الرئيسية/برامج تلفزيونية/تفسير آيات الأحكام/(4) تفسير آيات الحج من سورة البقرة
|categories

(4) تفسير آيات الحج من سورة البقرة

مشاهدة من الموقع

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:9].

على جميع المكلفين أن يتعلموا دينهم، وأن يتفقهوا في دينهم، كل واحد من الرجال والنساء عليه أن يتفقه في دينه، عليه أن يتعلم ما لا يسعه جهله، هذا واجب؛ لأنك مخلوق لعبادة الله، ولا طريق إلى معرفة العبادة، ولا سبيل إليها إلا بالله، ثم بالتعلم والتفقه في الدين، فالواجب على المكلفين جميعًا أن يتفقهوا في الدين، وأن يتعلموا ما لا يسعهم جهله، كيف يصلون؟ كيف يصومون؟ كيف يزكون؟ كيف يحجون؟ كيف يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟ كيف يعلمون أولادهم؟ كيف يتعاونون مع أهليهم؟ كيف يدعون ما حرم الله عليهم؟ يتعلمون، يقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين [1].

المقدم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مرحبًا بكم أيها المشاهدون الكرام في حلقة جديدة من برنامجكم البناء العلمي نستكمل وإياكم في هذه الحلقة “تفسير آيات الأحكام” مع فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ سعد بن تركي الخثلان، باسمي وباسمكم جميعًا أيها المشاهدون نرحب بفضيلة الشيخ.

الشيخ: أهلًا، حياكم الله، وبارك فيكم، وحيا الإخوة المشاهدين.

المقدم: الله يحييكم، موضوعنا في هذه الحلقة هو آيات الحج من سورة البقرة، نستأذنكم في سماع تلاوة هذه الآيات، ثم نعود لاستكمال الشرح والتعليق مع فضيلة الشيخ.

آيات الحج من سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ۝الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة:196-197].

المقدم: شيخنا موضوعنا في هذه الحلقة هو آيات الحج من سورة البقرة، نستأذنكم في ابتداء الشرح والتعليق، فتفضلوا.

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

الحديث في هذه الحلقة عن الآية: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] والآية التي بعدها: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] وبقية الحديث عن آيات الحج يكون في حلقة قادمة بإذن الله .

تفسير قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ..

يقول الله ​​​​​​​: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] وأتموا هل المقصود بذلك الإتمام على ظاهره، أو المقصود بذلك الأداء؟

بعض المفسرين قال: إنَّ المقصود بذلك: الأداء، فهو كقول الله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124]، وأيضًا في قول الله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187].

وقال بعض أهل العلم: إن المقصود بذلك إتمام الحج والعمرة بعد الشروع فيهما، فأخذوا اللفظ على ظاهره، وهذا هو القول الراجح؛ وذلك لأن الحج لم يفرض وقت نزول هذه الآية، هذه الآية نزلت في السنة السادسة من الهجرة بدليل قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] وقت الإحصار.

بينما الحج فرض في السنة التاسعة من الهجرة، ففرضية الحج كانت متأخرة، ويبعد جدًّا أن يفرض الحج في السنة السادسة، ولا تزال مكة بأيدي المشركين هذا بعيد؛ لأن مكة لم تفتح إلا في السنة الثامنة من الهجرة.

فالحج إذن إنما فرض بقول الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] هذه نزلت في السنة التاسعة من الهجرة، فإذن القول الراجح أن الآية على ظاهرها، وأن المقصود إتمام الحج والعمرة بعد الشروع فيهما، وأنه ليس مقصودًا بذلك الأداء.

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ [البقرة:196] يعني: حبستم، وهذا قد حصل للنبي عليه الصلاة والسلام لما أُحصر في الحديبية في السنة السادسة من الهجرة؛ وذلك أن النبي في السنة السادسة أراد أن يعتمر هو والصحابة؛ لأنهم أخرجوا من مكة، وكانوا مشتاقين، وحصلت غزوة بدر، وغزوة أحد، والخندق.

ثم بعد ذلك أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يذهب ويعتمر هو والصحابة؛ لما علمت بذلك قريش فزعت، فاعترضوا النبي عليه الصلاة والسلام عند الحديبية عند المكان الذي يسمى الآن بالشميسي، هذا هو الحديبية.

بعد ذلك أقام النبي عليه الصلاة والسلام، وأرسلوا وفودًا للنبي عليه الصلاة والسلام، وأرسلوا سهيل بن عمرو، فتفاءل النبي عليه الصلاة والسلام باسمه، وقال: سهل أمركم [2] ثم بعد ذلك كتبت بنود صلح الحديبية بين النبي عليه الصلاة والسلام وقريش.

كانت بنود الصلح في ظاهرها أن فيها غضاضة على الإسلام والمسلمين، وأنها لصالح قريش، فمثلًا كان من ضمن البنود: وضع الحرب عشر سنين، وكان من ضمنها: أن من أتى النبي مسلمًا يرده النبي عليه الصلاة والسلام لقريش، ومن أتى إلى قريش مرتدًا لا ترده قريش.

وكان أيضًا من ضمن البنود: أن النبي عليه الصلاة والسلام يرجع فلا يعتمر ذلك العام، وإنما يعتمر في العام الذي بعده، فكثير من الصحابة لم يتحمل، حتى عمر أتى النبي عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله، ألسنا على الحق، وهم على الباطل؟ قال: بلى قال: فلم نُعطِ الدنية في ديننا؟ لماذا نقبل بهذه الشروط؟ قال عليه الصلاة والسلام: إني رسول الله، وإنه ناصري قال أبو بكر: استمسك بغرزه، فإنه رسول الله [3].

يعني كل الصحابة حصل عندهم هذا الاستشكال إلا صحابي واحد، وهو أبو بكر الصديق، وهذا يدل على فضله، وعلى علمه، وعلى رسوخه.

ولهذا لما توفي النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي وقف، كان الناس يموجون في المسجد، حتى عمر يقول: ما مات رسول الله ، وإنما ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى إلى ربه، وسيأتي ويقطع أعناق رقاب المنافقين الذين يشيعون أن النبي عليه الصلاة والسلام مات.

أتى أبو بكر وقال: على رسلك، أنصت يا عمر، ثم صعد المنبر، وقرأ قول الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:144]، وقول الله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].

يقول الصحابة: كأننا نسمع الآية الآن، كأنها نزلت الآن، فثبّت الله الصحابة بهذه الكلمات من الصديق، فالصديق نصح عمر قال: “إنه رسول الله، استمسك بغرزه”، فلذلك كان عمر يقول: “أيها الناس اتهموا الرأي في الدين، فلقد رأيتني أجادل النبي عليه الصلاة والسلام، وإني والله لأتصدق بصدقات لعل الله أن يُكفِّر عني”.

أحيانًا يعتقد الإنسان أن رأيه هو الصواب وكذا، ويكون العكس؛ ولهذا على المسلم أن يقدم النص على العقل، الله تعالى أعلم وأحكم، فالإنسان عقله محدود، قد يعتقد أن هذا الشيء هو الصواب، وهو ليس كذلك.

فقبِلَ النبي عليه الصلاة والسلام هذه الشروط، العجيب أنه لما رجع النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة في الطريق نزل قول الله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1] قال الصحابة: أفتح هو؟ قال: نعم [4]؛ وبالفعل كان أثره عظيمًا على الإسلام.

المقدم: في انتشاره.

الشيخ: لأنه حصل الأمن، وحصلت الحرية في نشر الدعوة؛ ولذلك كان مع النبي عليه الصلاة والسلام ألف وأربعمائة في الحديبية، لكن كان معه في فتح مكة عشرة آلاف، وكان في حجة الوداع مائة ألف، انظر كيف انتشر الإسلام؟! فإذا وجد الجو من الحرية والأمان انتشر الإسلام؛ ولهذا سمى الله تعالى هذا الصلح فتحًا إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1] ليس المقصود بذلك فتح مكة، لا، فتح مكة متأخر، وقت نزول الآية المقصود به صلح الحديبية.

طيب لما النبي عليه الصلاة والسلام قبل بهذه الشروط، الصحابة استشكلوا كيف نرجع، كانوا متعلقين بالعمرة وبالحرم، ومشتاقين له اشتياقًا شديدًا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة: احلقوا رؤوسكم ما قام منهم أحد، ليس معصية للنبي عليه الصلاة والسلام، حاشا وكلا، ولكن لأنهم يرجون النسخ.

فدخل النبي عليه الصلاة والسلام على أم سلمة مغضبًا، قالت: ما الذي أغضبك يا رسول الله؟ قال: ما لي آمر أمرًا فلا يتبع عرفت أم سلمة مقصود الصحابة، وهو أنهم يرجون النسخ، فأشارت على النبي عليه الصلاة والسلام برأي، حتى إذا رأى الصحابة ذلك يئسوا من النسخ، قالت: احلق رأسك، إذا رأوك حلقت رأسك سيحلقون رؤوسهم [5].

وبالفعل حلق النبي عليه الصلاة والسلام رأسه؛ ولما رأوا النبي عليه الصلاة والسلام حلق رأسه خلاص أيسوا من النسخ، فحلقوا رؤوسهم، يقول الراوي: “حتى كاد يقتل بعضهم بعضًا من الغم والأسى”، سبحان الله! مع أنه فتح، سماه الله تعالى فتحًا، أحيانًا بعض الأمور تكون في ظاهرها فيها شر، لكن الله تعالى يجعل في عاقبتها خيرًا عظيمًا، وفتحًا للإسلام والمسلمين.

فنزلت الآية: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، وأحصر النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة، فأمرهم الله تعالى بذبح الهدي، فذبحوا الهدي، وحلقوا رؤوسهم، وهذا هو الحكم في المحصر، وسيأتي الكلام عن المحصر، هل الإحصار يختص بالعدو، أو يشمل غيره؟

فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] يعني: اذبحوا ما تيسر من الهدي، وَلَا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] ابن جرير الطبري يقول: “إن الآية معطوفة على قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ [البقرة:196]”.

وتعقبه ابن كثير في تفسيره، وقال: إن هذا القول ليس بصواب، وأن الصواب: أن قول الله تعالى: وَلَا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة: 196]، أنها معطوفة على قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196].

يقول ابن كثير: لأننا لو قلنا: إنها معطوفة على قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] لكان المعنى: أنه لا يذبح الهدي حتى يكون في الحرم، والنبي عليه الصلاة والسلام ذبح الهدي خارج الحرم وقت الإحصار.

فابن كثير رجح أن هذه الآية: وَلَا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ معطوفة على قول الله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] وهذا الذي ذكره ابن كثير هو الأقرب في معنى الآية.

طيب: وَلَا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] ما معنى: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ؟

مَحِلَّهُ: إما أن تكون اسم زمان، يعني: يوم حلوله، وهو يوم العيد، لكن قد دلت السنة على أنه لا حرج في تقديم الحلق على الذبح، فيكون هذا من باب يعني الإرشاد والاستحباب، أو يحتمل أن المقصود: حتى يذبح الهدي، ويكون هذا فيمن ساق الهدي أنه ليس له أن يحلق رأسه حتى يذبح هديه.

ويدل لهذا قول النبي لما سئل: ما بال الناس حلوا ولم تحل؟ قال عليه الصلاة والسلام: إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر [6]، رواه البخاري ومسلم، فهذا يكون في حق من ساق الهدي، وهذا الثاني هو الأقرب أنه يكون في حق من ساق الهدي أن ليس له أن يحلق رأسه حتى يذبح هديه، بدليل هذا الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يحل، وقال: إني قد لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر.

طبعًا سوق الهدي الآن يكاد يكون منقطع الآن، يعني معنى سوق الهدي: أن يسوقه من الحل إلى الحرم، يعني هذه السنة تكاد تكون الآن منقطعة، وقد كانت قديمًا موجودة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وفي العصور السابقة.

طيب: وَلَا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة:196] هذه الآية نزلت في كعب بن عجرة ، قال: حُملت إلى النبي والقمل يتناثر على وجهي، فقال عليه الصلاة والسلام: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك ما أرى لأنهم كانوا يعني يطيلون شعورهم، وكعب بن مالك أصابه يعني مرض، فالقمل تكاثر في شعر رأسه، فكان يتناثر، فلما حمل للنبي عليه الصلاة والسلام قال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك ما أرى ثم نزلت الآية: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196] فأمره النبي عليه الصلاة والسلام إما بصيام ثلاثة أيام، أو بذبح شاة، أو بإطعام ستة مساكين [7]؛ فالصيام صيام ثلاثة أيام، أَوْ صَدَقَةٍ يعني: إطعام ستة مساكين من مساكين الحرم، أَوْ نُسُكٍ يعني: ذبح شاة؛ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196].

فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ [البقرة:196]، فَإِذَا أَمِنْتُمْ يعني: من العدو، إذا أمنتم فأتموا الحج والعمرة لله، ثم قال: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] يعني: من اختار نسك التمتع، فهذا يكون عليه الهدي، بينما المفرد ليس عليه هدي؛ لماذا؟

لأن المتمتع يتمتع بالتحلل، وأنه يحل له ما حرم عليه بالإحرام بالفترة التي ما بين العمرة إلى الحج فهو يتمتع بالتحلل، أتى بعمرة ثم تحلل، حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام، حتى الجماع، فهذا معنى التمتع، يتمتع بما أحل الله له.

فهذا المتمتع من باب شكر نعمة الله على هذا، فعليه أن يذبح هديًا فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وألحق العلماء بالمتمتع القارن، فقالوا: القارن أيضًا عليه هدي، فالمتمتع والقارن عليهما هدي، أما المفرد فهذا ليس عليه هدي.

فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] يعني: عليه ما استيسر من الهدي، وهذا يدل على أنه ليس محددًا، لو أراد أن يذبح شاتين أو ثلاث أو أكثر فلا بأس، كلما أكثر كلما كان أفضل، والنبي عليه الصلاة والسلام أهدى مائة من الإبل.

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196] الثلاثة الأيام هذه تبدأ من العمرة إلى آخر أيام التشريق، لكن يحرم الصيام يوم العيد، وينبغي ألا يصوم يوم عرفة؛ لأن يوم عرفة يستحب للحاج أن يكون مفطرًا؛ لأجل أن يتقوى على الدعاء.

وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196] سبعة أيام إذا رجع لأهله؛ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:196] طيب؛ لماذا قال الله: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ مع أن قوله: ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ كافية؟

قال العلماء: لدفع التوهم في أن يكون مخيرًا بين الثلاثة أو السبعة، لولا أن الله تعالى قال: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:196] سيأتي من يقول: إنه مخير، إن شاء صام ثلاثة أيام في الحج، أو سبعة إذا رجع، حتى يدفع هذا التوهم قال الله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:196] أي: أن المطلوب عشرة أيام، ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله.

ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196] أي: ذلك التمتع الموجب للهدي هذا إنما هو لمن لم يكن من حاضري المسجد الحرام، أما من كان من حاضري المسجد الحرام فهؤلاء إذا تمتعوا ليس عليهم هدي، ومنهم: حاضرو المسجد الحرام، سنتكلم عنه إن شاء الله في الفوائد.

تفسير قوله الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ..

ثم قال الله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] يعني: معلومات لدى المخاطبين، وهي: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة عند الجمهور، وشهر ذي الحجة كاملًا عند المالكية، وسيأتي الكلام عن الخلاف.

فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [البقرة:197] يعني: شرع في الحج، فَلَا رَفَثَ [البقرة:197] المقصود بالرفث: الجماع ومقدماته، وَلَا فُسُوقَ [البقرة:197] المقصود بالفسوق: المعاصي، وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] الجدال في الحج له معنيان:

  • المعنى الأول: أن وقت الحج أصبح معلومًا، فلا يجادل في وقته؛ لأنهم كانوا في الجاهلية كان هناك جدل في وقت الحج متى يكون؛ لأنه كان عندهم النسيء: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37] فكانوا يقدمون صفر مكان محرم، فعندهم كان النسا، فكان هذا الجدال موجودًا، فالله تعالى يقول: الحج الآن أصبح معلومًا، وقته معلومًا لا جدال فيه.
  • والمعنى الثاني: في التعامل بين الناس، يعني الحاج ينبغي ألا يجادل غيره بالباطل؛ لأن هذا الجدل يؤثر على الخشوع المطلوب من المحرم، الإنسان عندما يجادل فإنه يحتمي، وإذا احتمى لا يمكن أن يجد خشوعًا في العبادة، أو في الدعاء، أو نحو ذلك، فنهى الله تعالى الحاج عن الجدال.

وإن كان أيضًا غير الحاج أيضًا، يعني ينبغي ألا يجادل، أعدّ الله بيتًا في ربض الجنة لمن ترك الجدال وإن كان محقًا، كما يقال: اكسب الجدل بأن تجتنبه، إلا أن يكون جدالًا بالحق، فهذا لا بأس به، حتى للمحرم، الله تعالى يقول: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] إذا كان لإثبات حق، أو لدفع باطل، إنسان مثلًا عرض شبهة، أتى وعرض شبهة مثلًا في عقيدة أو في كذا، أنا أجادله حتى أبطل هذه الشبهة، أو لأجل إثبات حق، أنا أجادله حتى أثبت هذا الحق، فإذا كان الجدال لإثبات حق، أو لإبطال باطل فهذا غير داخل في الآيات.

وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] وهذه الآية نزلت في أهل اليمن، أهل اليمن كانوا كما جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عباس، كانوا يحجون ولا يتزودون [8]، يعني: يأتون للحج من غير حمل الزاد، ويقولون: نحن متوكلون، فأنزل الله تعالى هذه الآية: وَتَزَوَّدُوا لأنهم كانوا يأتون بغير زاد، ويقولون: نحن متوكلون، ثم يبقون يسألون الناس، يعني لا بد أن يأكل ويشرب، من أين يأكل ويشرب، يبدؤون يسألون الحجاج ويسألون الناس، وهذا فهم خاطئ للتوكل؛ ولهذا أنزل الله تعالى الآية: وَتَزَوَّدُوا يعني: احملوا معكم الزاد، هذا لا ينافي التوكل فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى أشار الله تعالى إلى أن خير زاد الإنسان التقوى.

وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة:197] يَا أُولِي الْأَلْبَابِ يعني: يا أصحاب العقول الراشدة، والعقل عقل إدراك وعقل رشد، عقل إدراك هو الذي يكون به التكليف، إذا لم يكن الإنسان عنده عقل يكون مرفوعًا عنه القلم: رفع القلم عن ثلاثة، ومنهم: عن المجنون حتى يفيق [9].

وأما عقل الرشد فهذا قدر زائد على عقل الإدراك، يعني أن الإنسان يعمل ما فيه مصلحته يصيب الحق، ويعمل ما فيه المصلحة؛ وذلك بطاعة الله ، فأصحاب العقول الراشدة، أو الفطر السوية تجد أنهم يحرصون على طاعة الله ، واجتناب معاصيه؛ لما يعلمون من المصالح العظيمة في الدنيا والآخرة باتباع طاعته وأوامره، واجتناب نواهيه.

أبرز الفوائد والأحكام من الآيات

ننتقل بعد ذلك لأبرز الفوائد والأحكام:

أولًا: وجوب إتمام الحج والعمرة فرضًا أو نفلًا؛ لقوله سبحانه: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، ويجب إتمام الحج والعمرة حتى وإن كان نفلًا، وهذه هي العبادة الوحيدة التي يجب إتمام النفل فيها بعد الشروع، يعني بقية العبادات لا يجب إتمام النفل فيها، مثلًا الصيام نافلة الصوم للإنسان أن يقطع صومه.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان ذات يومًا صائمًا، وأهدي إليه حيس، فقال لإحدى زوجاته: أَرِينيه، فلقد أصبحت صائمًا [10]؛ فأكل، يجوز قطع صيام النافلة، حتى صلاة النافلة أيضًا، يجوز للإنسان أن ينوي الصدقة، ثم لا يتصدق.
الفقهاء قالوا: لو وضع الصدقة في كمه، ولم يخرجها جاز له الرجوع، جميع النوافل يجوز الرجوع فيها، إلا الحج والعمرة، فنافلة الحج والعمرة إذا شرع فيها وجب إتمامها لهذه الآية: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196].
الإنسان مثلًا شرع في نافلة الحج، ثم وجد زحام ووجد يعني عقبات، ليس له أن يرجع، يجب عليه أن يتم الحج، حتى وإن كان نافلة، العمرة مثلًا اعتمر عمرة نافلة، ثم وجد زحامًا، ووجد صعوبة، ليس له أن يرجع يجب عليه أن يتم العمرة.
ولهذا الفقهاء يقولون: إن الإحرام لا يرتفض برفضه، ليس للإنسان أن يقول: خلاص أنا أرفض الإحرام، ليس له ذلك، لا يرتفض الإحرام برفضه، إلا إذا أُحصر، فالإحصار له أحكام أخرى.

أيضًا من الفوائد: أن العمرة والحج سواء في الوجوب؛ لقوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، وقد اختلف العلماء في حكم العمرة، طبعًا الحج هو ركن من أركان الإسلام بالإجماع، لكن على خلاف، هل هو الركن الرابع أو الخامس؛ لأنه أحد أركان الإسلام الخمسة؟

حكم العمرة

أما العمرة فاختلف العلماء في حكمها هل هي واجبة، أو مستحبة؟ على قولين:

  • القول الأول: أنها واجبة، وهذا هو مذهب الحنابلة، ورواية عن الشافعية، ومروي عن عمر وابن عباس وعلي، وعائشة .
  • والقول الثاني: أنها مستحبة، وهو مذهب المالكية والحنفية، ذهبوا إلى أن العمرة مستحبة، وليست واجبة.

ولكل أدلته، وليس هناك دليل صحيح صريح يدل على عدم إيجاب العمرة، وإنما الأدلة ظاهرها تدل على أن العمرة كالحج؛ ولهذا نجد أن العمرة تقترن بالحج في النصوص، وفي هذه الآية قال: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196].

وفي حديث أبي رزين العقيلي قال: وأن تحج عن أبيك وتعتمر [11].

وجاء في حديث عمرو بن حزم: وأن العمرة هي الحج الأصغر [12]، فأيضًا: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة [13]، ويعني عدة أدلة، أيضًا: في حديث جبريل عندما سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإسلام والإيمان والإحسان، جاء فيه زيادة في أركان الإسلام: وأن تحج وتعتمر [14].

القول الراجح عند كثير من المحققين هو وجوب العمرة، لكن وجوبها أدنى من وجوب الحج، فإذن تكون العمرة واجبة مرة واحدة في العمر كالحج، وإن كان وجوبها أدنى من وجوب الحج.

المقدم: يعني ليس بركن يا شيخ.

الشيخ: ليس بركن، نعم.

أيضًا من الفوائد: وجوب الإخلاص لله في الحج والعمرة، من أين أخذنا هذه الفائدة من قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ [البقرة:196] أكمل.
المقدم: لِلَّهِ.
الشيخ: لِلَّهِ بالحج والعمرة، وهذا يدل على وجوب الإخلاص لله تعالى في الحج والعمرة، وهذا مطلوب في جميع العبادات، جميع العبادات مطلوب فيها أن تكون خالصة لله ، وأحد شرطي قبول العمل: الإخلاص لله، فشرط قبول العمل: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله ، إذا اختل واحد من هذين الشرطين لم تصح العبادة، ولم تقبل.

أيضًا من الفوائد: أن من أحصر عن إتمام الحج والعمرة فإنه يذبح ما استيسر من الهدي؛ لقوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] ويحلق رأسه أيضًا على خلاف بين الفقهاء هل الحلق واجب على المحصر، أو غير واجب؟ والقول الراجح أنه يجب، أنه يجب على المحصر، أما ذبح الهدي فهذا واجب بالإجماع، ومنصوص عليه في الآية: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وأما حلق الرأس فأيضًا واجب على القول الراجح، فالمحصر يحلق رأسه، ويذبح هديه.

وهذا يقودنا إلى الفائدة التي بعدها، وهي: هل الإحصار يختص بإحصار العدو، أو يشمل كل إحصار؟
هذه المسألة يعني محل خلاف بين أهل العلم، الله تعالى قال: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] للعلماء قولان في المراد بالإحصار.

  • ذهب الجمهور إلى أن المراد به: حصر العدو خاصة دون المرض وغيره.
  • القول الثاني: أن الحصر يشمل حصر العدو، ويشمل المرض، ويشمل الكسر، ويشمل كل مانع.

القول الأول: قول الجمهور، والقول الثاني قول الحنفية، القول الأول روي عن ابن عباس وابن عمر وأنس، والقول الثاني روي عن ابن مسعود ومجاهد وعطاء وعروة.
والأقرب -والله أعلم- هو القول الثاني، وهو أن الإحصار لا يختص بالعدو؛ لأن الآية أتت مطلقة: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] وهذا يشمل إحصار العدو، ويشمل غيره، هذا هو القول الراجح، والله أعلم.
ومما يؤيد هذا أن أهل اللغة قالوا: إن الحصر يكون من العدو، ويكون من المرض، هذه الكلمة في اللغة العربية يعني تدل على أن الحصر يكون من العدو، ويكون من المرض، فالقول الراجح إذن هو أن الإحصار لا يختص بالعدو، ويشمل المرض.
يشمل أيضًا في الوقت الحاضر يعني الأنظمة التي وضعت لأجل مصلحة الحجاج، ومن ذلك تصريح الحج مثلًا، تصريح الحج، يعني هذا أمر لا بد منه، العدد الآن عدد المسلمين مليار ونصف، لو سمح لواحد بالمائة فقط العدد خمسة عشر مليونًا، وهذا العدد لا تتسع له المشاعر، بل حتى ولا نصف واحد بالمائة، بل ولا ربع واحد بالمائة، الآن يعني إذا كان الحجاج مليونين نرى هذا الزحام الشديد، فيعني لا بد إذن من هذا التصريح.
طيب: من أتى بدون تصريح ورد، يعني هذا يكون محصرًا، ويأخذ هذه الأحكام الفقهية، فيقال له: تحلق رأسك، وتذبح هديك، لكن هل يجب على المحصر قضاء الحج أو العمرة مرة أخرى؟
هذا محل خلاف، والقول الراجح: أنه لا يجب إلا إذا كان الحج أو العمرة واجبًا، فيجب لوجوبه، وليس لكونه قضاء عن إحصار، هذا القول الراجح رجحه ابن القيم وجماعة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما أحصر في الحديبية في السنة السادسة من الهجرة اعتمر عليه الصلاة والسلام في السنة السابعة عمرة القضاء.
وليس من أتى معه للعمرة في السنة السابعة ليسوا كلهم الذين كانوا معه محصرين في السنة السادسة، بل بعضهم لم يأت، ولو كان القضاء واجبًا لأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام كلهم بالعمرة، فالقول الراجح أنه لا يجب، لكن إذا كان الحج أو العمرة واجبين، فيجب لوجوبهما، وليس للقضاء.

أيضًا من الفوائد: تحريم حلق الرأس للمحرم؛ لأن الله تعالى قال: وَلَا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] وهذا يدل على أن حلق الرأس أنه من محظورات الإحرام، وهو منصوص عليه في الآية، وهو محل إجماع، وقاس الفقهاء عليه تقليم الأظافر، فالمحرم ممنوع من حلق الشعر أو قصه، أو من تقليم الأظافر، سواء كان حلق شعر الرأس أو شعر بقية البدن، وكذلك تقليم الأظافر.

أيضًا من فوائد هذه الآية: جواز حلق الرأس لعذر كالمرض أو الأذى؛ لقول الله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة:196] فإذا كان الإنسان يحتاج لحلق رأسه بسبب مثلًا مرض أو بسبب أذى قمل، عبّر الله عن القمل بالأذى، فعنده قمل مثلًا في شعره، أو مثلًا عنده فطريات، أو لأي سبب، فاحتاج إلى حلق رأسه، فيجوز له أن يحلق رأسه، لكن يدفع فدية.
وهكذا أيضًا لو احتاج لارتكاب أي محظور من محظورات الإحرام يفعل ذلك المحظور، ويدفع فدية، فمثلًا لو احتاجت المرأة للبس النقاب؛ لكون نظرها ضعيفًا، لو لم تلبس النقاب لغطت وجهها، وإذا غطت وجهها ما تستطيع أن ترى الطريق، ويشق عليها ذلك، فلها أن تلبس النقاب، لكن تدفع الفدية.
ما هي الفدية؟
قال الله تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196] الفدية هذه هي وردت في حلق الرأس، لكن هي تشمل جميع محظورات الإحرام من تقليم الأظافر، والطيب، وتغطية الرأس بالنسبة للذكر، ولبس المخيط بالنسبة أيضًا للذكر، والنقاب والقفازين بالنسبة للمحرمة، فهذه إذا فعلها المحرم يجب عليه فدية، ما هي الفدية؟
الفدية قال: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فبينها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها صيام ثلاثة أيام، والصدقة إطعام ستة مساكين من مساكين الحرم، والنسك ذبح شاة تذبح في الحرم.
المقدم: مخير.
الشيخ: مخير على سبيل التخيير؛ لأن الله قال: أو.. أو للتخيير فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196] أسهلها يمكن في وقتنا الحاضر قد يكون هو إطعام ستة مساكين، يعني من احتاج لفعل محظور من هذه المحظورات يذهب لمطعم مثلًا في الحرم، ويطلب منه ست وجبات أرز مع لحم، ويوزعها على ستة من فقراء الحرم، فربما تكون هي أسهل ما يدفع في الفدية في الوقت الحاضر، وإن أراد أن يصوم ثلاثة أيام له ذلك، ومن أراد أن يذبح شاة فله ذلك، فهو مخير: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.

أيضًا من الفوائد: أن كفارات المعاصي فدى للإنسان من العقوبة؛ لقوله: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ [البقرة:196] فهي فدية للإنسان من العقوبة.
المقدم: كأنه يفتدي نفسه.
الشيخ: كأنه يفتدي نفسه من العقوبة ببذل هذه الفدية، ومثل ذلك أيضًا: كفارة اليمين؛ لأنه في كفارة اليمين حلف بالله ، فإذا حنث لم يفِ بما حلف عليه، لا بد أن يفتدي بدفع الكفارة، وإلا كان آثمًا، ومعرضًا نفسه للعقوبة لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [المائدة:89] يعني: إذا حلفتم قاصدين اليمين فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89].
وهكذا أيضًا الحدود إذا طبقت فهي كفارات لأصحابها، كما دلت لذلك عدة أحاديث، مثلًا الزاني إذا رجم لا يعاقب في الآخرة على الزنا، عقوبته أخذها في الدنيا، أو إذا جلد أو غرّب، السارق إذا قطعت يده، فهذا القطع كفارة له، لا يعاقب على السرقة في الآخرة، وهكذا، فالحدود والكفارات والفدية هذه تكون فدى لصاحبها من العقوبة في الآخرة.

أيضًا من الفوائد: أنه لا يجب على الإنسان أن يقترض إذا لم يجد الهدي؛ لقول الله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ [البقرة:196] ولم يقل: فليقترض، إذا لم يجد الهدي مباشرة يجوز له الصيام، ولا يلزمه أن يستلف أو يقترض من أحد.

أيضًا من الفوائد: أن من لم يجد الهدي وكان متمتعًا أو قارنًا، فيصوم عشرة أيام: ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، الثلاثة الأيام التي في الحج تبدأ من حين العمرة إلى آخر أيام التشريق، ولا يدخل فيها يوم العيد يحرم صومه، وينبغي ألا يصوم يوم عرفة؛ لأنه يستحب الفطر فيه للحاج، وأما السبعة فهذه إذا رجع إلى أهله، وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله.

أيضًا من الفوائد: أن الهدي لا يجب على حاضري المسجد الحرام، هدي التمتع والقران لا يجب على حاضري المسجد الحرام؛ لقول الله تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196] وحاضرو المسجد الحرام اختلف العلماء فيهم على أقوال، وحاضر من الحضور، فبعض العلماء قال: إن حاضري المسجد الحرام هم من كانوا دون المواقيت، وقال بعضهم: إنهم أهل مكة، وقال بعضهم: إنهم أهل الحرم، وقال بعضهم: من كان بينه وبين مكة مسافة قصر، والقول الراجح والله أعلم: أنهم أهل مكة والحرم، فمنطقة الحرم هذه كلها هؤلاء الذين يسكنون فيها يعتبرون من حاضري المسجد الحرام.
كذلك من كان في مكة وخارج الحرم، مثل مثلًا التنعيم، التنعيم الآن يعتبر في مكة وهو خارج حدود الحرم، والشرائع جزء منها أيضًا خارج حدود الحرم، ويعتبر أهلها من أهل مكة، فيدخلون في حاضري المسجد الحرام، فيكون معنى حاضري المسجد الحرام: أهل الحرم وأهل مكة، هذا هو القول الراجح الذي عليه جمع من المحققين من أهل العلم؛ لأن هؤلاء هم الحاضرون للمسجد الحرام، حاضر في الحرم، يعني قاطن في الحرم، حاضر للحرم، ويلحق بهم أهل مكة من خارج حدود الحرم لقربهم، فيعتبرون في حكم الساكن في الحرم.
وعلى ذلك فهؤلاء ليس عليهم هدي، وحتى أيضًا بالنسبة لطواف الوداع ليس عليهم طواف وداع، ويفهم من هذا يعني بناء على هذا القول الراجح: أن أهل جدة إذا تمتعوا إذا أتوا واختاروا نسك التمتع أو القران، هل عليهم هدي بناء على هذا القول، ها يا شيخ محمد؟
المقدم: نعم.
الشيخ: نعم، يكون عليهم هدي؛ لأنهم ليسوا من حاضري المسجد الحرام، أهل بحرة كذلك ليسوا من حاضري المسجد الحرام، فعلى القول الراجح إذن اختصاص حاضري المسجد الحرام بالحرم وأهل مكة فقط، فهؤلاء ليس عليهم هدي إذا اختاروا نسك التمتع أو القران.

أيضًا من فوائد هذه الآية: أن العلم بشدة العقوبة من أهل العلوم، من أين أخذنا هذه الفائدة؟ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:196] وَاعْلَمُوا: أمر الله تعالى بأن نعلم بأنه شديد العقاب، وهذا أمر يعني أقل ما يفيده الأمر الاستحباب وَاعْلَمُوا هذا يدل على أن العلم بشدة العقوبة أنه من أهم العلوم، فالله تعالى غفور رحيم، لكنه شديد العقاب اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:98] شَدِيدُ الْعِقَابِ في حق من عصاه غَفُورٌ رَحِيمٌ في حق من اتبعه، واتبع أوامره، واجتنب نواهيه وأطاعه واتقاه.
فالله تعالى في حق من عصاه، وفي حق من تجرأ على حرماته شديد العقاب، وهذا يستدعي من الإنسان الحذر من الوقوع في المعاصي، وأيضًا من الظلم لعباد الله، فإن الله شديد العقاب: إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته [15]؛ فيعني هذا المعنى ينبغي أن يكون حاضرًا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، من تجرأ على حرمات الله ، ووقع في المعاصي وتجرأ عليها، أو ظلم عباد الله فإن الله شديد العقاب، وهذا العلم بأن الله شديد العقاب يورث الخشية والخوف من الله .

أيضًا من الفوائد: أن شدة العقاب من كمال المعاقب وبسط قوته وسلطانه؛ لأن الله تعالى وصف نفسه بأنه شديد العقاب، والله تعالى لا يوصف إلا بصفات الكمال، بل أمر الله بأن نعلم ذلك: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:196] فيعني شدة العقاب هل هي وصف كمال، أو وصف نقص؟ وصف كمال؛ لأنها تدل على كمال المعاقب، وعلى بسط قوته وسلطانه.
ولذلك لو أن إنسانًا جنى ابنه جناية كبيرة فعاقبه عقوبة شديدة فإنه يحمد، لكن لو جنى ابنه جناية كبيرة والعقوبة ضعيفة تجد أنه لا يحمد، بل يذمه الناس، كيف يرتكب هذه الجريمة؟ وأنت تعاقبه عقوبة خفيفة.
ولذلك زوج امرأة العزيز لما تبين له بالأدلة والبراهين أن امرأته هي التي راودت يوسف، ماذا قال؟ قال: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يوسف:29] فقط وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ كيف يرى امرأته تخون، وهي التي تراود الفتى الذي في دارها، ومع ذلك يكتفي بهذا، كان هذا موضع ذم، مجرد استغفري لذنبك فقط، فهذا يعتبر نقص، فإذن شدة العقاب من كمال المعاقب، لكن تكون في محلها في حق من ارتكب ما يوجب العقوبة الشديدة؛ ولذلك يقول الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:98].

أيضًا من الفوائد: أن قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:196] ورد في ختام آية فيها ترخيصات: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة:196] فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196] إذن الآية فيها ترخيصات، ومع ذلك ختمت: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وهذا يدل على أنه ينبغي أن تكون الرخصة في محلها، ولا يتجاوز بها، ولا يتوسع فيها.

وأيضًا فيه إشارة إلى أن أمور الشريعة كما أن مبناها على اليسر، لكن الجنة حفت بالمكاره، لا بد من مكاره، ولا بد من أيضًا صعوبة يجدها الإنسان، فلا بد من الصبر؛ لأن الجنة لها ثمن، فبعض الناس يفهم من يسر الشريعة وسهولتها تمييع الأحكام الشرعية، وربما أنه في فتاواه يعني يكون هذا المعنى مسيطرًا عليه، ويبالغ في ذلك مبالغة تؤدي إلى تمييع الأحكام، فهذا منهج غير صحيح، كما أنه لا ينبغي التشديد على الناس أيضًا لا ينبغي تمييع الأحكام، فالله تعالى ختم هذه الآية التي فيها ترخيصات بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:196] والجنة حفت بالمكاره، فالمطلوب هو الاعتدال، لا يشدد الإنسان، ولا أيضًا يتراخى، وفي الفتاوى لا يشدد على الناس، ولا يميع الأحكام، وإنما يدور مع الدليل مستصحبًا يسر هذه الشريعة وسماحتها، هذه أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية.

أما الآية التي بعدها: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] تكلمنا عن معاني هذه الآية، أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بها:

أولًا: أن أشهر الحج ثلاثة: وهي شهر شوال، وذو القعدة، واختلف العلماء هل الشهر الثالث هو شهر ذي الحجة كاملًا، أو عشر ذي الحجة؟
فالجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة قالوا: وعشر ذي الحجة، أما المالكية فقالوا: شهر ذي الحجة، فعند المالكية أن أشهر الحج شوال وذو القعدة، وشهر ذي الحجة كاملًا، وعند الجمهور الحنفية والشافعية والحنابلة: أن أشهر الحج هي شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.
والقول الراجح هو قول المالكية، وهو أن أشهر الحج: شوال: وذو القعدة، وشهر ذي الحجة كاملًا، وذلك لأن الحج يقع بعد عشر ذي الحجة، يقع يعني اليوم الحادي عشر، واليوم الثاني عشر، واليوم الثالث عشر هي أيام التشريق، وفيها أعمال كثيرة، فيها أعمال الحج فيها الرمي، وفيها المبيت، فيها أيضًا الطواف، فيها السعي فيها، فيها عدة أعمال فيها أركان للحج، فالقول الراجح إذن أن أشهر الحج: أنها شوال، وذو القعدة، وشهر ذي الحجة كاملًا.

أيضًا من الفوائد: أنه لا بأس بالإحالة على المعلوم إذا كان معلومًا لدى المخاطب، من أين أخذنا هذه الفائدة؟ أخذناها من قول الله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] معلومات لدى المخاطبين، وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة، فهي معلومة، وهذا يستعمله الفقهاء تجد أنهم يقولون: وهذا معلوم من الدين بالضرورة، وأحيانًا الكاتب يقول: وهذا معلوم بالثمن المعلوم مثلًا، فإذا أحلت على معلوم لا بأس في مخاطباتك على هذا الشيء المعلوم، أو مثلًا تقول: وكذا وهو معلوم.
فعندما يقول المتكلم: وهذا معلوم، فهذا له أصل وهو هذه الآية، تتكلم مثلًا عن شيء، وتقول: وهذا معلوم، ثم ننتقل منه إلى مثلًا فقرة أخرى، أصل هذا أن الله تعالى قال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] لم يقل الله: أشهر الحج هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة، وإنما قال: مَعْلُومَاتٌ معروفة لدى المخاطبين.

أيضًا من الفوائد: أن المحظورات تحرم بمجرد عقد الإحرام في قوله: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ [البقرة:197] بمجرد العقد، بمجرد أن يقول: لبيك عمرة، أو لبيك حجًّا، هنا يجب عليه أن يجتنب جميع محظورات الإحرام.

أيضًا من الفوائد: تحريم الجماع ومقدماته على المحرم، وهو أشد محظورات الإحرام، أشد محظورات الإحرام هو الجماع، كما أن أشد مفطرات الصيام أيضًا هو الجماع أيضًا، الجماع إذا وقع في نهار رمضان أوجب الكفارة المغلظة مع القضاء.
كذلك الجماع إذا وقع حال الإحرام إن كان قبل التحلل الأول فسد الحج، وجب عليه قضاؤه من العام المقبل، ووجب إتمام النسك، ويذبح بدنة مع التوبة إلى الله ، وإذا كان بعد التحلل لا يفسد الحج، لكن يجب عليه أيضًا أن يذبح شاة.

أيضًا: دلت هذه الآية على تحريم الفسوق في الحج، والفسوق هو جميع المعاصي القولية والفعلية، وهي ممنوع منها المسلم حال الحج وبعد الحج، لكنها في حال الحج وقت الإحرام أشد، فالمعاصي التي تقع من المحرم تنقص من أجر الحج، وتؤثر على وصف الحج بكونه مبرورًا، فإذن الحج المبرور: هو الذي أتى به صاحبه على الوجه الأكمل، ولم يقع فيه إثم ولا معصية.

أيضًا من الفوائد: أن الحاج ينبغي أن يجتنب الجدال؛ لقوله: وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] وذلك لأن الجدال يورث أن يحتمي الإنسان، ويؤثر هذا على خشوعه، وعلى حضور قلبه في الدعاء، وفي أعمال الحج، وربما يتكلم بكلام غير لائق، هذا الإنسان وقت الجدل ربما يتكلم بكلام غير مناسب وغير لائق، فينبغي أن يجتنب الجدل في أثناء إحرامه، وبعد إحرامه أيضًا، لكن وقت الإحرام أشد، إلا أن يكون جدالًا بالحق وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] إذا كان لإحقاق حق، أو إبطال باطل.

أيضًا من الفوائد: أنه ينبغي حال الإحرام البعد عن كل ما يشوش الفكر ويشغل النفس، بدليل قوله: وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] نهى الله عن الجدال؛ لأنه يشغل النفس ويشوش الفكر، فينبغي للحاج أن يبتعد عن كل ما يشوش فكره.

أيضًا من الفوائد: عموم علم الله بكل شيء؛ لقوله: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197] فالله تعالى يعلم كل شيء، ما تفعل من خير الله تعالى يعلمه، واستحضار المسلم بأن الله تعالى يعلم منه العمل الصالح، ويعلم منه عمله الصالح، وفعله للخير، هذا يشجع الإنسان، فينبغي للمسلم أن يستحضر هذا المعنى أن كل ما أراد أن يعمل عملًا صالحًا، فالله تعالى يعلمه: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197].

أيضًا من الفوائد: أنه ينبغي للحاج أن يأخذ معه الزاد؛ لقوله: وَتَزَوَّدُوا [البقرة:197] ولا يذهب للحج بدون زاد، وهذا يعني كما ذكرنا نزل في أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن متوكلون، ثم يبدؤون يسألون الناس، وهذا أيضًا فيه قصور في فهم معنى التوكل؛ لأن التوكل معناه: فعل الأسباب المأذون فيها، واعتماد القلب على الله، فالتوكل له ركنان:

  • الركن الأول: أن يعتمد بقلبه على الله.
  • الركن الثاني: أن يفعل الأسباب المأذون فيها.

فإذا اعتمد بقلبه على الله، ولم يفعل السبب، هذا يكون عنده قصور في التوكل، إذا اعتمد على السبب، ولم يعتمد بالقلب على الله لم يكن متوكلًا، فلا بد من التوكل؛ من الأمرين جميعًا.
ولهذا يعني أنكر الله تعالى على هؤلاء الذين لا يحملون الزاد في الحج، ويقولون: نحن متوكلون، فأنكر الله تعالى عليهم هذا، وأن هذا ليس يعني فيه قصور في فهم التوكل.

أيضًا من الفوائد: أن التقوى خير زاد للمسلم؛ لقوله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] فالتقوى لله هو الذي ينتفع به الإنسان، ويرتبط به في حياته، وبعد مماته.

أيضًا من الفوائد: أن أصحاب العقول الراشدة هم أهل التقوى؛ لقوله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة:197] وأولو الألباب: هم أصحاب العقول الراشدة، فهم أهل التقوى، وكما ذكرنا أن عقل الرشد قدر زائد على عقل الإدراك، فأصحاب العقول الراشدة هم الذين يتقون الله ، هم الذين يطيعون الله ، وهم أولو الألباب أصحاب العقول السليمة الراشدة.

هذه أبرز الفوائد والأحكام المستنبطة من هاتين الآيتين.

المقدم: شكر الله لكم يا فضيلة الشيخ.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المشاهدين.

المقدم: في ختام هذا اللقاء نشكركم أيها المشاهدون الكرام على طيب المتابعة، ونلقاكم في حلقة قادمة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
^2 بنحوه رواه البخاري: 2731.
^3, ^5 رواه البخاري: 2731.
^4 رواه الحاكم في المستدرك: 3711.
^6 رواه البخاري: 1566، ومسلم: 1229.
^7 رواه البخاري: 1816.
^8 رواه البخاري: 1523.
^9 رواه أبو داود: 4403.
^10 رواه مسلم: 1154.
^11 رواه أبو داود: 1810، والترمذي: 930، والنسائي: 2621، وابن ماجه: 2906، وأحمد: 16185.
^12 رواه البخاري: 3177.
^13 رواه مسلم: 1218.
^14 رواه ابن حبان: 173.
^15 رواه البخاري: 4686، ومسلم: 2583.
مواد ذات صلة