الرئيسية/خطب/وقفات مع سيرة الصحابي الذي اهتزَّ لموته عرش الرحمن
|categories

وقفات مع سيرة الصحابي الذي اهتزَّ لموته عرش الرحمن

مشاهدة من الموقع

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه كما يُحب ربنا ويرضى، أحمده تعالى وأشكره حمدًا وشكرًا كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه، واتَّبع سُنته إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فأُوصيكم ونفسي بتقوى الله ، فإنها وصية الله للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا۝وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5].

إسلام سعد بن معاذ

عباد الله: الحديث في هذه الخطبة عن وقفاتٍ مع سيرة صحابيٍّ عظيمٍ، صحابيٍّ لما مات اهتزَّ عرش الرحمن لموته؛ فرحًا بقدومه.

هذا الصحابي عاش ستَّ سنواتٍ أو سبعًا في الإسلام فقط، إنه سعد بن معاذ ، سيد الأوس، الأنصاري، الأشهلي.

أسلم وعمره واحدٌ وثلاثون سنةً، ومات وعمره سبعٌ وثلاثون أو ثمانٍ وثلاثون، أي: أنه بقي في الإسلام ستَّ سنواتٍ أو سبعًا، وهي سنواتٌ قليلةٌ، ومع ذلك لما مات اهتزَّ لموته عرش الرحمن.

فيا تُرى في أي شيءٍ أمضى هذه السنوات؟

ما الأعمال التي عملها وقضاها في هذه السُّنَيَّات: ستُّ سنواتٍ أو سبعٌ عمل فيها أعمالًا عظيمةً جعلته لما مات يهتزُّ عرش الرب الرحيم لموته؛ فرحًا بقدومه؟ فما الأعمال التي كان يعملها  في هذه السنوات القليلة؟

إنها جديرةٌ بأن نقف معها، وأن نتأملها، وأن نعتبر بسيرة هذا الصحابي الجليل.

هذا هو سعد بن معاذ : أسلم في المدينة بين بيعة العقبة الأولى والثانية، أسلم على يد الصحابي الجليل مصعب بن عُمير الذي أرسله النبي إلى المدينة داعيًا إلى الله ، فما أن دعا مصعب سعدَ بن معاذ إلا وشرح الله صدره للإسلام، فلما أسلم أتى إلى قومه فجمعهم، وقال لهم: كيف أنا فيكم؟ قالوا: أنت أفضلنا وأصدقنا وأكرمنا. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرامٌ حتى تُؤمنوا بالله ورسوله. فما أن أمسى ذلك اليوم إلا وقد أسلم جميع قومه.

جهاده

جاء في “صحيح البخاري” عن ابن مسعودٍ قال: انطلق سعد بن معاذ مُعتمرًا، فنزل على أُمية بن خلف، وكان أُمية إذا انطلق إلى الشام فمرَّ بالمدينة نزل على سعدٍ، فقال أُمية لسعدٍ: انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس انطلقتَ فطُفْتَ. فبينا سعدٌ يطوف إذا أبو جهلٍ، فقال: مَن هذا الذي يطوف بالكعبة؟ فقال سعدٌ: أنا سعد. فقال أبو جهلٍ: تطوف بالكعبة آمنًا وقد آويتم محمدًا وأصحابه! فقال: نعم. فتلاحيا بينهما، فقال أُمية لسعدٍ: لا ترفع صوتك على أبي الحكم؛ فإنه سيد أهل الوادي. ثم قال سعدٌ: والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعنَّ متجرك بالشام. فجعل أُمية يقول لسعدٍ: لا ترفع صوتك. وجعل يُمسكه؛ فغضب سعدٌ فقال: دعنا عنك، فإني سمعتُ محمدًا يزعم أنه قاتلك. قال: إياي؟ قال: نعم. قال: والله ما يكذب محمدٌ إذا حدَّث. إلى أن قتله النبي بيده [1].

قتل أُمية بن خلف بيده، وهو الرجل الوحيد الذي تولى النبي قتله بيده، وكان أُمية منذ أن سمع تلك المقولة خائفًا من أن يقتله النبي .

ويُقال: إنه ضربه برميةٍ تُعدُّ سهلةً، لكن الرجل لما رأى تلك الرمية خاف وخار وظنَّ أنه ميتٌ؛ لأن النبي لا يكذب، وبالفعل مات من تلك الضربة، فقتله النبي .

وتأتي غزوة بدرٍ، أول غزوةٍ بين المسلمين والمشركين، ويستشير النبي الناسَ، فيتكلم أبو بكرٍ وعمر، ولكن رسول الله يريد الأنصار، فقام سعد بن معاذ فقال: “كأنك تُريدنا يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخوض البحر لخُضناه معك، ولعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى عليها ألا ينصروك إلا في ديارهم، وإني لأقول عن الأنصار وأُجيب عنهم، فامضِ لما شئتَ، وصِلْ حبال مَن شئتَ، واقطع حبال مَن شئتَ، وسالِمْ مَن شئتَ، وأعطنا ما شئتَ، وما أخذتَ منا أحبُّ إلينا مما تركتَ، وما أمرتَ فيه بأمرٍ فأمرنا تبعٌ لأمرك، والله لئن سِرْتَ حتى تبلغ برك الغماد من اليمن لنسيرنَّ معك، ما تخلف منا رجلٌ واحدٌ، وما نكره أن نلقى معك عدونا غدًا، إنا لصُبْرٌ في الحرب، صدقٌ عند اللقاء، ولعل الله أن يُريك منا ما تقرّ به عينك”، فَسُرَّ رسول الله ، واستنار وجهه كالبدر، وقال: سِيروا وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم [2].

وشهد سعد بن معاذ غزوة أُحدٍ، فأبلى بلاءً حسنًا، ثم شهد غزوة الخندق -الأحزاب- حين اجتمعت قريش وغطفان وقبائل أخرى مع يهود المدينة ومُنافقيها ضد رسول الله والمؤمنين، ولكن الله فرَّق جموعهم، وأبطل كيدهم، وقذف في قلوبهم الرعب، وأرسل عليهم ريحًا شديدةً: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب:25].

إصابته  في غزوة الأحزاب

خرج سعد بن معاذ مع رسول الله وعليه درعٌ مُقَلَّصَةٌ، قد خرجتْ منها ذراعه، وهناك رماه رجلٌ من الكفار بسهمٍ، فقطع منه الأكحل، وهو عرقٌ في الذراع، فما زال ينزف دمًا.

عاش بعد ذلك شهرًا، ثم انتقض ذلك الجرح، وتفجر الدم من وريده، وأمر النبي أن يُؤتى به، فأمر بكي جرحه، فتوقف الدم، ثم إن النبي من محبته له أمر بأن يُؤتى بسعدٍ إلى مسجده، وأن يُنصب له فيه خيمةٌ؛ ليكون قريبًا من النبي ، وليتم علاجه، وليزوره.

ولما رجع النبي وأصحابه من غزوة الأحزاب أتاه جبريل ، وقال: أقد وضعتَ السلاح؟! والله ما وضعت الملائكة بعدُ السلاح، اخرجْ إلى بني قُريظة [3]، ويخرج المسلمون مع نبيهم إلى بني قريظة الذين نقضوا العهود.

حكمه في بني قُريظة

حينئذٍ تطلب بنو قريظة بعدما انتصر عليهم النبي أن يُحكِّم فيهم رجلًا من الأوس؛ لأنهم كانوا حلفاءهم، فقال: أترضون أن يحكم فيكم رجلٌ من الأوس؟ قالوا: بلى. قال: فذاك إلى سعد بن معاذ. فقالت اليهود: قد رضينا. وكانوا يظنون أنه سيُجاملهم.

فأرسل النبي إلى سعد بن معاذ، وكان في المدينة، لم يخرج معهم؛ لجُرحٍ كان به، فأُركب حمارًا، وجرحه يَثْعَب دمًا، وجاء إلى رسول الله .

وجعل الناسُ وهم يُحيطون به يقولون: يا سعد، أجمل إلى مواليك فأحسن إليهم، فإن رسول الله قد حكَّمك فيهم لتُحسن فيهم. وهو ساكتٌ لا يتكلم، فلما أكثروا عليه قال: “لقد آن لسعدٍ ألا تأخذه في الله لومة لائمٍ”، فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى بعضٍ، ونعى إليهم القوم.

فلما انتهى سعدٌ إلى النبي قال للأوس: قوموا إلى سيدكم فأنزلوه، فلما أنزلوه قالوا: يا سعد، إن هؤلاء القوم قد نزلوا على حكمك. قال: حكمي نافذٌ عليهم؟ قالوا: نعم. قال: وحكمي نافذٌ على المسلمين؟ قالوا: نعم. قال: على مَن هاهنا؟ وأشار بوجهه إلى ناحية رسول الله ؛ إجلالًا له وتعظيمًا، قال: نعم، حكمك نافذٌ عليَّ، قال: فإني أحكم فيهم بأن يُقتل الرجال، وأن تُسبى الذُّرية، وأن تُقسم الأموال. فقال رسول الله : لقد حكمتَ فيهم بحكم الله من فوق سبع سماواتٍ، فأمر النبي بأن ينفذ ذلك الحكم، وحُفرت لهم خنادق في سوق المدينة، وضُربت أعناقهم، وكانوا بين الستمئة والسبعمئة من اليهود [4].

وكان سعدٌ لما حُكِّم في بني قريظة قال: “اللهم لا تُمتني حتى تُقِرَّ عيني من بني قريظة”، وأقرَّ الله تعالى عينه بذلك، فقال له النبي : جزاك الله خيرًا من سيد قومٍ، فقد أنجزتَ الله ما وعدته، وليُنْجِزَنَّك الله ما وعدك [5].

وفاته

لما حضرته الوفاة انتقض جرحه دمًا، وحضر رسول الله وأبو بكرٍ وعمر رضي الله عنهما، فلما تُوفي، وكانوا حاضرين، تقول عائشة رضي الله عنها: والذي نفس محمدٍ بيده، إني لأعرف بكاء أبي بكرٍ من بكاء عمر، وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29] [6].

وجعل رسول الله رأس سعدٍ في حجره، وقال: اللهم إن سعدًا قد جاهد في سبيلك، وصدَّق رسولك، وقضى الذي عليه، فتقبل روحه بخير ما تقبلتَ به روحًا [7].

ثم أخبر عليه الصلاة والسلام أن سعدًا لما مات اهتزَّ لموته عرش الرحمن؛ فرحًا بقدومه، ثم قال عليه الصلاة والسلام لما أُتي بمنديلٍ، فجعلوا يتعجبون من حُسنه، لما أُتي بثوب حريرٍ فجعلوا يتعجبون من حُسنه ولينه، فقال عليه الصلاة والسلام: لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خيرٌ منها [8] متفقٌ عليه.

وحُمل سعدٌ إلى مقبرة البقيع، وصلَّى عليه رسول الله وصحابته.

عن جابرٍ قال: جاء جبريل إلى رسول الله فقال: مَن هذا العبد الصالح الذي مات؟ فُتحت له أبواب السماء، وتحرك له العرش [9].

هذا هو سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه وأرضاه، صدق الله تعالى فصدقه الله : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا۝ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ [الأحزاب:23-24].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل مُحدثةٍ بدعةٌ.

مظاهر العظمة في سيرة سعدٍ

عباد الله: حينما نتلمس مظاهر العظمة في سيرة هذا الصحابي الجليل، فبالإضافة لصدقه وجهاده مع رسول الله ، وشهوده جميع الغزوات نجد أن من مظاهر العظمة ما حدَّث به عن نفسه -كما ذُكر ذلك في سيرته وترجمته- قال: “ثلاثٌ أنا فيهن رجلٌ قويٌّ، وما سوى ذلك فأنا رجلٌ من الناس:

الأولى: ما سمعتُ من رسول الله حديثًا قط إلا علمتُ أنه حقٌّ من الله.

الثانية: ما كنتُ في صلاةٍ قط فشغلتُ نفسي بغيرها حتى أقضيها.

الثالثة: ما كنتُ في جنازةٍ قط فحدثتُ نفسي بغير ما تقول ويُقال لها حتى أنصرف عنها”.

وعقَّب على هذه الخصال سعيد بن المسيب فقال: “هذه الخصال ما كنتُ أحسبها إلا في نبيٍّ”.

هذه الخصال الثلاث خصالٌ عظيمةٌ.

قوة اليقين

الخصلة الأولى هي: قوة اليقين: “ما سمعتُ من رسول الله حديثًا قط إلا علمتُ أنه حقٌّ من الله”.

قوة اليقين والاستسلام لله ، وهذا هو مُقتضى العبودية: الاستسلام لله، ولما قاله الله وقاله رسوله : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].

المهم هو أن يصحَّ الحديث عن رسول الله ، فإذا صحَّ فلا مجال حينئذٍ للعقل ولا للاجتهاد البشري في الاعتراض عليه؛ لأن ما قاله رسول الله حقٌّ، وما قاله وحيٌ يُوحى.

هذا هو المطلوب من المسلم: الاستسلام لله  والانقياد له، والاستسلام لما قاله الله، وقاله رسول الله ؛ لأن هذا هو مُقتضى العبودية: أن تكون عبدًا لله، أن تستسلم لما قاله الله، وما قاله رسوله .

أما مَن كان يأخذ من كلام الله وكلام رسوله ما وافق هواه، وأما ما لم يُوافق هواه فإنه يعترض عليه؛ فهذا ليس عبدًا لله، وإنما هو عبدٌ لهواه: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان:43].

فالواجب على المسلم إذا صحَّ الحديث عن رسول الله أن يستسلم، وأن ينقاد له، وألا يعترض عليه برأيه، ولا بفكره، ولا باجتهاده، هذا هو مُقتضى كونه عبدًا لله ، وهذا هو مقتضى الإيمان الصادق.

الخشوع في الصلاة

أما الخصلة الثانية فهي: الخشوع في الصلاة، قال: “ما كنتُ في صلاةٍ قط فشغلتُ نفسي بغيرها حتى أقضيها” أي: أنه يخشع في صلاته خشوعًا كاملًا، وهذا الخشوع الكامل أجره عند الله عظيمٌ جدًّا؛ لأن هذه الصلاة هي أحبُّ عبادةٍ إلى الله ، فإذا خشع الإنسان فيها خشوعًا كاملًا كان الأجر عظيمًا، وكان الثواب جزيلًا، ولكنها تحتاج إلى مُجاهدةٍ عظيمةٍ للنفس والشيطان؛ لأن الشيطان إذا كبَّر الإنسان في صلاته غار منه، فأقبل عليه بخيله ورَجْله حتى يُوسوس له، وحتى يُذكره بالأشياء التي قد نسيها، فلا يذكرها إلا في صلاته، والمطلوب هو مُجاهدة النفس، ومُجاهدة العدو: الشيطان؛ حتى يخشع الإنسان في صلاته.

الاعتبار بالجنائز

أما الخصلة الثالثة فهي: أنه إذا رأى جنازةً اعتبر واتَّعظ بها، قال: “ما كنت في جنازةٍ قط فحدثتُ نفسي بغير ما تقول ويُقال لها” أي: أنه يُمثل نفسه كأنه صاحب الجنازة، كأنه ذلك الإنسان الميت: كيف تكون حاله؟ ويُمثل نفسه كأنه ذلك الميت: ماذا ستقول له الملائكة؟ وبأي شيءٍ يسأله الملكان؟ وبماذا سيُجيب؟ فيُمثل نفسه كذلك.

وهذا له أثرٌ كبيرٌ في الزهد في الدنيا، وفي معرفة الدنيا على حقيقتها، وفي عدم التَّعلق الشديد بها، وفي الإقبال على الدار الآخرة.

فهذه خِصالٌ ثلاثٌ يذكرها سعدٌ رضي الله تعالى عنه عن نفسه، مع صدقه وقيامه بالحق، وأنه لم يَخَفْ في الله تعالى لومة لائمٍ.

هذه سنواتٌ ستٌّ أو سبعٌ قضاها هذا الصحابي الجليل في الإسلام، لكنه لما مات اهتزَّ لموته عرش الرحمن، وهذا دليلٌ ظاهرٌ على أنه ليست العبرة بعدد السنوات التي يقضيها الإنسان، ولكن العبرة بكيف يقضي تلك السنوات؟ كيف يقضي الإنسان عمره؟ وكيف يقضي حياته؟

العبرة بذلك، فانظروا واعتبروا بسيرة هذا الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

اللهم ارضَ عن سعد بن معاذ، وارضَ عن صحابة نبيك أجمعين.

اللهم ارضَ عن أبي بكرٍ الصديق، وعن عمر بن الخطاب، وعن عثمان بن عفان، وعن علي بن أبي طالب، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أذلَّ الكفر والكافرين.

اللهم انصر مَن نصر دين الإسلام في كل مكانٍ، اللهم اخذل مَن خذل دين الإسلام في كل مكانٍ، يا حي، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أَبْرِمْ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهْدَى فيه أهل معصيتك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر، يا حي، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عِصمة أمرنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شرٍّ.

اللهم إنَّا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك.

اللهم أصلح أحوال إخواننا المسلمين في كل مكانٍ، اللهم كُنْ لهم ناصرًا ومُعينًا.

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، والعمل بكتابك وسنة نبيك محمدٍ ، ووفق إمامنا وولي أمرنا وولي عهده، اللهم وفقهما لما تُحب وترضى، وخُذْ بنواصيهما للبرِّ والتقوى، وارزقهما البطانة الصالحة الناصحة التي تدلهما على الحق، وتُعينهما عليه، يا حي، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم إنَّا نسألك من الخير كله: عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.

ونعوذ بك من الشر كله: عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.

اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 3632.
^2 ينظر: “السيرة النبوية” لابن هشام: 1/ 615، و”سبل الهدى والرشاد” للصالحي: 4/ 26.
^3 رواه أحمد: 25097، وهو في البخاري: 2813، ومسلم: 1769 بلفظٍ قريبٍ.
^4 ينظر: “السيرة النبوية” لابن هشام: 2/ 239.
^5 رواه ابن سعدٍ في “الطبقات الكبرى”: 3/ 328.
^6 ينظر: “الطبقات الكبرى” لابن سعد: 3/ 323.
^7 “الطبقات الكبرى” لابن سعد: 3/ 326.
^8 رواه البخاري: 6640، ومسلم: 2468.
^9 رواه الطحاوي في “شرح مشكل الآثار”: 4173، والبيهقي في “دلائل النبوة”: 4/ 29.
مواد ذات صلة