمن يشرف عليها، لكن الأصل هو الالتزام بما أراد الموقف والموصي ما لم يكن ذلك محرمًا، هذا هو الأصل.

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ القرآن نزل على العرب، وكان الغالب عليهم أنهم أُمِّيون، فكانت الوصية يقولها الإنسان ويسمعها الآخر، مجرد يعني مشافهة؛ ولذا قال: بَعْدَ مَا سَمِعَهُ.

وأرشد النبي عليه الصلاة والسلام إلى كتابتها، فأصبح يعني معظم الوصايا بعد ذلك بعدما انتشرت القراءة والكتابة في الناس أصبحت تُكتب الوصية، ويشهد عليها، لكن القرآن يعني راعى أحوال الناس وقت التنزيل.

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ بعدما سمع الوصية فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ هذا يقتضي تأثيم من بدّل وحرّف الوصية والوقف، هذا يدل على خطورة الأمر فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181].

تفسير قوله تعالى: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا..

فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182]، فإذا خاف من الموصي جَنَفًا أَوْ إِثْمًا يعني: خطأ، خطأ في هذه الوصية، إما بطريق العمد، أو بطريق الخطأ، وعبر عن الخطأ بقوله: جَنَفًا، وعن العمد بقوله: إِثْمًا.

فإذا كانت الوصية فيها خطأ، مثلًا وصية لوارث، وصية بأكثر من الثلث، وصية في أمر محرم، وصية في كذا، تخصيص مثلًا الوقف للذكور دون الإناث، تخصيص أبناء دون آخرين، فإذا كان ذلك عن عمد هذا هو الإثم، وإذا كان عن غير عمد هذا هو الجنف.

فما هو الحكم؟ يقول ربنا سبحانه: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ يعني يجب تعديل هذا الخطأ، سواء وقع عن عمد، أو عن غير العمد، سواء وقع جنفًا أو إثمًا، جنفًا، يعني: عن غير عمد، إثمًا: عن عمد.

فهنا ينبغي أن تعدَّل هذه الوصية، أو هذا الوقف، يعدَّل الخطأ الذي جاء فيه، كان بعض الناس يتحرج؛ لأن الله تعالى قال: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [البقرة:181]؛ فربما تحرج الإنسان من التبديل والتغيير، فأنزل الله تعالى الآية التي بعدها: أن التغيير والتبديل لإصلاح الخطأ، سواء كان عن عمد، أو عن غير عمد، أن من فعل ذلك فلا إثم عليه، هذا هو معنى الآية.

فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:182]، والله تعالى يغفر ويرحم؛ لأن هذا إنما فعل ذلك بقصد الإصلاح؛ ولهذا يقول الله سبحانه لما ذكر أموال اليتامى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220]؛ الله تعالى يعلم أن تصرف هذا بقصد الإصلاح أو بقصد الإفساد، بقصد الاختلاس، بقصد الاستغلال،.. وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ.

فإذا علم الله تعالى من هذا الإنسان، سواء كان وصيًّا على اليتامى، أو كان وكيلًا أو ناظرًا لوصية، أو ناظرًا لوقف، أنه إنما فعل ذلك بقصد الإصلاح، ليس له في ذلك هوى فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إذا كان بقصد الإصلاح، وكان ذلك عن علم لا يفعل ذلك عن جهل، وإنما عن علم، وعن استشارة لأهل العلم فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لأنه إنما أصلح هذا الخطأ، خطأ في وقف، خطأ في وصية، فيعدّل.

يعني مثلًا: هذا الإنسان أوقف على الذكور دون الإناث، هذا وقف خطأ، وقف جنف أو إثم، إن كان متعمدًا فهو إثم، وإن كان غير متعمدًا فهو جنف، فهنا يُعدّل فيقال: بين الذكور والإناث، ولا يكون للذكور دون الإناث، أو لأبناء من زوجة دون أبناء من زوجة أخرى، فهنا يعدل هذا معنى الآية: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا ومثل ذلك: الموقف، الموصي والموقف مثله.

فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182] وعلى ذلك فيمكن تعديل الأخطاء التي تكون في الوصايا والأوقاف، تعديلها لتكون بالمقتضى الشرعي، وأن من فعل ذلك فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ بنص الآية الكريمة، هذا هو المعنى الإجمالي لهذه الآيات.

إلامَ يرجع الضمير في قوله: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ؟

المقدم: سؤال يا فضيلة الشيخ، قوله تعالى: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182] هل يعود -حفظك الله- على المصلح، الشخص الذي أصلح الوصية، أم على الموصي؟

الشيخ: الضمير يرجع على المصلح؛ لأن الله تعالى قال: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، فَأَصْلَحَ هذا المصلح بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ على هذا المصلح في هذا التصرف، فالضمير يرجع على المصلح نفسه.

أما بالنسبة للموصي والموقف فإن كان يعني لم يتعمد فلا إثم عليه، وإن كان تعمد فإنه يبوء بالإثم، لكن تعديل الوصية يخفف من الإثم.

أبرز الأحكام المتعلقة بالآيات

ننتقل بعد ذلك إلى أبرز الأحكام المتعلقة بهذه الآيات:

أولًا: هذه الآية -كما ألمحنا في أول التعليق- عند الجمهور منسوخة بآية المواريث في حق الوارثين، فهي منسوخة بقول الله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11]؛ لأن هذه الآية نزلت في أول الأمر، وكما ذكرنا أن العرب كانوا يضارون في الجاهلية، وإذا حضر أحدهم الموت أوصى لغير الورثة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

ثم بعد ذلك نسخت بآيات المواريث، والنسخ واقع في القرآن الكريم، وواقع أيضًا في السنة، والله تعالى يقول: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106]، وهذا النسخ لحِكم عظيمة، ليس هذا الموضع يعني موضعًا للحديث عنها، فإذن هذه الآية عند الجمهور منسوخة بآية المواريث في حق من يرث.

فمثلًا: الوالدان يرثون الولد، الوالدان هم من الورثة الذين لا يمكن سقوطهم، هناك ستة من الورثة لا يمكن حجبهم حجب حرمان، ما أدري تذكرهم يا شيخ محمد؟ ستة من الورثة لا يمكن حجبهم حجب حرمان، يعني لا يمكن سقوطهم لا بد أن يرثوا، هم من؟

المقدم: الوالدان.

الشيخ: الوالدان.

المقدم: والبنون والبنات.

الشيخ: والولدان.

المقدم: والزوجان.

الشيخ: والزوجان، أحسنت بارك الله فيك، إذن هؤلاء الستة: الوالدان، والولدان، والزوجان، الأب والأم، والأبناء والبنات، والزوج والزوجة هؤلاء لا يمكن سقوطهم، لا بد من إرثهم.

فالوالدان يرثان بكل حال، إلا قد يكون في حالات معينة، كأن يكون هذا الوالد غير مسلم، لا يرث من المسلم، أو يكون رقيقًا، أو نحو ذلك، يعني يوجد مانع من موانع الإرث، وإلا الأصل أن الوالدين أنهما يرثان على كل حال، ولا يسقطان بأي حال، وعلى ذلك فتكون هذه الآية منسوخة بآية المواريث في سورة النساء في حق من يرث.

لكن تبقى هذه الآيات في حق الأقارب غير الوارثين؛ ولهذا قال أهل العلم: أنه ينبغي أو يستحب للإنسان أن يوصي لأقاربه غير الوارثين المحتاجين، هذا أفضل ما يكون من الوصية والوقف، أن يجعله للأقارب غير الوارثين المحتاجين.

قال الحافظ ابن عبد البر: “لا خلاف بين العلماء في أن الأقارب غير الوارثين إذا كانوا ذوي حاجة، فإنه يستحب الوصية لهم؛ لأن الله كتب الوصية للوالدين والأقربين، فخرج منهم الوارثون؛ لقول النبي : لا وصية لوارث [2]، وبقي سائر الأقارب على الوصية لهم، وأقل ذلك الاستحباب، وقد قال الله تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ [الإسراء:26]، وقال: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى [البقرة:177] فبدأ بهم؛ ولأن الصدقة عليهم في الحياة أفضل، فكذلك بعد الممات”.

فإذن إذا كان للإنسان أقارب غير وارثين ومحتاجون، فيستحب أن يوصي لهم، مثال ذلك: رجل عنده أبناء، تُوفي أحد هؤلاء الأبناء في حياته، وهذا الابن المتوفى له ذرية بنين وبنات، فإذا مات هذا الرجل، فإن أحفاده لن يرثوا منه؛ لأنهم محجوبون بأعمامهم، فيستحب له أن يوصي لهم، فيستحب له أن يوصي لهؤلاء الأيتام، يعني هذا الجد يوصي لأحفاده.

وهذه عند بعض القوانين يسمونها الوصية الواجبة، هم يوجبون ذلك، لكنه ليس واجبًا عند عامة أهل العلم، أن هذه الوصية ليست واجبة، وإنما هي مستحبة استحبابًا مؤكدًا، هكذا لو كان له مثلًا أخ فقير لا يرث منه، يستحب أن يوصي له، الأقارب غير الوارثين يستحب للإنسان أن يوصي لهم إذا كانوا فقراء، إذا كانوا محتاجين، فتكون هذه الآية إذن نُسخت في حق الوارثين، ولم تُنسخ في حق الأقارب غير الوارثين.

المقدم: سؤال الله يحفظك، قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ [البقرة:180] هل يشعر مثلًا بشدة الاستحباب، يعني لفظ الكتابة يعني في الأصل هو للوجوب، فلما نسخت وبقي للاستحباب، هل يفهم منه يعني التأكيد الشديد؟

الشيخ: نعم، هذا يفهم منه، يعني كأن الاستحباب قريب من الوجوب، فهذا المصطلح كُتِبَ الأصل أنه يكون في الأمور الواجبة، لكن هذه الآية دخلها النسخ في حق الوارثين، في حق غير الوارثين أيضًا لا تجب الوصية عند عامة أهل العلم، يعني خرج ذلك بالإجماع، لكنه مستحب استحبابًا مؤكدًا في حق الأقارب المحتاجين غير الوارثين.

ثانيًا: دلت هذه الآية على مشروعية الوصية، والوصية معناها عند الفقهاء: الأمر بالتصرف بعد الموت، وأما الوصية بالمال: فهي التبرع بالمال بعد الموت.

حكم الوصية

الوصية تعتريها الأحكام الخمسة، وإذا قلنا: الأحكام الخمسة يا شيخ محمد، ما هي الأحكام الخمسة؟

المقدم: الوجوب، والاستحباب، والإباحة، والكراهة، والتحريم.

الشيخ: أحسنت، هذه الأحكام الخمسة، إذا قيل: الأحكام الخمسة، فهي هذه الأحكام الخمسة: الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والتحريم، هذه الأحكام الخمسة.

معنى ذلك أن الوصية قد تكون واجبة، قد تكون مستحبة، قد تكون مباحة، وقد تكون مكروهة، وقد تكون محرمة.

متى تكون الوصية واجبة؟

تجب الوصية على من عليه دين، أو عليه حقوق غير موثقة، فيجب عليه أن يوصي بأدائها؛ لأنه لو لم يفعل ذلك لبقيت في ذمته، ولم يلزم الورثة أداؤها من غير بينة، مثال ذلك: أتى إليك رجل واستلف منك عشرة آلاف ريال، وأقرضته هذه العشرة آلاف ريال من غير وثيقة، من غير كتابة، من غير شهود.

هنا يجب عليك أن توصي بسداد هذا القرض؛ لأنك لو لم تفعل ذلك؛ لنفترض أن الله قدر عليك ومت، إذا أتى هذا المقرض لك، المقرض لك هذه العشرة آلاف، أتى للورثة من بعدك، وقال: أنا يا جماعة أقرضت والدكم عشرة آلاف ريال، أريد منكم أن تسددوا لي هذا القرض، فيقولون: ما بينتك؟ ما عنده بينة، ما عنده شهود، ما عنده وثيقة، ما عنده كتاب، فإذا لم يأت ببينة لم يلزم الورثة أن يسددوا له، وبذلك يبوء بالإثم هذا المورث؛ لأنه قد فرط؛ لكونه لم يوص، ولم يكتب هذا الدين، ولم يوثقه.

أما لو كان الدين موثقًا، فلا تجب الوصية به؛ لأن هذا الدائن سيصل إلى حقه من الورثة بهذه الوثيقة إن كان فيه شاهداه مثلًا، أو كتابة موثقة، فسيستطيع هذا الدائن أن يصل إلى حقه، لكن إذا كان هذا الدين غير موثق، فهنا يجب على المدين أن يوصي بسداد هذا الدين.

فيقول مثلًا في وصيته: في ذمتي مثلًا عشرة آلاف ريال لفلان سددوها له، أنا اقترضتها منه، فإن لم يفعل ذلك فإنه يأثم، وعلى ذلك فتكون الوصية في هذه الحال واجبة، إذن تكون الوصية واجبة في حق من عليه ديون وحقوق غير موثقة، فهنا يجب عليه أن يوصي بأداء هذه الديون، أو أنه يوثقها إذا كانت غير موثقة يجب عليه أن يوصي بأدائها.

متى تكون الوصية مستحبة؟

تكون الوصية مستحبة: نأخذها من الآية: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:180] تكون الوصية مستحبة في حق من ترك خيرًا، ما هو الخير؟ المال الكثير، في حق من ترك مالًا كثيرًا، وورثته غير محتاجين، فهنا يستحب له أن يوصي.

إنسان مثلًا ثري، إنسان عنده أموال كثيرة، فيستحب له أن يوصي، يوصي في وجوه البر بما ينفعه بعد مماته، وخير من ذلك أنه يوقف؛ لأن الوقف أفضل من الوصية، فعندنا الوصية، وعندنا الوقف.

والفرق بين الوصية والوقف: الوقف يخرج المال الموقوف من ملكه لله تعالى مباشرة.

المقدم: أثناء الحياة.

الشيخ: أثناء الحياة، إلا إذا كان وقفًا معلقًا بالموت، فيكون حكمه حكم الوصية، الوصية تكون بعد الوفاة، الوقف يمكن للإنسان أن يوقف ما شاء، حتى أكثر من الثلث، لو أراد أن يوقف نصف ماله، ثلاثة أرباع من ماله، ماله كله، لكن الأفضل ألا يوقف ماله كله؛ لأنه قد يحتاج.

الوصية لا تزيد على الثلث، فإذن من ترك خيرًا، من ترك مالًا كثيرًا يستحب إما أن يوقف، وإما أن يوصي، هكذا تكون إذن الوصية مستحبة في هذه الحال.

متى تكون الوصية مكروهة؟

متى تكره؟ تكره في حق الفقير الذي له ورثة محتاجون، إنسان فقير وورثته محتاجون، فيكره في حقه الوصية؛ لأن الأقربين أولى بالمعروف إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة، يتكففون الناس [3].

ولهذا هذا الذي يوصي وورثته فقراء الورثة يجدون في أنفسهم على هذا الميت: كيف أنه يوصي ويعطي المال للبعيدين، ونحن محتاجون؟! فهنا تُكره الوصية في حقه، إذا كان فقيرًا فتكره الوصية في حقه.

متى تحرم الوصية؟

تحرم الوصية للوارث؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث [4]، وتحرم الوصية كذلك لغير الوارث بأكثر من الثلث؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: الثلث، والثلث كثير [5].

متى تباح الوصية؟

تباح الوصية بجميع المال لمن لا وارث له، فالوصية في حقه مباحة، إذا أراد أن يوصي بجميع ماله فلا بأس.

فعلى هذا نقول: إن الوصية تعتريها الأحكام الخمسة، تارة تكون واجبة، وتارة مستحبة، وتارة مكروهة، وتارة محرمة، وتارة مباحة، فتعتريها الأحكام الخمسة.

المقدم: سؤال الله يحفظك؛ لماذا لم نقل: بتحريم الوصية في حق من ترك ورثة محتاجين مع حاجتهم؟ هل لأن المال مثلًا هو ملك له، يتصرف فيه كيفما شاء؟ لماذا لم يصل الحكم إلى التحريم؟

الشيخ: نعم، لم يصل الحكم إلى التحريم؛ لأن المال ماله، هو حر فيه، لا نستطيع أن نوجب عليه تصرفًا معينًا، وهو حي، هو حر في ماله، إذا قال: لا، أنا أريد أن أوصي، نقول: هذا مكروه في حقك، لكن لا يصل إلى درجة التحريم؛ لأنه ملكه، وهو له الحرية في التصرف في ماله، فلا يصل إلى درجة التحريم.

لكنه مكروه باعتبار أنه جعل المال للأباعد، وحرم منه الأقارب إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة، يتكففون الناس [6].

أيضًا من الأحكام: ينبغي لمن ترك خيرًا المبادرة بالوصية، ومعظم الناس يريدون أن يوصوا، ويريدون أن يوقفوا، لكن يبغتهم الموت، أو مرض الموت، فلا يتمكنون من الوصية ولا من الوقف.

أقول: في هذا قصص كثيرة، يعني أناس أثرياء، أنا قابلت أناسًا أثرياء، وكنت ذكرت لهم الوصية، فيقولون: إن شاء الله، في بالنا سنفعل كذا، سنوصي بكذا، سنوقف كذا، ثم يبغتهم الموت، وإذا بغتهم الموت لا ينتظر الإنسان من ورثته أن يخرجوا عنه شيئًا، إذا لم ينفع نفسه وهو حي، فلا ينتظر من ورثته أن ينفعوه بعد وفاته.

فلذلك ينبغي المبادرة لكتابة الوصية في حق من ترك خيرًا، أو المبادرة للوقف، لا يسوف الإنسان، لا يتأخر، فإن الإنسان لا يدري ما يعرض له، والله تعالى يقول: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا [لقمان:34]، الإنسان لا يدري ماذا سيكون في الغد؟ كم من إنسان خرج من بيته صحيحًا معافى، لم يخطر بباله الموت، ولو بنسبة واحدة بالمائة، ثم أمسى مع الأموات؟ حصل له حادث سيارة، حصلت له سكتة قلبية، حصل له أي عارض، فانتقل من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة في لحظات، وكان عنده آمال، وكان عنده خطط، وكان يريد أن يوصي، وكان يريد أن يوقف، كل هذه تبخرت، فكثير من الناس يُؤتى من جهة التفريط، يقول: غدًا سأوصي، غدًا سأفعل في المستقبل كذا، سأفعل كذا، حتى يبغته الموت، أو يبغته مرض الموت، تأتيه جلطة يأتيه كذا، ما يستطيع أن يوصي، أو يوقف أو يتصرف.

فلذلك ينبغي لمن ترك خيرًا، لمن عنده يعني مال، ويريد أن يوصي أن يبادر إلى الوصية، وينبغي أن يكتب وصيته، يقول النبي في هذا: ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه [7]، متفق عليه.

قال ابن عمر: لم أبت ليلة، إلا ووصيتي مكتوبة عند رأسي،  امتثل هذا التوجيه من النبي .

فيعني أقول: السعيد من وعظ بغيره، والشقي من اتعظ به غيره، لا يؤخر الإنسان، لا يسوّف، فيا أخي الكريم إذا كان عندك مال تريد أن توصي فيه، ابدأ الآن اكتب وصيتك الآن، اكتب وصيتك، وأشهد عليها شاهدين واتركها، وهذا لا يضيرك؛ لأن الوصية لا تلزم إلا بالموت، إن شئت ألغيت هذه الوصية، وإن شئت عدلت عليها، إن شئت أضفت، إن شئت حذفت؛ لأن الوصية لا تلزم إلا بالموت، لكن أنت اكتبها الآن، وأشهد عليها شاهدين واتركها، لا تدري ماذا يعرض عليك في المستقبل، هذا هو الحزم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه فإذن ينبغي الحرص على المبادرة بالوصية.

كتابة الوصية

أيضًا: ينبغي أن تكون الوصية مكتوبة؛ ولهذا أرشد النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ووصيته مكتوبة عند رأسه مع أنه عليه الصلاة والسلام كان أميًّا، وكان يعني معظم الصحابة أميون، ومع ذلك أرشد النبي عليه الصلاة والسلام إلى الكتابة.

والله تعالى في أطول آية في القرآن أرشد إلى كتابة الدين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282] فاكتبوه، فالكتابة تثبت الشيء، وتجعله حاضرًا، فهي مفيدة جدًّا؛ ولهذا ينبغي كتابة الوصية ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وعنده شيء ليوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه فينبغي أيضًا أن يكون مع الكتابة إشهاد، يشهد شاهدين قطعًا للنزاع؛ ولأنه أحوط وأحفظ.

قال أنس : كانوا يكتبون في صدور وصاياهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به فلان ابن فلان أنه يشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، أوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله، ويصلحوا ذات بينهم، وأن يطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، ووصاهم بما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] [8].

فإن كتبها وصدرها بهذا جيد، وإن لم يفعل المهم أنه يكتب وصيته، يكتب إني أوصي بكذا، فإذن الحزم أن الإنسان يبادر في كتابة وصيته، ويشهد عليها، وإذا أراد أيضًا يوقف يبادر بكتابة هذا الوقف وتوثيقه، وهذه الآثار الحسنة التي تبقى للإنسان.

كما قال عليه الصلاة والسلام: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية.. [9]، ما هي الصدقة الجارية؟ الصدقة الجارية هي الوقف، وفي معناها الوصية أيضًا، ما دام أنه ينتفع بالوقف أو الوصية، فهي تدخل في الصدقة الجارية التي يجري للإنسان نفع أجرها وثوابها بعد مماته، وتكون من آثاره الحسنة، فإن الله تعالى يقول: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12]، يكتب للإنسان أمران: ما قدّم، ما عملت يده من صلاة وصيام وزكاة، ويكتب له أمر آخر، وهي الآثار، إن كانت آثارًا حسنة فله، وإن كانت آثارًا سيئة فعليه.

فمن الآثار الحسنة: الصدقة الجارية: الوقف أو الوصية هذه آثار حسنة، تُدِرُّ عليه حسنات في قبره ما دام ينتفع بها، فإذن من ترك خيرًا، من عنده مال ويريد أن يوصي فيه، فليبادر إلى كتابة وصيته، وليشهد عليها.

أيضًا من الأحكام: دل قول الله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [البقرة:181] على أن الأصل وجوب الالتزام بلفظ الموصي والموقف، هذا هو الأصل، تنفذ الوصية كما أراد الموصي، ليس لك أنت أيها الناظر على الوصية أو الوقف أن تجتهد، تنفذها كما أراد.

بعضهم يقول: إنه أوصى في أضحية لا، أنا أريد أن أجعلها في مسجد، لا ليس لك ذلك، هو أراد هذا، تنفذها كما أراد، فلا يجوز تبديل الوصية، ولا يجوز تبديل الوقف، الأصل هو الالتزام بلفظ الموصي والموقف؛ ولهذا قال سبحانه: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [البقرة:181] هذا يدل على أن المبدِّل يأثم بهذا التبديل؛ ولهذا ختم الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ هذا فيه نوع من التهديد؛ لأنه مطلع عليك إذا بدلت، وإذا حرفت في هذه الوصية، أو هذا الوقف، فإن الله تعالى مطلع عليك.

للفقهاء كلمة مشهورة يقولون بالنسبة للأوقاف والوصية في معناها في معنى الوقف، يقولون: لفظ الواقف كلفظ الشارع، ووجّه هذا ابن تيمية وابن القيم وجمع من المحققين بأن المقصود في الفهم والدلالة، يعني: أن ألفاظ الواقف -وهكذا الموصي- كألفاظ الشارع في الفهم والدلالة، من حيث يعني تقييد المطلق، وتخصيص العام، ونحو ذلك.

فهذا يدل على أهمية العناية بتنفيذ الوصية والوقف كما أراد الموصي وكما أراد الموقف ما لم يكن ذلك أمرًا محرمًا، وهذا ما سيأتي الكلام عليه إذا كان أمرًا محرمًا يشرع تبديله كما سيأتي، لكن إذا كان أمرًا مباحًا، أو أمرًا مشروعًا، فيجب أن تنفذ الوصية أو الوقف كما أراد الموصي، وكما أراد الموقف، وهو في هذه الآية الوعيد في حق من بدل ذلك: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ بعد ما سمع الموصي أو الموقف بدله فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [البقرة:181] هذا يقتضي الإثم على من حرف الوصية، أو من حرف الوقف وبدل فيها، فلا يجوز إذن التعرض للوصية ولا للوقف.

وسبحان الله! يعني هناك قصص متواترة عن أناس تعرضوا لأوقاف ووصايا فعوجلوا بالعقوبات، من تعرض لوقف أو وصية، وحرف فيها، وبدل فيها، أو أكلها، فسبحان الله! يمحق هذا الإنسان، إما محقًا لصحته، أو محقًا لماله، أو يعاجل بعقوبة؛ لأن هذا يقتضي الإثم الشديد في حق من فعل ذلك، لا يجوز للإنسان أن يتعرض لوقف أو وصية، يأكل وقفًا أو وصية، أو يحرف فيها، أو يبدل.

إذا كان مجرد التبديل في الوصية يقتضي الإثم، وختم الله الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181] فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181] فكيف بمن يأكل الوصية، ويأكل الوقف؟! هذا إثمه أعظم وأشد عند الله .

فانظر إلى عناية القرآن الكريم بموضوع الوصايا في هذه الآيات الثلاث كلها عن أحكام الوصايا، أيضًا في آيات المواريث: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ.. تكررت في القرآن مرتين: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11] وفي الآية الأخرى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ [النساء:12].

فانظر إلى هذه العناية من الله بموضوع الوصية، وأنه ينبغي أن تنفذ كما أراد الموصي، وكما أراد المُوقِف.

أيضًا من الأحكام: دل قول الله سبحانه: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182] على أنه يجوز للسامع الوصية وهكذا الوكيل وللناظر تبديل ما كان فيها من خطأ، وهذا الخطأ الذي يكون في الوصية، إما أن يكون بطريق العمد، أو يكون بطريق الخطأ من غير عمد.

فذكر الله تعالى الأمرين جميعًا، فقال سبحانه: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا [البقرة:182] قال ابن عباس رضي الله عنهما: “الجنف: الخطأ”، وهذا يشمل أنواع الخطأ، والإثم هو العمد.

فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا يعني: إذا حصل في هذه الوصية، أو هذا الوقف خطأ، بأن مثلًا أوصى للوارث، فهنا تعدل هذه الوصية، لا تجوز الوصية لوارث إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث أو أوصى بأكثر من الثلث أيضًا تعدل هذه الوصية، أو أنه أوقف وقفًا على الذكور دون الإناث، أو أوقف وقفًا على أبنائه من أولاده من زوجة دون أولاده من زوجة أخرى، فهذه كلها أخطاء لا تخلو من أن تكون عن عمد أو عن غير عمد.

إن كان عن عمد عبّر الله عن ذلك بالإثم، وإن كان عن غير عمد عبّر الله تعالى عن ذلك بالجنف، فالجنف هو الخطأ عن غير عمد، والإثم هو الخطأ عن عمد.

الله تعالى قال: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا يعني: حصل منه خطأ، لكن بعمد أو عن غير عمد فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ إن كان ذلك في حياة الموصي، فيكون بموعظة الموصي، يوعظه وينكر عليه، يقول له: أنت أخطأت في هذه الوصية، هذه الوصية فيها خطأ، أنت أوصيت الآن لوارث، لا تجوز الوصية لوارث.

لكن إذا كان ذلك بعد وفاته، فإن هذه الوصية وهذا الوقف يعدل، ولا حرج على هذا المعدل؛ ولهذا قال سبحانه: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182] لأن الله تعالى لما حذّر من التبديل في الآية السابقة، فقد يفهم إنسان أن هذا التبديل لا يجوز مطلقًا، بيّن الله تعالى أن التبديل في حال إصلاح الخطأ أنه جائز، فقال: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فرفع الله تعالى الإثم والحرج والجناح عليه، وختم الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:182]؛ لأن هذا إنما قصد بذلك الإصلاح.

لكن ينبغي أن يكون هذا عن علم أيضًا لا يأتي إنسان جاهل ويقوم يعدل في الوصية، ويقول: والله نيتي حسنة، هذا يعني ليس عذرًا، النية الحسنة لا تكفي في هذا، لا بد أن يستشير أهل العلم في هذه الوصية هل يبدلها؟ ماذا نفعل؟

هذا الإنسان مثلًا أوصى بكذا، وهذه الوصية نرى أن فيها خطأ شرعي، فما هو الحكم؟ فالتعديل أو التبديل على الوصية، أو على الوقف يكون بعد استشارة أهل العلم الذين يعرفون؛ لأن هذا الوكيل أو الناظر قد يظن أنه خطأ والواقع أنه ليس خطأ، فعلى ذلك أنه ليس له أن يبدل، فهذا التبديل لا بد أن يكون عن علم، وأيضًا أن يكون بقصد الإصلاح؛ ولهذا قال: فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182] لأنه إنما فعل ذلك ليس له مصلحة شخصية، هذا بقصد إصلاح هذا الخطأ الذي وقع في هذه الوصية؛ ولهذا ختم الله تعالى الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:182].

المقدم: سؤال الله يحفظك: هل هناك حالات يجوز فيها الوصية لوارث؟

الشيخ: لا يجوز أن يوصى للوارث؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث فإذا كان وارثًا فلا يجوز أن يوصى له بوصية، لكن هل يجوز أن يوقف على الوارث؟ فهناك فرق بين الوقف والوصية:

أما الوصية فلا تجوز للوارث مطلقًا.

المقدم: ولو رضي الورثة.

الشيخ: حتى لو رضي الورثة ابتداء لا يجوز، أما لو بعد وفاة الموصي، فهنا يرجع للورثة، فيقال: إن رضيتم تنفذ الوصية، إن لم ترضوا فلا تنفذ.

المقدم: الوصية.

الشيخ: الوصية، يقال: إن رضيتم تنفذ الوصية، وإن لم ترضوا فإنها لا تنفذ، لكن ابتداء نقول: لا يجوز، حتى لو رضي الورثة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام علّل بعلة، فقال: إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا داعي لهذا التصرف، هذا التصرف لا داعي له إن الله أعطى كل ذي حق حقه فقسمة الله تعالى عادلة، فلا داعي لهذا التصرف.

لكن بعد وفاته إذا حصل، نفترض أن هذا حصل، هنا نرجع للورثة، إن رضي الورثة بالوصية للوارث تنفذ، إن رضي الورثة بالوصية بأكثر من الثلث لغير الوارث تنفذ، إن لم يرضوا فإنها لا تنفذ، فالمرجع في ذلك بعد الوفاة للورثة، أما قبل الوفاة نقول لهذا الموصي: لا يجوز.

لكن تأتينا قضية الوقف على الورثة، فالوقف على الورثة يختلف عن الوصية للورثة، الوصية للورثة لا تجوز، لكن الوقف على الورثة جائز في قول عامة أهل العلم، فيجوز للإنسان أن يوقف على أولاده، يجوز أن يوقف على مثلًا على زوجته، يجوز أن يوقف على ورثته، يجوز أن يوقف حتى على نفسه، فهذا الوقف يجوز.

ما الفائدة من الوقف على الأولاد؟ لأن أصلًا المال سيؤول تركة لهم، فبعض الناس يوقف على أولاده، ما هي الفائدة يا شيخ محمد، هل تظهر لك فائدة؟

المقدم: بقاء الأصل.

الشيخ: نعم، بقاء هذا الأصل، يعني مثلًا عنده بيت، هذا البيت يخشى بعد وفاته أن يباع هذا البيت، والورثة يقولون: نريد أن نبيع هذا البيت، وكل يقتسم يأخذ نصيبًا من قيمته، فصاحب البيت يقول: لا، أنا ما أريد أن هذا البيت يباع، أريد أن هذا البيت يبقى مركزًا للعائلة للأسرة، فتكون فيه مثلًا والدتهم تبقى معززة مكرمة في هذا البيت، ليس لأحد عليها منّة.

يبقى فيه مثلًا محتاج، قد تكون مثلًا امرأة مطلقة من بناته، مطلقة مثلًا من بعض بناته تحتاج أن تبقى في هذا البيت، قد يكون بعض الأبناء أيضًا يحتاج، قد يكون فيه قُصّر، فيقول: أنا أريد أن هذا البيت يبقى مركزًا لعائلتي، فيوقف هذا البيت، يقول: هذا البيت وقف يسكن فيه المحتاج من الورثة، فإذا لم يحتج أحد، فإنه مثلًا يؤجر ويقسم الإيجار على الورثة، أو أنه مثلًا الإيجار يصرف في وجوه البر، أو بحسب ما يريد، هذا لا بأس به.

بل إن من يفعل ذلك يكون قد أحسن للورثة إحسانًا عظيمًا، أحسن لعائلته؛ لأنه رتب أمورهم، فيبقون مجتمعين في هذا البيت، تبقى مثلًا الأم، وتبقى مثلًا القُصّر يبقى المحتاجون في هذا البيت معززين مكرمين، ما أحد يهددهم يقول: سنبيع البيت، نحن محتاجون نريد أن..، فهذا يكون قد أحسن لعائلته.

بعض الناس عندما يموت الميت، يبدأ بعض الورثة يقول: نريد نبيع البيت، طيب البيت قد يكون فيه مثلًا بعض النساء الضعيفات بعض القصر، أين يذهبون؟ يذهبون يستأجرون، يبقون من إيجار إلى إيجار، بدل ما كانوا في ملك، في بيت والدهم، يبقون من إيجار إلى إيجار.

لو أن هذا المورث أحسن إليهم بوقف هذا البيت لبقوا في هذا البيت معززين مكرمين؛ ولهذا أوجه نصيحة، أقول للإخوة المتابعين لهذه الحلقة والمشاهدين: من كان عنده بيت ملك، ويرغب في أن يكون هذا البيت مركزًا لعائلته بعد وفاته، ينبغي أن يوقفه، يقول: هذا البيت وقف على المحتاج من الورثة، لا يسمي أناسًا، لكن يقول: للمحتاج، أو من يرغب، إما أن يقول: للمحتاج، أو يقول: من يرغب في السكنى فيه.

ثم أيضًا يُبيّن ماذا سيكون البيت إذا لم يحتج أحد؟ فإن لم يوجد محتاج، أو من يرغب في سكناه، فيؤجر ويصرف الريع إما مثلًا يقسم على الورثة إن أراد، أو يكون في وجوه البر، فهذه من التصرفات الحسنة التي يُحسِن فيها الإنسان إلى عائلته، فهذا من الأمور الحسنة.

أيضًا: هناك الوقف على النفس أيضًا لا بأس به، الوقف على النفس يريد الإنسان أن يوقف، لكن يخشى أن يحتاج، يقول: عندي هذا العقار فهو وقف في وجوه البر، لكن أستثني نفسي، فأتصرف في ريعه طيلة حياتي بما أريد، وبعد وفاتي مثلًا يكون في وجوه البر، هذا أيضًا لا بأس به على القول الراجح، وقد ذكر هذا ابن القيم وجماعة ونصروا هذا، وقالوا: إن هذا لا بأس به، فهذه أيضًا يستطيع الإنسان يعني ماذا يستفيد الإنسان من الوقف على النفس؟

يستفيد أنه لو قدر الله تعالى عليه شيئًا، فسيكون هذا وقفًا؛ لأنه أحيانًا الأمور تأتي فجأة، أحيانًا يأتيه سكتة قلبية، يأتيه حادث، فيكون هذا وقفًا، في الوقت نفسه هو يخشى أن يحتاج إلى ريعه، فيستثني نفسه يقول: بشرط أن أتصرف في ريعه في حياتي بما أريد، فهذه أيضًا من الصور الحسنة التي يفعلها بعض الناس، والتي تحقق المقصود من الوقف أو من الوصية، وفي الوقت نفسه الإنسان يتوسع بهذا الاستثناء، أو بهذا الشرط.

المقدم: أحسن الله إليكم، أحد الأسئلة يا شيخنا: وردت في بعض ألفاظ الوصايا: وأن عيسى حق، فهل هذا اللفظ صحيح؟

الشيخ: نعم، هذا جاء في بعض الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: وأن عيسى عبد الله ورسوله [10]، وذلك أن هذا فيه رد على من جعلوا عيسى إلهًا، أو جعلوه ابنًا لله تعالى، تعالى الله عن ذلك، فالنصارى بعضهم يجعلوه إلهًا، كما قال الله سبحانه: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]، وبعضهم يجعله ابن الله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30].

فالعجيب أن عيسى عليه السلام لما أنطقه الله في المهد، ما هي أول كلمة قالها: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30] هو عبدالله ورسوله، فلذلك يعني هذه اللفظة وردت في بعض الأحاديث هو أن عيسى عبد الله ورسوله للرد على هذه الطوائف التي تعتقد هذه الاعتقادات المنحرفة في نبي الله تعالى عيسى.

المقدم: سؤال الله يحفظك: قول الموصي: بيتي وقف في حال موتي، هل هذا صيغة صحيحة؟ هل يكون البيت أثناء الحياة ملكًا أم يكون وقفًا لا يتصرف فيه؟

الشيخ: نعم، هذا هو الوقف المعلَّق بالموت، وهذا قال الفقهاء: إنه يأخذ حكم الوصية، فلا يزيد عن الثلث، لكنه يكون وقفًا، ويكون معلقًا بالموت، معنى ذلك قبل الموت ليس بوقف، فهو يقول: بيتي وقف بعد وفاتي، أو أنا إن مت فبيتي وقف، فقبل ذلك هو ليس وقفًا، لكن بعد وفاته يكون وقفًا، فهو هنا يشترك مع الوصية في أنه لا يزيد على الثلث، يشترك في أنه لا يزيد على الثلث.

لكن لو كان وقفًا منجزًا لم يتقيد بالثلث، فالإنسان مثلًا إذا أراد أن يوقف في حياته وقفًا منجزًا ليس معلقًا بالموت، له أن يوقف مثلًا النصف، له أن يوقف حتى ماله كله، لكن الأفضل ألا يفعل؛ لأنه قد يحتاج، الإنسان كما ذكرنا لا يدري ما يعرض له، الأفضل ألا يوقف جميع أمواله، وإنما يعني يوقف جزءًا من ماله.

ولهذا لما قال كعب بن مالك: إن من توبتي يا رسول الله أن أنخلع من مالي صدقة لله، قال عليه الصلاة والسلام: أمسك عليك بعض مالك [11]، فالإنسان قد يحتاج، لكن كيف نجيب عن أبي بكر  لما أتى بماله كله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله [12].

نقول: حالة أبي بكر حالة خاصة، أبو بكر عنده من اليقين والتوكل على الله ما ليس عند غيره، وهذه الحالة يعني حالة نادرة لا تتأتى لأكثر الناس، فلا يُقاس عليها.

ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال لبقية الصحابة: أمسك عليك بعض مالك يعني حالة أبي بكر هذه لا يقاس عليها؛ لما عند أبي بكر من عظيم التوكل واليقين الذي لا يُوجد عند غيره.

المقدم: وهل يقال يا شيخ: للحاجة الشديدة للجهاد؛ لأن أبا بكر أنفق ماله كله في حالة معينة، وهي حاجة الصحابة إلى هذا المال للغزو، فهل يكون لهذا أيضًا وصف معتبر؟

الشيخ: لا، أبو بكر يعني اختلفت الروايات هل أنفق هذا يعني عند غزوة تبوك، أو أنه عند الهجرة؟ فبعض الروايات أنه عند الهجرة، عندما أراد عليه الصلاة والسلام أن يهاجر، فاختلفت الروايات في الوقت الذي يعني أنفق أبو بكر جميع ماله.

لكن بكل حال يهمنا هو أن عمر قال: اليوم أسابق أبا بكر، فأتى عمر بنصف ماله، قال: ماذا أبقيت لهم؟ قال: أبقيت لهم مثله، فأتى أبو بكر بماله كله، فقال عمر: والله لا أسابقك بعد هذا أبدًا.

أبو بكر هو أفضل الصحابة، هو أعلم الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

المقدم: في ختام هذه الحلقة لا يسعنا أيها المشاهدون إلا أن نشكر فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور سعد بن تركي الخثلان، شكر الله لكم يا فضيلة الشيخ هذا الطرح، وهذا العلم، نفع الله بكم الإسلام والمسلمين.

الشيخ: بارك الله فيكم، وشكرًا لكم وللإخوة المشاهدين.

المقدم: نشكركم أنتم أيها المشاهدون الكرام على حسن استماعكم وإنصاتكم، ونلقاكم بإذن الله في حلقة جديدة في الأسبوع القادم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
^2 رواه ابن ماجه: 2714.
^3 رواه البخاري: 1295، ومسلم: 1628.
^4 رواه أبو داود: 2870، وابن ماجه: 2713.
^5 رواه البخاري: 5354، ومسلم: 1628.
^6 سبق تخريجه.
^7 رواه البخاري: 2738، ومسلم: 1627.
^8 رواه عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه: 16319.
^9 رواه مسلم: 1631.
^10 رواه البخاري: 3435، ومسلم: 28.
^11 رواه البخاري: 2757، ومسلم: 2769.
^12 رواه أبو داود: 1678، والترمذي: 3675.
مواد ذات صلة