|categories

(3) تتمة أحكام المسح على الخفين

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

تتمة أحكام المسح على الخفين

فكنا قد وصلنا في شرحنا مقرر الفقه إلى أحكام المسح على الخفين، وابتدأنا الحديث فيها، ذكرنا: تعريف الخفين، والمقصود بهما، والفرق بين الخفين والجوربين، وكذلك أيضًا: النصوص الواردة في المسح على الخفين، وأنها تبلغ حد التواتر، وأيضًا ذكرنا مسألة: أيهما أفضل غسل الرجلين أو المسح على الخفين؟ ومدة المسح على الخفين، ووقفنا عند شروط المسح على الخفين.

بِوُدَّنا أن نستذكر أبرز هذه المعلومات؛ لنربطها بالدرس الذي بين أيدينا.

الفرق بين الخف والجورب

فما الفرق بين الخُفِّ والجَوْرَب؟ إذا قيل: هذا خف، وهذا جورب، أو خفان وجوربان، ما الفرق بين الخف والجورب؟

الخف: هو ما يلبس على الرجل من الجلد.

أما الجورب: فهو يكون من غير الجلد.

ولذلك فما يسميه الناس الآن بالشراب هل هو خف أم جورب؟

جورب وليس خفًّا، لكن التسمية الدقيقة أن نقول: المسح على الجوربين، ولا نقول: خفين.

وقول بعضهم: الخفين، يعني من باب التجوز في الإطلاق.

الأحاديث الواردة في المسح على الخفين قلنا: إنها بلغت حد التواتر، ولهذا نقلنا عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: ليس في قلبي شيء من المسح؛ فيه أربعون حديثًا عن النبي .

ومسألة أيهما أفضل: غسل الرجلين، أو المسح عليهما إذا كانا فوقهما خفان أو جوربان؟

ذَكَرنا هذه المسألة، هل الأفضل المسح على الخفين أو الجوربين، أو الأفضل غسل الرجلين؟

بحسَب حاله، بحسب الحال اللائقة بالرِّجْل؛ فإن كان مثلًا قد لبس الجوربين، نقول: الأفضل المسح، ولا يخلع جوربيه لأجل غسل الرجلين.

قد نجد بعض الناس عندهم شيء من الوسوسة، تجد أنه يكون لابسًا للجوربين، ومع ذلك يخلعهما لأجل أن يغسل الرجلين، هذا خلاف السُّنة، إذا كان عليه جوربان فالأفضل المسح عليهما، وإذا كانت رجلاه مكشوفتين فالأفضل هنا الغَسل.

ذَكَرنا مدة المسح على الخفين، هل تُقَدَّر مدة المسح على الخفين بالساعات، أو بأوقات، أو بماذا؟

أولًا كم هي؟

إذَنْ هي تقدر بالساعات، يوم وليلة، يعني: أربعًا وعشرين ساعة، المقيم يوم وليلة، أربع وعشرون ساعة، والمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، يعني كم ساعة؟ ثنتين وسبعين ساعة.

متى تبتدئ مدة المسح على الخفين أو الجوربين؟

من أول مسح بعد الحدث، هذا قلنا على القول الراجح، لكن المذهب عند الحنابلة، وأشرنا لهذا، من أول حدث بعد اللُّبس، وقلنا: إن هذا القول مرجوح، تقييده بالحدث قول مرجوح.

والصواب هو: من أول مسح بعد الحدث؛ لأن الأحاديث قد وردت بلفظ: يمسح المسافر، يمسح المقيم، قد وردت بلفظ المسح، ولم ترد بلفظ الحدث.

وأشرنا إلى أن الاعتقاد عند بعض العامة: ألا تمسح على الخفين أو الجوربين إلا خمسة فروض، أنه غير صحيح، وأن الإنسان قد يمسح عليهما أكثر من ذلك، وذكرنا لهذا أمثلة، ووقفنا عند شروط المسح على الخفين.

شروط المسح على الخفين

إذَنْ نبدأ على بركة الله درسنا: شروط المسح على الخفين.

المسح على الخفين عبادة، وكل عبادة لها شروط؛ الوضوء له شروط، التيمم له شروط، الصلاة لها شروط، الزكاة لها شروط.

فإذَنْ: المسح على الخفين له شروط.

  • الشرط الأول: أن يكون الإنسان حال لبسهما على طهارة من الحدث

أن يكون على طهارة، وهذا الشرط محل اتفاق بين أهل العلم، ولهذا؛ قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: لا نعلم خلافًا في اشتراط تقدم الطهارة من كل ما يجوز المسح عليه إلا الجبيرة.

فإذَنْ: هذه المسألة ليس فيها خلاف بين العلماء، والدليل على ذلك: عدة أحاديث؛ من أشهرها: حديث المغيرة بن شعبة  قال: كنت مع النبي في سفر فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين. فمسح عليهما [1].

لكن هل معنى هذا الشرط أنه لا يجوز لُبس الجوربين إلا على طهارة؟ هل هذا المقصود؟ لو أن الإنسان أراد أن يلبس الجوارب على غير طهارة هل يأثم؟

لا يأثم، ليس هذا المقصود، المقصود أنك إذا أردت أن تمسح عليهما فلا بد أن تلبسهما على طهارة، ولهذا؛ لو أن إنسانًا مثلًا لبسهما، وقال: أنا إذا أردت أن أتوضأ سوف اغسل الرجلين لا مانع من هذا، لكن إذا أردت أن تمسح عليهما فلا بد من أن تلبسهما على طهارة، هذا هو المقصود.

حكم المسح على الجوربين قبل اكتمال الطهارة

هنا مسألة يذكرها بعض الفقهاء، وأيضًا تَرِد فيها أسئلة واستفتاءات: إذا توضأ الإنسان وغسل رجله اليمنى، ثم أدخلها في الخف أو الجورب، ثم غسل رجله اليسرى، ثم أدخلها في الخف أو الجورب، يعني هذا إنسان يتوضأ بعدما غسل رجله اليمنى أتى بالجورب ولبسه، ثم غسل رجله اليسرى ولبس الجورب، هذا لا إشكال في صحة طهارته صحيحة، لكن هل يمسح على جوربيه أم لا؟

يعني ما هو الإشكال في هذه الصورة؟

هي مسألة خلافية كما سيأتي، لكن ما هو الإشكال أولًا حتى نتصورها؟

لبس الجورب في رجله اليمنى وطهارته لم تكتمل بعد، بقيت الرجل اليسرى، فإذَنْ لَبِس الجورب قبل اكتمال الطهارة، فهل له أن يمسح؟

طبعًا طهارته صحيحة لا إشكال فيها، لكن هل له أن يمسح على الجوربين أم لا؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول، وهو قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، قالوا: ليس له أن يمسح على الخفين أو الجوربين في هذه الحال.

واستدلوا بحديث المغيرة بن شعبة السابق ذكره، ومحل الشاهد منه: قوله عليه الصلاة والسلام: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين [2]. قالوا: ولا يكون الإنسان طاهرًا إلا إذا أتم الطهارة بغسل رجله اليسرى، ولذلك؛ لو أراد أن يصلي وهو لم يغسل رجله اليسرى فهل تصح صلاته؟

لا تصح؛ لأن طهارته لم تكتمل بعد، ولا يَصدُق عليه أنه طاهر.

إذَنْ: استدلوا بحديث المغيرة بن شعبة : دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين. قالوا: وهذا لا يَصدُق عليه أنه أدخلهما طاهرتين، فهو قد لبس الجورب في الرجل اليمنى قبل اكتمال الطهارة.

هذه إذَنْ: هي وجهة هذا القول.

القول الثاني: قالوا: له أن يمسح في هذه الحال، ولا مانع من هذا، وهذا هو مذهب الحنفية.

وعللوا لذلك، قالوا: أنه إذا غسل رجله اليمنى ثم أدخلها في الخف أو الجورب، فإنه يصدق عليه أنه أدخلها وهي طاهرة، ثم إذا غسل رجله اليسرى في ساعته ثم ألبسها الخف، فقد أدخلها أيضًا طاهرة، فصدق على من هذه صفته أنه أدخل رجليه الخفين وهما طاهرتان، فهو قد أدخل رجله اليمنى طاهرة، وأدخل رجله اليسرى طاهرة.

قالوا: ومما يدل لهذا: أنه لو غسل رجله اليمنى ثم أدخلها الخف أو الجورب ثم غسل رجله اليسرى فأدخلها الخف أو الجورب، فإذا أردنا أن نصحح هذا العمل على رأي الجمهور ماذا نقول؟

نقول: يخلع الجورب من الرجل اليمنى ثم يلبسها مرة أخرى، حتى يصدق عليه أنه قد لبسهما على كمال الطهارة.

فكوننا نأمره بأن يخلع ثم يلبس، نقول: هذا عبث ينزه الشارع عن الأمر به، ولا مصلحة للمكلف بالقيام بهذا الأمر.

يعني نقول لهم: أنتم أيها الجمهور افترِضوا: أن إنسانًا فعل هذا؛ توضأ، ولما غسل رجله اليمنى لبس الجورب، ثم غسل رجله اليسرى ولبس الجورب، فأتى يعني أحد العلماء مثلًا من الجمهور، وقال: لا، ليس لك أن تمسح، قال هذا الرجل: أريد أن أصحح الآن الوضع كيف أصحح؟

قال: اخلع الجورب من الرجل اليمنى ثم البسها مرة ثانية، لماذا؟ حتى يصدق عليك أنك لبسته على كمال طهارة، قالوا: كوننا نأمره أن يخلع الجورب ثم يلبسه هذا عبث، وما المصلحة فيه؟ يعني كما ترون دليلهم قوي، ولهذا؛ فإن القول الأخير اختاره جمع من المحققين من أهل العلم؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله تعالى.

والخلاف في هذه المسألة الحقيقة خلاف قوي، يعني إذا تأملنا وجهة الجمهور أيضًا استدلوا بظاهر الحديث: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين. فهذا إنسان لم تكتمل طهارته فكيف يمسح على الجورب وهو لم تكتمل طهارته، لا يصدق عليه أنه أدخلهما طاهرتين.

أصحاب القول الثاني أيضًا وجهتهم قوية؛ قالوا: لو أننا وافقناكم أيها الجمهور فكيف نصحح هذا العمل؟ يعني يصححه بأن ينزع الجورب أو الخف من الرجل اليمنى، ثم يلبسه مرة أخرى، وهذا عبث ينزه الشارع عن الأمر به، ولا مصلحة للمكلف فيه.

فكما ترون الخلاف في هذه المسألة خلاف قوي.

والأقرب هو القول الثاني، لكن الأحوط هو قول الجمهور؛ نظرًا لقوة الخلاف، فنقول: الأحوط هو قول الجمهور، وهو أنه ليس له أن يمسح إلا إذا لبس خفيه أو جوربيه على كمال الطهارة، هذا القول هو الأحوط في هذه المسألة. والله تعالى أعلم.

إذَنْ هذا هو الشرط الأول.

الشرط الثاني من شروط المسح على الخفين: أن يكون الخف ونحوه مباحًا.

  • الشرط الثاني: أن يكون الخف ونحوه مباحًا

فإن كان محرمًا؛ كأن يكون مغصوبًا أو مسروقًا، لم يجز المسح عليه في قول بعض أهل العلم، قالوا: لأن المحرم لا تستباح به الرخصة.

وقال بعض أهل العلم: إنه لا يشترط هذا الشرط -أنه يصح المسح على الخف المحرم- لأن الجهة منفكة، والتحريم إذا كان عائدًا إلى أمر لا يتعلق بشرط العبادة فالعبادة صحيحة، والمنع في المسح على الخف -يعني المحرم- لا يختص بالطهارة، فالغاصب والسارق مأذون له في المسح في الجملة، والمنع عارض أدركه من جهة الغصب أو السرقة، لا من جهة الطهارة؛ فيصح المسح على الخف، ويأثم بالغصب أو السرقة.

وهذا القول الأخير هو الأقرب: أنه لا يشترط هذا الشرط، وأن المسح صحيح، ولكنه يأثم بالغصب، هذه المسألة لها نظائر؛ مثل: الصلاة في الدار المغصوبة، هل تصح أو لا تصح؟

محل خلاف، والصحيح أنها تصح، ويأثم بالغصب، الصلاة في الثوب المغصوب صحيحة، ويأثم بالغصب.

كذلك أيضًا: الخف المغصوب أو المسروق، الطهارة صحيحة، ويأثم بالغصب، وبناء على هذا؛ فالأقرب، والله أعلم: هو عدم اشتراط هذا الشرط.

الشرط الثالث: أن يكون الخف ونحوه ساترًا للرجل

الشرط الثالث: أن يكون الخف ونحوه -إذا قلنا: ونحوه، نقصد الجوارب ونحوها- ساترًا للرِّجل فلا يمسح عليه إذا لم يكن ضافيًا مغطيًا لما يجب غسله، بأن كان نازلًا عن الكعب، أو كان ضافيًا لكنه لا يستر الرجل لصفائه أو خفته؛ كجورب غير صفيق.

إذَنْ لا بد أن يكون الخف ساترًا للرِّجل.

إذا كان غير ساتر، كأن يكون قصيرًا، فبعض الأحذية تكون قصيرة لا تغطي الخف، فهذا لا يصح المسح عليه، ولهذا بعض الأحذية تكون أسفل من الكعب، إذا لبسها بدون شراب ليس له أن يمسح عليها؛ لأنها لا تغطي الكعبين، فلا بد إذن من أن يكون ضافيًا ساترًا للرجل مع الكعبين.

وأيضًا: إذا كان لا يستر الرِّجل لخفته فإنه لا يصح المسح عليه، ومن ذلك بعض الجوارب الرقيقة التي توجد في الأسواق، بعض الجوارب رقيقة جدا، يرى من ورائها لون البشرة، هذه لا يصح المسح عليها، ويلبسها بعض الناس من رجال أو نساء، يلبسون هذه الجوارب الرقيقة فهذه لا يمسح عليها، لا نقول إنه لا يجوز لبسها، لبسها جائز، لكن نقول: لا يمسح عليها، لا يمسح على هذا النوع من الجوارب؛ لأنها لا تستر الرجل.

والدليل لهذا الشرط: حديث ثوبان قال: بعث رسول الله سَرِيَّة فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي شَكَوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين” [3]، أخرجه أبو داود، وأحمد، والحاكم بسندٍ صحيحٍ.

ما وجه الدلالة من هذا الحديث على اشتراط هذا الشرط؟

قوله: «التساخين». «فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين».

التساخين هي: كل ما يُسَخِّن القدم من خف وجورب ونحوهما.

والجوارب الخفيفة التي تَصِف لون البشرة، هذه لا يحصل بها التسخين للقدم، يعني ليست مما يسخن به القدم.

حكم المسح على الجوارب الرقيقة

وهذا النوع أيضاً من الجوارب الرقيقة ليست معهودة عند العرب؛ وإنما المعهود الجوارب التي تستفيد منها الرجل في التدفئة وفي التسخين، والأصل في الرجل أن فرضها الغسل، ولكن الشارع أقام المسح مقام الغَسل من باب التيسير على المكلفين إذا كانت الرجل مستورة، لكن إذا كانت الرجل غير مستورة فنرجع للأصل، والأصل أن فرضها الغَسل إذا كان يرى لون البشرة، وهذه الجوارب رقيقة جدا فنرجع للأصل؛ لأن هذه الرجل غير مستورة الآن، فنرجع للأصل ونقول: إنها تغسل.

وهذه المسألة ليست محل اتفاق بين العلماء؛ من أهل العلم من يرخص في المسح على مثل هذا النوع من الجوارب، لكن هذا قول مرجوح، والصواب: هو ما عليه أكثر أهل العلم قديمًا وحديثًا، وهو: أن هذا النوع من الجوارب لا يمسح عليه؛ لما ذكرنا من هذا الحديث: فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين. ولأن هذه غير معهودة في عهد النبي ، ولأن الأصل في الرجل أن فرضها الغسل.

حكم المسح على الخفاف المخَرَّقة

أما بالنسبة للخروق التي تكون في الخفاف والجوارب فهذه اختلف العلماء في تأثيرها على صحة المسح، وهذه المسألة تختلف عن المسألة السابقة، المسألة السابقة نحن قلنا: إن الجوارب الرقيقة جدا لم تكن معروفة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، لكن الخفاف المخرقة كانت موجودة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كان غالب الصحابة  فقراء، وكان الأغنياء فيهم قلة، والفقراء كون خفافهم فيها خروق، هذا مظنة لأن تكون خفافهم مخرقة، ولهذا؛ اختلف العلماء في تأثير هذه الخروق على صحة المسح؛ فبعضهم قال: إنه لا يصح المسح على الخف المخرق مطلقًا ولو كان الخرق يسيرًا، وهذا القول هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو الجديد من مذهب الشافعية.

إذا قلنا: الجديد. ماذا نقصد بالجديد؟ هذا المصطلح، يعني: أن الشافعي له مذهبان: قديم في العراق، وجديد في مصر؛ لأنه لما انتقل إلى مصر تغيرت كثير من آرائه واجتهاداته، فأصبح مذهبه الجديد في مصر، والقديم في العراق.

فهو مذهب الشافعية في الجديد.

والقول الثاني: أنه يمسح على الخف المخرق مطلقًا ما أمكن المشي فيه، وهذا رُوي عن سفيان الثوري وإسحاق وابن المبارك وابن عيينة، وأيضًا اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

هناك قول ثالث، قول وسط بين قولين: وهو أنه يصح المسح على الخف المخرق إذا كان الخرق يسيرًا، ولا يصح إذا كان الخرق كبيرًا، وهو مذهب الحنفية والمالكية.

فتكون المسألة فيها ثلاثة أقوال:

قول بالمنع مطلقًا، حتى وإن كان الخرق يسيرًا.

وقول بالجواز مطلقًا، حتى وإن كان الخرق كبيرًا، ما دام يسمى خفًّا، ويمكن المشي فيه.

وقول وسط بين قولين، وهو: أن الخرق إذا كان يسيرًا صح المسح عليه، وإذا كان كبيرًا لم يصح المسح عليه.

أما من قال بأنه لا يصح المسح على الخف المخرق مطلقًا؛ فقد استدلوا بقول الله ​​​​​​​: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6]. قالوا: مُطلَق الآية يوجب غسل الرجلين، إلا ما استثناه الدليل من المسح على خفين صحيحين. وقالوا: لأن حكم ما ظهر الغَسلُ، وحكم ما استتر المسح، فإذا اجتمعا -كما في الخف المخَرَّق- غُلِّبَ جانب الغَسل، ولم يصح المسح، كما لو ظهرت إحدى الرجلين.

يقولون: هنا اجتمع عندنا حكم الغسل وحكم المسح؛ فحكم الغسل هو لما ظهر، وحكم المسح لما استتر، وهنا في الخف المخرق اجتمع الأمران فيغلب جانب الغسل، ولهذا؛ لا يصح المسح على الخف المخرق عندهم.

يقابل هذا القولَ القولُ بجواز المسح على الخف المخرق مطلقًا، واستدلوا بأن غالب الصحابة فقراء، وخفافهم لا تخلو من خروق وفتوق، ولو كان الخرق أو الفتق مؤثرًا لبيَّن ذلك النبي  للصحابة وللأمة، خاصة أن الأمر متعلق بالصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، ومتعلق بمفتاح الصلاة وهو الطهور، متعلق بالطهارة وهي شرط من شروط صحة الصلاة، فلو كان هذا شرطًا لبينه النبي للأمة بيانًا واضحًا، ولم يَرِد عن النبي شيء في هذا.

ولهذا؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أصحاب النبي الذين بلَّغوا سنته وعملوا بها، لم ينقل عن أحد منهم تقييد الخف بشيء من القيود، بل أطلقوا المسح على الخفين مع علمهم بالخفاف وأحوالها، فعلم أنهم كانوا قد فهموا عن نبيهم جواز المسح على الخفين مطلقًا.

قال: وأيضًا فكثير من خفاف الناس لا يخلو من فتق أو خرق يظهر منه بعض القدم، فلو لم يجز المسح عليها بطل مقصود الرخصة.

فإذَنْ: أصحاب القول الثاني استدلوا بظاهر حال كثير من الصحابة .

أصحاب القول الثالث الذين قالوا بالتفصيل، قالوا بجواز المسح على الخف إذا كان الخرق يسيرًا، وأنه لا يصح المسح إذا كان الخرق كبيرًا، قالوا: إن الشارع يتسامح في العفو عن الشيء اليسير، فيتسامح في العفو عن انكشاف يسير العورة، فلو انكشف جزء يسير من العورة فإن هذا يتسامح فيه، ويدل لذلك: قصة عمرو بن سلمة  لما صلى بقومه وعمره سبع أو ثمان سنين، فكان إذا سجد انكشف شيء من عورته، فقالت امرأة من القوم: وارُوا عنا عورة قارئكم، فاشتروا له ثوبًا يستره، والقصة في «الصحيح».

فدل ذلك على أن الانكشاف اليسير للعورة أنه مما يتسامح فيه.

وأيضًا قالوا: نجد أن الشرع أيضاً يتسامح في يسير النجاسة التي يشق الاحتراز منها، كما في آثار الاستجمار بعد الإنقاء، فإن الاستجمار يكون بالحجارة أو المناديل، أو أي شيء طاهر مباح، فالإنسان إذا استجمر بمناديل، هل يستأصل جميع النجاسة؟

لا.

يبقى شيء يسير جدًّا من النجاسة، وهذا القدر معفو عنه بالإجماع.

فقالوا: نجد أن الشارع يتسامح في الشيء اليسير جدًّا من النجاسة، يتسامح في الانكشاف اليسير من العورة، فكذلك أيضًا الخرق اليسير في الخف يتسامح فيه.

وأما إذا كان الخرق كبيرًا، فإن الأصل أن ما ظهر من الرجل فرضه الغسل، وهذا القول الأخير -والله أعلم- هو الأقرب، هو الراجح في المسألة، وهو قول وسط بين القولين.

فيصعب أن نقول لإنسان مثلًا ظهرت ربع قدمه، الخرق مثلًا يصل إلى ربع قدمه، نقول: امسح على هذا الخف أو الجورب، الأصل أن هذا القدر الكبير الذي قد ظهر فرضه الغسل، لكن لو كان الخرق يسيرًا كرأس الأصبع أو نحوه، أو أقل، فمثل هذا القدر يتسامح فيه، وأيضًا غالب فقراء الصحابة  لا تخلو خفافهم من مثل هذه الخروق، فهذا القدر يتسامح فيه.

وكما ذكرنا إذا كان الشارع يتسامح في يسير النجاسة، وفي يسير انكشاف العورة، فكذلك أيضَا في يسير الخرق في الخف.

فإذَنْ: لعل هذا هو القول الراجح في المسألة، وهو: أن الخرق إذا كان يسيرًا فإنه يتسامح فيه، أما إذا كان كبيرًا فالأصل أن ما ظهر فرضه الغَسل.

هذه أقوال أهل العلم في المسألة، وأحببت أن أفصل الكلام فيها؛ لأنها مسألة مهمة، ولها صلة بالواقع، وتجدون ربما فتاوى المشايخ والعلماء، فمن العلماء من يختار القول الأول، ومنهم من يختار القول الثاني، فحتى تكون على اطلاع بجميع الأقوال ذكرنا التفصيل في هذه المسألة.

الأسئلة:

على كل حال المسألة مسألة أولوية وأفضلية فقط، إذا وُجد مصلحة في أن تخلع الخف فلا إشكال، إذا وُجد مصلحة مثلما ذكرتَ فلا إشكال في هذا؛ فهو رخصة المقصود منها التيسير على المكلف، وصحيح أنه لو دخل الإنسان مثل هذه الخفاف التي ربما أنها تعلق بها شيء من النجاسة ربما يترتب على ذلك مفاسد، فمثل هذه الأمور تُراعَى، لكن نحن ذكرنا أن هذا من باب التيسير على المكلف، شرعية المسح على الخفين من باب الرخصة، ومن باب التيسير على المكلف.

فإذا وجد مصلحة راجحة تقتضي أن يخلع الخفين لأجل أن يغسل الرجلين، فلا مانع من هذا، وكلامنا أيضًا على سبيل الأولوية حتى لو لم يوجد سبب، وأراد أن يغسل رجليه لا مانع أيضًا، كلامنا إنما هو على سبيل الأولوية.

وردنا بعض الأسئلة من بعض الإخوة الذين يتابعوننا:

إحدى الأخوات تسأل عن القاعدة التي ذكرناها في الدرس السابق، وهي: أن ما كان من باب فعل المأمور لا يعذر فيه الإنسان بالجهل والنسيان، وما كان من باب ارتكاب المحظور فيعذر فيه بالجهل والنسيان، وتطلب إيضاحًا لهذه القاعدة؟

أقول: هذه القاعدة مطردة في جميع العبادات، ما كان من باب فعل المأمور، لا يعذر فيه الإنسان بالجهل والنسيان، نوضح هذا بمثال، مثلًا: الوضوء، لو أن أحدًا صلى من غير وضوء ناسيًا، أتى إنسان وصلى صلاة الفجر يظن أنه متوضئ، ثم لما فرغ من الصلاة تبين أنه لم يتوضأ، فهل نقول هو معذور هنا؟ ليس معذورًا، نقول: نأمره بأن يعيد الوضوء وأن يعيد الصلاة، حتى لو خرج الوقت، هو قد يكون معذورًا فيما لو خرج الوقت، لا يأثم بالتأخير للنسيان، لكن لا بد من أن يعيد الوضوء والصلاة؛ لأن هذا من باب ترك المأمور.

لكن لو كان على ثوبه نجاسة، وكان يريد أن يغسلها، ثم نسي ولم يعلم بها إلا بعد الفراغ من الصلاة، فصلاته صحيحة؛ لأن هذا من باب ارتكاب المحظور، وهذا يعذر فيه بالجهل والنسيان، والدليل على ذلك: ذكرنا في درس سابق قصة جبريل  لما أخبر النبي بأن في نعليه قذرًا، فخلع عليه الصلاة والسلام نعليه [4]، ولم يستأنف الصلاة من جديد؛ فدل ذلك على أن النجاسة لو نسيها الإنسان، أو جهلها ولم يعلم بها إلا بعد الفراغ من الصلاة أن صلاته صحيحة.

لو مثلًا انتقلنا إلى الصيام: لو أن أحدًا لم يبيت النية من الليل، مثلًا: نام مبكرًا ليلة الأول من رمضان، ولم يعلم بدخول الشهر إلا حين صلاة الفجر، لم يبيت النية من الليل، فهنا نأمره بقضاء ذلك اليوم، يعني تبييت النية من باب فعل المأمور، لكن لو أنه أكل أو شرب ناسيًا، فلا شيء عليه؛ لأن ذلك من باب ارتكاب المحظور.

في الحج: لو أن أحدًا لم يَبِتْ بمنى، أو لم يَرْمِ الجمرات جهلًا أو نسيانًا، النسيان بعيد، لكن نفترض هذا، إنسان مثلًا جهل أنه يجب عليه وجوب المبيت في منًى أو مزدلفة، أو رمي الجمار، فهنا هل نعذره بالجهل؟ لا نعذره، إنما نوجب عليه دمًا، لكن لو أنه غطَّى رأسه ناسيًا أو جاهلًا فلا شيء عليه.

نعم، إذا ارتكب محظورًا ناسيًا أو جاهلًا فلا شيء عليه.

نجد أن هذه القاعدة مطردة ومفيدة لطالب العلم، فهذا جواب الأخت السائلة.

أيضًا كان هناك سؤال آخر عن -نحن رجحنا في نواقض الوضوء: أن مس المرأة سواء بشهوة أو بدون شهوة لا ينقض الوضوء، لكن…

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 206.
^2 سبق تخريجه.
^3 رواه أبو داود: 146، وأحمد: 22383، والحاكم: 602.
^4 رواه أبو داود: 650.