الرئيسية/خطب/خلق الإنسان من عَجَل
|categories

خلق الإنسان من عَجَل

مشاهدة من الموقع

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

العجلة من طبيعة الإنسان

يقول ربنا تبارك وتعالى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37]، أي: أن العجلة طبيعته، كما في قوله: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ [السجدة:7]، ويقول في وصفه: وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا [الإسراء:11]، أي: أن العجلة وصفه، فاجتمع في الإنسان طبيعة العجلة ووصفه بها.

وجاء وصف العجلة وما تصرف عنها في القرآن الكريم في سبعةٍ وثلاثين موضعًا، كلها على سبيل الذمِّ والنهي إلا في موضعين أو ثلاثةٍ.

العجلة والاستعجال في البشر صفةٌ مُتأصلةٌ في نفوسهم، مجبولٌ عليها كثيرٌ من الناس في أقوالهم وأفعالهم، وقلَّ مَن يسلم منها، ويتحلَّى بضدها من الرفق والتأني والتَّثبت.

والعَجِل من الناس يقول قبل أن يعلم، ويُجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يُجرب، ويذمّ بعدما يحمد، ويعزم قبل أن يُفكر، ويمضي قبل أن يعزم؛ فتصحبه النَّدامات، وتعتزله السَّلامات، وكانت العرب تُكني العجلة بأم النَّدامات.

الحثّ على الأناة والتَّثبت وعدم العجلة

إن الاستعجال في الأمور قبل أوانها ووقتها مُفسدٌ لها في الغالب، وإن الأناة والحلم والتُّؤدة والرفق من الصفات العظيمة التي يُحبها الله تبارك وتعالى ويرضى عنها، ويُعطي عليها ما لا يُعطي على غيرها.

وإن التأني والتَّثبت والنظر في العواقب من عزم الأمور، وسمات أهل العلم والعقل والدين والرأي.

ولقد أمر الله تبارك وتعالى نبيَّه محمدًا بالتأني وعدم العجلة في مواضع من كتابه الكريم؛ مما يدل على فضل الأناة ومكانتها، والحذر مما يُناقضها في الحياة، يقول الله تعالى: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، ويقول: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35].

وجاء في “صحيح مسلم” عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن النبي قال للأشجِّ بن عبدالقيس: إن فيك خصلتين يُحبهما الله: الحلم، والأناة [1]، والأناة تعني: التَّثبت وترك العجلة.

وسبب قول النبي هذا: أن وفد عبدالقيس لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي ، فأقام الأشج عند رحالهم فجمعها، وعقل ناقته، ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي ، فقرَّبه النبي وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبي : تُبايعون على أنفسكم وقومكم؟ قال القوم: نعم. فقال الأشج: يا رسول الله، إنك لم تُزاول الرجل عن شيءٍ أشدّ عليه من دينه، نُبايعك على أنفسنا، ونُرسل مَن يدعوهم، فمَن اتَّبعنا كان منا، ومَن أبى قاتلناه. فقال النبي : صدقتَ، إن فيك خصلتين يُحبهما الله: الحلم، والأناة، فالأناة: تربُّصه حتى نظر في مصالحه، ولم يعجل، والحلم: هذا القول الذي قاله، الدالّ على صحة عقله، وجودة نظره للعواقب.

عباد الله: الأناة والتَّثبت وعدم العجلة صفةٌ عظيمةٌ من الصفات التي يُحبها الله ​​​​​​​، فينبغي للمسلم أن يحرص على الاتِّصاف بها، ويُقابلها العجلة، وهي خلقٌ مذمومٌ.

العجلة في نقل الأخبار

العجلة لها صورٌ متعددةٌ، ومن أبرز صورها: العجلة في نقل الأخبار قبل التَّثبت من صحتها، فيسمع الإنسان الخبر فيطير به وينشره في الناس من غير تثبُّتٍ ولا أناةٍ!

ونحن الآن نعيش في عصر وسائل التواصل السريع التي تنقل الأخبار بسرعةٍ عجيبةٍ، ومن هنا يتأكد الحرص على الأناة والتَّثبت وترك العجلة في نقل الأخبار، وخاصةً ما كان منها مُتعلقًا بأعراض أشخاصٍ؛ فإن أمرها عند الله عظيمٌ جدًّا، كما قال ربنا تبارك وتعالى: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15].

وقوله: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ من المعلوم أن التَّلقي يكون بالأذن، لكن في هذا الإشارة إلى العجلة في نقل الخبر وعدم التَّثبت: وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا، فبعض الناس يعجل في نقل الأخبار ويتكلم، ويحسب أن هذا الكلام هينٌ، وهو إذا كان في عِرْض امرئٍ مسلمٍ فإن أمره عند الله ​​​​​​​ عظيمٌ.

فينبغي التَّثبت في نقل الأخبار، وعدم إشاعتها إلا بعد التأكد من صحتها، وبعد التَّرجح من المصلحة في نقلها.

العجلة في الأحكام

ومن صور العجلة المذمومة: العجلة في الحكم على الأشخاص والأقوال والأفعال والنيات والمقاصد قبل البحث والتَّحري، وفي سوء الظنِّ بالآخرين قبل التَّثبت واليقين، وقد قال الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6].

العجلة في القول على الله بغير علمٍ

ومن صور العجلة المذمومة: العجلة في القول على الله تعالى بغير علمٍ، فإن من الناس مَن يُفْتي قبل أن يُسْتفتى، ويَشْهد قبل أن يُسْتشهد، وقد كان سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين يهابون الفتوى ويتريثون فيها ويُشددون، بل ويتدافعونها فيما بينهم؛ جاء في “صحيح البخاري” عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: “أدركتُ عشرين ومئةً من الأنصار من أصحاب النبي ما منهم أحدٌ يُحدث بحديثٍ إلا ودَّ أن أخاه كفاه“.

العجلة في مُعالجة المشاكل الأُسرية

ومن صور العجلة المذمومة: العجلة في مُعالجة المشاكل الأُسرية التي لا يخلو منها أي بيتٍ، فقد يتعجل الإنسان عند وقوع مشكلةٍ لسببٍ تافهٍ، يتعجل فيُوقع الطلاق، ثم يندم بعد ذلك ندمًا عظيمًا، وربما ذهب إلى مَن يُفتيه بإرجاع زوجته، ولو كان ابتعد عن العجلة وتأنَّى وتثبَّت لم يحصل منه هذا الذي قد ندم عليه، فيتعجل ويُطلق امرأته، ويتسبب في هدم بيته، وتفريق أسرته، وتشتيت أولاده لأمرٍ كان يمكن أن يتلافاه بترك العجلة وبالتأني والصبر، وقد قال النبي : استوصوا بالنساء، فإن المرأة خُلقتْ من ضِلَعٍ، وإن أعوج شيءٍ في الضِّلَع أعلاه، فإن ذهبتَ تُقيمه كسرتَه -وكسرها طلاقها-، وإن تركتَه لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء [2]، ويقول عليه الصلاة والسلام: لا يَفْرَك مؤمنٌ مؤمنةً أي: لا يَبْغَض ولا يَكْرَه مؤمنٌ مؤمنةً إن كره منها خُلُقًا رضي منها آخر [3].

العجلة في السير بالسيارات

ومن صور العجلة المذمومة: العجلة في السير بالسيارات، فتجد بعض الناس يُسرع سرعةً كبيرةً، مُخالفًا أنظمة المرور، ومُجاوزًا السرعة المُقررة نظامًا، فتقوده هذه السرعة إلى الهلاك، وإلى إلحاق الضَّرر بنفسه وبغيره.

وما أكثر الحوادث التي تقع بسبب السرعة!

وقد ذكر أحد مسؤولي المرور هنا في مدينة الرياض: أن المرور السِّري قد ضبط مَن يقود سيارته على الطريق الدائري بسرعة مئتين وعشرين كيلو مترًا!

وإن السير بهذه السرعة -بسرعة مئتين وعشرين كيلو مترًا- داخل المدينة لا شكَّ أنه من إلقاء النفس للتهلكة.

والعجب أن هذا الذي يعجل ويُسرع في قيادة السيارة من أكثر الناس تضييعًا لوقته، فلماذا العجلة؟! ولماذا هذا الاستعجال؟! أهو حرصٌ على الوقت؟!

فهذا الإنسان من أكثر الناس تضييعًا لوقته، ولكنها عادةٌ عند بعض الناس، يستعجلون في كل شيءٍ، حتى في قيادة السيارة، ويستعجلون استعجالًا ربما قادهم إلى التَّهلكة، وأضرَّ بغيرهم من المسلمين.

العجلة في الطهارة والصلاة

بعض الناس تجد العجلة مُتأصلةً حتى في عبادته لربه، فترى مَن يعجل في ترك واجبٍ، أو في فعل مُحرَّمٍ، فهناك مَن يعجل في الوضوء عندما يتوضأ، فربما ترك بُقَعًا من أعضاء الوضوء لم يُصبها الماء.

ولما رأى النبي قومًا توضؤوا وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء؛ نادى النبي  بأعلى صوته: ويلٌ للأعقاب من النار، ويلٌ للأعقاب من النار [4].

وهناك مَن يتعجل في صلاته فيَنْقر صلاته كنَقْر الغراب، ولما رأى النبي رجلًا مُسيئًا في صلاته -لم يطمئن فيها- قال له: ارجع فَصَلِّ؛ فإنك لم تُصَلِّ، ردَّه ثلاث مراتٍ، حتى قال ذلك الرجل: والذي بعثك بالحقِّ، ما أُحسن غير هذا، فعلمني. فعلَّمه النبي كيف يطمئن في صلاته؟ [5].

ولهذا ذكر جمهور الفقهاء: أن الطمأنينة في الصلاة ركنٌ من أركان الصلاة، لا تصح الصلاة بدون هذا الركن، فمَن صلَّى صلاةً لم يطمئن فيها لم تصح صلاته، وليس له من صلاته إلا التعب: ارجع فَصَلِّ؛ فإنك لم تُصَلِّ.

ومن صور الاستعجال المُحرمة في الصلاة: مُسابقة الإمام، فإن المطلوب من المأموم أن يكون مُتابعًا لإمامه، لا يُسابقه، ولا يتأخر عنه، وإنما يكون مُتابعًا له؛ كما قال النبي : إنما جُعل الإمام ليُؤْتَمَّ به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبَّر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا [6].

فالمطلوب هو المُتابعة، ولكن بعض الناس عَجِلٌ؛ فتجده يُسابق الإمام في الركوع! ويُسابق الإمام في السجود! وربما يُسابق الإمام في الرفع من الركوع! وقد قال النبي : أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمارٍ، أو يجعل الله صورته صورة حمارٍ؟ [7].

ومن صور العجلة: أن بعض الناس يأتي في آخر الناس للمسجد، وربما فاتته بعض الركعات، ثم ينصرف أول الناس بعد سلام الإمام! فلا يأتي بالأذكار بعد السلام، استعجالٌ إلى ماذا؟!

لا شيء، أو إلى أمورٍ تافهةٍ، أو مجرد عادةٍ مُتأصلةٍ في نفسه في الاستعجال، فأموره كلها مبنيةٌ على العجلة، حتى في مجيئه للمسجد، وحتى في صلاته!

العجلة في الدعاء

ومن صور العجلة المذمومة: العجلة في إجابة الدعاء، فإن العجلة في إجابة الدعاء من موانع إجابة الدعاء؛ كما قال النبي : يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول: قد دعوتُ فلم يُستجبْ لي [8]، متفقٌ على صحته.

فبعض الناس يريد أنه إذا دعا الله مرةً واحدةً استجاب الله له، فإذا لم يَرَ أثر الإجابة تَحَسَّر وترك الدعاء، وهذا من أعظم موانع الإجابة.

فعلى المسلم أن يُلِحَّ على الله تعالى في الدعاء، وألا يستعجل الإجابة، وأن يستشعر أن الله قد جعل لكل شيءٍ قدرًا، وأن يُحْسن الظنَّ بالله ​​​​​​​ بأن الله سيُجيب دعاءه، فهذه الأمور من أسباب إجابة الدعاء، وأما الاستعجال في طلب الإجابة فهو من أعظم موانع إجابة الدعاء، بل إن بعض الناس ربما يستعجل في دعائه؛ بأن يدعو الله تعالى أن يُعجل له أمورًا، كما جاء في قصة ذلك الرجل كما في “صحيح مسلم” عن أنسٍ  قال: دخل النبي على رجلٍ من أصحابه يعوده، وقد أصبح كالفَرْخ، فقال له النبي : هل كنتَ تدعو بشيءٍ؟ قال: نعم، كنتُ أقول: اللهم ما كنتَ مُعاقبي به في الآخرة، فعَجِّله لي في الدنيا. فقال النبي : سبحان الله! لا تُطيقه، أفلا قلتَ: اللهم آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذاب النار [9].

فينبغي للمسلم ألا يتعجل شيئًا من عذاب الله ​​​​​​​، أو يدعو به على نفسه، وإنما يسأل الله تعالى أن يرزقه سعادة الدنيا والآخرة، وخيري الدنيا والآخرة، ومن أعظم الدعوات التي كان يحرص النبي عليها: ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذاب النار [10].

العجلة المحمودة

عباد الله: العجلة وإن كانت مذمومةً شرعًا وعُرْفًا إلا أن العجلة في أمور الآخرة من العبادات والطاعات، والتي تعني المُسارعة للخيرات، والمُسابقة للطاعات، هذه محمودةٌ، فإن المسلم مطلوبٌ منه أن يُبادر للخيرات، وأن يُسارع إليها؛ كما قال ربنا تبارك وتعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21]، ويقول النبي : بادروا بالأعمال فِتَنًا كقطع الليل المُظلم، يُصبح الرجل مُؤمنًا، ويُمسي كافرًا، أو يُمسي مؤمنًا، ويُصبح كافرًا، يبيع دينه بعَرَضٍ من الدنيا [11] أخرجه مسلمٌ في صحيحه.

فالتَّعجل الذي هو بمعنى: المُبادرة للخير، والمُسارعة للطاعات، والتَّعجل في التوبة إلى الله تعالى؛ هذه من الأمور المحمودة، لكنها تُسمَّى عند أهل العلم: مُبادرة ومُسارعة ومُسابقة للخيرات، فهذه لا تدخل في العجلة المذمومة، وإنما هي مُبادرةٌ للخير، وهي من الأمور المحمودة.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ؛ فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل مُحدثةٍ بدعةٌ.

آثار العجلة

عباد الله: سمعتُم ما ورد في ذمِّ العجلة من النصوص ومن كلام الحكماء، ومن أبرز آثارها: النَّدم، فيندم الإنسان على استعجاله في الأمور، وعلى عدم تأنيه فيها.

والعجلة وإن كانت طبعًا للإنسان كما قال ربنا تبارك وتعالى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37] إلا أن على المسلم أن يُجاهد نفسه في ترك العجلة، وفي التَّخلق بخُلُق التأني والتَّثبت وترك الاستعجال، وهو من الأخلاق العظيمة التي يُحبها الله تعالى، فيتأنَّى في أموره وتصرفاته، ولا يعجل فيها، ويتأنى في حكمه على الآخرين، ويتأنى في نقل الأخبار حتى يتثبَّت من صحتها، ويتأنى في جميع أمور دنياه، حتى في الكلمة التي يتكلم بها يتأنى فيها، فإن كان فيها خيرٌ تكلم وإلا صمت، كما قال النبي : مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت [12].

عباد الله: إن الناس عندما يُقيمون شخصًا يُقال عن فلانٍ: إنه عَجِلٌ؛ لما يرون من تعجله في كثيرٍ من أموره وتصرفاته، فاحذر أن تكون من هذا الصنف من الناس.

وفي المقابل عندما يُثنى على شخصٍ يُقال: فلانٌ ذو أناةٍ وحلمٍ وتثبتٍ، فاحرص على أن تكون من هذا الصنف من الناس.

عباد الله: إذا كانت العجلة مذمومةً، فإن مقابل العجلة من الطرف الآخر: الكسل والإهمال والتَّخلف، وهو أيضًا من الأمور المذمومة، فليس معنى قولنا: إن العجلة مذمومةٌ أن الإنسان يكون كسولًا، فليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود الاعتدال، فيبتعد الإنسان عن الإهمال والكسل، ويبتعد عن العجلة، فيكون مُعتدلًا.

وكثيرٌ من الأخلاق الفاضلة هي خُلُقٌ وسطٌ بين خُلُقين مذمومين: هذه الشجاعة هي خُلُقٌ وسطٌ بين الجُبن والتَّهور، وهذا الكرم خُلُقٌ كريمٌ وسطٌ بين البخل والإسراف والتَّبذير، وهكذا تجد أن الأخلاق الكريمة الفاضلة خُلُقٌ وسطٌ بين خُلُقين مذمومين، فالتأني والتَّثبت خُلُقٌ كريمٌ بين خُلُقين مذمومين: بين العجلة والكسل والإهمال.

والكسل قد كان النبي يتعوذ بالله منه، فكان من أكثر دعائه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، ومن العجز والكسل، ومن الجُبن والبخل، ومن ضَلَع الدين، ومن قهر الرجال [13].

فليس معنى قولنا: إن العجلة مذمومةٌ أن الإنسان يكون مُهملًا، أو يكون كسولًا مُتراخيًا عن أمور الخير، وإنما المطلوب أن يكون مُبادرًا لما ينفعه من أمور دينه ودنياه، ولا يكون مُتعجلًا، ولا يكون كسولًا، وإنما يكون مُعتدلًا في هذا الأمر، كسائر الأخلاق الكريمة الممدوحة التي هي بين خُلُقين وطرفين مذمومين.

ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.

اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين.

اللهم انصر من نصر دين الإسلام في كل مكان، واخذل من خذل دين الإسلام في كل مكان، وأبرم لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وترفع فيه السنة، وتقمع فيه البدعة، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، والعمل بكتابك وسنة نبيك محمد ، واجعلهم رحمة لرعاياهم، اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، اللهم وفقه ونائبيه وإخوانه وأعوانه لما فيه الخير للإسلام وصلاح المسلمين، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة التي تعينهم إذا ذكروا، وتذكرهم إذا نسوا، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.

اللهم إنا لنا إخوة مسلمين قد مستهم البأساء والضراء اللهم فارحمهم برحمتك يا أرحم الراحمين، وانصرهم بنصرك يا قوي يا عزيز، يا نصير المستضعفين، ويا مجير المستجيرين، ويا أرحم الراحمين.

اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 17.
^2 رواه البخاري: 3331، ومسلم: 1468.
^3 رواه مسلم: 1469.
^4 رواه البخاري: 60، ومسلم: 241.
^5 رواه البخاري: 757، ومسلم: 397.
^6 رواه البخاري: 722، ومسلم: 414.
^7 رواه البخاري: 691، ومسلم: 427.
^8 رواه البخاري: 6340، ومسلم: 2735.
^9 رواه مسلم: 2688.
^10 رواه البخاري: 6389، ومسلم: 2690.
^11 رواه مسلم: 118.
^12 رواه البخاري: 6018، ومسلم: 47.
^13 رواه البخاري: 2893.
مواد ذات صلة