|categories

(17) فصل في واجبات الصلاة

مشاهدة من الموقع

عناصر المادة

واجبات الصلاة

قال المؤلف رحمه الله:

وواجباتها ثمانية.

وبعضهم يعتبرها سبعة، فبعضهم يجعل الجلوس والاعتدال منه بين السجدتين واجبًا؛ على كل حال نعدها:

  • الأول: التكبيرات غير تكبيرة الإحرام.
  • الثاني: قول “سمع الله لمن حمده” للإمام والمنفرد.
  • الثالث: قول “ربنا ولك الحمد”.
  • الرابع: قول “سبحان ربي العظيم” في الركوع.
  • الخامس: قول “سبحان ربي الأعلى” في السجود.
  • السادس: قول “رب اغفر لي” بين السجدتين.
  • السابع: التشهد الأول.
  • الثامن: الجلوس له.

بعضهم يعتبرها سبعة، يعتبر الجلوس للتشهد الأول واجبًا، وبعضهم يجعلها كما صنع المؤلف واجبين، ولا مشاحة في الاصطلاح.

دليل واجبات الصلاة

هذه الواجبات يقول المؤلف: إنها ثمانية، وأنها كل هذه الثمانية واجبة، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، واستدلوا بأن النبي قد واظب عليها إلى أن توفاه الله ، وقد قال: وصلوا كما رأيتموني أصلي [1]، ولحديث رفاعة بن رافع أن النبي قال: لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء مواضعه، ثم يكبر، ويحمد الله، ويثني عليه، ويقرأ ما شاء الله من القرآن، ثم يقول: الله أكبر، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائمًا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه حتى يستوي قاعدًا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يرفع رأسه فيكبر، فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته [2].

وموضع الشاهد: فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته وهذا الحديث أخرجه أبو داود بإسناد صحيح، فهذا دليل على أن هذه الأمور الثمانية المذكورة واجبة؛ لأن قوله: فقد تمت صلاته دليل على أن الصلاة لا تتم إلا بها، وفي هذا الحديث قد ذُكِرت هذه الثمانية أو أكثرها، ولكن ذهب أكثر أهل العلم إلى أن هذه الثمانية مستحبة وليست واجبة، وقد نسب الموفق ابن قدامة هذا في “المغني” لأكثر العلماء، أن هذه مستحبة، قالوا: لأن النبي لم يُعلِّمها المسيء صلاته، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولو كانت واجبة لعلَّمه النبي إياها.

ولكن القول الراجح هو القول الأول وهو أنها واجبة؛ لحديث رفاعة بن رافع، وهو حديث ظاهر في وجوبها، وأما ما ذكروه من التعليل فنقول: إن حديث المسيء صلاته لم يُذكر فيه جميع الواجبات، بدليل أنه لم يعلِّمه التشهد ولا السلام، فلعلَّه قد اقتصر في تعليمه ما أساء فيه.

فإذًا: القول الراجح هو القول بأن هذه الثمانية أنها واجبة، هذا على سبيل الإجمال.

نأتي لها على سبيل التفصيل.

حكم الصلاة لو ترك بعض الواجبات

قال:

واجباتها ثمانية: تبطل الصلاة بتركها عمدًا، وتسقط سهوًا وجهلًا.

لو ترك الإنسان واجبًا من هذه الواجبات الثمانية متعمدًا فإن صلاته تبطل؛ وذلك لأنه قد تعمَّد ترك أمر واجب عليه فتبطل صلاته، فيكون كالمستخف بالصلاة، وأما لو تركه سهوًا أو جهلًا فلا شيء عليه، لكن إذا تركه سهوًا فيجبره بسجود السهو، فإن نسي سجود السهو كما يحصل من بعض الناس يسهو في الصلاة، ثم ينسى سجود السهو؛ فعند جمهور العلماء أنه لا شيء عليه، وبعض أهل العلم يقول: إنه يسجد للسهو ولو طالت المدة، وقد نُقل هذا عن شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن الأقرب هو قول الجمهور؛ لأن القول بأن يسجد ولو بعد مضي أيام لا يتفق مع أصول القواعد الشرعية، فالأقرب أنه لو نسي سجود السهو وطال الفصل أنه لا شيء عليه.

التكبير لغير الإحرام

الأول قال:

التكبير لغير الإحرام.

يعني: جميع التكبيرات ما عدا تكبيرة الإحرام، وتكبيرة الإحرام قلنا في درس سابق حكمها ركن، وتكلمنا عنها بالتفصيل في الدرس السابق، جميع التكبيرات ما عدا تكبيرة الإحرام، هذه التكبيرات تسمى عند الفقهاء بتكبيرات الانتقال، وهي تكبيرات الركوع والسجود والرفع منه، وتكبيرة الرفع من التشهد الأول، هذه هي تكبيرات الانتقال.

ومن الأدلة على وجوبها: مواظبة النبي عليها إلى أن توفاه الله ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: وصلوا كما رأيتموني أصلي [3]؛ لكن المؤلف استثنى من هذا تكبيرة واحدة قال: بأنها ليست واجبة، وإنما هي مستحبة.

حكم تكبيرة المسبوق التي بعد تكبيرة الإحرام

قال:

لكن تكبيرة المسبوق التي بعد تكبيرة الإحرام سنة.

وذلك لأنه يجزئ عنها تكبيرة الإحرام، يعني: إذا أتى الإنسان مسبوقًا وكبر تكبيرة الإحرام فتجزئ عن تكبيرة الركوع، وقد نص على هذا الإمام أحمد رحمه الله، وقد نُقل عن زيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنهما ذلك، ولا يُعرف لهما مخالف من الصحابة كما قال الموفق ابن قدامة.

قال في الإنصاف: “فيعايا بها” يعني: يلغز بها، ما هي التكبيرة غير الواجبة في الصلاة؟

الجواب: تكبيرة المسبوق التي بعد تكبيرة الإحرام.

قول: “سمع الله لمن حمده” للإمام والمنفرد لا للمأموم

الثاني قال:

وقول: سمع الله لمن حمده للإمام وللمنفرد لا للمأموم.

يعني: التسميع للإمام والمنفرد؛ وذلك لقول النبي : وصلوا كما رأيتموني أصلي [4]، ولم يُنقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه ترك التسميع قط، وإنما كان ذلك للإمام والمنفرد دون المأموم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: فإذا قال: سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: ربنا ولك الحمد [5]، فدل ذلك على أن التسميع للإمام وفي حكمه المنفرد.

قول: “ربنا ولك الحمد” للإمام والمأموم والمنفرد

الثالث قال:

وقول: “ربنا ولك الحمد” للكل.

قوله: “للكل” يعني به: الإمام والمأموم والمنفرد، هذا هو المقصود إذا قال: الكل، المقصود به الإمام والمأموم والمنفرد، فتكون واجبة في حق الجميع.

لكن قبل ما ننتقل لها ما معنى قول: “سمع الله لمن حمده”؟

يحسن أن نقف مع معناها: هذه الكلمة العظيمة التي تتردد على ألسنتنا عدة مرات في اليوم والليلة.

سمع: فعل متعدٍ، وقد عُدِّي باللام لتضمنه معنى فعل آخر، سمع الله لمن حمده، فهو قد تضمن معنى فعل آخر، وأقرب فعل يتناسب معه: استجاب، فيكون معنى سمع الله لمن حمده، يعني: استجاب الله لمن حمده، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الله تعالى يسمع من يحمده ومن لا يحمده، ولكن المراد بالسمع هنا: سمع الإجابة.

فإن قال قائل: كيف يقال: إن سمع هنا بمعنى استجاب، والحمد ليس فيه دعاء؟

فالجواب: أن من حمد الله تعالى فقد دعا الله سبحانه بلسان حاله؛ لأن الذي يحمد الله يرجو الثواب، وإذا كان يرجو الثواب فإن الثناء على الله تعالى بالحمد وبالذِّكر متضمن للدعاء؛ لأنه لم يحمد الله تعالى إلا رجاء الثواب.

صيغ التحميد بعد الرفع من الركوع

قال: ثم يقول بعد ذلك: ربنا ولك الحمد، للكل. وهنا المؤلف أتى بهذه الصيغة “ربنا ولك الحمد” وقد وردت على أربع صفات:

  • الصفة الأولى: الصفة التي ذكرها المؤلف: “ربنا ولك الحمد”، هذه في الصحيحين [6].
  • الصفة الثانية: “اللهم ربنا ولك الحمد”، في البخاري [7].
  • الصفة الثالثة: “ربنا لك الحمد” في البخاري [8].
  • الصفة الرابعة: “اللهم ربنا لك الحمد” في الصحيحين [9].

فهذه الصيغ إما في الصحيحين أو في أحدهما.

إذًا: ربنا لك الحمد، ربنا ولك الحمد، اللهم ربنا لك الحمد، اللهم ربنا ولك الحمد، فهذه أربع صفات قد جاءت بها السنة.

أيُّ هذه الصفات أفضل؟ القول الصحيح أن الأفضل هو أن يأتي بها الإنسان كلها، وينوِّع بها، ولا يأتي بها في وقت واحد، وإنما في عدة أوقات على سبيل التنويع، فتارة يأتي بربنا لك الحمد، وتارة: ربنا ولك الحمد، وتارة: اللهم ربنا لك الحمد، وتارة: اللهم ربنا ولك الحمد، فينوِّع، هذا هو الأفضل؛ وذلك لأن العبادات الواردة على وجوه متنوعة الأفضل أن يفعلها على جميع هذه الوجوه التي قد وردت بها؛ لأن في ذلك محافظة على السنة، كما أن التنويع أدعى لحضور القلب.

قول: سبحان ربي العظيم مرة في الركوع

قال:

وقول: “سبحان ربي العظيم” مرة في الركوع.

والدليل لذلك أنه لما نزل قول الله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:74] قال النبي : اجعلوها في ركوعكم ولما نزل: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] قال: اجعلوها في سجودكم [10] أخرجه أبو داود وأحمد وابن خزيمة والحاكم، وهو حديث حسن.

فقوله: اجعلوها في ركوعكم دليل على أن المشروع هو أن يؤتى بهذا الذكر في هذا المقام؛ ولمواظبته عليه الصلاة والسلام على ذلك وقد قال: وصلوا كما رأيتموني أصلي [11].

هل يزيد “وبحمده” إذا قال: سبحان ربي العظيم؟ يكررها، لكن هل يزيد وبحمده؟

نقول: إنه قد ورد ذلك في بعض الروايات، ولكن المعروف عن النبي في الروايات الصحيحة، وفي أكثر الروايات أنه كان لا يزيد “وبحمده”، ولكن مع ذلك زيادة: “وبحمده” قد وردت في أحاديث صحيحة؛ ولهذا فنقول: لا بأس بأن يزيد “وبحمده” أحيانًا على غير الغالب، فيجعل الغالب أن يقول: سبحان ربي العظيم، لكن أحيانًا يقول: “وبحمده”.

وهذا له نظائر، مثل زيادة: “وبركاته”، في السلام قد وردت بها السنة، يزيدها أحيانًا على غير الغالب، ومثل مثلًا قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعة الثالثة والرابعة من صلاة الظهر، فإنه قد وردت بها السنة، يقرؤها أحيانًا على غير الغالب، وهكذا، فهذه المسألة لها نظائر، فإذا زاد: “وبحمده” أحيانًا على غير الغالب فلا بأس.

هل هناك حد معين لقول: سبحان ربي العظيم؟ القدر الواجب مرة واحدة، وأدنى الكمال ثلاث، والأكثر بعض العلماء يقول: لا حد لأكثره، وبعضهم يرى أن الأفضل أن يكون التسبيح عشرًا؛ وذلك لما روي أن أنس لما رأى عمر بن عبدالعزيز يصلي قال: “إن هذا الفتى لأشبهكم صلاة برسول الله ، قالوا: فحزرنا تسبيحه في الركوع عشرًا، وفي السجود عشرًا” [12]، فهذا هو الأقرب أنه يسبح عشر تسبيحات في الركوع وفي السجود.

ومما لم يذكره المؤلف في السنن، ولا بأس أن نذكره هنا: أن يزيد بعد ذلك ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن [13]، فإذا قال: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، كررها عشر مرات، يقول بعد ذلك: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، وهكذا أيضًا في السجود، إذا قال: سبحان ربي الأعلى عشر مرات يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي.

هل له بعد ذلك في الركوع أن يأتي بشيء من الأذكار؟

نقول: لا بأس ما لم يكن إمامًا، إذا كان إمامًا، فينبغي له أن يقتصر على ذلك لأجل أن لا يشق على من خلفه من المأمومين خاصة في صلاة الفريضة، لكن لو أن المأمومين رغبوا في ذلك، أو كان يصلي وحده، بعض المأمومين قد يكونون مثلًا طلاب علم، وقد يكونون في مكان ويرغبون في الإطالة، أنا أذكر أن في دورة شرعية صليت بأناس هناك فكانوا يرغبون يقولون: أطل بنا الصلاة، فأحيانًا بعض المأمومين قد يرغبون في الإطالة، فلو رغبوا فلا بأس أن يأتي ببعض ما ورد ومن ذلك أنه يأتي ببعض الأذكار التي فيها تعظيم لله سبحانه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: فأما الركوع فعظموا فيه الرب [14]، ومن ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يقول في ركوعه وسجوده: سبوح قدوس رب الملائكة والروح [15]، وله أن يعظم الله تعالى ويمجده في هذا الموضع من الصلاة، لكن كما ذكرت بشرط ألا يشق على من خلفه من المأمومين.

قول: سبحان ربي الأعلى مرة في السجود

قال:

وسبحان ربي الأعلى مرة في السجود.

ويقال أيضًا في تسبيح السجود ما قيل في التسبيح في الركوع أن الواجب مرة واحدة، وأدنى الكمال ثلاث، والأفضل أن تكون عشر تسبيحات، ويأتي بعده بسبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي.

لكن السجود يختلف عن الركوع في أنه موضع دعاء؛ ولهذا قال: أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم [16]؛ ولذلك لا بأس أن يدعو الإنسان حتى في صلاة الفريضة لكن إذا كان إمامًا، فلا يطيل لأجل ألا يشق على المأمومين.

قول: “رب اغفر لي” بين السجدتين

قال:

ورب اغفر لي بين السجدتين.

يعني: وأن يقول: “رب اغفر لي” بين السجدتين، وهذا هو القدر الواجب أن يسأل الله تعالى المغفرة، والأفضل والأكمل أن يأتي بما ورد، والذي ورد في ذلك أن يقول: رب اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني واجبرني وعافني، هذا هو الذي ورد.

لو قال: رب اغفر لي وكررها، فإن هذا مجزئ، لكن الأفضل والأكمل أن يأتي بالوارد، وهذا الموضع من الصلاة موضع دعاء يدعو فيه الإنسان بما يحضره، هل هو مثل السجود أو أنه دعاء مقيَّد؟ تجد بعض الناس يأتون بأدعية كثيرة: رب اغفر لي ولوالدي، يأتون بأدعية في هذا المقام.

ظاهر السنة أنه مقيد بما ورد فقط؛ لأنه لو كان موضع دعاء مطلق لحث النبي على ذلك كما حث على الدعاء في السجود، وكما حث على الدعاء في آخر التشهد، لكن الأفضل والأكمل أن يدعو فيه بما ورد، لكن مع ذلك مشروعية الدعاء فيه بما ورد يدل على جواز الدعاء فيه بغير ما ورد، فلو أن الإنسان دعا بدعاء بغير ما ورد فلا بأس بذلك، ولا يُنكر عليه، ولكن يقال: الأفضل والأكمل هو أن يتقيد بالوارد، على سبيل الأفضلية فقط، وإلا فإن قول: رب اغفر لي والكلمات التي بعدها يدل على أن هذا أيضًا موضع دعاء، لكن باعتبار أنه لم يرد من النبي عليه الصلاة والسلام حث بالدعاء في هذا الموضع، ولم يُنقل عنه أنه دعا بغير ذلك، فنقول: الأفضل والأكمل الاقتصار على ما ورد، هذا هو التحقيق في هذه المسألة؛ ولذلك نقول: على الإنسان أن يحفظ هذه الكلمات التي وردت ويكررها.

التشهد الأول على غير من قام إمامه سهوًا

قال:

والتشهد الأول على غير من قام إمامه سهوًا.

يعني: أن التشهد الأول واجب من واجبات الصلاة، والدليل على أنه واجب: أن النبي لما نسيه سجد للسهو كما جاء ذلك في الصحيحين [17]، فلولا أنه واجب لما سجد لجبره؛ لأنه لا يزيد في الصلاة زيادة محرمة لجبر ما ليس بواجب؛ ولأن الأصل منع الزيادة في الصلاة، ولا يُنتهك هذا المنع إلا بفعل واجب.

إذًا: التشهد الأول من واجبات الصلاة.

كذلك أيضًا: الجلوس له واجب من واجبات الصلاة، كما ذكرت في أول الدرس بعض الفقهاء يعتبر التشهد الأول والجلوس له واجبًا واحدًا، وبعضهم يجعلها واجبين، والأمر في ذلك واسع، لكن بعضهم يفرده بالذكر -الجلوس له- احترازًا مما لو أتى بالتشهد غير جالس، يعني: من باب أن هذا قد يرد.

وقوله: “على غير من قام إمامه سهوًا” يُفهم منه أن التشهد لا يكون واجبًا في حق المأموم إذا قام إمامه سهوًا فلا يكون التشهد واجبًا، وذلك أن الإمام إذا سها واستتم قائمًا، فإنه ليس له الرجوع في هذه الحال، وبالنسبة للمأموم يتابع إمامه ويسقط عنه التشهد، لا يكون واجبًا في هذه الحال، وهذه أيضًا من المسائل التي يُعايا بها [18]، أن يقال: متى يكون التشهد غير واجب في الصلاة؟

الجواب: في حق المأموم إذا قام إمامه سهوًا، فالمأموم إذا قام إمامه سهوًا يسقط في حقه التشهد الأول، هذه إذًا هي واجبات الصلاة، وسننها.

سجود السهو لترك السنن

قال:

أقوال وأفعال.

المؤلف عنده هذا التفصيل: أتى بالأركان، ثم الواجبات، ثم السنن، ثم قسم السنن أيضًا، يعتني بالتقسيم كثيرًا.

قسم السنن إلى أقوال وأفعال، فقال:

لا تبطل بترك شيء منها ولو عمدًا، ويُباح السجود لسهوه.

أما كونه لا تبطل الصلاة بترك شيء منها ولو عمدًا، فهذا ظاهر، هذا محل اتفاق بين العلماء.

وقوله: “ويُباح السجود لسهوه” يعني: لو ترك سُنة من هذه السنن فيباح في حقه أن يسجد للسهو، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء، فمن العلماء من قال: إنه لا يُشرع السجود لترك السنن، وقد قال القاضي أبو يعلى: لا يسجد لها بحال ولا نعلم أحدًا خالف هذا، ولكن الصحيح أن المسألة وقع فيها الخلاف.

فإذًا القول الأول: أنه لا يشرع السجود لترك السنن.

القول الثاني: أنه يُباح.

القول الثالث: أنه إذا ترك سنة من عادته الإتيان بها فيُشرع في حقه أن يسجد لها، أما إذا ترك سنة عمدًا، فلا يُشرع له السجود، أو ترك سنة ليس من عادته الإتيان بها فلا يشرع في حقه السجود، وهذا قول وسط بين القولين، ولعله الأقرب، ورجحه شيخنا ابن عثيمين رحمه الله.

إذًا: القول الراجح أنه إذا ترك سنة من عادته الإتيان بها سهوًا، فيشرع في حقه سجود السهو، أما إذا ترك سنة ليس من عادته الإتيان بها فلا يشرع في حقه سجود السهو، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.

مثال ذلك: لو أنه مثلًا ترك الجهر في القراءة إنسان مثلًا قرأ الفاتحة سرًّا فسبح الناس: سبحان الله، فقام وقرأ السورة التي بعدها، فمعنى ذلك أنه ترك سنة من عادته الإتيان بها، فيشرع في حقه سجود السهو، لكن لو كان ليس من عادته مثلًا الإتيان بجلسة الاستراحة فتركها فلا يشرع في حقه سجود السهو، فهذا هو الأقرب، والله أعلم.

أما القول بأنه يُباح، هذا محل نظر، القول بالإباحة محل نظر، إما أن يقال: إنه يستحب ويشرع، أو يقال: إنه لا يشرع، أما ما ذهب إليه المؤلف من القول بالإباحة في الصلاة فهذا محل نظر، لكن القول بالتفصيل لعله هو الأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة.

وبذلك نعرف الجواب عما يسأل عنه بعض الناس: إذا جهر في الصلاة السرية أو أسر في الصلاة الجهرية فهل يشرع له أن يسجد للسهو؟ بناء على القول الراجح أنه يشرع لأن من عادته الإتيان بهذه السنة، مستحب في حقه وليس واجبًا، والقول بالإباحة قول ضعيف، إما أن نقول: إنه مشروع، أو نقول: إنه غير مشروع…

وتسقط الواجبات بالجهل؛ لأن الجهل والنسيان بابهما واحد، لو ترك واجبًا من الواجبات جاهلًا، ثم بعد ذلك عُلِّم فتسقط عنه؛ لأن الواجبات بابها أوسع من الأركان، ويجبره سجود السهو، إذا لم يمكن فإنها تسقط.

سنن الصلاة القولية

ثم قال:

فسنن الأقوال أحد عشر: قوله بعد تكبيرة الإحرام: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك [19].

دعاء الاستفتاح

يعني: إتيانه بدعاء الاستفتاح، دعاء الاستفتاح مستحب وليس بواجب في قول عامة أهل العلم، ودعاء الاستفتاح قد ورد على عدة صيغ، منها الصيغة التي ذكرها المؤلف: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك وهذه قد اختارها الإمام أحمد؛ وذلك لأن عمر كان يعلمها الناس في المسجد؛ ولأنها اشتملت على تعظيم الله وتمجيده مع اختصارها ووجازة ألفاظها.

وقد ورد أيضًا في ذلك ما جاء في الصحيحين: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد [20]، هذا في الصحيحين، وهذا الذكر أصح من الأول؛ لأن سبحانك اللهم وبحمدك ليس في الصحيحين، وإنما هو عند بعض أصحاب السنن عند أبي داود وغيره، لكن اللهم باعد بيني وبين خطاياي هذا في الصحيحين، وهو أصح.

والأفضل أن ينوع بينها، أن يأتي بهذا تارة وبهذا تارة، وهناك أيضًا استفتاحات لكنها وردت في صلاة الليل: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل.. [21] إلى آخره.

وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض [22] لعلها سيأتي الكلام عنها إن شاء الله في الكلام على صلاة الليل.

فإذا أتى بأي استفتاح قد ورد من الاستفتاحات الواردة فيجزئ، لكن أفضلها هو هذان الاستفتاحان: سبحانك اللهم وبحمدك واللهم باعد بيني وبين خطاياي والأفضل هو التنويع بينهما، فيأتي بهذا تارة وبهذا تارة.

الاستعاذة

قال:

والتعوذ.

التعوذ يعني يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه.

وقوله: “والتعوذ” التعوذ في الركعة الأولى ظاهر، فإنه بعدما يأتي بدعاء الاستفتاح يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لكن هل يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم في الركعة الثانية والثالثة والرابعة أم لا؟

هذه المسألة اختلف فيها العلماء، يعني عندما تقوم للركعة الثانية بماذا تبدأ؟ هل تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، أو تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؟ الركعة الثالثة، الركعة الرابعة هذا موضع خلاف بين العلماء، وسبب الخلاف في هذه المسألة هو الخلاف في القراءة في الصلاة، هل القراءة في الصلاة كلها قراءة واحدة، أو أن كل ركعة لها قراءة مستقلة؟ إذا قلنا: إن القراءة في الصلاة قراءة واحدة، فتكفي استعاذة في الركعة الأولى، وإذا قلنا: إن كل ركعة لها قراءة مستقلة فيستعيذ في كل ركعة.

انتبه: هذا هو سبب الخلاف في المسألة، اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين، وهما روايتان عن الإمام أحمد:

فمن العلماء من قال: إنه يُشرع الاستعاذة في كل ركعة، وهذا رواية عن الإمام أحمد، ونُقل عن الحسن وعطاء والنخعي، وقد ذكر المرداوي في الإنصاف أن شيخ الإسلام ابن تيمية اختار هذا القول.

وابن القيم رحمه الله في زاد المعاد اختار القول الثاني، فتكون هذه من المسائل القليلة التي خالف فيها ابن القيم شيخه.

قال النووي: الأصح عند الشافعية استحباب التعوذ في كل ركعة، وبه قال ابن سيرين. إذًا: هذا قول لبعض أهل العلم، واستدلوا لذلك بعموم قول الله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98] قالوا: وهذا في كل ركعة؛ ولأن القراءة في كل ركعة قراءة مستقلة.

القول الثاني في المسألة: أن التعوذ يختص بالركعة الأولى فقط، وهذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة فقط، وقد اختاره ابن القيم رحمه الله خلافًا لشيخه ابن تيمية، والدليل لهذا هو ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة : “أن النبي كان إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين، ولم يسكت” [23]، فهذا ظاهره أنه كان لا يتعوذ؛ لأنه لو كان يتعوذ لسكت عليه الصلاة والسلام قليلًا، وأتى بالتَّعوذ.

ثم إن القراءة في الصلاة هي قراءة واحدة في الحقيقة، ويكفي أن يتعوذ في أولها في الركعة الأولى، بدليل: أنه إنما يأتي بدعاء الاستفتاح في الركعة الأولى فقط، فأي فرق بين دعاء الاستفتاح وبين الاستعاذة؟ وإذا قلنا: إنه يتعوذ في كل ركعة، فمعنى ذلك يلزم من هذا أنه يستفتح في كل ركعة، ولم يقل بهذا أحد من العلماء، وهذا استدلال قوي.

ثم إن قارئ القرآن خارج الصلاة لو تخلل قراءته تسبيح أو تحميد أو تكبير أو تهليل لم يُشرع له إعادة الاستعاذة، كذلك وهو في الصلاة قد استعاذ في أول القراءة، ثم تخللها أذكار من تسبيح وتحميد وتكبير ودعاء.

فلهذا القول الراجح -والله أعلم- أنه تكفي الاستعاذة في الركعة الأولى، كما هو اختيار ابن القيم الاستعاذة في الركعة الأولى؛ لظاهر حديث أبي هريرة، وللمعاني التي ذكرناها، وبهذا يتبين أن القراءة في الصلاة قراءة واحدة، لكن يتخللها أذكار ودعاء.

مداخلات:…..

وإذا استعاذ الإنسان فلا حرج، الأمر في هذا واسع، لكن نبين الأقرب للسنة، على أن الاستعاذة أصلًا تُشرع إذا أحس الإنسان بوساوس وهواجس، كما أوصى النبي عليه الصلاة والسلام عثمان بن أبي العاص لما أتى واشتكى للنبي عليه الصلاة والسلام ما يجده من الوساوس في الصلاة، فأمره النبي عليه الصلاة والسلام بأن يتفل عن يساره ثلاثًا، وأن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال: “ففعلت ذلك فأذهبه الله عني” [24]، حتى لو كنت في السجود، لو كنت في الركوع، لو كنت في أي مقام موضع من الصلاة فإنه إذا أتت عليك الهواجيس والوساوس فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هذا مما يغفل عنه كثير من الناس، تجده في وساوس ويغفل عن هذا الأدب الذي وصى به النبي ، فيجاهد الإنسان نفسه على الخشوع ويستعيذ، كلما أتته هذه الوساوس استعاذ بالله من الشيطان الرجيم.

نعم كذلك عندما يعطس يقول: الحمد لله رب العالمين؛ لأنه ذكر لله سبحانه، ولا يُشمَّت، لا يقال: يرحمك الله؛ لأنه خطاب آدمي.

البسملة

قال:

والبسملة.

البسملة يعني أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، والبسملة آية مستقلة من القرآن نزلت للفصل بين السور ما عدا سورة براءة، سورة التوبة، والصحيح أنها ليست بآية من الفاتحة؛ لحديث أبي هريرة في صحيح مسلم قال : قال الله تعالى: قسمت الصلاة الصلاة يعني: الفاتحة، بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين؛ قال الله: حمدني عبدي… [25] إلى آخر الحديث، ولم يقل: فإذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، ولو كانت آية من الفاتحة لقال: فإذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وهذا كما ترون ظاهر الدلالة في أن البسملة ليست بآية من الفاتحة، وبناءً على ذلك لو ترك البسملة، فإنه لم يترك آية من الفاتحة، وصلاته صحيحة.

ما نجده في المصاحف مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم، وموضوع عليها آية رقم واحد؟ أخذوا بالقول الثاني، وهو أنها آية من الفاتحة، لكن القول الصحيح عند كثير من المحققين من أهل العلم أنها ليست بآية، فإذا قلنا: ليست بآية كيف تكون آيات الفاتحة، وقد ذكر الله تعالى أنها سبع آيات: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي [الحجر:87]؟

نعم صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ رأس آية يعني تكون الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الآية الأولى، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الآية الثانية، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ الآية الثالثة، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ الآية الرابعة، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الآية الخامسة، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ الآية السادسة، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ الآية السابعة؛ ولهذا يستحب للقارئ أن يقف عند: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ قلنا في الدرس السابق إن السنة أن يقف على رؤوس الآي، ووصلها بنفس واحد أو نفسين أو ثلاثة هذا خلاف السنة، السنة أن يقف عند رؤوس الآي، وبناءً على ذلك فالسنة أن يقف عند: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يقف لأنها هي الآية السادسة.

قول “آمين”

قال:

وقول: آمين.

يعني: من السنن؛ لقول النبي : إذا أمَّن فأمِّنوا [26] ومعنى آمين: اللهم استجب يا رب.

يقول: اللهم استجب، يقوله لأنه قد تقدم دعاء، وهذا الدعاء هو: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ هذا الدعاء من أعظم الأدعية التي المسلم بحاجة بل بضرورة إليها، يعني: في غاية الضرورة إليها أن يسأل الله تعالى الهداية، فالمسلم بحاجة عظيمة إلى أن يهديه الله سبحانه الصراط المستقيم، فهذا الدعاء من أعظم الأدعية؛ ولهذا كان فرض على المسلم أن يدعو به في كل ركعة من كل صلاة يصليها.

قال: “وقراءة السورة بعد الفاتحة” يعني: من السنن أن يقرأ سورة بعد الفاتحة، وبعض العلماء قال: بأن ذلك واجب، ولكن أكثر العلماء على أن ذلك من السنن؛ لأنه ليس هناك دليل ظاهر يدل على وجوبها إلا مجرد فِعْل النبي ، وفِعْله إنما يدل على الاستحباب؛ ولأنها تُترك في الركعة الثالثة والرابعة من الصلاة الرباعية، وفي الركعة الثالثة من الصلاة الثلاثية، ولو كانت واجبة لما تُركت.

وقراءة السورة بعد الفاتحة السنة أن يقرأ سورة كاملة، هذا هو هدي النبي ، ولم يُحفظ عن النبي قط أنه كان يختار آيات من أواخر السور أو من أوساطها ليقرأ بها، قال ابن القيم رحمه الله: “كان من هديه قراءة السورة كاملة، وربما قرأها في الركعتين، وربما قرأها أول السورة”، قال ابن القيم: “وأما قراءة أواخر السور وأوساطها فلم يُحفظ عنه”؛ ولهذا ما نرى من بعض الأئمة الذين غالب قراءتهم من أواخر السور، أو من أوساط السور هذا خلاف السنة، بل إنك تعجب، بعض الأئمة يقرأ آيات، حتى إذا بقي على نهاية السورة آية أو آيتين انتقل وقرأ له من وسط سورة أخرى، هذا خلاف السنة، السنة أن تقرأ سورة كاملة، لا نقول: إن هذا لا يجوز، الله تعالى يقول: فَاقْرَؤوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل:20] هو جائز ومجزئ، لكن السنة أن تقرأ سورة كاملة، هذه هي السنة في هذا، كما قال ابن القيم: لم يُنقل عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قرأ من وسط ولا من أواخر السور.

نُقل عنه أنه قرأ من أوائل السور في سورة المؤمنون، وكان أيضًا الظاهر أنه عليه الصلاة والسلام كان سيكملها، لكن أخذته سعلة –نوع من الشرقة- فركع، فقراءة أوائل السور قد ورد فيها هذا الحديث [27]، لكن أيضًا ورد أن النبي كان يقرأ في ركعتي الفجر بـقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:136] بعد الفاتحة في الركعة الأولى، وقُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ [آل عمران:64] في الركعة الثانية [28]، وهذا هو الذي حُفظ عنه عليه الصلاة والسلام في هذا.

لا بأس أن يقرأ الإمام أحيانًا على غير الغالب من أواخر السور، أو من أوساطها، أو من أولها، لكن على غير الغالب، لكن يجعل غالب قراءته سورة كاملة، انتبهوا لهذه السنة التي أغفلها كثير، ولست مبالغًا إن قلت: كثير من الأئمة، يجعل المسلم السنة نصب عينيه، يحرص عليها، وبعض الناس يقول: أنا أريد أن أراجع حفظي، نقول: تراجع حفظك في غير الصلاة؛ لأنك الآن مؤتمن، والإمام يأتي بالسنن، والذي يؤم غيره مطلوب منه أن يكون أمينًا، ويأتي بالصلاة على أكمل وجه.

وهذا المعنى قد قرره شيخ الإسلام ابن تيمية، فالذي يصلي لغيره ليس كالذي يصلي وحده، فالذي يصلي وحده ربما أنه يترك بعض السنن، ربما أنه يخفف الصلاة، لكن الذي يصلي لغيره هو مؤتمن في هذا المقام؛ ولذلك فعليه أن يأتي بالسنة كما وردت عن النبي في هذا، كالذي يبيع لغيره مثلًا أو الذي يشتري لغيره، لو وكَّلك إنسان في أن تبيع شيئًا لغيرك أو تشتري لغيرك فإنك عندما تبيع تستقصي، لكن لو كنت تبيع بضاعتك ربما تتنازل عن بعض حقك فتبيع بأقل من السعر مثلًا.

أيضًا من السنن في هذا: أن تكون غالب القراءة من المفصَّل، والمفصل يبدأ من سورة (ق) أو الحجرات على خلاف بين العلماء إلى سورة الناس.

وطوال المفصل من سورة (ق) أو الحجرات إلى عم يتساءلون، ووسطه من عم إلى الضحى، وقصاره من الضحى إلى الناس.

السنة في صلاة الفجر أن يقرأ من طوال المفصل، وفي الظهر والعصر والعشاء من وسطه، وفي المغرب من قصاره، لكن أحيانًا يقرأ من الطوال؛ ولهذا أنكر زيد بن ثابت على مروان لما كان يقرأ من القصار دائمًا، فهذه هي السنة الواردة في هذا؛ ولهذا لما عاتب النبي معاذًا قال: هلا قرأت بسبح اسم ربك الأعلى، والليل إذا يغشى، والشمس وضحاها [29]، سمى له هذه السور التي هي من وسط المفصل.

ولعل الحكمة في هذا -والله أعلم- هو أن يحفظ الناس هذه السور التي غالبها سور قصيرة، فالإمام إذا كان يرددها على الناس حفظها الناس، فالناس منهم من هو عامي، ومنهم من هو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ومنهم أناس يقرؤون ويكتبون، ولكنهم مشغولون بكسب لقمة العيش، كثير مثلًا من العمال ربما ليس عنده الوقت لكي يحفظ، فإذا تكررت عليه هذه السور حفظها، فلعل هذه من الحكمة في هذا؛ ولهذا ينبغي للإمام أن يحرص على السنة في هذا، وكما ذكرنا أن هذا ليس دائمًا، وإنما غالبًا؛ ولهذا ثبت عن النبي أنه قرأ من غير المفصل، قرأ بالصافات والمؤمنون والأعراف، حتى إنه قرأ بالأعراف كلها في صلاة المغرب، لكن هذا على سبيل الغالب، يعني: يجعل هذا هو الغالب من قراءته.

الجهر بالقراءة للإمام

قال:

والجهر بالقراءة للإمام.

يعني: أن السنة الجهر بالقراءة للإمام؛ وذلك في صلاة الفجر، وفي الأوليين من المغرب والعشاء، وفي صلاة الجمعة والعيدين؛ وذلك لأن هذا هو هدي النبي ، وقد واظب على ذلك النبي طيلة حياته.

يُكره الجهر للمأموم، ويُخيَّر المنفرد

ويُكره للمأموم، ويُخيَّر المنفرد.

يعني: يُكره الجهر في حق المأموم، المأموم السنة في حقه الإسرار وليس الجهر، على أن هذا المقصود به قراءة الفاتحة في حق المأموم، وسبق ذكر الخلاف فيها.

وأما المنفرد فيُخيَّر بين الإسرار والجهر، والأفضل أن يفعل ما هو الأصلح لقلبه، وما هو الأكثر خشوعًا له في الإسرار وفي الجهر.

وبعض العلماء يقول: إذا كانت الصلاة جهرية جهر، وإذا كانت سرية أسر، فيكون المنفرد حكمه حكم الإمام، يكون المنفرد حكمه حكم الإمام في هذا، وهكذا المأموم المسبوق أيضًا لو فاتته ثلاث ركعات من العشاء، وأراد أن يقضي تكون الثانية في حقه يجهر بالقراءة فيها، عندما يقضي الثانية هذا رأي بعض أهل العلم، وهو رأي شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله أن المأموم يجهر فيما يجهر به الإمام إذا كان مسبوقًا وقضى، وهكذا المنفرد أيضًا يجهر فيما يجهر به الإمام، والأمر في هذا واسع.

قال:

الذكر بعد التحميد

وقول غير المأموم بعد التحميد: ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد [30]، وما زاد على المرة في تسبيح الركوع والسجود.

“وقول غير المأموم بعد التحميد” يعني: بعد قول: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد [31].

قوله: “غير المأموم” دليل على أن المأموم لا يقول ذلك؛ ولعل مقصود المؤلف أن قول: سمع الله لمن حمده لا يكون للمأموم، وإنما يكون للإمام وللمنفرد، لكن هذه العبارة فيها شيء من القلق، قوله: “غير المأموم بعد التحميد” يعني: مراد المؤلف أن غير المأموم هو الذي يقول: سمع الله لمن حمده، فيُشرع في حقه أن يقول بعد ذلك: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السماوات والذي لا يُشرع في حق المأموم فقط، هو قول سمع الله لمن حمده، أما ما بعد سمع الله لمن حمده، فالصحيح أنه مشروع في حق الجميع: في حق الإمام والمأموم والمنفرد، فيكون إذًا قول: ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد مشروعًا في حق الجميع: الإمام والمأموم والمنفرد.

وأيضًا ورد في ذلك: أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد [32].

الزيادة على المرة في تسبيح الركوع والسجود

قال: 

وما زاد على المرة في تسبيح الركوع والسجود.

وهذه تكلمنا عنها، “ورب اغفر لي” أيضًا، يعني: ما زاد على قول: رب اغفر لي، هذا مقصود المؤلف، يعني: ما زاد على قول: رب اغفر لي وهي: وارحمني واهدني وارزقني واجبرني وعافني.

الصلاة على النبي  في التشهد الأخير

قال:

والصلاة في التشهد الأخير على آله عليه السلام.

يعني: الصلاة على آل النبي ، بينما الصلاة على النبي مر معنا في الدرس السابق أن حكمها على رأي المؤلف.. ما هو على رأي المؤلف؟ عدها في ماذا في الأركان أو في الواجبات؟ في الأركان على رأي المؤلف أنها ركن، وأشرت في الدرس السابق إلى أن العلماء لهم في هذه المسألة ثلاثة أقوال:

  • القول الأول: أن الصلاة على النبي في التشهد الأخير ركن من أركان الصلاة، وهذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة، وهذا هو الذي مشى عليه المؤلف.
  • القول الثاني: أنها واجبة، وهذا اختاره الموفق ابن قدامة، وعدها الموفق في العمدة من الواجبات. شرحنا العمدة كاملًا في هذا الدرس من أوله من كتاب الطهارة إلى الإقرار مر معنا في واجبات الصلاة أن الصلاة على النبي في التشهد الأخير، فالموفق ابن قدامة عد الصلاة على النبي من الواجبات.
  • القول الثالث: أنها مستحبة وليست واجبة، وهذا هو رأي أكثر العلماء، بل إن الطحاوي وكذلك القاضي عياض والخطابي وابن جرير حكوا الإجماع على أن الصلاة على النبي في التشهد الأخير أنها مستحبة وليست واجبة، وقالوا: إنه لا يُعرف أن أحدًا من العلماء قال بوجوبها قبل مخالفة الشافعي في قوله بالوجوب، ولكن رد ذلك الحافظ ابن كثير وابن القيم رد هذه المقولة، وقالوا: إن ذلك قد روي عن أفراد من السلف أنهم قالوا بوجوب الصلاة على النبي ، وقد ذكر أيضًا ابن المنذر وابن عبدالبر والجصاص أنهم لا يعلمون أحدًا قال بوجوب الصلاة على النبي قبل الشافعي، فتكون المسألة إذًا محل إجماع.

وعندما نأتي للأدلة نجد أن القائلون بالركنية وبالوجوب استدلوا أولًا بعموم قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56] لكن هذا الاستدلال استدلال ضعيف؛ لأن هذا عام، وليس خاصًا في الصلاة، إنما هو عام في الصلاة وفي غيرها.

واستدلوا أيضًا بحديث كعب بن عُجرة أنه قال: يا رسول الله، عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد… [33] إلى آخر الحديث.

وقد استدل بهذا ابن القيم وقال: قد ثبت أن هذا السلام هو سلام التشهد، ومخرج الأمرين –يعني: الأمر بالصلاة والأمر بالسلام- واحد، ومخرج التعليمين والمحلين واحد.

أما قوله: “مخرج الأمرين واحد” فصحيح، مخرج الأمرين واحد هو النبي .

أما قوله: إن مخرج التعليمين واحد، فغير مسلَّم؛ وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام علمهم السلام في التشهد، ولكنه لم يعلمهم كيفية الصلاة عليه إلا لما سألوه، ففرق بين الأمرين، اللهم إلا عند من يقول بدلالة الاقتران، ودلالة الاقتران ضعيفة عند كثير من أهل العلم؛ ولذلك ليس هناك دليل في الحقيقة ظاهر على وجوب الصلاة على النبي في الصلاة.

أيضًا قال أصحاب هذا القول وهم الجمهور: إن عمر وابن الزبير كانوا يعلمون الناس التشهد، ولم يذكروا فيه الصلاة على النبي ، ولو كانت الصلاة على النبي واجبة لعلَّموها الناس، فكان عمر يعلم الناس التشهد على المنبر، وأيضًا روى ابن أبي شيبة أن عبدالله بن مسعود قال: كان يعلمنا التشهد في الصلاة يقول: إذا فرغ أحدكم من التشهد فليقل: اللهم إني أسألك [34]، ولم يذكر الصلاة على النبي مع أن ابن مسعود هو راوي أصح حديث في التشهد، فظاهر المنقول عن الصحابة أنهم لا يرون وجوب الصلاة على النبي .

ولكن عندما نأتي للموازنة بين الأقوال: القول بأنها ركن هذا قول ضعيف، القول بإبطال الصلاة، وأنها لا تصح لا شك أن هذا قول ضعيف، لكن تبقى الموازنة بين القول الثاني والثالث: القول بأنها واجبة، والقول بأنها مستحبة، القول بالوجوب الحقيقة ليس عليه دليل ظاهر إلا حديث كعب بن عجرة، وكعب بن عجرة قلنا: إن النبي لم يعلمهم الصلاة عليه ابتداءً، وإنما لما سأله الصحابة، وبذلك يتبين أنه ليس هناك دليل ظاهر على وجوب الصلاة على النبي .

وعليه فالأقرب -والله أعلم- أن الصلاة على النبي في التشهد الأخير أنها مستحبة وليست واجبة، هذا هو الأقرب -والله أعلم-، وهذا هو ظاهر المنقول عن الصحابة.

ومما يؤيد هذا أن الحنابلة أنفسهم الذين قالوا: بأنها ركن جعلوا الصلاة على آل النبي من السنن، مع أن الحديث الوارد في الصلاة عليه وعلى آله واحد، “عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد“، فإما أن تقولوا: إن الصلاة عليه وعلى آله واجبة، أو أنها ركن، وإما أن تقولوا: إنها غير واجبة، أما الفصل بينها وجعل الصلاة عليه ركن، والصلاة على آله مستحبة، فهذا محل نظر؛ لأن الدليل الذي يستدلون به واحد.

فإذًا: الأقرب -والله أعلم- هو ما عليه أكثر العلماء من أنها مستحبة، وكما ذكرت أن جمعًا من أهل العلم حكى ذلك إجماعًا.

الدعاء بعد التشهد

قال:

والدعاء بعده.

يعني: أنه من السنن، وهذا ظاهر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن مسعود: ثم يتخير من الدعاء أعجبه [35]، وهذه من المواضع التي فيها الدعاء مطلق، قال: إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال [36] قال: ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه [37] يعني: الدعاء هنا مفتوح، تدعو بما تيسر، ما يعجبك من خيري الدنيا والآخرة، سواء كنت في صلاة فريضة أو صلاة نافلة، لكن الإمام يحرص على ألا يطيل لأجل ألا يشق على المأمومين.

وبهذا نعلم أن السنة في الدعاء أن يكون قبل السلام وليس بعد السلام، ونرى بعض العامة في صلاة النافلة يصلي، ثم إذا سلم قام ورفع يديه يدعو، طيب لماذا لا تدعو وأنت في الصلاة؟ فهذا في الحقيقة خلاف السنة؛ لأن السنة أن تدعو وأنت في مقام مناجاة الله سبحانه، كيف إذا انصرفت من مقام المناجاة قمت ترفع يديك وتدعو؟

وهذا وإن كان جائزًا بعد النافلة لكن السنة أن يكون الدعاء قبل السلام، لك أن تطيل ما شئت، إذا أتيت بالتشهد واستعذت بالله من أربع، ادع بما تيسر، لكن اجعل الدعاء في صلب الصلاة، لا تجعله بعد الفراغ من الصلاة.

فهذه مسألةٌ انْتَبِه لها، كثير من العامة يجعل الدعاء عد الفراغ من الصلاة بعد السلام، هذا خلاف السنة، إلا في صلاة الاستخارة؛ فإن السنة قد وردت بأن يكون الدعاء فيها بعد الصلاة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: فليركع ركعتين ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك [38]، قوله: فليركع ركعتين لا يصدق عليه أنه ركع ركعتين إلا إذا فرغ منهما، والفراغ منهما إنما يكون بالسلام؛ لقوله: وتحليلها التسليم [39]، وهذا يدل على أن دعاء الاستخارة إنما يكون بعد السلام وليس قبله، فهذا قد وردت السنة بأنه يكون بعد السلام، ما عدا ذلك في الأصل أن الدعاء إنما يكون قبل السلام.

سنن الأفعال في الصلاة

ثم قال المؤلف رحمه الله:

وسُنن الأفعال؛ وتسمى الهيئات.

ثم سرد المؤلف رحمه الله هذه السنن.

رفع اليدين مع تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه

فقال:

رفع اليدين مع تكبيرة الإحرام.

رفع اليدين قد وردت به السنة في مواضع:

الموضع الأول: مع تكبيرة الإحرام، وكذلك أيضًا الموضع الثاني: عند الركوع، وعند الرفع من الركوع. وكذلك أيضًا عند القيام من التشهد الأول.

ولهذا المؤلف قال:

رفع اليدين مع تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه.

هذا قد جاءت بها السنة، كما في البخاري وغيره، وأما عند القيام من التشهد الأول، فمحل خلاف بين العلماء، والصحيح أيضًا أنه سنة لورود بعض الأحاديث في هذا.

الحكمة من رفع اليدين قيل: تعظيم الله ، فيجتمع في ذلك التعظيم القولي والفعلي، والتعبد لله تعالى بهما، ونقل المرداوي في الإنصاف عن بعض أهل العلم أنه قال: رفع اليدين إشارة إلى رفع الحجاب بين العبد وبين ربه؛ كما أن السبابة إشارة إلى الوحدانية.

فأنت عندما ترفع يديك هكذا عند تكبيرة الإحرام كأنك رفعت الحجاب بينك وبين الله ، فأنت في مقام عظيم، في مقام المناجاة لله سبحانه، وتكون قريبًا من ربك ، هذا من أعظم مقامات العبد: مقام الصلاة؛ ولهذا فإن الشيطان يعرف عظمة هذا المقام، فإذا كبر الإنسان أقبل على المصلي بخيله ورجله حتى يوسوس له، حتى إنه ربما نسي الشيء فيذكره الشيطان إياه في الصلاة؛ لأن الشيطان يعرف عظمة هذا المقام، فبعض أهل العلم يقول: إن رفع اليدين لأجل هذا المعنى. ويحتمل أنه لأجل هذه المعاني كلها.

قال:

وحطهما عقب ذلك.

يعني: بعد رفع اليدين حطهما، وهذا ظاهر.

الموضع الذي تُرفع إليه اليدان: قد وردت السنة برفعهما إلى فروع الأذنين وإلى المنكبين؛ ولذلك فالسنة أن يأتي هذا تارة، وبهذا تارة، والسنة أن يرفع يديه مع التكبير مضمومتي الأصابع ممدودة غير مقبوضة هكذا…، كما ذكرنا إلى منكبيه أو إلى فروع أذنيه.

وضع اليمين على الشمال

قال:

ووضع اليمين على الشمال.

أيضًا يضع اليمين على الشمال، لكن وضع اليمين على الشمال قد ورد على عدة وجوه؛ وضع اليد اليمنى على اليسرى قد ورد على عدة وجوه:

الوجه الأول: أن يقبض كوع يسراه بيمينه، والكوع: هو العظم الذي يلي الإبهام، ويدل لذلك حديث وائل بن حجر قال: “رأيت رسول الله إذا كان قائمًا قبض بيمينه على شماله” [40] رواه النسائي وسنده صحيح، يقبض كوع يسراه بيمينه هكذا…، هذه هي الصفة الأولى.

الصفة الثانية: وضع اليد اليمنى على الذراع اليسرى من غير قبض، ودليل هذا ما جاء في صحيح البخاري عن سهل بن سعد، قال: “كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة” [41].

الصفة الثالثة: وضع اليد اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد، ودليل ذلك حديث وائل بن حجر قال: “فكبر ورفع يديه حتى حاذتا أذنيه، ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد» [42] رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند صحيح؛ فيضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد.

فهي ثلاث صفات، والأفضل أن يأتي بهذه السنن كلها.

أما ما يفعله بعض العامة من القبض على المرفق هكذا فهذا لم يرد، إنما ورد على الذراع والقبض على الكوع وعلى ظهر كفه اليسرى مع الرسغ والساعد، هكذا….، فهي قد وردت بهذه الصفات الثلاث.

المؤلف يرى أنه يكون تحت السرة، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة لما روي عن علي قال: “من السنة وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت السرة» [43] أخرجه الدارقطني والبيهقي، لكن هذا الأثر إسناده ضعيف فلا يصح عن علي ، وقد ضعفه الحفاظ، ضعفه الإمام أحمد والنووي والزيلعي والحافظ ابن حجر.

والقول الثاني في المسألة: أنه يضعهما على صدره؛ لحديث وائل بن حجر: “أن النبي كان يضعهما على صدره” [44]، وبعض العلماء أيضًا يضعف هذا الحديث، لكن من أهل العلم من حسّنه، وكان الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله يحسن هذا الحديث.

وعند النظر لهذين الحديثين نجد أن حديث وائل أقرب إلى الصحة من أثر علي؛ ولهذا فالأقرب أن يضعهما على الصدر، وإن كان المروي في ذلك ربما كله لا يثبت، لكن حديث وائل هناك من المحدثين من حسنه، بينما أثر علي ظاهر الضعف، فالأقرب إذًا أنه يضع يده اليمنى على اليسرى على الصدر، هذا هو الأقرب للسنة في هذا.

النظر إلى موضع السجود

قال:

ونظره إلى موضع سجوده.

يعني: السنة أن ينظر إلى موضع السجود؛ لأن ذلك أخشع للمصلي، وأكف لبصره، إلا في حال جلوسه للتشهد فيكون النظر إلى سبابته، قال النووي: السنة ألا يجاوز بصره إشارته، وفيه حديث صحيح في سنن أبي داود.

بعض الفقهاء استثنى من ذلك المسجد الحرام، وقال: إنه ينبغي أن ينظر إلى الكعبة؛ لأنها قبلة المصلي، ولكن هذا القول لا دليل عليه، كل من أتى بقول يُطالب بالدليل، فهذا القول قاله بعض الفقهاء، لكنه لا دليل عليه؛ ولذلك الصواب أن المصلي في المسجد الحرام كغيره ينظر إلى موضع سجوده، ثم إن النظر إلى الكعبة ربما أشغل المصلي بالنظر إلى الطائفين، ونحو ذلك، فهذا ربما يشغله.

لا يفرق بين قدميه، ولا يلصقهما

قال:

وتفرقته بين قدميه قائمًا.

لكن القول بأن هذا سنة هذا محل نظر، الأقرب أن يقال: إن الإنسان يقف معتدلًا، يعني: لا يفرق بين قدميه تفرقة، بحيث يكون ما بين قدميه واسعًا جدًّا، ولا يلصِق ما بين قدميه، وإنما يقف وقوفًا معتدلًا، ولا يُقال: إن هذا سنة، وإنما يقف وقوفًا معتدلًا في هذا.

بعض العلماء أيضًا كصاحب منار السبيل قال أيضًا: السنة المراوحة بين القدمين، وبنى ذلك على أثر عن ابن مسعود ، لكن هذا الأثر ضعيف لا يصح؛ ولهذا فالقول بالمراوحة بين القدمين يعني: يعتمد تارة على رجله اليمنى، وتارة على رجله اليسرى أيضًا لا يصح القول بأنه سنة.

قبض ركبتيه بيديه مفرجتي الأصابع في ركوعه

قال:

وقبض ركبتيه بيديه مفرجتي الأصابع في ركوعه.

السنة أنه عند الركوع تكون يداه مفرجتي الأصابع، وهذا بخلاف السجود، فتكون مضمومة الأصابع، وأيضًا السنة في الركوع أن يضع كفيه على ركبتيه كالقابض عليهما، وهذا هو الذي قد استقرت عليه السنة، وكانت السنة قبل ذلك التطبيق، يعني: أن يضع المصلي بطن كفه على بطن كفه الأخرى ويضعهما بين ركبتيه أو فخذيه، وقد نُسخ هذا كما جاء ذلك في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص  [45].

تسوية الظهر في الركوع

قال:

ومد ظهره فيه، وجعله رأسه حياله.

يعني: السنة أن يكون المصلي مستويًا حال الركوع، ويدل لذلك حديث عائشة رضي الله عنها: “أن النبي كان إذا ركع لم يشخِص رأسه ولم يصوبه، ولكن بين ذلك” [46]، رواه مسلم.

وفي حديث أبي حميد الساعدي: “أن النبي كان إذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره” [47]، رواه البخاري.

وكما قال المؤلف يجعل رأسه حيال ظهره فلا يرفعه ولا يخفضه، جاء في ذلك حديث وابصة بن معبد قال: “رأيت النبي يصلي وكان إذا ركع سوى ظهره حتى لو صب عليه ماء لاستقر» [48]، وهذا يدل على كمال التسوية، فيكون الظهر والرأس سواء، ويكون الظهر ممدودًا مستويًا، وإن كان الحديث الأخير حديث وابصة فيه ضعف من جهة الإسناد، أخرجه ابن ماجه والطبراني، لكنه ضعيف، لكن تغني عنه الأحاديث الأخرى.

فإذًا: السنة أن يكون مستويًا في الركوع، يعني: يكون رأسه حيال ظهره، ويكون مستويًا، فلا يشخِص رأسه ولا يصوبه، ولا يحني ظهره ولا يرفعه، وإنما يكون مستويًا، وكما جاء في حديث وابصة: “بحيث لو صب عليه ماء لاستقر”.

البداءة في سجوده بوضع ركبتيه ثم يديه

قال:

والبداءة في سجوده بوضع ركبتيه ثم يديه.

وهذه المسألة تكلمنا عنها في الدرس السابق، وذكرنا أن فيها خلافًا بين العلماء: هل يبدأ بالركبتين قبل اليدين أو اليدين قبل الركبتين؟ ونقلنا عن ابن القيم رحمه الله أنه رجَّح القول بأنه يقدم ركبتيه قبل يديه، وذكر لذلك عشرة أوجه في كتابه زاد المعاد.

تمكين أعضاء السجود من الأرض

قال:

وتمكين أعضاء السجود من الأرض.

يعني: السنة أن يمكِّن أعضاء السجود من الأرض، لكنه لو لم يمكِّنها لأجزاء ذلك، لكن السنة هو التمكين.

مباشرة الأعضاء لمحل السجود

ومباشرتها لمحل السجود سوى الركبتين.

يعني: مباشرتها من غير حائل.

ويُفهم من هذا: أنه لو لم تباشر أعضاء السجود الأرض، فإن ذلك مجزئ، وهو كذلك، إلا بالنسبة للجبهة قد أشرنا في الدرس السابق إلى أن السنة أن تباشر الأرض، إلا عند الحاجة فلا بأس أن يضع الإنسان شيئًا يقي به شدة الحر أو البرد، أو نحو ذلك، تكلمنا عن هذا في الدرس السابق بالتفصيل.

أما الركبتين فلم يقل أحد من العلماء: إن السنة كشفهما لأجل مباشرتهما للأرض؛ ولهذا المؤلف قال: “يُكره” يعني: يُكره أن يكشف ركبتيه لأجل مباشرتهما الأرض أثناء السجود.

مجافاة عضديه عن جنبيه

قال:

ومجافاة عضديه عن جنبيه.

يعني: أن السنة أن يجافي عضديه عن جنبيه؛ وذلك عند السجود، عند السجود يسن أن يجافي عضديه عن جنبيه، ويبالغ في ذلك قدر المستطاع، وقد وصف الصحابة حال النبي في ذلك بأنه عليه الصلاة والسلام كان يجافي بين عضديه، حتى لو شاءت بَهْمَةٌ [49] أن تمر بين يديه لمرت من شدة مجافاته عليه الصلاة والسلام.

وأيضًا جاء عن بعض الصحابة أنه قال: إن كنا لنرثي لحال النبي من مجافاته، يعني: عند السجود، وهكذا أيضًا مجافاة بطنه عن فخذيه وفخذيه عن ساقيه، كل هذا يُسن في السجود.

لكن إذا كان المصلي مأمومًا فلو بالغ في المجافاة فربما آذى من عن يمينه ويساره؛ ولذلك إذا كان مأمومًا فإنه يجافي بالقدر الذي لا يؤذي به جيرانه، أما إذا كان إمامًا أو منفردًا، فإنه يبالغ في المجافاة قدر المستطاع.

تفريقه بين ركبتيه

قال:

وتفريقه بين ركبتيه.

يعني: عند السجود، السنة أن يفرق بين ركبتيه فلا يضمهما.

إقامة قدميه وجعل بطون أصابعهما على الأرض مفرقة

وإقامة قدميه وجعل بطون أصابعهما على الأرض مفرقة.

وهذا كله في حال السجود، السنة أيضًا أن يلصق قدميه الأرض ويجعلهما مفرقة مستقبلًا بها القبلة.

هل الأفضل أن يلصِق قدميه أثناء السجود أو يفرِّقهما؟

المشهور من مذهب الحنابلة أن الأفضل هو التفريق.

والقول الثاني: أن السنة هو ضم القدمين أثناء السجود، وهذا هو القول الراجح، والدليل لذلك ما جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت النبي ثم وقعت يدي على قدميه ساجدًا، وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك [50].

ومعلوم أن اليد الواحدة لا تقع على القدمين إلا وهو راصٍ لهما، وقد جاء هذا مصرحًا به في رواية ابن خزيمة: «فوقعت يدي على قدميه راصًّا لهما» [51]؛ فدل ذلك على أن السنة هو رص القدمين أثناء السجود.

وضع يديه حذو منكبيه مبسوطة مضمومة الأصابع

قال:

ووضع يديه حذو منكبيه مبسوطة مضمومة الأصابع.

أي: في السجود، وهذا كما ذكرنا خلاف الركوع، فإن الأصابع في الركوع تكون مفرجة، أما في السجود فتكون مضمومة الأصابع.

رفع يديه أولًا في قيامه إلى الركعة

ورفع يديه أولًا في قيامه إلى الركعة.

يعني: عندما ينهض من السجود فيرفع يديه أولًا، وهكذا أيضًا عند قيامه إلى الركعة يعني: إلى الركعة التالية يرفع يديه أولًا.

قيامه على صدور قدميه

وقيامه على صدور قدميه.

يعني: عندما يقوم للركعة التالية.

اعتماده على ركبتيه بيديه

واعتماده على ركبتيه بيديه.

يعني: المؤلف يرى أن المصلي إذا أراد أن ينهض للركعة التالية فإن السنة أن يقوم على صدور قدميه، ويعتمد على ركبتيه، وقد روي في ذلك حديث عن النبي ، وقد جاء في ذلك حديث رواه سعيد بن منصور عن أبي هريرة : “أن النبي كان ينهض على صدور قدميه” [52] قال الحافظ ابن حجر: رواه سعيد بن منصور بسند ضعيف.

وأيضًا جاء في حديث وائل بن حجر قال: “رأيت النبي إذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه” [53]؛ وهذا قد رواه أصحاب السُّنن، وإسناده ضعيفٌ أيضًا.

وقد بوب البخاري في صحيحه لهذه المسألة فقال: “باب كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة”، ثم ساق بسنده عن مالك بن الحويرث في صفة صلاة النبي قال: “وإذا رفع رأسه عن السجدة الثانية جلس، واعتمد على الأرض ثم قام” [54].

وبالنظر لما ورد في هذه المسألة من الأحاديث نجد أن ما ورد في الاعتماد على الركبتين، وفي النهوض على صدور القدمين كله ضعيف لا يصح، حديث وائل بن حجر ضعيف، وحديث أبي هريرة ضعيف أيضًا.

وأما ما ورد في الاعتماد باليدين على الأرض عند النهوض، فهو في صحيح البخاري، وبهذا يتبين أن القول الراجح -والله أعلم- في هذه المسألة هو أن المصلي عند النهوض للركعة التالية عمومًا هو الاعتماد بيديه على الأرض، وهذا هو مذهب مالك والشافعي رحمه الله.

قال البيهقي: وروينا عن ابن عمر أنه كان يعتمد على يديه إذا نهض، وكذا يفعله الحسن وغير واحد من التابعين.

وبهذا التحقيق يتبين -والله أعلم- أن القول الراجح أنه عندما ينهض للركعة التالية أن يعتمد بيديه على الأرض، أما القول بأنه يعتمد على ركبتيه، أو على فخذيه، وينهض على صدور قدميه، فهذا قول مرجوح؛ لأن أصحاب هذا القول اعتمدوا على أحاديث، لكنها لا تصح من جهة الإسناد.

الافتراش في الجلوس بين السجدتين وفي التشهد الأول

قال:

والافتراش في الجلوس بين السجدتين.

يعني: من السنن في الصلاة: الافتراش في الجلوس بين السجدتين، وذلك أنه في الجلوس بين السجدتين المشروع للمصلي هو الافتراش، وكذا أيضًا في التشهد الأول؛ ولذلك قال المؤلف:

وفي التشهد الأول.

يعني: أنه يفترش. كيف يفترش ما صفة الافتراش؟

أن يجعل رجله اليسرى تحت مقعدته كأنها فراش له، ويخرِج رجله اليمنى من الجانب الأيمن يعني الصفة المشهورة يخرِج رجله اليمنى من الجانب الأيمن ناصبًا لها، ويجعل رجله اليسرى تحت مقعدته كأنه مفترش لها كأنها فراش له هذا في التشهد الأول، وفي الجلوس بين السجدتين.

التورك في التشهد الثاني

والتورك في الثاني.

يعني: التورك في التشهد الثاني، والتورك قد وردت به السنة في الصلاة في التشهد الثاني من الصلاة الثلاثية والرباعية، وموضعه محل خلاف بين العلماء، لكن الأرجح في هذا -والله أعلم- هو أنه إنما يشرع في التشهد الأخير من الصلاة الثلاثية والرباعية.

التورك أيضًا ورد على عدة صفات، من أشهر الصفات في هذا: أن يدخل رجله اليسرى تحت ساقه اليمنى، ويلصق إليتيه بالأرض الصفة المشهورة الصفة المشهورة هذه هي أشهر الصفات، وتكون رجله اليمنى ناصبًا لها.

إذن يدخل رجله اليسرى تحت ساقه اليمنى، ويلصِق مقعدته بالأرض، وينصب رجله اليمنى هذه الصفة المشهورة.

هناك صفة ثانية جاءت في صحيح مسلم: أن يلصِق مقعدته بالأرض لكن يجعل رجله اليسرى بين فخذه وساقه، وهذه ربما تكون فيها صعوبة في تطبيقها، وسمعت شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله يقول: لعل الرواية في هذه الصفة شاذة؛ لأن في تطبيقها صعوبة، ولكن يظهر أنها محفوظة، وربما تكون ليست صعبة على بعض الناس خاصة من كان خفيف اللحم ربما يكون تطبيق هذه الصفة بالنسبة له سهلًا، أما الحكم عليها بالشذوذ فمحل نظر، هي قد جاءت في صحيح مسلم.

الصفة الثالثة هي كالصفة الأولى، لكن لا ينصب رجله اليمنى، وإنما يفرش رجله اليمنى، يعني: يخرِج رجله اليسرى تحت ساقه اليمنى، ويلصِق مقعدته بالأرض، ويفرش رجله اليمنى، فهذه ثلاث صفات قد وردت في التورك، والسنة أن يأتي بهذه الصفات كلها، يأتي بهذه تارة وبهذه تارة، كما قلنا في السنن الأخرى

وضع اليدين على الفخذين بين السجدتين وفي التشهد

قال:

ووضع اليدين على الفخذين مبسوطتين مضمومتي الأصابع بين السجدتين، وكذا في التشهد، إلا أنه يقبض من اليمنى.. إلى آخره.

حالة الأصابع أولًا: في الجلسة بين السجدتين.

ثانيًا: في التشهد الأول وفي التشهد الأخير.

أما في الجلسة بين السجدتين: فقد روي في ذلك حديث عن النبي ، وهذا الحديث اختُلف فيه، ورجاله ثقات، لكن من أهل العلم من قال: إنه حديث ضعيف، هذا الحديث هو حديث وائل بن حجر : “أن النبي كان يشير بأصبعه في الجلسة بين السجدتين” [55]، لكن هذا الحديث كثير من المحدثين قالوا: إنه حديث ضعيف لا يصح عن النبي ، وحكموا بأن الرواية وإن كان ظاهرها الصحة إلا أنها شاذة من جهة الإسناد، واختار هذا جمع من المحققين من أهل العلم، وكان شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله أيضًا يضعف هذه الرواية، ويقول: إنها رواية شاذة، وأن المحفوظ أن الإشارة إنما تكون في التشهد، وأما بالنسبة للجلسة بين السجدتين فالحديث المروي في ذلك حديث شاذ؛ لأن أكثر الرواة إنما رووه في التشهد الأخير.

من باب الفائدة: الحديث المروي عن وائل بن حجر، رواه عبدالرزاق في المصنف عن الثوري، ورواه عنه أحمد في مسنده والطبراني في المعجم الكبير أن النبي أشار بسبابته في الجلسة بين السجدتين، ولكن المحفوظ عند كثير من المحدثين: أن الإشارة بالسبابة إنما تكون في الجلوس للتشهد، وقد صرح بذلك ابن عيينة عند النسائي، وشعبة عند ابن خزيمة، وأحمد، وأبو الأحوص عند الطحاوي، والطبراني، وزهير بن معاوية وموسى بن أبي كثير، وأبو عوانة ثلاثتهم عند الطبراني، فهؤلاء الثقات كلهم رووا حديث وائل بن حجر وصرحوا بأن الإشارة بالسبابة في التشهد الأخير، وحينئذٍ تكون مخالفة رواية عبدالرزاق عن الثوري في أن الإشارة بالسبابة تكون أيضًا في الجلسة بين السجدتين أنها رواية شاذة.

فأكثر الرواة إذًا إنما رووها في التشهد الأخير الرواة الثقات الأثبات، إنما رووها في التشهد الأخير، وإنما رواها أحد الثقات في الجلسة بين السجدتين، ومعلوم أن مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه أن هذا يعتبر شذوذًا.

يعني: هذا فقط أحببت أن أشير إلى هذه المسألة محل إشكال عند بعض الأخوة فعند التحقيق فإن هذه رواية شاذة.

الإشارة بالإصبع عند الإتيان بالتشهد في الصلاة

صفة الأصابع: الأصابع وردت بعدة صفات:

الصفة الأولى: ما أشار إليه المؤلف من أنه يقبض الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام مع الوسطى، ويشير بالسبابة، الخنصر هو هذا الإصبع الصغير والبنصر هو المجاور له، يحلق بالإبهام مع الوسطى، يعني: يجعلها على شكل حلقة هكذا هذه الصفة الأولى ويشير بالسبابة، هذه هي الصفة المشهورة والتي وردت في حديث وائل بن حجر في صفة صلاة النبي : “وجعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ثم قبض ثنتين من أصابعه، وحلق حلقة، ثم رفع أصبعه فرأيته يحركها يدعو بها” [56].

الصفة الثانية: أن يقبض جميع أصابعه إلا السبابة يشير بها، وهذا قد جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عمر: “أن النبي كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى” [57]، فهاتان صفتان، والسنة أن يأتي بهذه تارة، وبهذه تارة أخرى.

السبابة كيف يحرك؟

اختلفت في هذا الروايات، جاء في حديث عبدالله بن الزبير في صحيح مسلم: “وأشار بأصبعه السبابة” [58]، وفي حديث وائل بن حجر: “ورفع أصبعه فرأيته يحركها يدعو بها” [59]، أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد بسند صحيح. فدلت هذه الروايات على الإشارة بالسبابة وعلى تحريكها عند الدعاء، لأن قوله: “يحركها يدعو بها” دليل على تحريكها عند الدعاء.

ولهذا فالأقرب -والله أعلم- أنه يشير بالسبابة طيلة التشهد، وإذا ذكر الله تعالى أو دعا حركها قليلًا، فإذا قال: التحيات لله؛ حركها، إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ حركها، إذا قال: اللهم صل على محمد؛ حرَّكها، وهكذا، كلما ذكر الله أو دعا حركها، وتكون مرفوعة من أول التشهد إلى آخره، وهذا هو اختيار شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله أن السنة أن يرفع أصبعه من أول التشهد إلى آخره، لكنه يحركها عند الدعاء، وعند ذكر الله تعالى،

التفاته يمينًا وشمالًا في تسليمه

قال:

والتفاته يمينًا وشمالًا في تسليمه.

يعني: لو قال: السلام عليكم ورحمة الله من غير أن يلتفت فهذا مجزئ، لكن السنة أن يلتفت مع السلام، فعدَّ هذا من السنن.

نية الخروج من الصلاة

ونيته به الخروج من الصلاة.

لو لم ينو به الخروج يقولون: أيضًا لا تبطل الصلاة، وهذا في الحقيقة تحصيل حاصل، فإن الإنسان إذا سلم فلا بد أن ينوي الخروج، النية كما قال ابن تيمية: تتبع العلم، هل يعقل أن إنسان يقول: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، ولا ينوي الخروج من الصلاة؟ فالحقيقة أن هذا أشبه بتحصيل الحاصل.

تفضيل الشمال على اليمين في الالتفات

قال:

وتفضيل الشمال على اليمين في الالتفات.

يعني: أنه إذا سلَّم عن شماله يلتفت أكثر؛ وذلك لما جاء في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: “كان رسول الله يسلم عن يمينه، وعن يساره فأرى بياض خده” [60].

وقال بعض أهل العلم: إن السنة أن يلتفت عن يمينه وعن يساره التفاتًا متساويًا، فقد جاء في حديث ابن مسعود  قال: كان رسول الله يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، حتى يُرى بياض خده الأيمن، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، حتى يُرى بياض خده الأيسر [61] أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وأحمد.

وهذا هو الأقرب -والله أعلم- أن يكون السلام متساويًا؛ لأن حديث سعد ليس بصريح؛ لأنه قال: “يسلِّم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده” فليس فيه التصريح بأنه يزيد عن شماله أكثر، وأيضًا حديث ابن مسعود صريح في هذا، قال: “يسلم عن يمينه حتى يرى بياض خده، وعن يساره حتى يُرى بياض خده”.

فالأقرب -والله أعلم- أنه يجعل الالتفات متساويًا، والقول بأنه يلتفت عن يساره أكثر ليس عليه دليل ظاهر.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 631.
^2 رواه أبو داود: 857، وابن ماجه: 460.
^3, ^4, ^11, ^16, ^31, ^37, ^59 سبق تخريجه.
^5 رواه البخاري: 732، ومسلم: 411.
^6 رواه البخاري: 734، ومسلم: 392.
^7 رواه البخاري: 795.
^8 رواه البخاري: 722.
^9 رواه البخاري: 796، ومسلم: 409.
^10 رواه أبو داود: 869، وأحمد: 17414، والحاكم: 818، وابن خزيمة: 670.
^12 رواه أبو داود: 888.
^13 رواه البخاري: 817، ومسلم: 484.
^14 رواه مسلم: 479.
^15 رواه مسلم: 487.
^17 رواه البخاري: 829، ومسلم: 570.
^18 يعني: تُتخذ لغزًا.
^19 رواه أبو داود: 776، والترمذي: 243، وابن ماجه: 804.
^20 رواه البخاري: 744، ومسلم: 598.
^21 رواه مسلم: 770.
^22 رواه مسلم: 771.
^23 رواه مسلم: 599.
^24 رواه مسلم: 2203.
^25 رواه مسلم: 395.
^26 رواه البخاري: 780، ومسلم: 410.
^27 رواه مسلم: 455.
^28 رواه مسلم: 727.
^29 بنحوه رواه البخاري: 6106، ومسلم: 465.
^30 رواه مسلم: 471.
^32 رواه مسلم: 477.
^33 رواه البخاري: 6357، ومسلم: 406.
^34 رواه ابن أبي شيبة في “مصنفه”: 3025.
^35 رواه البخاري: 835.
^36 رواه مسلم: 588.
^38 رواه البخاري: 6382.
^39 رواه أبو داود: 61، والترمذي: 3، وابن ماجه: 275، وأحمد: 1006.
^40 رواه النسائي: 887.
^41 رواه البخاري: 740.
^42 رواه أبو داود: 726، والنسائي: 879، وابن ماجه: 867، وأحمد: 18870.
^43 رواه أبو داود: 756، والبيهقي في “السنن الكبرى”: 2341، والدارقطني: 1102.
^44 رواه ابن خزيمة: 479.
^45 رواه مسلم: 534.
^46 رواه مسلم: 498.
^47 رواه البخاري: 828.
^48 رواه ابن ماجه: 872، والطبراني في “المعجم الكبير”: 400.
^49 البهمة: الصغار من ولد الضأن.
^50 رواه مسلم: 486.
^51 بنحوه رواه ابن خزيمة: 654.
^52 رواه الترمذي: 288.
^53 رواه أبو داود: 838، والترمذي: 268، والنسائي: 1089، وابن ماجه: 882.
^54 رواه البخاري: 824.
^55 رواه الطبراني في “المعجم الكبير”: 89.
^56 رواه أبو داود: 957، والنسائي: 889، وابن ماجه: 912، وأحمد: 18870.
^57 رواه مسلم: 580.
^58 رواه مسلم: 579.
^60 رواه مسلم: 582.
^61 رواه أبو داود: 996، والترمذي: 295، وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي: 1325، وابن ماجه: 914، وأحمد: 3660.