الرئيسية/خطب/أحب العمل إلى الله أدومـه وإن قلّ
|

أحب العمل إلى الله أدومـه وإن قلّ

مشاهدة من الموقع

الحمد لله فالق الإصباح وإليه تُرجع الأمور، يقلب الليل والنهار وهو الحكيم الخبير، يدبر الأمر وإليه تصير الأمور، لا إله إلا هو يحيي ويميت وهو على كل شيءٍ قديرٌ، أحمده تعالى وأشكره، حمدًا وشكرًا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فإنها وصية الله للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ[النساء: 131]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].

تدارك العمر بمحاسبة النفس

عباد الله:

نحن الآن في مستقبل عامٍ هجريٍّ جديدٍ، وقد ودَّعنا عامًا هجريًّا طويت صفحاته من أعمارنا، طويت صفحات ذلك العام المكون من ثلاثمائةٍ وأربعةٍ وخمسين يومًا.

فيا ليت شعري! ماذا قدمنا فيه من أعمالٍ صالحةٍ؟! وبماذا ملأنا صفحات ذلك العام؟!

لقد أُحصِيَت فيه جميع أعمالنا وأقوالنا، أحصاها ملائكةٌ كرامٌ كاتبون: يعلمون ما تفعلون، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق: 18].

عباد الله:

لو فُرض أن أحدنا جُعِلَ معه جهاز تسجيلٍ ليسجل كلامه، ليس لعامٍ، بل ليومٍ واحدٍ فقط، ثم استمع بعد ذلك إلى المسجل فربما خجل من نفسه، كيف تكلم بهذا الكلام من غير تروٍّ ولا نظرٍ، ولربما غضب كيف سُجِّل كلامه وهو لا يشعر.

اعلم بأن معك من لا يفارقك ليل نهار، وليس يسجل أقوالك فقط، بل يسجل أقوالك وأعمالك، وحركاتك وسكناتك، وكل شيءٍ، يسجلها ليس ليومٍ واحدٍ، بل لجميع عمرك، ملكان أحدهما عن اليمين، والآخر عن الشمال.

مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق: 18]، وتأمل قول الله:مِنْ قَوْلٍ. أي: من أي قولٍ، أيّ كلمةٍ يتكلم بها، وإذا كانت الأقوال تحصى فالأفعال من باب أولى.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ۝إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ[فاطر: 5، 6].

حافظ على عمل صالح

عباد الله:

والمسلم مع محاسبته لنفسه عما مضى، لا بد أن يَتْبع تلك المحاسبة عملٌ، وعزمٌ على الإفادة مما يُستقبل، فهذا العام الذي نحن في اليوم الثاني منه، إن أحياك الله ​​​​​​​ وعشت جميع أيامه، فستعيش ثلاثمائةٍ وأربعةً وخمسين يومًا، فلو أنك عزمت على المحافظة على عملٍ صالحٍ قليلٍ، ستجد نفسك مع نهاية العام وقد أصبح هذا العمل كثيرًا.

فلو أنك على سبيل المثال عزمت على المحافظة على ركعتي الضحى مثلًا، فمعنى ذلك أنك مع نهاية هذا العام تكون قد صليت أكثر من سبعمائة ركعةٍ، وعندما يقال للإنسان: صلِّ سبعمائة ركعةٍ، فيستكثر هذا الرقم: كيف سبعمائة ركعةٍ؟! لو أنك فقط في كل يومٍ صليت ركعتيِ الضحى، لا تتجاوز دقيقتين، لكنت مع نهاية العام صليت أكثر من سبعمائة ركعةٍ.

ولو أنك عزمت على المحافظة على السنن الرواتب، فإنك مع نهاية العام تكون قد صليت أكثر من أربعة آلاف ركعةٍ.

ولو أنك عزمت على أن تصوم ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ، فمعنى ذلك أنك مع نهاية العام تكون قد صمت أكثر من شهرٍ تطوعًا، من غير شهر رمضان.

ولو أنك عزمت على أن تُسبح في اليوم الواحد مائة تسبيحةٍ فقط، فمعنى ذلك أنك مع نهاية العام تكون قد سبَّحت أكثر من خمسةٍ وثلاثين ألف تسبيحةٍ.

وهكذا يا عباد الله، نجد أن المحافظة والمداومة على العمل الصالح، وإن كان يسيرًا، تلك المداومة تجعله كثيرًا؛ ولهذا كان أحب العمل إلى الله أدومه وإن قَلَّ، أخرج البخاري ومسلمٌ في “صحيحيهما” عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : أحَبُّ العملِ إلى اللهِ أدومُه وإن قَلَّ [1].

فحافظ أولًا على الفرائض، ثم اجعل لك نوافل تلتزم بالمحافظة عليها، فإنك تحصِّل بذلك أجورًا عظيمةً، وهذا من حسن الترتيب والإدارة للوقت.

فوائد المداومة على العمل الصالح

وإذا داومت على عملٍ صالحٍ، فإنك تستفيد عدة فوائد:

  • الفائدة الأولى: أن هذا العمل الذي تداوم عليه، أنه محبوبٌ إلى الله، بل قال عليه الصَّلاة والسَّلام: إنه أحب العمل إلى الله. العمل الذي يداوم عليه صاحبه أحب إلى الله تعالى من العمل الذي لا يداوم عليه صاحبه، حتى وإن كان العمل الذي يداوم عليه صاحبه قليلًا، أحب إلى الله من الكثير المنقطع.
  • الفائدة الثانية: أن هذا العمل الذي تداوم عليه يكون مع مرور الوقت كثيرًا، كما ضربنا بعض الأمثلة لذلك، والقليل مع القليل يكون كثيرًا.
  • الفائدة الثالثة: أن من داوم على عملٍ صالحٍ فعَرَض له عارض من مرضٍ أو سفرٍ أو غير ذلك، فإنه يُكتب له الأجر كاملًا، وهذا لا يحصل لمن لم  يداوم على ذلك العمل الصالح، ويدل لهذا قول النبي : إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافر، كَتَب الله لَهُ مَا كَانَ يَعْمَل صَحِيحًا مُقِيمًا [2].
    ولما أتت هذه الجائحة –جائحة (كورونا)- قيل للناس: إن من كان يحافظ على أعمالٍ صالحةٍ ومُنِع منها بسبب تلك الجائحة فيكتب له الأجر كاملًا؛ كمن كان يصلي صلاة الجمعة، لكنه بسبب تلك الظروف أصبح يصليها ظهرًا في البيت، فيكتب له أجر الجمعة كاملًا، فهذا لا يتأتى إلا لمن داوم على العمل الصالح، لو كان من عادة هذا الشخص أنه يقوم الليل، وفي ليلةٍ من الليالي لم يقم، لمرضٍ أو لسفرٍ أو لأي طارئٍ، فيكتب له الأجر كاملًا وكأنما قام من الليل.
    فهذه فائدةٌ عظيمةٌ لا تحصل إلا لمن داوم على عملٍ صالحٍ، فاحرص على أن يكون لك أعمالٌ صالحةُ بعد الفرائض تحافظ وتداوم عليها، تحصُل على هذه الفوائد العظيمة.

خطر الإصرار على المعصية

عباد الله:

وفي المقابل: نجد أن الإصرار على المعصية وإن كانت يسيرةً، يجعلها مع مرور الوقت كثيرةً.

فعلى سبيل المثال: من يحلق لحيته، لو فرضنا أنه يحلق لحيته في الأسبوع مرةً واحدةً، فمعنى ذلك أنه مع نهاية العامة يكون قد حلق لحيته أكثر من خمسين مرةً؛ لأن العام يتكون من خمسين أسبوعًا، فيكون قد عصى الله ​​​​​​​ بهذه المعصية أكثر من خمسين مرةً،.. وهكذا؛ فإن الأعمال السيئة بالمداومة عليها تكون مع مرور الوقت كثيرًا، فليحرص المسلم على أن يفهم هذه القاعدة جيدًا، وأن يوظفها في الأعمال الصالحة، وهي أن المداومة على أي عملٍ يجعله مع مرور الوقت كثيرًا، وإن كان ذلك العمل قليلًا في نفسه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 2-4]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعةٌ.

مبدأ التاريخ الهجري

عباد الله:

إننا نعيش هذه الأيام في بداية عامٍ هجريٍّ جديدٍ، ابتدأ عقد سنواته من أجل مناسبةٍ في الإسلام، ألا وهي هجرة النبي التي ابتدأ بها تكوين الدولة الإسلامية، ولم يكن التاريخ السنوي معمولًا به في أول الإسلام، حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب ؛ ففي السنة الثالثة أو الرابعة من خلافته، كتب إليه أبو موسى الأشعري: أنه يأتينا منك كتبٌ ليس لها تاريخٌ، فجمع عمر الصحابة واستشارهم.

فقال بعضهم: نؤرخ من مولد النبي .

وقال آخرون: يكون التأريخ من بعثته .

وقال آخرون: يكون من مهاجره .

فقال عمر: “الهجرة فرقت بين الحق والباطل”. فأرَّخوا بها، فأرخوا من الهجرة، واتفق الصحابة  على ذلك.

ثم تشاور الصحابةُ: في أي شهرٍ يكون ابتداء السنة؟

فقال بعضهم: من رمضان؛ لأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن.

وقال بعضهم: من ربيعٍ الأول؛ لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي  المدينة مهاجرًا.

واختار عمر وعثمان وعليٌّ: أن يكون ابتداء السنة الهجرية من المحرم؛ لأنه شهرٌ حرامٌ يلي شهر ذي الحجة الذي يؤدي فيه المسلمون حجَّهم، والذي به تمام أركان دينهم، والذي كانت فيه بيعة الأنصار للنبي  والعزيمة على الهجرة، فكان ابتداء السنة الإسلامية الهجرية من الشهر المحرَّم.

عباد الله:

وإنه لمن المؤسف حقًّا: أن يعدل كثيرٌ من المسلمين اليوم عن التأريخ الإسلامي الهجري إلى تأريخ النصارى الميلادي، ويزهدوا في تأريخ المسلمين الذي أُرّخَت به الحوادث، وهو رمزٌ لهذه الأمة، وجزءٌ من هويتها، إنه مع الأسف الشديد، أصبحت جميع دول العالم الإسلامي تؤرخ بالتأريخ الميلادي مع إهمال التأريخ الهجري، باستثناء هذه الدولة المباركة، التي قد نص نظامها الأساسي للحكم في مادته الثانية على أن تقويمها هو التقويم الهجري.

لقد أصبح التأريخ الهجري، الذي هو جزءٌ من هوية الأمة وشعارها، أصبح غريبًا غير مألوفٍ في كثيرٍ من بلدان العالم الإسلامي، حتى إنهم لا يعرفون التأريخ الهجري إلا عند دخول رمضان أو الحج.

عباد الله:

إذا اقتضت المصلحة أو الحاجة: أن يؤرَّخ بالتأريخ الميلادي، وليس رغبةً عن التأريخ الهجري وزهدًا فيه، فلا بأس، كما في الميزانيات المالية، ورواتب الموظفين ونحو ذلك، كما أنه لا بأس بذكر التأريخ الميلادي مع التأريخ الهجري، لمزيدٍ من الإيضاح والتعريف، وإنما الذي يُنكَر أن يعتمد على التأريخ الميلادي، اعتمادًا تامًّا من غير حاجةٍ، ويُغفَل التأريخ الإسلامي الهجري فلا يكون له ذكرٌ، حتى إن بعض الناس، أصبح عندما يسجل مقطعًا لنشره عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يؤرخه بالتأريخ الميلادي، ويغفل التأريخ الإسلامي الهجري من غير حاجةٍ لذلك، مع أن المخاطب به ومن يشاهده إنما هم مسلمون.

فينبغي: أن يتواصى أفراد المجتمع على التمسك بالتأريخ الهجري، وعلى إشاعته وظهوره، والأمم المتحضرة الراقية هي التي تعتز بهويتها ولغتها وتأريخها، ونحن المسلمون أولى بالاعتزاز بديننا ولغتنا وتأريخنا الإسلامي الهجري المجيد.

ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير؛ فقد أمركم الله بذلك فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن صحابته أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين.

اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكانٍ.

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واجعلهم رحمةً لرعاياهم، ووفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وقرب منه البطانة الصالحة الناصحة التي تذكره إذا نسي، وتعينه إذا ذكر، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الصافات: 180-182].

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
1 رواه البخاري: 6464، ومسلم: 2818.
2 رواه البخاري: 2996.

مواد ذات صلة