|categories

(11) العشر الأواخر- فضلها

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو الدرس الأول مع أولى ليالي العشر الأواخر من رمضان، وستكون هناك سلسلة من الدروس، كل يوم في مثل هذا الوقت، وهذا المكان طيلة العشر الأواخر من رمضان إن شاء الله ، وسنتناول في هذه الدروس أبرز ما يحتاج إليه من مسائل وأحكام هذه العشر المباركة، وأمور أخرى، ونتناول أمورًا أخرى تهم المسلم في دينه، ثم بعد ذلك سيكون هناك المجال مفتوحًا للأسئلة والاستفسارات.

التفرغ للعبادة في العشر

أيها الإخوة: بغروب شمس هذا اليوم دخلت العشر الأواخر من رمضان، فهذه هي أولى ليالي العشر، وهي: ليلة إحدى وعشرين، وقد كان النبي  يخلط العشرين الأولى من رمضان بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر شد المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا ليله.

وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخلت العشر انقطع عن الدنيا، وانقطع عن الناس، وتفرغ للعبادة، وذلك باعتكافه عليه الصلاة والسلام في مسجده، كان في أول الأمر يعتكف العشر الأول من رمضان، فقيل له: إن ليلة القدر أمامك، فاعتكف العشر الأواسط، فقيل: إن ليلة القدر أمامك، ثم اعتكف العشر الأواخر، واستقر اعتكافه على العشر الأواخر من رمضان.

فضل ليلة القدر

وهذه العشر تتميز بميزة عظيمة، وهي أن فيها ليلة القدر، هذه الليلة عظم الله شأنها، وأنزل فيها قرآنًا يتلى، بل سورة كاملة من القرآن، ذكرها الله تعالى في موضعين:

  • الموضع الأول في سورة الدخان: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان:3]، فوصف الله تعالى هذه الليلة بأنها ليلة مباركة؛ لكثرة بركتها والخيرات فيها، ثم قال: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4]، ومعنى: يُفْرَقُ أي: يفصل، كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ من أوامر الله المحكمة المتقنة، ومعنى ذلك: أنه يفصل من اللوح المحفوظ إلى الصحف التي بأيدي الملائكة ما يكون في تلك السنة من أرزاق وآجال وأعمال، وغير ذلك.
  • والموضع الثاني: سورة كاملة في شأن هذه الليلة، يقول الله تعالى فيها: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، وأَنْزَلْنَاهُ الضمير يرجع إلى ماذا؟ إلى القرآن.

نزول القرآن في ليلة القدر

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] فأخبر الله تعالى بأنه أنزل القرآن في ليلة القدر، ولكن من المعلوم أن نزول القرآن كان منجمًا على ثلاث وعشرين سنة، أول كلمة نزلت من القرآن، ما هي؟

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، هذه أول آية نزلت من القرآن على رسول الله هنا في مكة في غار حراء، وآخر آية نزلت من القرآن، من يعرف آخر آية نزلت من القرآن؟ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، في سورة البقرة، الآية التي تسبق آية الدين.

مدة نزول القرآن ثلاث وعشرون سنة، طيب إذن ما معنى قول الله : إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:3]؟

فالله تعالى أخبر بأن القرآن نزل في ليلة واحدة، وهي ليلة القدر، وعندما ننظر للواقع نجد أنه نزل في ثلاث وعشرين سنة منجمًا، فكيف نوفق بين ما ذكره ربنا ​​​​​​​، وبين واقع نزول القرآن، وهو أنه كان في ثلاث وعشرين سنة؟

للعلماء قولان:

  • القول الأول: أن المراد أنه أنزل جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم بعد ذلك نزل منجمًا على نبينا محمد ، وهذا مروي عن ابن عباس.
  • القول الثاني: أن المراد ابتداء نزوله كان في ليلة القدر، وهذا هو القول الراجح؛ لأن القرآن نزل مرتبطًا بأسباب: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1]، ونحو ذلك من الأسباب: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]، فبعض الآيات نزلت مرتبطة بأسباب.

فالأقرب والله أعلم أن المراد ابتداء نزوله كان في ليلة القدر، فاكتسبت ليلة القدر الشرف بأنه بداية نزول القرآن كان فيها.

عظيم شأن ليلة القدر

ثم قال الله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [القدر:2]، هذا استفهام يراد منه التفخيم والتهويل والتعظيم لهذه الليلة، وعندما يعظم الرب العظيم الذي لا أعظم منه، يعظم هذه الليلة بهذا الأسلوب، فهذا يدل على عظيم شأنها.

رب العالمين يقول: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [القدر:2]، وَمَا أَدْرَاكَ كما قال: الْقَارِعَةُ ۝مَا الْقَارِعَةُ ۝وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:1-3] هذا استفهام للتفخيم والتهويل.

خير من ألف شهر

ثم قال : لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3] أي: أن العمل الصالح في ليلة القدر ليس مساويًا، بل خير من العمل الصالح في ألف شهر، ألف شهر تعادل كم سنة؟

ثلاثًا وثمانين سنة وأربعة أشهر، سبحان الله! عمل في سويعات خير من العمل في ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر، وقد جاء في بعض الآثار: أن النبي  أري أعمار الأمم السابقة، فوجد أن أعمارهم طويلة، أعمارهم بمئات السنين، نوح عليه الصلاة والسلام لبث في قومه في الدعوة كم سنة؟

تسعمائة وخمسين سنة، ألف سنة إلا خمسين عامًا، بينما متوسط أعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك، فعوضت هذه الأمة بليلة القدر، يعملون فيها عملًا قليلًا، ويؤجرون فيها أجرًا عظيمًا.

نزول الملائكة في ليلة القدر

تَنَزَّلُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمۡرٖ [القدر:4]، ومن بركة هذه الليلة: أن الملائكة تتنزل فيها، والملائكة تتنزل بالخير والرحمات والبركات، تتنزل الملائكة بمن فيهم أعظم الملائكة الروح جبريل عليه السلام، ينزلون إلى الأرض في ليلة القدر، ليروا عبادة المؤمنين، ويسلموا على كل مؤمن ومؤمنة، وهو قائم يصلي.

وذلك أن الله لما أراد أن يخلق الإنسان أخبر الملائكة، قال: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، فإذا كان في ليلة القدر أنزل الله الملائكة على الأرض، لترى عبادة المؤمنين، يقول: انظروا إلى عبادي هؤلاء، ألم أقل لكم إني أعلم ما لا تعلمون، انظروا إلى عبادتهم، انظروا إلى صلواتهم، انظروا إلى دعائهم، انظروا إلى تضرعهم، انظروا إلى خشوعهم.

وجاء في بعض الآثار: أن الملائكة تسلم على كل مؤمن ومؤمنة، وتتعرف على المؤمنين، وإذا افتقدت أحدًا، قالوا: رأيناه العام الماضي، وهو قائم يتعبد، أين هو هذا العام؟ إن كان غائبًا فاردده، وإن كان مريضًا فاشفه.

تبقى الملائكة على الأرض إلى طلوع الفجر: سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:5]، هذه الليلة إذن هي في العشر الأواخر من رمضان، والملائكة تتنزل فيها، العمل الصالح فيها خير من العمل الصالح في ألف شهر، يقول النبي : من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه [1].

متى تلتمس ليلة القدر؟

كان النبي أخبر بليلة القدر، وخرج ليخبر أمته، فدخل المسجد، فتلاحى رجلان، حصل بينهما خصومة، وارتفعت أصواتهما، فأنسيها النبي عليه الصلاة والسلام، قال: وعسى أن يكون خيرًا [2].

لكنه أرشد إلى التماسها في الأوتار في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى، في ثالثة تبقى، الأوتار آكد من الأشفاع، وهذه الليلة ليلة إحدى وعشرين أيضًا من الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر؛ لأنه قد جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه: أن النبي قال: إني رأيت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين [3]، فلما كان صبيحة إحدى وعشرين رأيت أثر الماء والطين على جبهة رسول الله .

فلنجتهد هذه الليلة أيها الإخوة، ولنجتهد في جميع ليالي العشر، رجاء موافقة هذه الليلة العظيمة، كان النبي في هذه الليالي العشر كان يحيي هذه الليالي: “وأحيا ليله” [4].

أفضل الأعمال في العشر الأواخر

ما أفضل عمل يفعله الإنسان في هذه العشر؟

هو ما كان النبي عليه الصلاة والسلام يعمله، ما هو؟

صلاة القيام

الصلاة، النبي عليه الصلاة والسلام كان يملأ وقته في هذه العشر معظم الوقت بالصلاة، وصلى معه الصحابة ثلاث ليال، صلوا معه ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل، ثم ليلة خمس وعشرين إلى منتصف الليل، قالوا: “يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه؟ قال: إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة [5].

ثم صلى بهم ليلة سبع وعشرين معظم الليل، حتى خشوا أن يفوتهم السحور، ثم ترك الصلاة بهم مخافة أن تفرض هذه الصلاة على أمته، ولكن الصحابة  بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام أمنوا انقطاع الوحي فأحيوها، وبقي العمل على ذلك من عهد الصحابة إلى وقتنا هذا.

هنا في المسجد الحرام بالاستقراء التاريخي في صلاة التراويح من عهد عمر بن الخطاب إلى الآن وهي تصلى ثلاثًا وعشرين، ثلاثًا وعشرين من عهد عمر إلى الآن لم تتغير ثلاثًا وعشرين.

هذه العشر المباركة أيها الإخوة كان النبي يعظمها جدًّا، النبي هو النبي والرسول، وهو قائد الأمة، وهو الموجه، وهو المرشد، وهو المفتي، وهو كل شيء بالنسبة للصحابة، ومع ذلك كانت إذا دخلت العشر انقطع عن الناس، وانقطع عن الدنيا، واعتكف في المسجد وتفرغ للعبادة.

ينبغي أن نقتدي بالنبي في هذا:

أولًا: نصلي الصلاة كاملة مع الإمام، وهنا في المسجد الحرام يصلى في أول الليل يصلى عشرون ركعة، ثم في آخر الليل لصلاة التهجد عشر ركعات، ثم الشفع والوتر، يعني ثلاثًا وثلاثين ركعة.

لكن هذا لا يمنع أن تصلي بينهما، إذا صليت مثلًا الصلاة الأول لا يمنع أن تصلي مثنى مثنى، ركعتين ركعتين، بل حتى لو أراد أحد أن يصلي بعد الوتر فلا بأس، لكن الأفضل أنه إذا سلم الإمام من صلاة الوتر تقوم وتشفع بركعة، ثم تصلي مثنى مثنى مثنى مثنى، ثم تختم بركعة، ولو صلى أحد أيضًا بعد الوتر جاز؛ لأنه قد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة : “أن النبي كان يصلي بعد الوتر ركعتين وهو جالس” [6].

الاجتهاد في الدعاء

كذلك ينبغي أن نحرص على الدعاء، فإن الدعاء في هذه الليالي العشر حري بالإجابة، ولذلك ذكر الله تعالى آية الدعاء: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، ذكرها الله تعالى بين آيات الصيام.

والآية التي قبلها هي: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].

والآية التي بعدها: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187].

إذن: آية الدعاء: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ، وقعت بين آيات الصيام، وهذا له حكمة، فيه إشارة إلى أنه ينبغي الإكثار من الدعاء في شهر الصيام، وأن الدعاء حري بالإجابة، فينبغي أن نكثر من الدعاء، خاصة في الثلث الأخير من الليل، يقول النبي : ينزل ربنا حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ وذلك كل ليلة [7]، متفق عليه.

فكيف لو وافق ذلك الدعاء السجود، وفي الثلث الأخير من الليل؟! وكيف لو وافق ذلك أطهر بقعة على وجه الأرض، وهي هذا المكان الذي نحن فيه الآن المسجد الحرام؟!

اجتمع شرف المكان، وشرف الزمان، ووقت النزول الإلهي، نزول على ما لا يليق بجلال الرب وعظمته، الدعاء حري بالإجابة.

فلنجتهد في الدعاء أيها الإخوة، وسنخصص إن شاء الله أحد الدروس للكلام عن الدعاء حقيقته، وآدابه، وشروطه، وأسباب الإجابة، وموانع الإجابة، وأبرز الأدعية التي كان النبي يدعو بها، سنخصص درسًا من الدروس للحديث عن ذلك.

العمرة

أيضًا من الأعمال الصالحة: العمرة، ولعلنا يعني كلنا أو جلنا قد اعتمر، والعمرة في رمضان لها خصوصية، النبي يقول: عمرة في رمضان تعدل حجة، أو قال: حجة معي [8]، ولكن ينبغي لمن اعتمر ألا يكرر العمرة؛ لأن هذا هو هدي النبي عليه الصلاة والسلام، وهدي الصحابة.

تخصيص العمرة الواحدة بسفرة واحدة، لكن مع ذلك لو كرر العمرة يجوز، لكن لا يُحرم من الحرم، إنما يخرج خارج حدود الحرم إلى الحل، أقرب الحل التنعيم، ولكن الأفضل ألا يكرر العمرة، يبقى هنا في المسجد الحرام يصلي، ويدعو ويتعبد الله .

سنة الطواف

وأيضًا ننصح، الطواف سنة، لكن ينبغي أن كل واحد منا يراعي أحوال إخوانه المسلمين، كما ترون المطاف مزدحم جدًّا، فلو أن المسلم ترك الطواف في هذه الأيام التي يكثر فيها الزحام، توسعة على إخوانه المسلمين، فإنه إن شاء الله يؤجر على هذه النية، وأعمال الخير كثيرة، مجالات الخير كثيرة.

لكن لو أن كل واحد منا ذهب يطوف طواف تطوع؛ لضاق ذلك على المعتمرين، والمعتمرون أحق بالمطاف من غيرهم.

تلاوة القرآن الكريم

كذلك أيضًا: يكثر من الذكر، وأعظم الذكر وأشرفه تلاوة القرآن، تلاوة القرآن عمل صالح عظيم، يقول الله تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس:61]، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ يعني: في أي عمل من الأعمال، ثم خص الله تعالى من هذه الأعمال القرآن لشرفها، وعظيم مكانتها.

وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ۝لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29-30]، فذكر الله تعالى تلاوة القرآن في مقام الأعمال الصالحة العظيمة، قرن تلاوة القرآن بإقامة الصلاة، وبالإنفاق في سبل الخير، وقال: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:30].

ولا يليق بالمسلم أن يدخل شهر رمضان ويخرج وهو ما ختم القرآن، لا بد من أن تختم القرآن، ختمته أكثر من ختمة وهو أكمل وأفضل، ومن قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها.

ذكر الله تعالى

كذلك أيضًا بقية أنواع الذكر: التسبيح، التسبيح عبادة عظيمة شريفة، بل إن الله تعالى اختارها لجميع المخلوقات: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، لاحظ كيف أن الله تعالى اختار هذه العبادة عبادة التسبيح لجميع المخلوقات: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41]، حتى الطير وهي تطير تسبح الله .

هذه الجمادات التي نراها تسبح الله تعالى، لكن لا نفقه تسبيحها، فاختيار الله لهذه العبادة التسبيح لمخلوقاته دليل على شرفها، وعلى عظيم مكانتها.

كذلك التحميد، التكبير، التهليل، الحوقلة، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الصلاة على النبي

كذلك أيضًا: الصلاة على النبي : إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد.

يقول النبي : من صلى عليَّ صلاة واحدة، صلى الله عليه بها عشرًا [9]، رواه مسلم.

ما معنى الصلاة على النبي؟ ماذا يقول؟

اللهم صل على محمد، والأكمل أن يقول: اللهم صل وسلم: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، فتقول: اللهم صل وسلم على رسولك محمد، تكررها اللهم صل وسلم على رسولك محمد.

إذا فعلت ذلك يصلي الله عليك في الملأ الأعلى عشر مرات، ما معنى صلاة الله على الإنسان في الملأ الأعلى؟

من صلى عليَّ صلاة واحدة، صلى الله عليه بها عشرًا [10].

ما معنى: صلى الله عليه بها عشرًا؟

ثناء الله تعالى على الإنسان في الملأ الأعلى، إذا قلت: اللهم صل وسلم على رسولك محمد، أثنى الله عليك في الملأ الأعلى كم مرة؟ عشر مرات، وهذا يدل على فضل هذه العبادة التي يغفل عنها كثير من الناس.

وجاء في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه في فضلها، قال صلى الله عليه وسلم: إذن تُكفى همك، ويغفر لك ذنبك [11]، فهي من أسباب مغفرة الذنوب، وكفاية الهموم.

كان الإمام الشافعي رحمه الله يصلي على النبي في اليوم والليلة عشرة آلاف مرة، فهي عمل صالح من الأعمال الصالحة.

الاجتهاد في مجالات الخير المتنوعة

وهكذا أيضًا بقية الأعمال الصالحة، فمجالات الخير كثيرة ومتنوعة، فينبغي لنا أيها الإخوة أن نغتنم هذا الموسم الذي نحن فيه، هذه العشر المباركة والله غنيمة رابحة لمن وفقه الله ، هذا الموسم موسم من مواسم التجارة مع الله بالأعمال الصالحة، فاجتهدوا لنجتهد جميعًا، ولنشمر، ونضاعف الجهد في العبادة والطاعة، فهذا أوان تعبد المتعبدين، وهذا أوان اجتهاد المجتهدين.

أيها الإخوة: نحن هنا في المسجد الحرام اجتمع لنا في هذه الليالي شرف المكان، وشرف الزمان، شرف المكان نحن في أطهر بقعة على وجه الأرض، وشرف الزمان أفضل ليالي السنة على الإطلاق، فاحمدوا الله أن الله وفقكم لهذا الخير العظيم، فغيركم من الناس لم يوفقوا له، وكثير من الناس يتمنى هذا الخير الذي أنتم فيه، أن يجتمع للإنسان شرف المكان، وشرف الزمان، هذا خير عظيم.

المسلمون يدركون شرف الزمان جميعًا في أي مكان في الأرض، لكن أن يجتمع مع شرف الزمان شرف المكان، هذه نعمة من الله على الإنسان، فاعرفوا قدر هذه النعمة كيف أن الله وفقكم لهذا الخير العظيم، واحرصوا على أن تستفيدوا منه، وأن تغتنموه.

بعض الناس أيها الإخوة عندهم كسل، يرى مجالات الخير أمامه ويتكاسل عنها، أضرب لهذا مثلًا بسيطًا: عندما يصلى على الجنائز هنا في المسجد الحرام، تجد بعض الناس يجلس ما يصلي على الجنازة، وهذا حرمان عظيم، من صلى على جنازة كان له قيراط، القيراط مثل الجبل في الحسنات، كيف يزهد المسلم بمثل هذا الخير؟

أنت وفقك الله لئن تأتي هنا في أطهر بقعة، ينبغي أن تغتنم هذا الوقت الفاضل، وهذا المكان الفاضل، وبعض الناس أيضًا لا يصلي صلاة التراويح كاملًا، يصلي بعضها ثم يجلس أو ينصرف أو..، وهذا وإن كان ليس واجبًا عليه هي مستحبة، لكن يحرم الإنسان نفسه، هذا حرمان، حتى لو كان الإنسان متعبًا، يمكن أن يصلي وهو جالس، لكن أنه ما يصلي وينصرف، وقد اجتمع له شرف المكان، وشرف الزمان، ووفقه الله لهذا الخير، ثم ينصرف عنه، ولا يغتنمه، فهذا والله من الحرمان.

فاجتهدوا أيها الإخوة! فوالله ما هي إلا ليال معدودة، وسرعان ما تطوى صحائفها، فينبغي أن نغتنم هذه الليالي العظيمة، هذه الليالي الشريفة، هذه الليالي المباركة، أن نغتنمها فيما ينفعنا بعد مماتنا، وفيما ينفعنا عند لقاء ربنا .

وليحرص المسلم على أن يجتهد في جميع الليالي، لأنه إذا اجتهد في جميع الليالي أدرك ليلة القدر لا محالة، فإن بعض الناس يركز على ليالي معينة، وقد لا تكون هذه الليالي التي ركز عليها هي ليلة القدر، فيفوته خير عظيم، فينبغي إذن أن نجتهد في جميع الليالي، وأن نقتدي بالنبي الذي كان يحيي هذه الليالي بالعبادة، ويحييها بالصلاة.

الاعتكاف في العشر

من تيسر له أن يعتكف، فالاعتكاف هو السنة، والنبي كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان في مسجده، ومن لم يتيسر له أن يعتكف لا أقل من أن يعتكف في الليل أثناء وجوده في الحرم، ينوي اعتكافًا، فإن الاعتكاف يعين الإنسان على الطاعة، وفيه أيضًا تطبيق لسنة النبي .

اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، نسألك اللهم بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، نسألك اللهم بأنك أنت الله رب العالمين بأنك أنت الله الرحمن الرحيم، بأنك أنت الله مالك يوم الدين، نسألك بأنك أنت الله رب الفلق، نسألك بأنك أنت الله رب الناس، ملك الناس، إله الناس.

يا ربنا يا حي يا قيوم، ندعوك ونحن في أطهر بقعة في هذه الليالي المباركة، نسألك اللهم الفوز بالجنة، ونعوذ بك من النار، نسألك اللهم الفوز بالجنة، ونعوذ بك من النار، نسألك اللهم الفوز بالجنة، ونعوذ بك من النار.

اللهم أعنا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك، اللهم وفقنا لما تحب وترضى من الأقوال والأعمال.

اللهم وفقنا لليلة القدر، اللهم وفقنا لليلة القدر، اللهم وفقنا لليلة القدر.

اللهم اجعلنا ممن يفوز بجزيل الثواب وعظيم الأجر، اللهم اجعلنا ممن يقوم ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا.

اللهم بارك لنا فيما تبقى من شهر رمضان، وأعنا على إتمام صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيك، واجعلنا ممن تغفر لهم في هذا الشهر، ومن عتقائك من النار، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

اللهم أصلح قلوبنا، اللهم اهد قلوبنا، اللهم ثبت قلوبنا على دينك، اللهم صرف قلوبنا على طاعتك، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.

اللهم آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وانصر من نصر دين الإسلام في كل مكان، واخذل من خذل دين الإسلام في كل مكان، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم يا كريم يا منان، إن لك في هذه الليالي هبات عظيمة، ونفحات كريمة، اللهم فاجعل لنا منها أوفر الحظ والنصيب، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم ما سألناك فأعطنا، وما لم نسألك فتفضل علينا بلطفك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2014، ومسلم: 760.
^2 رواه البخاري: 49.
^3 رواه البخاري: 2027.
^4 رواه البخاري: 2024.
^5 رواه أبو داود: 1375، والترمذي: 806، وقال: حسنٌ صحيحٌ، وابن ماجه: 1327، وأحمد: 21447.
^6 رواه مسلم: 738.
^7 رواه البخاري: 1145، ومسلم: 758.
^8 رواه البخاري: 1863.
^9 رواه مسلم: 384.
^10 سبق تخريجه.
^11 رواه الترمذي: 2457، وقال: حسنٌ.
مواد ذات صلة