الرئيسية/برامج تلفزيونية/تفسير آيات الأحكام/(5) تتمة تفسير آيات الحج في سورة البقرة
|categories

(5) تتمة تفسير آيات الحج في سورة البقرة

مشاهدة من الموقع

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:9].

على جميع المكلفين أن يتعلموا دينهم، وأن يتفقهوا في دينهم، كل واحد من الرجال والنساء عليه أن يتفقه في دينه، عليه أن يتعلم ما لا يسعه جهله، هذا واجب؛ لأنك مخلوق لعبادة الله، ولا طريق إلى معرفة العبادة، ولا سبيل إليها إلا بالله، ثم بالتعلم والتفقه في الدين، فالواجب على المكلفين جميعًا أن يتفقهوا في الدين، وأن يتعلموا ما لا يسعهم جهله، كيف يصلون؟ كيف يصومون؟ كيف يزكون؟ كيف يحجون؟ كيف يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟ كيف يعلمون أولادهم؟ كيف يتعاونون مع أهليهم؟ كيف يدعون ما حرم الله عليهم؟ يتعلمون، يقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين [1].

المقدم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مرحبًا بكم أيها المشاهدون الكرام في حلقة جديدة من برنامجكم البناء العلمي، نستكمل في هذه الحلقة سلسلة دروس “تفسير آيات الأحكام”، وضيفنا فيها فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ سعد بن تركي الخثلان، رئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية، وأستاذ الفقه في كلية الشريعة بجامعة الإمام، فمرحبًا بكم يا فضيلة الشيخ.

الشيخ: أهلًا حياكم الله، وبارك فيكم، وحيا الله الإخوة المشاهدين.

المقدم: نستأذنكم شيخنا الكريم في استماع تلاوة لهذه الآيات، ثم نعود لاستكمال الشرح والتعليق.

بقية آيات الحج التي في سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ۝ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۝وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۝أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ۝وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:198-203].

المقدم: مرحبًا بكم من جديد، تفضل يا شيخنا بالشرح.

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

كنا في الحلقة السابقة قد بدأنا بالكلام عن آيات الحج في سورة البقرة، من قول الله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، ثم: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة:197].

تفسير قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ..

بعد ذلك تأتي هذه الآيات ابتدأها ربنا  بقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] وهذه الآية نزلت في نفر من الصحابة كانوا يتعاملون بالتجارة في الحج، فأتى من أنكر عليهم، قال: كيف تتعاملون بالتجارة، وأنتم أتيتم للعبادة، أتيتم للحج؟ فكيف تأتون لمزاولة أمور دنيوية، وتجارة، وبيع وشراء، وأنتم إنما أتيتم للعبادة للحج؟

فأنزل الله هذه الآية في رفع الحرج عمن أراد أن يتعامل بالتجارة مع الحج، فقال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] فقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ المراد بالجناح: الإثم، فالجناح هو الإثم.

وهذا قد تكرر في القرآن الكريم لفظ الجناح، والمراد به: الإثم والميل عن الحق، سمي جناحًا؛ لأن فيه ميلًا عن الحق كجناح الطائر، أرأيت جناح الطائر الذي يكون فيه ميلان وخفوق، هكذا أيضًا الجناح هو يعني الإثم، يعني: ليس عليكم إثم أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ تَبْتَغُوا يعني: تطلبوا، والفضل المقصود به: المصالح الدنيوية كالتجارة، ونحوها.

وقد كان للعرب أسواق يتاجرون فيها، وخاصة في موسم الحج، أو عندما يقترب موسم الحج، كسوق عكاظ ومجنة وذي المجاز، فكانت هذه الأسواق تكون رائجة عندما يأتي موسم الحج؛ لأن الناس يفدون إلى بيت الله الحرام من سائر الأقطار، فكانت قريش تستفيد من هذه الأسواق في عرض تجارتها وفي البيع والشراء.

حكم التجارة في أيام الحج

وهنا سمى الله التجارة في أشهر الحج سماها فَضْلًا وهذا تأكيدًا للجواز، هذا من باب التأكيد للجواز، فهي فضل من الله ، فهذا هو معنى الآية لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [البقرة:198] أي: ليس عليكم حرج في أن تزاولوا التجارة والبيع والشراء في الحج، فهذا لا حرج على الإنسان فيه.

فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] أَفَضْتُمْ أي: دفعتم، وفيه إِشارة لكثرة الناس؛ وذلك لأن هذا اللفظ “أفاض” مأخوذ من فاض الماء إذا امتلأ وتصبب من نواحيه، وقال: فاض الماء، فالإفاضة تعني أن الحجاج سيكونون كثيرين، وستمتلئ بهم عرفات، ثم عندما يدفعون وينصرفون، فسيكونون يفيضون إفاضة في هذا الدفع، وهذا هو ما تحقق بالفعل نجد كثرة الحجيج على مر الأعصار.

سبب تسمية جبل عرفات بهذا الاسم

وقوله: مِنْ عَرَفَاتٍ: اسم للمكان المعروف عرفات، وهو الآن محدد بعلامات واضحة بينة، وسمي بعرفات قيل: لأن آدم وحواء تعارفا فيه؛ لأن آدم أهبط من الجنة، وحواء أهبطت من الجنة، فجعل كل منهما يبحث عن الآخر، واختلف في أي مكان التقيا، قيل: في بلاد الهند، وقيل: في جدة، وقيل: في عرفات، وسميت بذلك الاسم، وإن كان هذا ليس عليه دليل ظاهر بسند صحيح، لكن هذا قول مشهور.

وقيل: إن سبب تسميتها بعرفات لأن جبريل لما أتى لإبراهيم الخليل عليه السلام يعلمه المشاعر: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ [الحج:26] كان جبريل يأتي ويعلم إبراهيم المشاعر، ويحدد له حدود الحرم، فكان إبراهيم يقول: عرفت، عرفت.

وقيل: سمي بعرفات: لعلوه وارتفاعه، ومنه: عرف الديك، ومنه: الأعراف: وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ [الأعراف:46] فهذه المادة تدل على العلو والارتفاع، فهي مرتفعة.

فهذه أقوال قيلت في وجه تسميتها بعرفات، والله تعالى أعلم، وإن كان قد يكون أقربها هو الأخير، والأول والثاني ليس عليها دليل ظاهر، إنما هي أطلقت هكذا في كتب التفسير وفي غيرها، وإلا لو وجد لها سند صحيح لكان يتعين الأخذ بها، أما الأخير فهو يعني ينطلق من منطلق المعنى اللغوي لهذه الكلمة.

فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198] عَرَفَاتٍ مشعر حلال خارج الحرم، ومع ذلك فالوقوف به هو آكد أركان الحج الحج عرفة [2]، كما قال عليه الصلاة والسلام؛ والحكمة من ذلك: حتى يجمع الحاج بين الحل والحرام؛ لأن الحاج عندما يتنقل في المشاعر: منى من الحرم، مزدلفة من الحرم، المسجد الحرام وما حوله هذه كلها من الحرم، عرفات هو الذي من الحل، حتى يصدق عليه الجمع بين الحل والحرم، يعني كانت الحكمة أنه يذهب ويقف بعرفات في ذلك المكان، وإن كان خارج الحرم.

كما أن من كان يريد العمرة وهو في مكة، فلا بد أن يخرج خارج حدود الحرام، كالتنعيم مثلًا ويحرم منه؛ لماذا؟ حتى يجمع بين الحل والحرم.

فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ هو مزدلفة، هو اسم من أسماء مزدلفة، وتسمى جمع أيضًا.

تفسير قوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ..

فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ۝ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:198-199] أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] المقصود بالإفاضة هنا يعني: أفيضوا من عرفات؛ لأن عرفات هي التي يفيض منها الناس، فإن قريش كانت لا تقف بعرفة، وإنما تقف بمزدلفة، ويقولون: نحن أهل الحرم فلا نخرج منه، وبقية الناس من غير قريش يقفون بعرفات، فكانت قريش تضع لها امتيازات يعني خصوصية، فهم يقولون: لا، نحن ما نقف بعرفات، نحن نقف بمزدلفة؛ لأننا أهل الحرم فلا نخرج من حدود الحرم، وعرفات ليست من الحرم.

فأنزل الله هذه الآية: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] وليس من حيث أفاضت قريش، يعني أفيضوا من عرفات وليس من مزدلفة؛ ولذلك خالف النبي قريشًا في هذا؛ لما دفع من منى وكان في طريقه لمزدلفة، يقول الصحابة الذين معه: لم نشك أنه سيقف في مزدلفة؛ لأنه من قريش، ومتعارف عندهم أن قريشًا تقف في مزدلفة.

لكنه عليه الصلاة والسلام استمر حتى وقف بعرفات، فأبطل عليه الصلاة والسلام هذا المعتقد الموجود عند قريش، وعند أهل الجاهلية، وأيضًا أكده القرآن بهذه الآية: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] وليس من حيث أفاضت قريش، يعني أفيضوا من عرفات، وليس من مزدلفة كما كانت تفعل قريش.

وهنا في قول الله تعالى عندما نتأمل الآية الله قال: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ۝ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:198-199] يعني: ثم أفيضوا من عرفات، فكيف تأتي “ثم” وفي الآية التي قبلها قال: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198] هنا كثير من المفسرين قالوا: إن هذا من باب الترتيب الذكري لا الترتيب الحكمي، وهذا أسلوب معروف عند العرب، فهو من باب الترتيب الذكري فقط، وليس من باب الترتيب الحكمي، وهو من الأساليب عند العرب أن الإنسان يتحدث ثم يرجع، ويؤكد على ما يريد أن يقوله، ويأتي بــ(ثم) فهذا أسلوب من الأساليب المعروفة في اللغة العربية.

وقال بعضهم: إن المقصود بقوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] يعني: ادفعوا من مزدلفة إلى منى بعد الوقوف بمزدلفة، لكن الأقرب هو الأول؛ لأن الله قال: مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ فيه إشارة إلى أن فيه إفاضة للناس، وفيه إفاضة لغيرهم وهي إفاضة قريش.

وقال بعض المفسرين: يعني يحتمل الأمرين جميعًا: يحتمل أن يكون المقصود: ثم أفيضوا من عرفات، وأيضًا: ثم أفيضوا من مزدلفة إلى منى، وأن هذا أوسع في دلالة الآية.

تفسير قوله: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ..

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:199-200] كانت العرب إذا قضت المناسك وقفوا بمنى يتفاخرون بآبائهم، وهذا يقول: أبي كان يفعل كذا، وهذا يقول: أبي كان يفعل كذا، يفتخرون بمآثر آبائهم وأجدادهم، كان هذا معروفًا عند العرب، إذا قضوا مناسكهم بقوا يذكرون آباءهم وأجدادهم ويتفاخرون بمآثرهم.

فأنزل الله هذه الآية: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200] كما أنكم تذكرون آباءكم، اذكروا الله كما تذكرون آباءكم، بل أَشَدَّ ذِكْرًا بل اذكروا الله ذكرًا أشد من ذكركم آباءكم، وقال بعض المفسرين: إن معنى الآية يعني أكثروا من ذكر الله كما أن الطفل يذكر أباه.

تجد أن الطفل دائمًا عندما يتكلم يتكلم بــ بابا ماما، بأبي بأمي، فهو يلهج دائمًا لسانه أول ما يتحدث بأبيه وأمه، فكأن الآية أيضًا أنتم اذكروا الله ، كما أن هذا الإنسان يتعلق بأبيه، ويكثر من ذكر أبيه وأمه، أنتم أيضًا أكثروا من ذكر الله كما يذكر هذا أباه وأمه أو شد.

تفسير قوله: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا..

فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [البقرة:200] كان هناك بعض الناس خاصة من بعض الأعراب يدعون الله بأمور الدنيا فقط، ولا يدعون بأمور الآخرة، فيقولون: نسألك اللهم أن تجعل هذا العام عام خصب وغيث، وأن تسقينا فيه المطر، وأن.. يدعون بأمور دنيوية فقط، فأنكر الله عليهم: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۝وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:200-201] فأثنى الله عليهم: أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة:202].

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً [البقرة:201] ما هي الحسنة التي في الدنيا؟ الحسنة هي كل ما يستحسنه الإنسان من الصحة، ومن المال، وسعة الرزق، والزوجة الصالحة، والدار الواسعة، والمركب الهنيء، ونحو ذلك، وما أثر عن بعض السلف في هذا، إنما هي مجرد أمثلة، وباختصار كأنك تقول: يا رب اجعلني سعيدًا في الدنيا.

وأما الحسنة التي في الآخرة فهي الجنة: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، الْحُسْنَى هي الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله الكريم.

وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] أي: جنبنا دخول النار، واعصمنا مما يوجب دخولها؛ وذلك بأن تعصمنا من الذنوب التي تكون سببًا لدخول النار، وأن أيضًا تغفر لنا ذنوبنا التي قد توجب دخول النار أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:202].

تفسير قوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ..

وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] الأيام المعدودات هي أيام التشريق، وهي اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من شهر ذي الحجة، وأما الأيام المعلومات وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج:28] وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [الحج:36] إلى أن قال: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج:28] فالأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، وأما المعدودات فهي أيام التشريق.

فذكر الله تعالى إذن في سورة الحج الأيام المعلومات، وذكر في سورة البقرة الأيام المعدودات، الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، والأيام المعدودات هي أيام التشريق؛ وهي الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر.

فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ [البقرة:203] يعني: في اليوم الثاني عشر فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203] من تأخر في اليوم الثالث عشر فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203].

أبرز الفوائد والأحكام من الآيات

نأتي بعد ذلك لأبرز الفوائد والأحكام:

أولًا: دل قول الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] على جواز الاتجار في الحج، وأنه لا بأس أن يزاول الإنسان التجارة، ولو كان قد أتى للحج، فلو أتى يعني ليبيع أو يشتري، أو مثلًا عنده حملة حج أو شركة حج، أو نحو ذلك، هذا لا حرج في ذلك، ولا بأس بأن يجمع بين نية الحج ونية التجارة.

حكم التشريك في النية

وهذا يقودنا إلى مسألة معروفة عند العلماء، وهي حكم التشريك في النية، يسميها العلماء: حكم التشريك في النية، ما معنى التشريك في النية؟

التشريك في النية: أن ينوي بعمله هذا التقرب إلى الله ، وأن ينوي معه أمرًا دنيويًّا، فينوي مثلًا الحج، وينوي التجارة، ينوي مثلًا طلب العلم، التقرب إلى الله بطلب العلم، وينوي الحصول على الشهادة، ينوي مثلًا التقرب إلى الله بالصيام، وينوي مثلًا تخفيف الوزن، والصحة، والآثار التي تعود على الصحة من الصيام، ونحو ذلك.

فهو يريد بذلك التقرب إلى الله، ويريد مع ذلك أمرًا دنيويًّا، يريد مثلًا الاستغفار، يستغفر، يريد بذلك الأجر من الله، ويريد بذلك المنافع الدنيوية للاستغفار، يكثر من الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، يريد بذلك الأجر من الله، ويريد بذلك ما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام من أن الصلاة على نبيه سبب لتفريج الهموم، وإلى غير ذلك.

يجمع في النية بين التقرب إلى الله، وبين أمر دنيوي، هذه المسألة يسميها العلماء بمسألة التشريك في النية، وهي تختلف عن مسألة الرياء، الرياء يحبط العمل، الرياء معنى ذلك أنه يأتي لعبادة، ويريد بها الناس، يصلي لأجل أن يراه الناس، يصوم لأجل أن يراه الناس، يتصدق لأجل أن يقال: إنه كريم، إنه جواد، فهذه تحبط العمل.

والله تعالى يقول في الحديث القدسي: من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه [3]، وأول من تسعر بهم النار يوم القيامة الثلاثة، وذكر منهم: رجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فيؤتى به فيعرفه نعمه فيعرفها، فيقول: ما عملت فيها؟ يقول: رب تعلمت فيك العلم وعلمته للناس، وقرأت فيك القرآن، فيقال: كذبت، لكنك تعلمت ليقال: هو عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، وألقي في النار.

والثاني أيضًا: قال: ما من سبيل خير إلا أنفقت فيها، يقال له: كذبت، ولكنك تصدقت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، فألقي في النار.

والثالث: يقول: إني قاتلت حتى قتلت، فيقال: كذبت، لكنك قاتلت ليقال: هو جريء، وهو شجاع، فقد قيل، فيسحب على وجهه، فيلقى في النار [4]، نسأل الله العافية.

هؤلاء وقع منهم الرياء، فالرياء يحبط العمل، لكن لا نقصد هذا، وإنما نقصد هذا الإنسان غير المرائي، لكنه يريد التقرب إلى الله، ويريد أمرًا دنيويًّا، ليس رياء، وإنما يريد أمرًا دنيويًّا، يريد يحج يأتي بالحج التقرب إلى الله، ويريد مع ذلك تجارة، يأتي للكلية الشرعية يريد التقرب إلى الله بطلب العلم، ويريد بذلك الحصول على الشهادة، ونحو ذلك، فهذه هي المسألة التي نقصدها: التشريك في النية بين التقرب إلى الله، وبين أن يريد أمرًا دنيويًّا.

لا شك أنه لو أخلص النية لله هذا أكمل وأفضل، لكن ما حكم تشريك النية؟ تشريك النية لا بأس به، بدلالة قول الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] يعني: في الحج، فالله تعالى نفى الجناح والحرج والإثم عمن أراد أن يزاول التجارة، ويريد الحج أيضًا، هذه الآية نص في المسألة.

كذلك أيضًا قول الله تعالى عن نوح: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح:10] ثم ذكر منافع ومصالح دنيوية، ما هي المصالح يا شيخ محمد؟

  • أولًا: يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا [نوح:11] هذه فائدة دنيوية.
  • والثاني: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ [نوح:12] يعطيكم أموال، هذه فائدة دنيوية.
  • والثالثة: وَبَنِينَ [نوح:12] أيضًا هذه فائدة دنيوية.
  • والرابعة: وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:12] كلها مصالح دنيوية مترتبة على الاستغفار.

أيضًا قول النبي عليه الصلاة والسلام: من قتل قتيلًا له عليه بينة، فله سلبه [5]، مع أن النية في القتال في سبيل الله لها أهميتها، والنبي عليه الصلاة والسلام لما ذكر الرجل يقاتل رياء، ويقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليُرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله [6] ومع ذلك قال: من قتل قتيلًا له عليه بينة، فله سلبه من باب التشجيع، حتى يتشجع من معه، فيحرصون على القتال، فمن قتل قتيلًا، واستطاع أن يثبت أنه قتل فلانًا من العدو، فيعطى سلبه، يعطى ما معه من سلاح وخيل، ونحو ذلك.

فمعنى ذلك أن هذا الذي سيقاتل سيجمع في نيته بين التقرب إلى الله ، وبين الحصول على السلب.

القول الراجح إذن أنه لا بأس بالتشريك في النية، وإن كان فيها خلاف، لكن القول الراجح أنه لا بأس بالتشريك في النية لهذه الأدلة، وهي أدلة -كما ترى- قوية، فالآية التي معنا الآن هي كالنص في المسألة: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198].

المقدم: شيخنا هل هذا في كل العبادات؟ بعض العلماء يفرق يقول: هناك عبادات محضة، مثل الصلاة لا يجوز فيها نية أي شيء آخر، ولو نوى الصحة، ولو نوى قوة البدن، أما عبادات أخرى مثل الحج، مثل الجهاد يجوز فيها تشريك النية، هل هناك دليل؟

الشيخ: هذا التفريق لا دليل عليه، الحج أيضًا مطلوب إخلاص النية لله سبحانه فيه، الجهاد كذلك مطلوب، كل العبادات مطلوب فيها إخلاص النية، لكن بعض الناس ربما تشتبه عليه هذه المسألة بمسألة الرياء، الرياء يحبط العمل، لكن لو أراد أن يصلي مثلًا ورأى نفسه يجمع بين نية الصلاة ونية الرياضة والنشاط، فهذا لا بأس به، هل هذا يبطل الصلاة، أو ينقص من أجرها؟ أبدًا.

أيضًا من الفوائد: أنه ينبغي للإنسان في تجارته وبيعه وشرائه أن يكون مترقبًا لفضل الله سبحانه، وأن لا يعتمد على نفسه؛ لقوله: أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] فتأمل قوله: تَبْتَغُوا فَضْلًا ما قال: تتاجروا، تبيعوا، تشتروا، لا، كأن الذي يبيع ويشتري يترقب الفضل من الله ، يترقب أن الله تعالى هو الذي يرزقه، هو الذي يبارك في تجارته، فهو يترقب الفضل من الله، فلهذا هذه المعاني ينبغي أن تكون حاضرة في ذهن المسلم عندما يزاول التجارة، وهو أنه يرجو الفضل من الله، ويترقب الفضل من الله، هذا له أثر في سعة الرزق، وفي البركة أيضًا في التجارة.

وقد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أتاه ضيف، فسأل زوجاته، فقالوا: ما عندنا شيء، فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم إنا نسألك من فضلك ورحمتك ثم أهدي إليه شاة مصلية، فقال عليه الصلاة والسلام: هذا فضل الله، وننتظر رحمته [7]؛ فهذه القصة سندها صحيح فإذن الإنسان يرجو الفضل من الله ، وإذا أراد يزاول التجارة يتوكل على الله، ويترقب الفضل من الله، كما قال عليه الصلاة والسلام: لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير [8].

أيضًا من الفوائد: مشروعية الوقوف بعرفة؛ لقوله: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، في قوله: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فسمى الله عرفات باسمها، وذكر هذا الوقوف: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198] وهذا فيه إشارة إلى مشروعية الوقوف بعرفة، وهو آكد أركان الحج، آكد أركان الحج الوقوف بعرفة، أركان الحج أربعة:

    • الإحرام.
    • والوقوف بعرفة.
    • وطواف الإفاضة.
    • والسعي.
      آكدها الوقوف بعرفة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: الحج عرفة [9]، من فاته الوقوف بعرفة فلا حج له.

أيضًا من الفوائد: أن الصلاة من ذكر الله تعالى؛ لقوله: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] ومن المعلوم أن الإنسان أول ما يصل للمشعر الحرام يصلي، يعني أول ما يصل مزدلفة يصلي صلاة المغرب والعشاء.
وبعض المفسرين قال: إن المقصود بقوله: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] يعني المقصود بذلك: صلاة المغرب والعشاء في مزدلفة، والأقرب -والله أعلم- أن صلاة المغرب والعشاء في مزدلفة أنها من ذكر الله، لا ينحصر ذكر الله المذكور في الآية فيها، وإنما هي من ذكر الله، وهذا فيه إشارة إلى أن الصلاة من ذكر الله : وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه:14].

أيضًا من الفوائد: أن مزدلفة من الحرم؛ لقوله: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] فوصفها الله تعالى وصف مزدلفة بوصفين: الوصف الأول: أنها مشعر، والثاني: أنها حرام، مشعر حرام، فالدفع من عرفات للوقوف بمزدلفة الوقوف بمزدلفة واجب من واجبات الحج.
ومن الفقهاء من قال: إنه ركن، ومنهم من قال: إنه سنة، والقول الراجح: أن الوقوف بمزدلفة أنه واجب من واجبات الحج، فإن الله تعالى أمر به، فقال: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198].

أيضًا من الفوائد: أن المسلم عليه أن يذكر الله لما أنعم به عليه من الهداية، لقوله: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ [البقرة:198] والكاف هنا هل هي للتعليل، أو للتشبيه؟ ما الفرق بينهما؟
وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ [البقرة:198] أي: اذكروه لأنه هداكم، فاذكروا الله شكرًا لنعمته على الهداية، شكرًا لنعمة الهداية.
أما إذا قلنا: الكاف للتشبيه، وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ [البقرة:198] يعني: المراد بهذه الكاف التشبيه، فيكون المعنى: فاذكروه على الوجه الذي هداكم له، وعلى هذا فيكون المعنى: لا تذكروا الله تعالى إلا على الصفة الواردة التي هداكم الله إليها، وذكرها الله في القرآن، وذكرها رسوله في سنته.
والآية تحتمل المعنيين، وعندنا قاعدة في التفسير، وهي: أن الآية إذا احتملت أكثر من معنى، وليس بينها اختلاف، فتحمل على جميع المعاني؛ لأن هذا أوسع في دلالتها وأبلغ، المهم ألا يكون بينها تضاد، أو اختلاف هذه المعاني.
فالآية تحمل على المعنيين جميعًا، فاذكروه؛ لأنه هداكم، واذكروه أيضًا على الوجه الوارد أيضًا، لا يأتي الإنسان بأذكار لم ترد، فالإنسان يعبد الله كما أراد الله، وليس كما أراد هو، فعلى ذلك مثلًا بعض الأذكار تقع من الناس فيها بدع، بعض الناس يقول: الله، الله، الله، هل هذا ذكر؟ ما الدليل؟ أن يقول: الله، الله، الله يرددها، إنما يقول: لا إله إلا الله، أو سبحان الله، أو الحمد لله، أو الله أكبر، أما أن يقول: الله، الله، الله لم يرد، الأصل في العبادات التوقيف.
فإذن فاذكروه على الوجه الوارد، نعبد الله كما أمر الله، وأصل البدع هو الاستحسان العقلي، يأتي إنسان ويستحسن بعقله، ثم يقول كذا، ويأتي من يقلده، فتنتشر البدع بهذه الطريقة، فالأصل في العبادات التوقيف أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21].

أيضًا من الفوائد: أنه ينبغي تذكير الناس بحالهم قبل النعم؛ ليعرفوا بذلك قدر هذه النعم؛ لقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198] فهذا فيه إشارة يعني حتى تعرفوا قدر نعمة الهداية عليكم، فانظروا إلى حالكم قبل أن يهديكم الله وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198] فهذه النعمة نعمة الهداية من أعظم النعم.
يعني لو نظرت مثلًا لأحوال الصحابة قبل الإسلام قبل أن يهديهم الله للإسلام ماذا كانت أحوالهم؟ ماذا كانت؟ يعني خذ مثلًا عمر بن الخطاب، ماذا كانت حاله قبل الإسلام، وماذا كانت حاله بعد الإسلام؟
قبل الإسلام يسير في الطرقات…، ماذا حدث؟ بعد الإسلام أصبح من عظماء التاريخ، هذا من آثار نعمة الله عليهم بالهداية؛ ولهذا امتن الله تعالى عليهم وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198].
وأيضًا في الآية الأخرى امتن الله تعالى على نبيه أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ۝وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ۝وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى:6-8] فتذكير الناس بقصة الملك الذي أتى للأقرع والأبرص والأعمى، قام يذكره: ألم تكن أقرع يزدريك الناس؟ ألم تكن أبرص؟ فأصبح يذكره لأجل أن يعرف نعمة الله عليه، حتى يعرف الناس قدر نعمة الله عليهم ينبغي أن يذكروا بحالهم قبل حصول تلك النعم.
فمثلًا على سبيل المثال: ناس عندنا هنا بالمملكة، مر بالمملكة فقر شديد قبل أكثر من ثمانين عامًا، سبعين أو ثمانين عامًا مر فقر شديد، كان بعض الناس لا يكاد يجد ما يأكله إلا تمرات، فأنعم الله تعالى على الناس بهذه النعم العظيمة: الرخاء، ورغد العيش، والأمن والأمان، والاستقرار.
حتى يعرف الناس قدر هذه النعم ينبغي تذكيرهم بحالهم قبل ذلك، فالنعم تعرف بأضدادها، فحتى يشكر الإنسان النعمة لا بد أن يعرف قدرها، وحتى يعرف قدرها لا بد أن يعرف ضدها، ومن الأمور التي يستطيع أن يعرف الإنسان بها قدر النعمة أن يذكر حاله قبل أن تحصل تلك النعمة، كيف كانت حاله؟ وهذا المعنى ألمحت إليه الآية الكريمة: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198].

أيضًا من الفوائد: أن الإنسان في أحكام الله سواء، فلا يخص أحد منهم بحكم؛ لقوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] قريش أرادت أن تضع لها امتيازات وخصوصية، قالوا: لا، ما نقف بعرفة، نقف بمزدلفة، أما بقية الناس يقفون بعرفة، فأنكر الله عليهم، فالناس في أحكام الله سواء، الناس في دين الله سواء ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] الحجاج كلهم يفيضون من عرفات، ما في أحد له ميزة يقف بمزدلفة وبقية الناس يقفون بعرفات، الناس في دين الله سواء، والناس في أحكام الله سواء؛ ولهذا قال سبحانه: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] الناس سواسية في أحكام الله وفي شرع الله، وفي دين الله، ليس لأحد منهم خصوصية، لا بنسب، ولا بمال، ولا بأي شيء، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى [10]، فالناس في دين الله سواء، وفي الأحكام الشرعية سواء؛ ولهذا قال سبحانه: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199].

أيضًا من الفوائد: أنه يشرع الاستغفار في آخر العبادات؛ لقوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199] وهذا قد ورد أيضًا في صلاة الجمعة، قال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ [الجمعة:10] يعني: صلاة الجمعة فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10].
كذلك المصلي عندما ينصرف من الصلاة، عندما يقول: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، ماذا يقول؟ أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، فيشرع الاستغفار في ختام العبادات.
كذلك أيضًا المسلم عندما يقوم الليل، ويفرغ من قيام الليل ينبغي أن يكثر من الاستغفار في هذا الوقت الذي يعقب قيام الليل؛ ولهذا أثنى الله تعالى على المستغفرين بالأسحار وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [آل عمران:17] وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18] ذكر الله تعالى في موضعين في القرآن: في سورة آل عمران، وفي سورة الذاريات: وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18] وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [آل عمران:17] طيب؛ لماذا؟ لماذا خص هؤلاء بالاستغفار في الأسحار؟
لأن هؤلاء قاموا الليل، وختموا قيام الليل بالاستغفار، فهذا يدل على أنه ينبغي ختم العبادات بالاستغفار، فالإنسان إذا فرغ من الحج يستغفر، كما قال سبحانه: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ [البقرة:199]. فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ۝ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:198-199] فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10] المصلي يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، ينبغي إذن ختم العبادات بالاستغفار.
المقدم: هل لهذا حكمة يا شيخ؟
الشيخ: الحكمة أنه بالاستغفار قد يجبر ما قد يقع من نقص، وأيضًا يبعد الإنسان عن العجب، كأنه يقول: يا رب ربما حصل مني تقصير، فلا يعجب الإنسان بعمله، يعني الإنسان قام الليل مثلًا ينبغي ألا يعجب بهذا العمل، وإنما يرى التقصير عنده، حتى لو صليت الليل أنا مقصر، أنا مذنب عليَّ ذنوب، فأنا أستغفر الله .
أيضًا عندما يحج، حتى وإن أتيت بهذه العبادة يبقى أنا عبد ضعيف ومقصر عندي ذنوب فأستغفر الله تعالى، فلعل هذه هي الحكمة من ختم العبادات بالاستغفار.

أيضًا من الفوائد: أن الإنسان يذم من يطلب الدنيا دون الآخرة، ذم من يطلب في دعائه الدنيا فقط دون الآخرة؛ لقوله: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [البقرة:200] فتخصيص الدعاء بالدنيا، وإغفال أمور الآخرة هذا مذموم.
ولهذا ذم الله تعالى من يفعل ذلك فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [البقرة:200] وكما ذكرنا أنه كان هناك بعض الأعراب في الحج يدعون الله بأمور الدنيا فقط، يدعون الله بأمور الدنيا، وهذا موجود يعني عند بعض الناس تجد حرصه الشديد على الدعاء بأمور الدنيا، ويهمل الدعاء بأمور الآخرة.
تجد أنه يدعو مثلًا بسعة الرزق، يدعو بصلاح الأولاد، يدعو..، لكن أمور الآخرة لا يتحمس لها وينشط لها مثل ما ينشط في الدعاء بأمور الدنيا، فهذا مذموم.

أيضًا: لو أراد أن يجمع بين الدنيا والآخرة هذا هو الكمال، أيضًا كونه يهمل أمور الدنيا، ويقتصر على أمور الآخرة، يعني هذا درجة، هناك درجة أفضل منها؛ ولهذا لم يذكر الله تعالى هذه المنزلة، ذكر من يدعو الله تعالى بأمور الدنيا، وترك الآخرة، ولم يذكر من دعا بالآخرة وترك الدنيا، لكن ذكر الدرجة الأكمل والأحسن، والذين أثنى الله عليهم وهم من؟ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] فالأحسن للمسلم أن يدعو الله تعالى بأمور الدنيا والآخرة.
ولهذا الإنسان لا يذم إذا دعا الله بأمور الدنيا مع الآخرة، فيدعو الله تعالى يجمع بين أمرين: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۝أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة:201، 202] فأثنى الله تعالى عليهم.

أيضًا: أن من أفضل الأدعية التي يدعو بها المسلم هذا الدعاء المذكور في الآية وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] بل قال أنس رضي الله عنه: إن هذا الدعاء هو أكثر دعاء يدعو به النبي [11]، كما في صحيح البخاري ومسلم، أكثر دعاء يدعو به النبي عليه الصلاة والسلام: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] لأن هذا الدعاء يجمع لك خيري الدنيا والآخرة، الحسنة التي في الدنيا تعني: أن تعيش سعيدًا، كأنك تقول: يا رب اجعلني في الدنيا سعيدًا، بأن ترزقني زوجة صالحة، بأن ترزقني مالًا، بأن ترزقني ما أسعد به.
وقد لا تكون السعادة في المال، قد تكون السعادة في الطمأنينة، قد تكون في الصحة والعافية، قد تكون في أمور أخرى، كأنك تقول: يا رب اجعلني سعيدًا في هذه الدنيا، فالحسنة هي ما يستحسنه الإنسان، ما يكون به سعيدًا في الدنيا، وأما الحسنة في الآخرة فكما قلنا: هي الجنة: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26].
وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] يعني: جنبنا ما يدخلنا في النار من الوقوع في الذنوب والمعاصي، واغفر لنا مغفرة تمحو بها ذنوبنا، وتغفر بها ذنوبنا، هذا الدعاء دعاء عظيم على وجازة لفظه إلا أنه يجمع للداعي بين خيري الدنيا والآخرة.
ولهذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يكثر من هذا الدعاء، فاحرص يا أخي المسلم على أن تدعو الله كل يوم بهذا الدعاء كل يوم، بل إن جعلته أيضًا في صلاتك كان هذا أكمل؛ لأن الأدعية ليست توقيفية، كما قال عليه الصلاة والسلام: ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه [12] المهم لا يكون في اعتداء في الدعاء.
فمثلًا لو أردت في كل صلاة تصليها بعدما تتعوذ بالله من النار، فتقول: رب آتني في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقني عذاب النار، من باب قوله عليه الصلاة والسلام: ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه وأنت أعجبك هذا الدعاء، فهذا حسن.
إذن هذا الدعاء رب آتني في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقني عذاب النار، هذا دعاء عظيم ينبغي أن يحرص عليه المسلم، وأن يكثر منه.
طيب ما فائدة من دعا بهذا الدعاء؟ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة:202] موعود بالإجابة، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:202] وأيضًا يعني قول: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:202] فيه إشارة للإجابة.

وهذا يقودنا إلى الفائدة التالية، وهي: أن الدعاء في الحج حري بالإجابة؛ لماذا؟ لأن الله تعالى ذكر جنس الدعاء: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] ثم قال: أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة:202] وقوله: أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة:202] فيه إشارة كما قال بعض المفسرين إلى أنه لن تستجاب كل الدعوات، وإنما بعضها؛ لأنه قال: نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة:202] وهذا هو الواقع يعني الإنسان يدعو بأدعية كثيرة مثلًا في الحج، فيستجاب له بعضها.
والدعاء في الحج خاصة في عرفة هذا حري بالإجابة، وأثر عن عدد من السلف أنهم كانوا يقولون: ما دعونا الله تعالى في عرفة بشيء إلا تبينا إجابة الدعوة قبل تمام الحول؛ لأن الله وعد بذلك، قال: أُولَئِكَ لَهُمْ [البقرة:202] يعني: هؤلاء الداعون في الحج لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة:202].
وفي قوله: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:202] فيه إشارة إلى سرعة إجابة الدعوات؛ لأنها ستعجل إجابة الدعوات.

أيضًا من الفوائد: أن سرعة المحاسبة من تمام العدالة سَرِيعُ الْحِسَابِ تكررت في القرآن: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ فسرعة المحاسبة هي من تمام العدالة؛ ولهذا تجد أن الجاني الذي يحاسب على جنايته بسرعة هذا أبلغ في تحقيق العدالة من تأخير محاسبته، إنسان مجرم، ثم تؤخر محاسبته سنوات، هذا يقلل من العدالة.
لكن لو أنه لما ارتكب جريمته حوسب بسرعة هذا أبلغ في تحقيق العدالة؛ ولهذا تجد أن الله تعالى يقول: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:202].
طيب ما المقصود بقوله: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:202] هل المقصود سرعة يعني أن يوم الحساب أنه قريب، أو أن المقصود أن الله تعالى يحاسب الناس يوم القيامة بسرعة؟
يحتمل الأمرين، وربما أن كلا المعنيين مراد، فيوم الحساب قريب، فالله تعالى يقول: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء:1] اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1].
وأيضًا الله تعالى عندما يحاسب هؤلاء الخلائق العظيمة، وهذه الأعداد الكبيرة يحاسبهم بسرعة، ولهذا لما سئل ابن عباس: كيف يحاسب الله الناس، مع كثرتهم؟ قال: كما يرزقهم، كيف يحاسب الناس في ساعة واحدة؟ قال: كما يرزقهم في ساعة واحدة، روي عن ابن عباس، وعن علي بن أبي طالب، كما يرزقهم في ساعة واحدة يحاسبهم في ساعة واحدة، والله تعالى على كل شيء قدير.

أيضًا من الفوائد: مزية الذكر في أيام التشريق؛ لقوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] ذكر الله مطلوب في جميع الوقت، لكن تخصيص الذكر في أيام التشريق يدل على أن للذكر فيها مزية وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] هذا ينبغي للحاج ولغير الحاج أن يكثر من ذكر الله تعالى في هذه الأيام الفاضلة، وقلنا: إن الأيام المعدودات هي أيام التشريق.

أيضًا من فوائد الآية: أنه يجوز التعجل والتأخر؛ لقوله: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203] لكن يرد إشكال وهو أن المتأخر قد أتى بالأفضل، فكيف يقال: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ يعني يقال: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ للمتعجل فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203] لا حرج عليك أن تتعجل، لكن المتأخر أتى بالأكمل والأفضل، فكيف يقال: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ؟
الجواب: أن المقصود: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ليس المقصود: فلا حرج عليه، كما قال ابن جرير وغيره، المقصود فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ أي: أنه إذا اتقى الله في حجه، وأتى بحجه على الوجه الأكمل، يعني كان حجه مبرورًا، يرجع من حجه وقد حطت عنه آثامه، يرجع من حجه ولا إثم عليه، سواء كان متعجلًا أو كان متأخرًا، هذا هو معنى الآية، وبذلك يرتفع هذا الإشكال، فليس المقصود في قوله: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ يعني: لا حرج عليه في التعجل أو التأخر، وإن كان هذا يفهم من الآية ضمنًا، لكن المقصود بالآية: أن الحاج إذا اتقى الله في حجه، ووقع حجه مبرورًا أنه يرجع من حجه، ولا إثم عليه، حطت عنه جميع الآثام، ويستوي في ذلك يعني المتعجل والمتأخر كلاهما.
المقدم: بشرط التقوى.
الشيخ: بشرط التقوى لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203] فـلِمَنِ اتَّقَى ترجع للمتعجل والمتأخر جميعًا، فمن حج الله ، واتقى الله في حجه، يعني وقع حجه مبرورًا فلم يرفث ولم يفسق، فهذا يرجع من ذنوبه، ولا إثم عليه، يعني كيوم ولدته أمه، سواء كان متعجلًا أو متأخرًا، بهذا الفهم للآية يزول هذا الإشكال.
وأيضًا الآية تدل بضمنها على أنه يجوز التعجل؛ لأن الله أخبر بأنه أيضًا المتعجل أنه يرجع ولا إثم عليه، فهذا يدل على جواز التعجل.

أيضًا من فوائد الآية: أنه لا بد للمتعجل من الخروج قبل غروب الشمس؛ لقوله: فِي يَوْمَيْنِ [البقرة:203] وفِي للظرفية، والظرف يحيط بالمظروف، فلا يصدق عليه إن تعجل في يومين إلا إذا خرج من منى قبل غروب الشمس؛ لأن اليوم ينتهي بغروب الشمس.
ولهذا قال الفقهاء: إن من أراد أن يتعجل فلا بد من خروجه من منى قبل غروب شمس اليوم الثاني عشر.

أيضًا من الفوائد: ولعلنا نختم بها، نختم هذه الفوائد بختام الآية الأخيرة، فإن الله ختم آيات الحج بقوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة: 203] يعني ما مناسبة ذكر الحشر؟ يعني الكلام الآن سياق الآيات كلها في الحج، ما مناسبة ذكر الحشر مع آيات الحج؟ ختم آيات الحج بالإشارة للحشر؟ هذا له معنى، كل كلمة في القرآن لها معنى.
سبحان الله! هذا القرآن كتاب الله المعجز آية من آيات الله سبحانه، كما قال السيوطي وغيره، يقول: لو بحثت في قواميس اللغة كلها، وكلام العرب وأشعارهم على أن تأتي بكلمة أحسن من الكلمة التي في القرآن في موضعها لم تجد، سبحان الله! ولا غرو في ذلك هذا كلام رب العالمين، خالق كل شيء، فهذا يدل على عظمة هذا القرآن.
فعندما يذكر الله تعالى الحشر في ختام آية الحج هذا له معنى ومغزى، ما هو؟ هو أن الحاج ينبغي عندما يرى جموع الحجيج، وكثرة الناس، وزوال الفوارق بينهم في المشاعر، ونحو ذلك أن يتذكر بذلك الحشر، يوم يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلًا، قد زالت بينهم الفوارق، يحشرون إلى الله في ذلك اليوم العظيم الذي مقداره خمسون ألف سنة.
فكأنه قال: أنت أيها الحاج عندما ترى هذه الجموع الغفيرة، خاصة في مواطن الزحام، وكل مشغول بنفسه تذكر يوم الحشر، تذكر عندما ترى الطائفين، ترى الساعين، ترى الناس في عرفات، ترى الناس في المشاعر عمومًا، ترى هذه الجموع العظيمة تذكر الجموع الأعظم يوم الحشر، ويوم العرض الأكبر على الله سبحانه.
فكأنه يقال: إن من منافع الحج أنك تتذكر الحشر عندما ترى هؤلاء الناس، وهؤلاء البشر، وألا يغفل الإنسان عن ذلك اليوم العظيم؛ ذلك اليوم الذي فقط مقدار وقوف الناس في عرصات القيامة خمسون ألف سنة، يعني كم نسبة عمرك إليها، كم تعيش؟ كم تعيش في هذه الدنيا؟ ستين سبعين، قل: مائة، كم نسبتها إلى خمسين ألف سنة؟ وقوف الناس فقط يوم القيامة، هذا يدل على أن الدنيا بالنسبة للآخرة لا شيء.
ولذلك لا يعتبر الإنسان حياة عندما ينظر الإنسان لأهوال يوم القيامة يتذكر: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ۝يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:23-24] يرى أن هذه هي حياته الحقيقية، وكأن الدنيا بالنسبة له ليس حياة قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [المؤمنون:113] وإن كنا كاذبين فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون:113] ينكمش هذا العمر المديد، هذا العمر الذي يعيشه الإنسان ستين سبعين مائة سنة ينكمش حتى يصبح كأنه يوم أو بعض يوم.

وهذا ما تيسر عرضه في التعليق على هذه الآيات آيات الحج، ونسأل الله الفقه في الدين، والتوفيق لما يحب ويرضى.

الأسئلة

المقدم: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ…، بعض الأسئلة ذكرتم حفظكم الله أن من حكم الحج المساواة بين الناس، وإزالة الفوارق، فهل يقاس هذا على المشاعر عمومًا والأماكن الفاضلة الشرعية مثل المساجد، فلا يقال مثلًا أن لأحد خصيصة في مكان معين في المسجد، أو أن يحجزه، أو ليجعل مثلًا ما يسمونه الناس اليوم روضة خاصة مثلًا بقوم معينين، بعضهم حتى إذا رأى من يقدم مبكرًا أبعده عن هذا المكان، وقال: أنا أحق به منك.

الشيخ: نعم، الناس متساوون في الأحكام من يأتي للمسجد الأسبق هو الأحق، من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به، ليس لأحد أن يحتكر له مكانًا في المسجد، إذا أراد أن يصلي في الصف الأول خلف الإمام يبكر، أما أن يأتي متأخرًا، ويأتي ويبعد الناس عن هذا المكان فليس له ذلك، ليس له ذلك، من سبق هو الأحق، الأحق للأسبق، اللهم إلا إذا كان قد أتى مبكرًا، ثم عرض له عارض، ذهب مثلًا لدورة المياه، ونحو ذلك هنا لا بأس، لا بأس بأن يحجز مكانه، حتى يعود إليه، لكن أن يبقى في بيته، ولا يأتي إلا متأخرًا، ثم يأتي ويبعد الناس، فليس له ذلك، من سبق فهو أحق.

المقدم: شكر الله لكم فضيلة الشيخ هذا البيان وهذا الإثراء، نسأل الله أن يجعله في ميزان حسناتكم.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المشاهدين.

المقدم: في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون الكرام على طيب المتابعة، ونلقاكم في حلقة قادمة بإذن الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
^2 رواه الترمذي: 889، وابن ماجه: 3015، والنسائي: 3016، وأحمد: 18774.
^3 رواه مسلم: 2985.
^4 بنحوه مسلم: 1905.
^5 رواه البخاري: 3142، ومسلم: 1751.
^6 رواه البخاري: 123، ومسلم: 1904.
^7 بنحوه رواه ابن أبي شيبة في مصنفه: 29579.
^8 رواه الترمذي: 2344، وابن ماجه: 4164، وأحمد: 205.
^9 سبق تخريجه.
^10 رواه أحمد: 23489.
^11 رواه البخاري: 6389، ومسلم: 2690.
^12 رواه البخاري: 835، ومسلم: 402.