الرئيسية/خطب/الاستدانة آداب وتوجيهات
|categories

الاستدانة آداب وتوجيهات

مشاهدة من الموقع

الحمد لله وَسِعَ كل شيءٍ رحمةً وعلمًا، خلق عباده وفاوت بينهم في الأرزاق لحكمٍ عظيمةٍ، ولا يحيطون به علمًا، أمر بأداء الحقوق لأهلها، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا[طه: 112]، أحمده تعالى وأشكره حمدًا وشكرًا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأحمده وأشكره حمدًا وشكرًا عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضا نفسه، ومداد كلماته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد: 

فاتقوا الله أيها المسلمون؛ فإنها وصية الله للأولين والآخرين، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء: 131]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝  وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ[الطلاق: 2، 3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا[الطلاق: 4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا[الطلاق: 5].

تعظيم حقوق العباد

عباد الله: 

عظّم النبي شأن حقوق العباد، فقال في أعظم مَجمَعٍ في عهده عليه الصَّلاة والسَّلام، في خطبة عرفة، وقد حجَّ معه قرابة مائة ألفٍ، فافتتح خطبته بقوله: أيها الناس: إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا فليبلّغ الشاهدُ الغائب [1]. فجعل النبي حرمة حقوق العباد كحرمة اليوم الحرام، في الشهر الحرام، في البلد الحرام.

وفي هذه الخطبة نتحدث عن جانبٍ من جوانب الحقوق المالية، وهو: الدَّين، وقد أصبح الدَّين شائعًا في حياتنا المعاصرة، فكثيرٌ من الناس مدينٌ؛ إما لأفراد أو لبنوك أو لشركات، أو لغيرها.

تعظيم شأن الدَّيْن 

عباد الله:

وإن الدَّين أمره عظيمٌ، حتى إن النبي كان إذا أُتي بجنازةٍ ليصلي عليها، سأل هل عليه دينٌ؟ فإن قيل: عليه دينٌ. لم يصلِّ عليه، عن جابرٍ قال: “توفي رجلٌ منَّا فغسلناه وحنطناه وكفناه، ثم أتينا به رسول الله ، فقلنا: يا رسول الله، تصلي عليه؟ فخطا خُطًا، ثم قال: أعليه دَّينٌ؟. قلنا: عليه ديناران يا رسول الله، فانصرف، فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ يا رسول الله، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: حق الغريم وبرئ منهما الميت؟ قال: نعم، فصلى عليه” [2].

وفي “الصحيحين” عن أبي هريرة : أن رسول الله كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدَّين، فيسأل: هل ترك لدينه قضاءً؟ فإن حُدِّث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دَينٌ فعلي قضاؤه [3]. أي: من بيت مال المسلمين.

فانظروا -رحمكم الله- إلى عِظم شأن الدين!، وكيف أن النبي كان يترك الصلاة على من توفي وعليه دَينٌ، وإن كان دينًا يسيرًا، كما في قصة هذا الرجل الذي مات وعليه ديناران، حتى تحملهما أبو قتادة فصلّى عليه.

وإن النبي بهذا التصرف أراد أن يربي أمته على احترام حقوق العباد، وأنه ينبغي لمن كان عليه دَينٌ أن يجتهد في سداده، عن أبي قتادة أن رسول الله قام فيهم، فذكر أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن قتلتُ في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله نعم، إن قُتلتَ في سبيل الله وأنت صابرٌ محتسبٌ، مقبلٌ غير مدبرٍ، ثم قال عليه الصَّلاة والسَّلام: كيف قلتَ؟ فأعاد عليه، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: إلا الدَّين؛ فإن جبريل قال لي ذلك [4] رواه مسلم.

وقد ذكر الفقهاء: أن من كان عليه دَينٌ فليس له أن يتصدق على غيره من الفقراء والمساكين حتى يسدد ما عليه، واختلفوا في حكم الصدقة بالشيء اليسير؛ وذلك أن سداد الدَّين مقدمٌ على الصدقة.

الاستعاذة بالله من الدَّيْن 

عباد الله:

إن الدَّين أمره عظيمٌ، حتى إن النبي كان يتعوذ بالله من غلبة الدين، ففي “الصحيحين” عن أنس  قال: كنت أخدم النبي ، فكنت أسمعه يكثر من أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وغلبة الدين، وقهر الرجال [5]، وقوله: غلبة الدين. أي: ثقل الدين وشدته، وذلك حين لا يجد من عليه الدين، حين لا يجد وفاء، لا سيما مع المطالبة.

وفي “الصحيحين” عن عائشة رضي اللهُ عنها، أن النبي كان يدعو في كل صلاةٍ يصليها -وفي بعض الروايات: قبل السلام- فيقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، والمأثم: هو المعاصي؛ ما يقتضي الإثم، والمغرم: هو الدين، فقال له قائل: يا رسول الله، ما أكثر ما تستعيذ من المغرم! أي: من الدَّين، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: إن الرجل إذا غرم حدّث فكذب، ووعد فأخلف [6].

فانظروا كيف أن النبي ، كان يدعو في كل صلاةٍ يصليها بعد التشهد الأخير وقبل السلام، بهذا الدعاء العظيم الذي تضمن الاستعاذة بالله من المغرم؛ الذي هو الدين، وأن الصحابة لحظوا عليه كثرة الاستعاذة من المغرم، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الرجل إذا غرِم أي: إذا تراكمت عليه الديون: حدّث فكذب، ووعد فأخلف؛ وذلك لأنه مع تراكم الديون قد يضطر إلى الكذب في الحديث، وإلى إخلاف الوعد، وربما اقترن بذلك أيضًا أخلاقٌ ذميمةٌ، حتى وإن كان صالحًا، إلا أن تراكم الديون عليه تضعف جانبه، وتجعله يقع فيما أخبر به النبي .

فهذا دعاءٌ عظيمٌ علّمه النبي أمته، فينبغي لك -أخي المسلم- أن تحرص عليه في كل صلاةٍ تصليها، تقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم.

ما ينبغي عند الاستدانة

عباد الله:

ينبغي أن يجعل المسلم من مبادئه في الحياة: تعظيم حقوق العباد واحترامها، وتعظيم شأن الدَّين، وألا يستدين الإنسان إلا عند الحاجة الملحة، ثم إذا استدان، فينبغي له: أن ينوي عند الاستدانة السداد في أقرب فرصةٍ، وأن يحاول ويبذل جهده في سداد الدَّين الذي في ذمته، ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فإن ذلك من أسباب إعانة الله ​​​​​​​ للعبد، ومن أسباب فتح أبوابٍ من الرزق عليه من حيث لا يحتسب، يقول النبي في الحديث الذي أخرجه البخاري في “صحيحه”: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله [7]، فمن أخذ أموال الناس بنية السداد، وهو عازمٌ صادقٌ على ذلك، فإن الله تعالى يعينه على هذا ويؤدي عنه.

أما من أخذها بنية المماطلة، وعدم السداد وعدم الوفاء؛ فإن الله يتلفه، وهذا الإتلاف يكون بحسب ما تقتضيه حكمة الله ​​​​​​، ففي هذا الحديث قال عليه الصَّلاة والسَّلام: أتلفه الله. فقد يكون الإتلاف بماذا؟ إتلافًا حسيًّا، أو إتلافًا معنويًّا؛ بأن تمحق بركته، وقد يكون الإتلاف بصحته، فيبتلى بالأمراض والأسقام وغير ذلك، وقد يسلط الله عليه ألوانًا من العقوبات بسبب مماطلته في أداء حقوق العباد.

من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله، فليضع المسلم هذا الحديث العظيم نصب عينيه، وأنه إذا احتاج إلى الاستدانة فلتكن نيته حسنةً، وليعزم على السداد حتى ينال إعانة الله ​​​​​​​ من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله.

عباد الله:

ينبغي ترسيخ هذه المبادئ في النفوس؛ فإنها مبادئ عظيمةٌ قررها النبي ، وعظم من شأنها، ونجد في واقعنا من استهان بها، فاستهان بحقوق العباد؛ فنزعت من أمواله البركة، فلا هو الذي حصل دنيا انتفع بها، ولا هو الذي أبرأ ذمته من حقوق العباد.

اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عما سواك.

اللهم إنَّا نعوذ بك من الهم والحزن، ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن غلبة الدين وقهر الرجال، اللهم إنَّا نعوذ بك من المأثم والمغرم.

اللهم قنعنا بما آتيتنا، وآتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمدلله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشر المور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعةٌ.

الاستدانة لغير ضرورة

عباد الله:

إن من صور الاستهانة بحقوق العباد: الاستدانة ليس للضرورة، ولا للحاجة، وإنما الاستدانة للاستثمار، فيريد الاستثمار بمال غيره، ومعلومٌ أن الاستثمار المشروع، لا بد وأن يكون فيه قدرٌ من المخاطرة، والتردد بين الربح والخسارة، وحينئذٍ فهذا الذي يستدين ليستثمر قد يخسر، وقد تتراكم عليه الديون بسبب ذلك، فكم إنسان الآن هو بين القضبان قد سجن بسبب تراكم الديون عليه والتي كان سببها الاستدانة لأجل الاستثمار، بل إن أكثر الذين سجنوا بسبب الدين، إنما هو بسبب الاستدانة لأجل الاستثمار.

توجيهات لمن أراد أن يستدين

فالواجب على المسلم إذا أراد أن يستدين أن يحسب لذلك، وأن يقدر لهذا قدرًا، وأن يقدر أنه ربما لا تنجح تجارته، وربما يخسر، فلا يجعل هذه الديون تتراكم عليه وتسبب له هذا الحرج.

وإذا استدان مسلمٌ لضرورةٍ أو حاجةٍ؛ فعليه:

  • أولًا: أن يعقد العزم على تسليم الدين في أقرب فرصةٍ؛ حتى ينال إعانة الله ​​​​​​​ من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه؛ هذا الحديث على سداد الدين نجد أنه سرعان ما يسدد الدَّين، وتفتح له أبوابٌ من الرزق من حيث لا يحتسب،
    أما المماطل الذي يأخذ أموال الناس بنية المماطلة؛ فإن هذا الدَّين سرعان ما يتراكم عليه، ويبتلى بديونٍ الأخرى، ثم تتراكم عليه تلك الديون بسبب سوء النية.
    فعلى من ابتلي بالدين، عليه أن يحسن النية في السداد، وعليه كذلك أن يسأل الله ​​​​​​​ كل يومٍ أن يعينه على سداد الدين، فيقول مثلًا: يا ربِّ إني أخذت أموال الناس أريد أداءها، اللهم أعني على أدائها، وأغنني بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك.
  • ثم إنه على من ابتلي بدَينٍ: أن يحرص على حسن تدبير المال، وعلى الاقتصاد في شراء الكماليات، فإن بعض الناس دخله الشهري دخل أغنياء، ومع ذلك يعاني من تراكم الديون عليه بسبب سوء تدبير المال.
  • وعلى من ابتلي بالديون كذلك أن يوثق ديونه، وأن يكتبها في وصيته؛ لكي يعلم بها ورثته من بعده، فيقدم سداد هذه الديون بعد وفاته على قسمة التركة، بل حتى على الوصية؛ كما قال الله تعالى، بعدما ذكر أحكام قسمة المواريث، قال: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ[النساء: 11]، قال أهل العلم: والدَّين مقدمٌ على الوصية بالإجماع، لكن الله تعالى قدم الوصية في الذكر في الآية، من باب الاهتمام بشأنها؛ لأنه في الغالب أن الورثة يتساهلون في تنفيذ الوصية؛ فقدمها الله تعالى في الذكر حتى يهتم بشأنها، وإلا فالدين مقدمٌ على الوصية، ومقدمٌ على قسمة الميراث بإجماع أهل العلم.

إنظار المعسر وحكم حبسه

عباد الله:

وإذا كان المدين معسرًا فيجب على الدائن إنظاره وإمهاله، كما قال الله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة: 280].

وهذا الإنظار والإمهال واجبٌ عليه شرعًا لا منة له فيه، أما إن تصدق الدائن عن المدين المعسر بالدين؛ فهذا خيرٌ عظيمٌ؛ كما قال الله تَعَالَى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[البقرة: 280].

عن أبي قتادة  قال: سمعت رسول الله  يقول: من سرّه أن ينجيه الله من كُرَب يوم القيامة، فلينفّس عن معسرٍ، أو يضع عنه [8] رواه مسلمٌ.

ويقول عليه الصَّلاة والسَّلام: من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله في ظله [9] رواه مسلمٌ.

وعن أبي هريرة  أن رسول الله  قال: كان رجل يداين الناس فيقول لفتاه: إذا أتيت معسرًا فتجاوز عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فلقي الله تعالى، فقال الله: نحن أحق بذلك منك، تجاوزوا عن عبدي [10].

فالتجاوز عن المعسرين من أسباب تجاوز الله تعالى عن العبد ومغفرته لذنوب هذا الدائن، فليستحضر الدائن هذه الأحاديث وما جاء في معناها.

ثم إنه لا يجوز حبس المعسر، والمسؤولية هنا تقع على الدائن، والذي عليه العمل في المحاكم: أنه إذا صدر صك الإعسار لم يحبس المعسر، ولكن إجراءات استخراج صك الإعسار تحتاج، في وقتنا الحاضر، إلى مددٍ طويلةٍ، وربما تأخذ سنواتٍ، وحينئذٍ فالمسؤولية تقع على الدائن، فإذا علمتَ بأن هذا المدين معسرٌ؛ فلا يجوز أن ترفع فيه شكايةً، فإن رفعتَ فيه شكايةً فحبس بسببك، فإنك تأثم، يأثم الدائن الذي تسبب في سجن هذا المعسر، فإن هذا المعسر هو أخوك المسلم، وقد ابتلي بتراكم الديون عليه، والعلاقة بين المسلمين ينبغي ألا تكون علاقةً ماديةً بحتةً، وإنما علاقةٌ تسودها الرحمة والعطف والتكافل والإحسان؛ فهذا أخوك المسلم ابتلي بالإعسار، وأنت تعلم بأنه ليس عنده شيءٌ يسدد به دينه، وحينئذٍ فشكواك له، ومطالبتك له بأن يُسجن؛ تأثم به إثمًا عظيمًا؛ ولذلك فالمسجونون الآن بسبب الإعسار، يتحمل ويبوء بآثامهم الذين رفعوا فيهم الشكاية.

أما إذا كان المدين عنده أموال يخفيها؛ هذا هو الذي يُسجن، وهذا هو الذي يؤدب ويُجبر على السداد، لكنْ إنسانٌ فقيرٌ ومعسرٌ ليس عنده شيءٌ؛ فلا تجوز شكايته، والمسؤولية تقع على الدائن؛ لأن المحاكم إنما تحكم بعدم سجن المعسر إذا صدر صك الإعسار، وما قبل صك الإعسار المسؤولية إنما تقع فيه على الدائن، ثم إن الإنسان إذا رأى أخاه المعسر، ينبغي أن ينظر له بعين الرحمة وعين الشفقة.

وانظروا إلى القصة في الحديث السابق؛ كيف أن ذلك الدائن لما وضع الدين عن المعسر قال الله: نحن أحق بذلك منك، تجاوزوا عن عبدي، ثم إن الله ​​​​​​​ سمى وضع الدين عن المعسر صدقةً، فقال: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[البقرة: 280]، فجعل الله تعالى الحطَّ عن المعسر وإعفاءه من الدين صدقةً، بل إن هذه الصدقة صدقةٌ عظيمةٌ، ليست من جنس الصدقات الأخرى؛ إذ إنها صدقةٌ على إنسانٍ معسرٍ ليس عنده شيءٌ، وبإمكان هذا الدائن أن يرفع فيه شكايةً، وأن يوضع في السجن، فإذا ترك ذلك لله، وتصدق بهذا الدين على معسرٍ؛ فإن أجره عند الله ​​​​​​​ عظيمٌ.

ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمدٍ، اللهم ارض عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا ربَّ العالمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، اللهم انصر من نصر دين الإسلام في كل مكانٍ، واخذل من خذل دين الإسلام في كل مكانٍ، وأبرم لهذه الأمة أمرًا رشَدًا، يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، وترفع فيه السنة وتقمع فيه البدعة، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شرٍّ.

اللهم إنَّا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واجعلهم رحمةً لرعاياهم، ووفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، ولما فيه صلاح البلاد والعباد، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة التي تعينه إذا ذكر، وتذكره إذا نسي، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].

نسألك اللهم من الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشرِّ كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الصافات: 180-182].

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 1218.
^2 رواه أحمد: 14536.
^3 رواه البخاري: 2298، ومسلم: 1619.
^4 رواه مسلم: 1885.
^5 رواه البخاري: 5425، ومسلم: 1365.
^6 رواه البخاري: 832، ومسلم: 589.
^7 رواه البخاري: 2387.
^8 رواه مسلم: 1563.
^9 رواه مسلم: 3006.
^10 رواه مسلم: 1560.
مواد ذات صلة