الرئيسية/خطب/وقفات مع انتشار فيروس كورونا
|categories

وقفات مع انتشار فيروس كورونا

مشاهدة من الموقع

الحمد لله العلي العظيم القادر، هو الأول والآخر والباطن والظاهر، عالم الغيب والشهادة المطَّلع على السرائر والضمائر، خَلَق فقدَّر، ودبَّر فيسَّر، فكل عبدٍ إلى ما قدَّره عليه وقضاه صائر، أحمده سبحانه على خفي لطفه وجزيل بِرِّه المتظاهر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].

عباد الله:

كان الحديث في خطبة الجمعة الماضية عن آثار الذنوب والمعاصي، وقد ذكرنا أن من آثارها ما يقدره الله ​​​​​​​ على الناس من الأمراض والأوبئة؛ كما قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ[الشورى: 30].

والوباء قد يكون عقوبةً ليرتدع العاصي عن معاصيه، وقد يكون بلاءً لبعض المؤمنين، جاء في “صحيح البخاري” عن عائشة رضي الله عنها، أنها سألت النبي عن الطاعون فقال: كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِين [1].

الأوبئة المعدية معروفة من قديم الزمان

عباد الله:

حديثُ كثيرٍ من الناس اليوم في مجالسهم، هو الحديث عن فيروس (كورونا)، وتتحدث عنه وسائل الإعلام، وقد انتشر في عددٍ من دول العالم، والأوبئة المعدية معروفةٌ من قديم الزمان، وقد جاء في “صحيح البخاري” عن عوف بن مالكٍ  أن النبي  قال: اعدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، أي: أشراطًا وعلاماتٍ للساعة، وذكر منها: مُوْتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الغَنَمِ [2].

و”المُوتَانُ”: هو الموت الكثير، وشبَّهه بقعاص الغنم، وهو داءٌ يأخذ الغنم لا تلبث معه إلا أن تموت.

وقد ذكر النبي  هذا المرض المعدي القاتل من أشراط الساعة، وقد قيل: إنه ظهر في طاعون (عَمْوَاسَ) في خلافة عمر بن الخطاب ، وأنه مات بسببه سبعون ألفًا من الناس.

عباد الله:

وقد وقع الطاعون في عهد عمر ، وعمر كان سائرًا بالجيش من المدينة إلى الشام، فجاءه الخبر وهو في الطريق، فاستشار الصحابة  هل يقدمون على بلاد الشام وهي موبوءةٌ بهذا المرض المعدي، أو أنهم يرجعون إلى المدينة؟ ثم استقر رأي الصحابة على أن يرجعوا إلى المدينة، وألا يقدموا على بلاد الشام وقد انتشر فيها ذلك الوباء.

ثم جاء عبدالرحمن بن عوف بعدما اجتهد الصحابة في ذلك، فقال: إني سمعت النبي  يقول: إِذَا وَقَع الطَّاعُونُ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا، وِإذَا كُنْتُم فِيهَا فَلَا تَخْرُجوا مِنْهَا [3].

الأخذ بأسباب الوقاية من (كورونا)

عباد الله:

ولا بأس بفعل الأسباب الواقية من هذا الفيروس، وذلك بالابتعاد عن مواطن الزحام، وعمن أصيب بهذا المرض على وجه الخصوص، وأن هذا لا يقدح في التوكل على الله ​​​​​​​، وقد قال النبي : لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ [4].

والجذام: مرضٌ سريع العدوى، فأمر النبي بالفرار من المجذوم المصاب به؛ وذلك من باب تجنب الأسباب التي قد تكون أسبابًا للبلاء؛ كما قال سبحانه: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ[البقرة: 195]. وليس هذا من باب تأثير الأسباب بنفسها؛ ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام: لا عَدْوَى. أي: لا عدوى تعدي بنفسها، بل بتقدير الله تعالى لها.

وجاء في “صحيح مسلمٍ” أنه كان في وفد ثقيفٍ، الذين قدموا على النبي كان فيهم رجلٌ مجذومٌ، فأرسل إليه النبي : إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ [5].

المبالغة في الأسباب ضعفٌ في التوكل

عباد الله:

ومع قولنا بأنه لا بأس من فعل الأسباب الواقية من هذا الفيروس، ومن الأمراض المعدية عمومًا، إلا أنه ينبغي عدم المبالغة في ذلك إلى درجة الهلع والوسوسة؛ فإن هذه الأمراض إنما تصيب الإنسان بتقدير الله تعالى، ولهذا؛ قال عليه الصَّلاة والسَّلام: لَا عَدْوَى. أي: لا تعدي بنفسها، بل بتقدير الله تعالى لها، فالمسلم يفعل الأسباب الواقية، ويفوض أمره إلى الله، وهذه هي حقيقة التوكل، فتعطيل الأخذ بالأسباب نقصٌ في التوكل، والاعتماد على الأسباب والمبالغة في ذلك، ونسيان مُسبب الأسباب ضعفٌ في التوكل.

عباد الله:

إن ما اتخذته الدولة -أيَّدَها الله- من إجراءات تعليق العمرة مؤقتًا، هذا يدخل في الأخذ بالأسباب التي تمنع وتحد من انتشار هذا الفيروس؛ فإنه لو قُدِّر وجود معتمرين مصابين بهذا الفيروس، فمن المحتمل أن يتسببوا في نقل العدوى إلى معتمرين آخرين، بل لنقل العدوى للناس المقيمين في مكة، وهذه الأوبئة تنتشر بسرعةٍ كبيرةٍ في مواطن الزحام، فهذا الإجراء الذي اتخذته الدولة، إجراءٌ لا بد منه للوقاية من الإصابة بهذا الفيروس.

وما يُنقَل في بعض وسائل التواصل الاجتماعي من أن مكة لا تنتشر فيها الأمراض المعدية، هذا غير صحيحٍ، والواقع أن الأمراض المعدية تنتشر في مكة كما تنتشر في غيرها، وقد ذكر المؤرخ ابن بشرٍ رحمه الله في كتابه “عنوان المجد في تاريخ نجد”، أنه في سنة ألفٍ ومائتين وستةٍ وأربعين، وقع وباءٌ عظيمٌ بمكة في أول شهر ذي القعدة من ذلك العام، ثم ارتفع على دخول ذي الحجة، فلما كان يوم النحر حلَّ الوباء والموت العظيم في الحجاج وغيرهم، وأنه أحصي عدد الذين ماتوا، فكانوا ستة عشر ألف نفسٍ.

عباد الله:

مع وجود هذه الأوبئة تكثر الشائعات والأراجيف في المجتمعات، فحذارِ حذارِ من التسرع في نشر الأخبار والشائعات، ونقل الرسائل دون تثبت، فإن هذه الشائعات والأراجيف قد تبث الرعب في قلوب بعض الناس، وقد تصيب المجتمع بالإرجاف، وقد نهى النبي  عن أن يُحدِّث المرء بكل ما سمع، فقال: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُل مَا سَمِع [6].

اللهم ادفع وارفع عنا الوباء والربا والزنا والزلازل والمحن ما ظهر منها وما بطن.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة: 2-4]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعةٌ.

الذكرُ حصن المسلم من الشرور

 عباد الله:

إن مما يغفل عنه بعض الناس: الحصن الحصين الذي يحصن الإنسان من الشرور والآفات التي تصيب الإنسان، وهذا الحصن الحصين هو: الذكر، فعلى المسلم أن يتحصن بالأذكار، وأن يحرص على أذكار الصباح والمساء، والأذكار التي قبل النوم، ومن ذلك: سورتا المعوذتين اللتين ما تعوذ المتعوذون بمثلهما: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ[الفلق]، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ[الناس] [7]. فإنهما قد تضمنتا الاستعاذة بالله تعالى من جميع الشرور التي في الدنيا، ويُشرَع قراءتهما مع سورة الإخلاص دُبر كل صلاةٍ مكتوبةٍ [8]، ويُشرَع تكرار قراءتها بعد صلاة الفجر والمغرب ثلاث مراتٍ [9]، ويُشرع قراءة هذه السور مع آية الكرسي قبل النوم [10]، بل يُشرع إذا قرأ هذه السور الثلاث أن ينفث في يديه، ثم يمسح وجهه ورأسه وما استطاع من جسده، فقد كان النبي يفعل ذلك كل ليلةٍ [11].

ومن ذلك: أن يقول المسلم حين يصبح وحين يمسي: بِسْم الله الذِي لَا يَضُر مَعَ اسْمِه شَيءٌ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعلِيمُ. يقول هذا الذكر ثلاث مراتٍ. 

ففي حديث عثمان  قال: قال رسول الله : مَنْ قالَ صَبَاحِ كُل يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُل لَيْلَةٍ: بِسْمِ اللهِ الذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِه شَيءٌ فِي الأَرْضِ، وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعلِيمُ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ لَمْ يَضُرَّهُ شَيءٌ [12].

قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: (وهذا خبرٌ صحيحٌ، وقولٌ صادقٌ علمنا دليله دليلًا وتجربةً؛ فإني منذ سمعته عملت به، فلم يضرني شيءٌ إلى أن نسيته ليلةً فلدغتني عقربٌ).

ومن أدعية النبي : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْأَدْوَاءِ [13].

وقوله: وَالْأَدْوَاءِ. جمع داءٍ، والمراد بها: الأسقام والأمراض الخطيرة.

ومن أدعية النبي  أنه كان يقول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبَرَصِ وَالْجُنُونِ والْجُذَامِ، وسَيِّءِ الْأسْقَامِ [14].

فعلى المسلم أن يفعل الأسباب التي يتقي بها الأمراض المعدية، وأن يتحصن بالأذكار ويفوض أمره إلى الله تعالى، وأن يستحضر أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير؛ فقد أمركم الله بذلك فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمدٍ، اللهم ارضَ عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك، يا رب العالمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين، اللهم أذل النفاق والمنافقين.

اللهم انصر من نصر دين الإسلام في كل مكانٍ، واخذل من خذل دين الإسلام في كل مكانٍ، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أبرم لأمة الإسلام أمرًا رشَدًا يُعز فيه أهل طاعتك، ويُهدَى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شرٍّ.

نعوذ بك اللهم من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.

اللهم اجعلنا لنعمك وآلائك شاكرين، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واجعلهم رحمةً لرعاياهم، ووفق إمامنا وولي أمرنا وولي عهده لما تحب وترضى، ولما فيه صلاح البلاد والعباد، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.

رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر: 10].

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 5734.
^2 رواه البخاري: 3176.
^3 رواه البخاري: 5728، ومسلم: 2218.
^4 رواه البخاري: 5707، ومسلم: 2220.
^5 رواه مسلم: 2231.
^6 رواه أبو داود: 4992، وهو عند مسلم: 5، بلفظ: كفى بالمرء كذبًا ...
^7 ورد هذا في حديثٍ مرفوعٍ رواه أبو داود: 1463، من حديث عقبة بن عامر.
^8 رواه أبو داود: 1523، والترمذي: 2903، والنسائي: 1335.
^9 رواه أبو داود: 5082.
^10 رواه البخاري: 2311.
^11 رواه البخاري: 5017.
^12 رواه أبو داود: 5088.
^13 رواه الترمذي: 3591.
^14 رواه أبو داود: 1554، وأحمد: 13004.
مواد ذات صلة