الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب دليل الطالب لنيل المطالب/(2) كتاب الطهارة- من قوله: “وهي رفع الحدث..”
|categories

(2) كتاب الطهارة- من قوله: “وهي رفع الحدث..”

مشاهدة من الموقع

كتاب الطهارة

قال المؤلف رحمه الله:

كتاب الطهارة

“كتاب” خبرٌ مبتدأه محذوفٌ، والتقدير: هذا كتاب، وقد يُعبر عن الكتاب بالباب، وبالفصل، وقد يُجمع بين الكتاب والباب والفصل، فيُقدم الكتاب، ثم الباب، ثم الفصل، وهذه اصطلاحاتٌ عند العلماء.

وبدأ المؤلف بالطهارة لأنها مفتاح الصلاة، والصلاة هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ ولأن الطهارة تخليةٌ من الأذى، والمناسب أن يبدأ بالتخلية قبل التحلية كما يُقال.

تعريف الطهارة

قال: “كتاب الطهارة”.

الطهارة لغةً: النظافة والنزاهة عن الأقذار، ومنه قول الله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4].

ومعناها اصطلاحًا: عرَّفها المؤلف رحمه الله فقال:

وهي: رفع الحدث، وزوال الخَبَث.

قوله: “وهي: رفع الحدث” لو أن المؤلف قال: ارتفاع الحدث لكان أنسب؛ لأن ارتفاع تفسيرٌ للطهارة، أما الرفع فهو تفسيرٌ للتطهير، فالرفع تفسيرٌ لفعل الفاعل: التطهير؛ ولهذا صاحب “زاد المُستقنع” عرَّفها بأنها: ارتفاع الحدث، والتعبير بارتفاع الحدث أحسن من التعبير برفع الحدث.

تعريف الحدث

وما الحدث؟

الحدث: وصفٌ معنويٌّ يقوم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها.

فهو وصفٌ معنويٌّ، وليس حسيًّا، يعني: الحدث ليس كالنجاسة شيءٍ حسيٍّ يُرى، لكنه شيءٌ معنويٌّ يقوم بالإنسان يمنع من الصلاة ونحوها.

فعندما نقول: إن فلانًا مُحْدِثٌ، يعني: هذا الحدث شيءٌ معنويٌّ يمتنع بسببه من الصلاة ونحوها مما يُشترط له الطهارة.

بعضهم يُضيف بعد قوله: “رفع الحدث”، أو ارتفاع الحدث يُضيف: “وما في معناه”؛ لأجل إدخال الأشياء المُستحبة: كغُسل الجمعة، ونحو ذلك، فإنها لا يُقال: إن فيها رفعًا للحدث، وهي طهارةٌ؛ ولهذا صاحب “الزاد” قال: ارتفاع الحدث وما في معناه.

قال: “وزوال الخَبَث” هنا قال: زوال، ولم يقل: إزالة؛ وذلك حتى يشمل ما زال بنفسه، وما زال بمُزيلٍ، وكل ذلك يُسمى: طهارةً.

وقوله: “والخَبَث” يعني: النجاسة.

تعريف النجاسة

حدُّ النجاسة -يعني: تعريف النجاسة-: هي كل عينٍ يحرم تناولها لا لضررها، ولا لاستقذارها، ولا لحُرمتها.

وهذا أحسن ما قيل في حدِّها.

فقولنا: “لا لضررها” احترازًا من السم، فإنه يحرم تناوله لضرره.

وقولنا: “ولا لاستقذارها” احترازًا مما يُستقذر: كالمُخاط ونحوه.

وقولنا: “ولا لحُرمتها” احترازًا من الصيد في الحرم ونحوه.

أقسام الماء

لما كانت الطهارة تحتاج إلى شيءٍ يُتطهر به، ويرفع الحدث، ويزول به الخبث، وهو الماء؛ بدأ المؤلف به فقال:

وأقسام الماء ثلاثةٌ:

قسم المؤلف الماء إلى ثلاثة أقسامٍ:

طهورٌ، وطاهرٌ، ونجسٌ.

أقوال الفقهاء في أقسام الماء

هذه المسألة نريد أن نقف عندها قبل أن ندخل في التفاصيل التي ذكرها المؤلف.

فذهب جمهور الفقهاء إلى أن الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسامٍ: طهور، وطاهر، ونجس.

والقول الثاني في المسألة: أن الماء ينقسم إلى قسمين: طهور، ونجس، وأنه لا وجود لقسمٍ طاهرٍ غير مُطهرٍ.

القول الأول ذهب إليه جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية، وهي الرواية المشهورة عند الحنابلة، وهو تقسيم الماء إلى ثلاثة أقسامٍ.

أما القول الثاني -وهو تقسيم الماء إلى قسمين: طاهر ونجس- فهذا هو مذهب الحنفية، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد، قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية: “إن هذه الرواية هي التي نصَّ عليها الإمام أحمد في أكثر أجوبته”.

أما الجمهور الذين قسَّموا الماء إلى طهورٍ وطاهرٍ ونجسٍ، فقالوا: الطهور هو: الطاهر في نفسه، المُطهر لغيره، والطاهر هو: الطاهر في نفسه، غير المُطهر لغيره، والنَّجس ما عدا ذلك، وهو: ما تغيرتْ أحد أوصافه بنجاسةٍ.

وسيأتي بيانٌ وتفصيلٌ لهذا القول في كلام المؤلف رحمه الله؛ لأنه مشى بناءً على هذا القول.

وأما أصحاب القول الثاني الذين قالوا: إن الماء ينقسم إلى قسمين: طهور ونجس، فقالوا: إن النصوص من الكتاب والسنة إنما وردتْ في ذكر هذين القسمين، وأنه لا وجود في كتاب الله ولا في سنة رسوله لقسمٍ ثالثٍ يكون طاهرًا غير مُطهرٍ، وأن هذا القسم الطاهر غير المُطهر إن كان هذا الماء الطاهر الذي اختلط بشيءٍ طاهرٍ إن كان لم يغلب على اسمه، ويُسمى: ماءً، فهو -في الحقيقة- طهورٌ؛ لأنه يُسمى: ماءً، ولم يتغير بنجاسةٍ.

أما إن تغيرتْ أجزاؤه بشيءٍ طاهرٍ، فأصبح لا يُسمى: ماءً، وإنما يُسمى بشيءٍ آخر، فيُسمى: لبنًا، أو يُسمى: مَرَقًا، أو نحو ذلك، فإن هذا ليس بماءٍ أصلًا، ولا يدخل معنا في تقسيم الماء.

ولهذا فهذا القول هو الذي عليه أكثر المُحققين من أهل العلم، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، وهو القول الأقرب للأصول والقواعد الشرعية، وهو: أن الماء إنما ينقسم إلى قسمين: طهورٍ ونجسٍ.

ويُقال جوابًا عن قول الجمهور: أين الدليل الدال على وجود قسمٍ ثالثٍ: طاهرٍ غير مُطهرٍ؟

ليس هناك دليلٌ في الحقيقة، فالماء إذن إنما ينقسم إلى قسمين: طهورٍ ونجسٍ، ولا وجود لقسمٍ طاهرٍ غير مُطهرٍ.

نعود بعد ذلك لعبارة المؤلف رحمه الله: المؤلف مشى على قول الجمهور، وهو تقسيم الماء إلى ثلاثة أقسامٍ.

على أننا لو قلنا: إن الصحيح مذهب الحنابلة وهو تقسيم الماء إلى: طهورٍ ونجسٍ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية لا يُصبح القول الأول قول الجمهور، لكن الذي ينصّ عليه فقهاء الحنابلة هو: أن الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسامٍ، فعامة كتب الحنابلة على هذا، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن الإمام أحمد في آخر أجوبته نصَّ على أن الماء ينقسم إلى قسمين: طهورٍ ونجسٍ.

القسم الأول: الطهور

المؤلف رحمه الله مشى على القول بتقسيم الماء إلى ثلاثة أقسامٍ، وبدأ بقسم الطهور فقال:

أحدها: طهورٌ، وهو الباقي على خِلْقَته.

يعني: على خِلْقَته التي خلقه الله تعالى عليها، فيشمل ذلك مياه الأنهار والعيون والأمطار، ونحوها.

يرفع الحدث، ويُزيل الخَبَث.

يعني: هذا القسم يرفع الحدث، ويُزيل الخبث.

والمقصود بالخبث: النجاسة.

فأفادنا المؤلف أن الماء الطهور يُفيد في رفع الحدث، ويُفيد كذلك في إزالة النجاسة.

أنواع الماء الطهور

ثم قسَّم المؤلف الماء الطهور إلى أربعة أنواعٍ:

النوع الأول: ماءٌ يحرم استعماله

ماءٌ يحرم استعماله، ولا يرفع الحدث ويُزيل الخبث، وهو ما ليس مُباحًا.

كالماء المغصوب، هو ماءٌ طهورٌ لكنه مغصوبٌ، فهذا يقول: إنه لا يرفع الحدث، ولا يُزِيل الخبث.

وهذه المسألة أيضًا محل خلافٍ بين أهل العلم، فمن العلماء مَن قال: بأن التطهر بهذا الماء يرتفع به الحدث، ويزول به الخبث، ويأثم الإنسان بِغَصْبِه، لكن هو كالصلاة في الدار المغصوبة أيضًا، فتصح الصلاة مع الإثم، وهذا هو الأقرب في مثل هذه المسائل؛ لأن الجهة مُنفكةٌ، يعني: كون هذا الماء مغصوبًا، أو مسروقًا، أو نحو ذلك، لا يُؤثر على القول بصحة الوضوء وصحة الصلاة.

النوع الثاني: ماءٌ يرفع حدث الأنثى لا الرجل

قال:

وماءٌ يرفع حدث الأنثى لا الرجل البالغ والخُنْثَى، وهو ما خلتْ به المرأة المُكلفة لطهارةٍ كاملةٍ عن حدثٍ.

هذا القسم اعتبره المؤلف قسمًا من أقسام الطهور، لكن ليس لجميع الناس، وإنما للأنثى فقط، وأما الرجل البالغ والخُنْثَى فيقول: إن هذا الماء ليس طهورًا، وإنما يعتبرونه طاهرًا، يعتبرونه من قسم الطاهر غير الطهور.

والضابط عندهم فيه هو: ما خلتْ به المرأة المُكلفة لطهارةٍ كاملةٍ عن حدثٍ.

“خلتْ به المرأة” يعني: انفردتْ به، كانت -مثلًا- في دورة المياه، وانفردتْ وخلتْ بهذا الماء، فلا يكون هذا الماء الذي خلتْ به المرأة طهورًا بالنسبة للرجل، لكنه بالنسبة للمرأة يرفع الحدث.

واستدلوا لذلك بحديث الحكم بن عمرو الغفاري : أن النبي نهى أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل [1]، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، وقال الترمذي: إنه حديثٌ حسنٌ، وصححه ابن حجر في “بلوغ المرام”، فالحديث من جهة الإسناد صحيحٌ.

هذا الحديث من جهة الإسناد حديثٌ صحيحٌ، ولكن الغريب أنهم قد استدلوا به على أن الرجل لا يتوضأ بفضل المرأة، ولم يستدلوا به على أن المرأة لا تتوضأ بفضل الرجل.

لاحظوا هنا كلام المؤلف: أنه يرفع حدث الأنثى، ولا يرفع حدث الرجل، فإذا كان دليلهم هذا الحديث، فهذا الحديث يشمل الرجل والمرأة، فما وجه التفريق بينهما؟!

وهذا مما يُضعف هذا القول؛ ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن هذا الماء الذي خلتْ به المرأة ماءٌ طهورٌ، وهذا القول هو الذي عليه أكثر العلماء، بل إن بعض أهل العلم حكاه إجماعًا: كالنووي رحمه الله، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد.

وحكاية الإجماع محل نظرٍ؛ لأن الرواية المشهورة عند الحنابلة أنه ليس بطهورٍ، وهذا يدل على أن حكاية الإجماع التي يذكرها أحيانًا النووي غير دقيقةٍ، لكن حكاية الإجماع تدل على أن هذا القول هو رأي الأكثر على الأقل، وأن هذا القول هو روايةٌ عن الإمام أحمد اختارها ابن عقيل الحنبلي، واختارها كذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمة الله تعالى على الجميع.

ويدل لذلك ما جاء في “صحيح مسلم” من حديث ابن عباسٍ: أن النبي كان يغتسل بفضل ميمونة [2].

وفي روايةٍ عند أحمد وابن ماجه عن ميمونة: أنه توضأ بفضل غُسلها من الجنابة [3].

وهذا القول الثاني هو القول الراجح، وهو: أن هذا الماء الذي خلتْ به المرأة طهورٌ، يرتفع به الحدث، ويزول به الخَبَث.

وتبقى الإجابة عن الحديث الذي استدلَّ به أصحاب القول الأول، وهو حديث الحكم بن عمرو الغفاري في النهي عن اغتسال الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل.

قلنا: إن الحديث من جهة الإسناد صحيحٌ، لكن كيف نُجيب عن الاستدلال به؟

نقول: إنه يُحمل على كراهة التَّنزيه، ولعل ذلك على سبيل الأولوية، وأن الإنسان ينبغي له ألا يغتسل بفضل غيره، سواءٌ كان رجلًا أو امرأةً، لا يغتسل بفضل الآخر على سبيل الأولوية، ويكون النهي محمولًا على كراهة التَّنزيه، لكنه لا يدل على أن هذا الماء قد سُلب الطهورية، وليس فيه دلالةٌ لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ على أن هذا الماء قد سُلب الطهورية، ومما يدل لذلك أنه لم يقل أحدٌ من أهل العلم بأن الرجل إذا خلا بالماء يكون غير طهورٍ، فبالاتفاق أنه ماءٌ طهورٌ، مع أنه قد ورد في الحديث، فكذلك أيضًا الماء الذي خلتْ به المرأة.

والحاصل: أن الماء الذي خلتْ به المرأة هو ماءٌ طهورٌ في أظهر قولي العلماء.

النوع الثالث: ماءٌ يُكره استعماله مع عدم الاحتياج إليه

القسم الثالث من أقسام الماء الطهور قال:

وماءٌ يُكره استعماله مع عدم الاحتياج إليه.

يعني: هو طهورٌ، لكنه يُكره استعماله عند عدم الحاجة، وتزول الكراهة عند الحاجة، قال:

كماء بئرٍ بمقبرةٍ.

“كماء بئرٍ بمقبرةٍ”؛ لأنه ربما يُنقل إلى ذلك الماء شيءٌ من النجاسة التي تكون من أجساد الموتى، وجثث الموتى، ونحو ذلك.

وبعض أهل العلم ذهب إلى أنه لا يُكره التَّطهر بهذا الماء؛ إذ إنه لا دليل يدل لذلك، وهذا الماء الأصل فيه الطهارة، والقول بأن احتمال وصول النجاسة إليه قولٌ بعيدٌ.

قال:

وما اشتدَّ حرُّه أو بردُه.

قالوا: لأنه يمنع كمال الطهارة، ما اشتدَّ حرُّه وبردُه يمنع كمال الطهارة.

ولكن القول بالكراهة محل نظرٍ؛ إذ إن الكراهة حكمٌ شرعيٌّ يحتاج إلى دليلٍ، فإذا غسل الإنسان جميع أعضاء الوضوء بهذا الماء الذي اشتدَّ حرُّه، واشتدَّ برده، ولم يُخِلَّ بشيءٍ من ذلك فلا وجهَ للقول بالكراهة.

قال:

أو سخن بنجاسةٍ.

أي: أن الماء سخن بنجاسةٍ فيُكره استعماله، ولكن هذا محل نظرٍ؛ فإذا سخن بنجاسةٍ ولم يتغير فإنه يبقى ماءً طهورًا، ولا يُكره استعماله، أما إذا تغير فحينئذٍ يكون نجسًا، إذا تغير بنجاسةٍ يكون نجسًا.

لكن بعض أهل العلم فصَّل في المسألة فقال: إنه إذا كان هذا المسخن بنجسٍ مُحكم الغطاء فلا يُكره استعماله، وإذا لم يكن مُحكم الغطاء، أو لم يكن مُغطًّى فإنه يحتمل أن ينفذ إليه شيءٌ من أجزاء النجاسة؛ ولذلك فإنه يُكره استعماله.

قال:

أو سخن بمغصوبٍ.

للعلة التي ذكروها في المسخن بنجاسةٍ، قالوا: لأنه لا يسلم من صعود أجزاء من ذلك الشيء المغصوب.

وكما ذكرنا الأقرب عدم الكراهة في هذا كله إلا إذا تغير بنجاسةٍ.

أو استُعمل في طهارةٍ لم تجب.

يعني: استُعمل هذا الماء في طهارةٍ مُستحبةٍ: كغسل الجمعة -مثلًا-، فعندهم أنه يُكره استعماله في هذه الحال.

والصواب عدم الكراهة؛ لأن الكراهة حكمٌ شرعيٌّ يحتاج إلى دليلٍ، ولا دليل يدل على الكراهة في استعماله في هذه الحال، لكن عندهم هنا أنه إذا استُعمل في طهارةٍ مُستحبةٍ فإنه يُكره استعماله.

أما إذا استُعمل في طهارةٍ واجبةٍ فهذا يعتبرونه من قسم الطاهر غير المُطهر، وهذا سيأتي الكلام عنه، فانتبه لهذا الفرق.

فعندهم إذن إذا استُخدم في طهارةٍ مُستحبةٍ فإنه طهورٌ، لكنه يُكره فقط، وقلنا: الصواب أنه لا يُكره.

أو في غسل كافرٍ.

فيقولون: إنه يُكره خروجًا من الخلاف؛ لأن هناك من العلماء مَن قال بعدم إجزائه في هذه الحال، ولكن التعليل بالخلاف تعليلٌ عليلٌ.

والصواب: أنه لا يُكره في هذه الحال، اللهم إلا إذا كان هذا الكافر لا يتنزَّه من النجاسات، فربما يُقال بالكراهة في هذه الحال.

أو تغير بملحٍ مائيٍّ.

الملح المائي: هو الملح الذي يكون أصله الماء، فهذا إذا تغير بملحٍ مائيٍّ يقولون: إنه يبقى طهورًا، لكنه يُكره.

والقول بالكراهة أيضًا قولٌ لا دليل عليه، ليس عليه دليلٌ ظاهرٌ، ما دام أنه لم يتغير بنجاسةٍ، وإنما تغير بشيءٍ طاهرٍ، وما زال يُسمى: ماءً، فلا وجه للقول بكراهته.

قال:

أو بما لا يُمازجه.

يعني: تغير بما لا يُمازجه.

قوله: “بما لا يُمازجه” يعني: بما لا يُخالطه.

ومثَّل المؤلف لهذا فقال:

بالعود القماري.

القماري: صفةٌ للعود، وهو نسبةٌ إلى بلدةٍ يُقال لها: قمار، وهي قريةٌ في الهند يُنسب لها نوعٌ من العود، وهو يأتي من شجرٍ يُشبه شجر الخوخ.

كتغيره بالعود القماري، وقطع الكافور.

يعني: لو تغير بهذا العود، أو بقطع الكافور، وهو أيضًا نوعٌ من الطيب يكون دقيقًا ناعمًا.

فهذه القطع وهذا العود إذا وُضع في الماء فيتغير شيءٌ من الطعم والرائحة، لكنها لا تُمازجه، يعني: لا تذوب فيه، فيقولون: إنه طهورٌ، لكنه مكروهٌ؛ لأن التَّغير ليس عن ممازجةٍ، وإنما عن مجاورةٍ.

وإنما قالوا بكراهته، قالوا: لأن هناك من العلماء مَن يقول بأنه في هذه الحال يكون طاهرًا غير مُطهرٍ؛ ولهذا نقول بكراهته.

وكما قلنا: إن التعليل بالخلاف تعليلٌ عليلٌ، والصواب عدم الكراهة.

قال:

والدهن.

كذلك أيضًا لو تغير بالدهن، يعني: هذا الماء بالدهن، فيقولون: إنه طهورٌ، لكنه مكروهٌ، ولكن الصواب أنه ليس بمكروهٍ؛ لأنه لا دليل يدل على الكراهة.

إذن الصواب في هذه المسائل كلها عدم الكراهة، اللهم إلا في غسل الكافر إذا كان الكافر لا يتورع عن النجاسة، فهنا القول بالكراهة قولٌ مُتَّجهٌ.

حكم استعمال ماء زمزم في الوضوء وغيره

ثم قال المؤلف رحمه الله:

ولا يُكره ماء زمزم إلا في إزالة الخبث.

يعني: لا يُكره استعمال ماء زمزم في الوضوء، وقد ورد في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أن النبي توضأ من ماء زمزم [4]، وهو حديثٌ صحيح الإسناد، أخرجه أحمد وغيره من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فيكون حُجةً في جواز الوضوء بماء زمزم.

وأما إزالة الخبث فإنه يُكره استعمال ماء زمزم لإزالة الخبث؛ لأنه ماءٌ مُعظمٌ، وماءٌ مباركٌ، فيُكره أن يُستخدم في إزالة النجاسة.

وأما في الغسل فاختلف العلماء: هل يُكره استعمال ماء زمزم في الاغتسال أم لا؟

رُوي عن العباس بن عبدالمطلب  أنه قال: “لا أُحلُّها لمُغتسلٍ، وهي لشاربٍ حِلٌّ وبِلٌّ” [5]، وهذه العبارة منقولةٌ أيضًا عن أبيه عبدالمطلب كما ذكر ذلك ابن هشام في “السيرة”.

وقال النووي: “لم يصحّ ما ذكروه عن العباس، بل حُكي عن أبيه عبدالمطلب، ولو ثبت عن العباس لم يَجُزْ ترك النصوص به”، يعني: أن النصوص قد دلَّتْ على جواز الوضوء به، وإذا جاز الوضوء به جاز الاغتسال.

واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لهذه المسألة: أنه يجوز الاغتسال به إلا للجنابة فيُكره، إلا في الغسل من الجنابة فيُكره؛ وذلك لأن الغسل من الجنابة يجري مجرى إزالة النجاسة من بعض الوجوه؛ ولأن حدث الجنابة أغلظ.

نقل ذلك عنه ابن القيم في “بدائع الفوائد”، وهذا هو الأقرب -والله أعلم-، الأقرب أنه يُباح الاغتسال بماء زمزم، لكنه يُكره ذلك في غسل الجنابة.

مُلخص الكلام فيما يتعلق بماء زمزم:

نقول: لا بأس بالوضوء بماء زمزم من غير كراهةٍ، ويُكره استخدام ماء زمزم لإزالة الخبث، ويجوز الاغتسال بماء زمزم، لكن يُكره إذا كان ذلك الاغتسال عن جنابةٍ.

هذا هو الذي تجتمع به الأحاديث والآثار الواردة في استعمال ماء زمزم.

مَن يُعيدها مرةً أخرى: خلاصة الكلام في استعمال ماء زمزم؟

طالب: يجوز الوضوء به.

الشيخ: يجوز الوضوء به؛ لأنه ثبت أن النبي توضأ به.

الطالب: لا يجوز …..

الشيخ: ما نقول: لا يجوز، لا.

الطالب: يُكره.

الشيخ: نحن في درس فقهٍ الآن، فلا بد أن نُفرق بين المصطلحين.

نعم، يُكره، فقط كراهة.

يعني: لا يأثم، لو استُخدم في إزالة الخبث ما يأثم، لكن يُكره فقط؛ يُكره أن يكون في إزالة الخبث.

الطالب: يُكره الاغتسال به من الجنابة.

الشيخ: يُكره الاغتسال به في الجنابة، ولا يُكره فيما عدا ذلك من أنواع الاغتسال.

النوع الرابع: ماءٌ لا يُكره استعماله

قال:

وماءٌ لا يُكره استعماله.

هذا القسم الرابع من أقسام الماء الطهور، ومثَّل المؤلف بأمثلةٍ:

كماء البحر، والآبار، والعيون، والأنهار.

وذلك لأن هذه المياه هي مياهٌ باقيةٌ على خِلْقتها؛ وأيضًا لقول النبي في البحر: هو الطهور ماؤه، الحِلُّ ميتته [6]، وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، وأيضًا مالكٌ في “الموطأ”، وصححه الترمذي.

وبالمناسبة يا إخوان: الترمذي عندما يحكم على الحديث يحكم عليه بمجموع طرقه وشواهده، ولا يحكم عليه بإسناده، فأحيانًا يكون الإسناد عند الترمذي ضعيفًا، ومع ذلك يُحسنه أو يُصححه.

لكن لو تأملتَ هذا الحديث لوجدتَ أن له طرقًا أخرى يثبت بها؛ لذلك فطريقة الترمذي على طريقة المُتقدمين من المُحدثين، فهي مُعتبرةٌ.

تجد بعض الناس يعتمد على حكم بعض المعاصرين، ولا يُعير اهتمامًا بحكم المُتقدمين كالترمذي مثلًا!

نقول: هذا الحديث صححه الترمذي، وكذلك البخاري أيضًا والخطابي.

قال:

والحمام.

أي: أنه لا يُكره استعمال الماء الذي يكون في الحمام.

والمقصود بالحمام ليس كما يفهمه بعض الناس: أنه موضع قضاء الحاجة، فموضع قضاء الحاجة يُسمى بـ: الحشّ، والكنيف، والمرحاض، ويُسميه بعض الناس الآن بـ: دورة المياه، هذا هو موضع قضاء الحاجة، لكن ليس هو الحمام.

فالحمام أصله من الحميم، وهو الماء الحار؛ وذلك لأن الناس كانوا يدخلونه لأجل أن يستحموا بالماء الحار لتنظيف أجسادهم، ويكون هذا غالبًا في البلاد الباردة، ولا يكون في البلاد الحارة -قديمًا طبعًا-؛ ولهذا كان في بلاد الشام، ولم يكن بأرض الحجاز -كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله-، فبلاد الحجاز كانت بلادًا حارَّةً، فلم يكن هذا فيها، وإنما كان في بلاد الشام.

وكَرِهَ بعض العلماء دخول ذلك الحمام؛ لأنه مظنةٌ لانكشاف العورات، وأيضًا للاختلاط بين الناس وانكشاف العورات.

وبعض الحمامات ربما اختلط فيها الرجال بالنساء، وأيضًا يكون فيها شيءٌ من التكشف للعورة؛ ولذا كرهه مَن كرهه من العلماء، لكن ثبت عن بعض الصحابة أنهم دخلوا الحمامات؛ ولهذا نقول: إنه لا بأس بدخول الحمام بشرط أمن انكشاف العورة.

هذا فيما يتعلق بالحمام، والماء الموجود في الحمام ماءٌ طهورٌ لا يُكره استعماله.

قال:

والمُسخن بالشمس.

أي: أنه ماءٌ طهورٌ لا يُكره استعماله، لا يُكره استعمال الماء المُسخن بالشمس.

وقد رُوي في ذلك حديثٌ -لكنه لا يصحّ- عن النبي -لكن نُنبه عليه-: عن عائشة رضي الله عنها: أنه قال لها النبي وقد سخنتْ ماءً بالشمس: لا تفعلي، فإنه يُورث البرص [7]، ولكن هذا الحديث حديثٌ ضعيفٌ، بل قال النووي: “إنه ضعيفٌ باتفاق المُحدثين”، بل قيل: إنه حديثٌ موضوعٌ؛ ولذلك نقول: إنه لا يُكره استخدام الماء المُسخن بالشمس.

قال:

والمُتغير بطول المُكْث.

يعني: إذا تغير الماء بطول مُكْثِه، وهو ما يُسميه الفقهاء بـ: الماء الآجن، فإنه لا يُكره استعماله؛ لأنه لم يتغير بشيءٍ حادثٍ فيه، بل تغير بنفسه.

وقد جاء في “سنن” البيهقي: أن النبي توضأ بماءٍ آجنٍ [8].

وحكاه ابن المنذر إجماع مَن يحفظ عنه من أهل العلم.

قال:

أو بالريح من نحو ميتةٍ.

يعني: أنه لا يُكره.

“من نحو ميتةٍ، أو بما يشقُّ صون الماء عنه” يعني: لو كانت هناك ميتةٌ مُجاورةٌ لهذا الماء، فإنه لا يُكره استعمال هذا الماء؛ لأن التَّغير عن مُجاورةٍ، لا عن مُمازجةٍ، بل قال ابن مُفلح في “المبدع”: “بغير خلافٍ نعلمه”، وكذا قال النووي، ولكن لو كان لهذا الماء تغيرٌ بالطعم أو بالرائحة من أثر تلك الميتة فالأولى تجنبه.

قال:

أو بما يشقُّ صون الماء عنه كطحلبٍ.

فإنه لا يُكره استعماله، ويكون ماءً طهورًا، وهذا أيضًا باتفاق العلماء، فهو طهورٌ غير مكروهٍ.

وورق شجرٍ ما لم يُوضعا.

يعني: إذا كان نبت من نفسه، ولم يضعه آدميٌّ، أما إذا وضعه آدميٌّ وتغير هذا الماء بذلك الورق فعندهم أنه يُصبح من قسم الطاهر غير المُطهر، وعلى القول الراجح يكون طهورًا.

ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند القسم الثاني.

القسم الثاني: الماء الطاهر

طيب، كنا قد وصلنا إلى القسم الثاني من أقسام الماء، وذكرنا في الدرس السابق خلاف العلماء في تقسيم الماء، وأن الجمهور قسَّموا الماء إلى طهورٍ وطاهرٍ ونجسٍ، وأن القول الراجح في المسألة: أن الماء ينقسم إلى طهورٍ ونجسٍ، وأنه لا وجود لقسمٍ طاهرٍ غير مُطهرٍ، وأن هذا الذي يُسمونه: “طاهرًا غير مُطهرٍ” إن كان يُسمى “ماءً” فهو طهورٌ، وإن كان غلب عليه اسم الشيء الطهور، فلم يَعُد يُسمى “ماءً”، فهذا ليس بماءٍ.

وقلنا: إن هذا هو القول الصحيح الذي عليه عامة المُحققين من أهل العلم، لكن المؤلف جرى على ما عليه المذهب عند الحنابلة، وقسَّم الماء إلى طهورٍ وطاهرٍ ونجسٍ.

وكنا قد وصلنا إلى القسم الثاني.

قال:

الثاني: طاهرٌ يجوز استعماله في غير رفع الحدث وزوال الخبث، وهو ما تغير كثيرٌ من لونه أو طعمه أو ريحه بشيءٍ طاهرٍ.

معنى الماء الطاهر عندهم: أنه ما تغير بشيءٍ طاهرٍ، ما تغير كثيرٌ من لونه أو طعمه أو ريحه بشيءٍ طاهرٍ، يعني: كالزعفران -مثلًا- وكماء الورد، ونحو ذلك، فهذا يُسمونه: طاهرًا، فحكمه أنه يجوز استعماله، لكن في غير رفع الحدث وزوال الخبث، يعني: في غير الطهارة.

حكم التطهر بالماء الطاهر

قال:

فإن زال تغيره بنفسه عاد إلى طهوريته.

والقول الراجح: أن هذا طهورٌ ما لم يغلب اسم الطاهر عليه.

القول الراجح: أن هذا طهورٌ يجوز التطهر به، ويرفع الحدث، ويُزيل الخبث، ما لم يغلب عليه اسم الطاهر، فإن غلب عليه اسم الطاهر فلم يَعُد يُسمى: ماءً، بل أصبح يُسمى: مرقًا، أو يُسمى: قهوةً، أو يُسمى: شايًا، أو يُسمى بغير ذلك من أسماء الطاهرات، فهذا نقول: ليس بماءٍ أصلًا، ولا يتطهر إلا بالماء.

إذن الصواب هنا خلاف ما ذكره المؤلف رحمه الله.

حكم الماء المُستعمل في طهارة الحدث

ثم فرَّع المؤلف على هذا الرأي فقال:

ومن الطاهر: ما كان قليلًا، واستُعمل في رفع حدثٍ.

عندهم أنه إذا كان الماء قليلًا … وهم يُقسمون الماء إلى قليلٍ وكثيرٍ، وسيأتي -إن شاء الله- بيان خلاف العلماء في هذه المسألة، لكن عندهم إذا كان الماء قليلًا، واستُعمل هذا الماء في رفع الحدث؛ فإن هذا الماء المُستعمل طاهرٌ، وليس بطهورٍ، ليس بنجسٍ، وليس بطهورٍ، وإنما طاهرٌ.

يعني مثلًا: أتيت تتوضأ من إناءٍ، ثم بقي من هذا الوضوء ماءٌ، فهذا الماء يقولون: لا يرفع الحدث، ولا يُزيل الخبث، هذا طاهرٌ غير طهورٍ.

وقالوا: لأن هذا الماء استُعمل في طهارةٍ، فلا يُستعمل في طهارةٍ أخرى.

وقاسوا ذلك قالوا: كالعبد إذا عتق فلا يعتق مرةً أخرى. هذه وجهتهم.

والقول الثاني في المسألة: أن هذا الماء المُستعمل في طهارة الحدث طهورٌ يجوز التطهر به.

وهذا القول هو روايةٌ عن المذهب عند الحنابلة، اختارها ابن عقيل، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ وذلك لعموم حديث بئر بضاعة: إن الماء طهورٌ لا يُنجسه شيءٌ [9]، وهو حديثٌ صحيحٌ من جهة الإسناد؛ رواه أبو داود والترمذي والنسائي.

وأيضًا لما ورد أن الصحابة كانوا يتوضؤون بوضوء النبي ، بل يكادون يقتتلون عليه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يُتبرك بآثاره في حياته عليه الصلاة والسلام.

وأما ما استدلَّ به مَن قال بأنه طاهرٌ غير طهورٍ من القياس على العبد إذا عتق فقياسٌ مع الفارق؛ وذلك لأن الرقيق إذا حُرر لم يبقَ رقيقًا، بل يُصبح حرًّا، وأما الماء إذا رفع بقليله حدثًا فإنه يبقى ماءً، وحينئذٍ فهذا القياس قياسٌ ضعيفٌ.

إذن الصواب أن الماء المُستعمل في طهارةٍ ماءٌ طهورٌ، سواءٌ كان في طهارةٍ واجبةٍ، أو طهارةٍ مُستحبةٍ من باب أولى.

فما الدليل على أن الماء المُستعمل في طهارةٍ ليس بطهورٍ؟

ليس هناك دليلٌ، والقياس الذي ذكروه قياسٌ ضعيفٌ، فيكون الصواب إذن هو خلاف ما ذكره المؤلف في هذه المسألة.

حكم الماء الذي انغمستْ فيه يد القائم من النوم

قال:

أو انغمستْ فيه كل يد المسلم المُكلف النائم ليلًا نومًا ينقض الوضوء قبل غسلها ثلاثًا بنيةٍ.

يقولون: إذا انغمستْ يد القائم من النوم بهذه القيود فإن هذا الماء يُصبح طاهرًا، وليس بطهورٍ.

واستدلوا لذلك بقول النبي : إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده؟ [10]، وهذا الحديث رواه مسلمٌ، لكن قيدوا ذلك بهذه القيود: فلا بد أن يكون كل اليد، فلو انغمس بعضها يقولون: لا يكون كذلك.

وأيضًا أن تكون يد مسلمٍ، قالوا: لو انغمستْ يد كافرٍ فلا أثر لذلك.

وهذا من ضعف هذا القول؛ فإذا كانت يد المسلم تسلبه الطهورية، فيد الكافر من باب أولى.

قالوا: ولا أثر لانغماس يد غير المُكلف: كالصغير والمجنون، ولا أثر لانغماس القائم من نوم نهارٍ أو ليلٍ إذا كان نومه يسيرًا، لا ينقض الوضوء.

والصحيح في هذه المسألة: أن غمس يد القائم من نوم ليلٍ أو نهارٍ لا يسلبه الطهورية، وأنه ماءٌ طهورٌ، وهذا القول هو روايةٌ عن الإمام أحمد، واختارها المُوفق ابن قدامة في “المغني”، واختارها كذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمة الله تعالى على الجميع.

ويدل لذلك أن الأصل في الماء الطهورية؛ لعموم قول النبي : إن الماء طهورٌ لا يُنجسه شيءٌ [11]، وأما الحديث الذي استدلوا به فغاية ما فيه أن النبي إنما نهى عن غمس اليد، ولم يتعرض لبيان حكم الماء، فهل قال عليه الصلاة والسلام: إن هذا الماء يسلب الطهورية؟ أبدًا، إنما نهى عن غمس اليد للقائم من النوم: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده؟.

ثم أيضًا إن قوله: فإنه لا يدري أين باتت يده؟ دليلٌ على أن الماء لا يتغير الحكم فيه، وأن النهي عن غمس اليد هو من باب الاحتياط؛ لأنه قال: فإنه لا يدري أين باتت يده؟ كأن هذا لأجل الاحتياط، والماء مُتيقنٌ من طهوريته، فلا يرتفع هذا اليقين بمجرد الشك.

ومما يُبين ضعف هذا القول ما ذكرناه قبل قليلٍ من قولهم: لو غمس الكافر يده في الإناء لم يسلبه الطهورية، ولو غمس غير مُكلفٍ يده في الماء لم يسلبه الطهورية، مع أن العلة واحدةٌ؛ عِلة النائم المسلم هي العلة في الكافر وغير المُكلف.

ولأجل ضعف هذا القول قالوا: يستعمل هذا الماء إذا لم يجد غيره، ويتيمم احتياطًا.

فأوجبوا عليه طهارتين، وهذا مما يُبين ضعف هذا القول، فإذا كثُرت الاستثناءات على القول فهذا يدل على ضعفه.

الصواب في هذه المسألة: أن الماء الذي انغمستْ فيه يد قائمٍ من نوم ليلٍ أو نهارٍ لا يسلبه الطهورية.

حكم غسل اليد قبل غمسها في الإناء

قال:

بنيةٍ وتسميةٍ، وذلك واجبٌ.

يعني: أن غسل اليد قبل غمسها في الإناء واجبٌ، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وهو وجوب غسل اليد قبل غمسها في الإناء.

وقالوا: لأن الأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب.

والجمهور على أن ذلك مُستحبٌّ، والقول بالوجوب قولٌ قويٌّ؛ لعدم الصارف الذي يصرف الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب.

القسم الثالث: الماء النجس

ثم انتقل المؤلف إلى القسم الثالث فقال:

الثالث: نجسٌ.

يعني: القسم الثالث من أقسام الماء: الماء النجس.

حكم استعمال الماء النجس

قال:

يحرم استعماله إلا لضرورةٍ.

لأن الضرورات تُبيح المحظورات، والله تعالى يقول: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119]، وهذا عامٌّ، فالضرورة تُبيح المحظور.

قال:

ولا يرفع الحدث، ولا يُزيل الخبث.

وهو باتفاق العلماء.

أقسام الماء إذا وقعتْ فيه نجاسةٌ

المؤلف قسَّم الماء إلى قليلٍ وكثيرٍ.

قال:

وهو ما وقعتْ فيه نجاسةٌ، وهو قليلٌ، أو كان كثيرًا وتغير بها أحد أوصافه.

وهذا يقودنا إلى مسألةٍ مهمةٍ وهي: تقسيم الماء، هل ينقسم الماء إلى قليلٍ وكثيرٍ، أو أن الماء لا ينقسم إلى قليلٍ وكثيرٍ؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوالٍ، ويمكن أن تُرد إلى قولين:

  • القول الأول: أن الماء ينقسم إلى قليلٍ وكثيرٍ، وأن الكثير هو ما بلغ قُلتين فأكثر، فهذا لا ينجس إلا بتغير طعمه أو لونه أو ريحه.
    وأما القليل فهو ما كان دون القُلتين، فينجس بمجرد مُلاقاة النجاسة.
    فإذا كان الماء دون قُلتين يقولون: حتى لو وقعتْ نجاسةٌ على قدر رأس الذبابة، أو رشاش بولٍ، ما دام أنه قليلٌ فعندهم أنه نجسٌ ولو لم يتغير.
    وهذا القول هو الصحيح من مذهب الحنابلة، وهو المذهب عند المُتأخرين.
  • وهناك قولٌ آخر -قلتُ: إنه يمكن أن يُردَّ إلى هذا القول، وفيه تفصيلٌ- وهو: تقسيم الماء أيضًا إلى قليلٍ وكثيرٍ، ويقولون: إذا كان دون القُلتين فهو قليلٌ ينجس بمجرد مُلاقاة النجاسة.
    وأما إن بلغ قُلتين فأكثر، فإن كانت النجاسة بغير بول الآدمي أو عَذِرَته المائعة، فإنه لا ينجس إلا بتغير أحد أوصافه الثلاثة.
    أما إن كانت النجاسة ببول الآدمي أو عَذِرَته المائعة فينجس وإن لم يتغير، إلا أن يشقَّ نزحه ولم يتغير فطهورٌ.
    لاحظ: فيه تفصيلٌ.
    وهذا القول هو الذي مشى عليه صاحب “زاد المُستقنع”، وهو المذهب عند المُتقدمين من فقهاء الحنابلة بهذا التفصيل، يقولون: إذا كان الماء دون القلتين فهو نجسٌ مطلقًا، ينجس بمجرد مُلاقاة النجاسة، إذا كان الماء دون القلتين ينجس بمجرد مُلاقاة النجاسة، وإذا كان قُلتين فأكثر فهو طهورٌ إلا إذا كانت النجاسة ببول الآدمي أو عَذِرَته المائعة فينجس، إلا إذا كان يشقُّ نزحه ولم يتغير فطهورٌ، يعني: بهذا التفصيل وهذه الاستثناءات الكثيرة.
  • القول الثالث: أن الماء لا ينجس إلا بالتغير مطلقًا.
    القول الثالث: عدم تقسيم الماء إلى قليلٍ وكثيرٍ، بل الماء قسمٌ واحدٌ، والأصل أنه طهورٌ، ولا ينجس إلا بتغير أحد أوصافه الثلاثة: طعمه أو لونه أو ريحه.
    إذن القول الثالث: عدم تقسيم الماء إلى قليلٍ وكثيرٍ، وأن الماء قسمٌ واحدٌ، وأنه لا ينجس إلا بتغير أحد أوصافه الثلاثة: طعمه أو لونه أو ريحه.
    وهذا القول روايةٌ في المذهب، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

والقول الأول هو قول جمهور العلماء على التفصيل الذي ذكرناه، قول الجمهور من الحنابلة والمالكية والشافعية.

القول الثاني هو قول الحنفية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

سنجعل القول الأول والثاني قولًا واحدًا.

واستدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي قال: إذا بلغ الماء قُلتين لم يحمل الخَبَث [12]، هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والشافعي وابن معين وابن منده والبيهقي، وهو حديثٌ -من جهة الإسناد- صحيحٌ عند المُحدثين، فلا إشكالَ في صحة إسناده.

قالوا: ونحن نستدلُّ بمفهوم هذا الحديث، فإن مفهومه: أن الماء إذا لم يبلغ قُلتين حمل الخبث، أما إذا بلغ قُلتين فأكثر فإنه لا ينجس إلا بالتغير بمنطوق هذا الحديث.

القول الثاني: استدلوا بالدليل نفسه إلا أنهم فرَّقوا بين بول الآدمي وعَذِرَته المائعة، فقالوا: إن هذه إذا وُجدتْ في الماء فإنه يكون نجسًا؛ لقول النبي : لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل فيه [13].

وأما القول الثالث فاستدلوا بحديث بئر بضاعة -حديث أبي سعيدٍ -: أن النبي قال: إن الماء طهورٌ لا يُنجسه شيءٌ [14]، وهذا الحديث من جهة الإسناد حديثٌ صحيحٌ تكرر معنا؛ أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد، وقد صححه الإمام أحمد، وصححه كذلك ابن معين.

وقالوا: فهذا الحديث دليلٌ على أن الماء طهورٌ، ويُستثنى من ذلك ما إذا تغير طعمه أو ريحه أو لونه بنجاسةٍ، فإنه ينجس بالإجماع.

ومن جهة النظر قالوا: إن عِلة النجاسة هي الخَبَث، فمتى وُجد الخَبَث في الشيء فهو نجسٌ، ومتى لم يُوجد فليس بنجسٍ، فالماء يخبث ويُصبح نجسًا إذا تغير بنجاسةٍ، وإلا فالأصل أنه طهورٌ.

القول الراجح في هذه المسألة هو القول الثالث، وهو: أن الماء قسمٌ واحدٌ، لا نقسمه إلى قليلٍ وكثيرٍ، وإنما هو قسمٌ واحدٌ، وأنه طهورٌ إلا إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه بنجاسةٍ.

وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وهو الذي عليه أيضًا عامة مشايخنا: سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز، ومحمد بن عثيمين، والذي عليه أكثر المُحققين من أهل العلم.

الرد على مَن استدلَّ بحديث القُلتين

بقي أن نُجيب عما استدلَّ به أصحاب القول الأول والثاني: حديث القُلتين.

قلنا: إنه حديثٌ صحيحٌ من جهة الإسناد، لا إشكال في إسناده، لكن نقول: هناك مَن ضعَّف إسناده، لكن الحقَّ أنه صحيحٌ.

فنقول: إن هذا الحديث له منطوقٌ ومفهومٌ:

منطوق هذا الحديث: إذا بلغ الماء قُلتين لم يحمل الخبث.

مفهومه: إذا لم يبلغ القُلتين حمل الخبث، لكن هل هذا المفهوم على إطلاقه؟

لا، ليس على إطلاقه؛ وذلك لأن الماء إذا كان دون القُلتين، ولم يقع فيه خبثٌ، فإنه لا يحمل الخبث.

وحديث القُلتين لم يذكره النبي ابتداءً، وإنما ذكره جوابًا لسؤالٍ، فإنه كما جاء في “سنن” أبي داود: أن النبي سُئل عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال: إذا كان الماء قُلتين لم يحمل الخبث، وفي روايةٍ عند أبي داود: سُئل عن الماء يكون في الفلاة [15].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “لم يذكر النبي هذا ابتداءً، وإنما ذكره جوابًا لمَن سأله عن مياه الفلاة، والتَّخصيص إذا كان له سببٌ لم يبقَ حُجَّةً باتفاق العلماء”.

ثم إن قوله عليه الصلاة والسلام: لم يحمل الخبث فيه إشارةٌ إلى أن مناط التَّنجيس هو حمل الخبث، والخبث هو النجاسة، فحيث كان الخبث موجودًا في الماء كان نجسًا، وحيث كان مُستهلكًا غير محمولٍ في الماء كان باقيًا على طهارته.

ثم أيضًا نقول: هَبْ أنه تعارض عندنا حديث القُلتين، وحديث بئر بضاعة؛ حديث القُلتين: إذا بلغ الماء قُلتين لم يحمل الخبث، وحديث بئر بضاعة: الماء طهورٌ لا يُنجسه شيءٌ، فأيهما مُقدمٌ؟

حديث بئر بضاعة مُقدمٌ لأمورٍ:

الأمر الأول: أنه أصحُّ من جهة الإسناد كما قال الإمام أحمد وجماعةٌ.

الأمر الثاني: أن حديث بئر بضاعة: الماء طهورٌ يدل على طهارة الماء بمنطوقه، أما حديث القُلتين فإنما يُستدل به على تنجيس ما دون القُلتين إذا لاقى نجاسةً بمفهومه، وعند التعارض المنطوق مُقدمٌ على المفهوم، كما هو مُقررٌ عند الأصوليين.

ثم أيضًا من جهة النظر يترتب على القول الأول والثاني: أن كل ماءٍ دون القُلتين لو وقعتْ فيه نجاسةٌ كرأس الذباب فإن هذا الماء يكون كله نجسًا، وهذا فيه مُخالفةٌ للحسِّ؛ إذ إنه قد يحمل الخبث، وقد لا يحمل الخبث، وحمل الخبث أمرٌ حسيٌّ يعرفه الناس، فكيف نقول: لو أصابته نجاسةٌ كرأس الذباب يُصبح هذا الماء كله نجسًا؟!

ولهذا فالصواب في هذه المسألة هو: أن الماء قسمٌ واحدٌ، وأنه طهورٌ لا ينجس إلا إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه بنجاسةٍ.

وهنا أقف وقفةً: أقول: الأقوال الراجحة تجد أنها سهلةٌ في فهمها، وسهلةٌ في تطبيقها.

لاحظ -مثلًا- في تقسيم الماء؛ لما قسَّم أصحاب القول الأول الماء إلى طهورٍ وطاهرٍ ونجسٍ، اضطروا إلى تفريعاتٍ وتفاصيل، وما الطاهر؟

ولما ذكروا أن الماء إذا غمس يده في الإناء قالوا: طاهرٌ. ثم رجعوا وقالوا: إذا لم يجد إلا هذا الماء استعمله وتيمم.

يعني: كل هذه تفصيلاتٌ وتفريعاتٌ تدل على ضعف هذا القول، لكن على القول الراجح: الماء طهورٌ ونجسٌ، وهذا سهلٌ في الفهم، وسهلٌ في التطبيق، فما عندنا إلا قسمان: طهورٌ ونجسٌ، والأصل في الماء أنه طهورٌ، وإذا تغيرتْ أحد أوصافه أصبح نجسًا.

هكذا أيضًا في الماء لاحظ: أن الذين قسَّموا الماء إلى قليلٍ وكثيرٍ فصَّلوا: ما القليل؟ وما الكثير؟ وهل إذا كانت العَذِرَة فيه يكون نجسًا أم لا، أو البول؟ وما ضابط القُلتين؟

فتجدون أن هناك تفاصيل، لكن على القول الراجح نقول: الماء قسمٌ واحدٌ، إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه بنجاسةٍ فهو نجسٌ، وإلا فهو طهورٌ.

ولذلك ذكر الشيخ عبدالرحمن السعدي وجماعةٌ من أهل العلم: أن من علامة القول الراجح: سهولة فهمه، وسهولة تطبيقه، ومن علامة القول المرجوح: صعوبة فهمه، وصعوبة تطبيقه.

فإذا رأيتَ القول فيه صعوبةٌ في الفهم، وفيه تفاصيل، وفيه كثرة استثناءات، وفيه صعوبةٌ في تطبيقه؛ فهذه علامةٌ على أن القول مرجوحٌ.

وإذا وجدتَ أن القول سهلٌ في الفهم، وسهلٌ في التطبيق، ومُطردٌ، وليست فيه استثناءاتٌ؛ فهذه علامةٌ على أنه قولٌ راجحٌ؛ لأنه يتفق مع وضوح هذه الشريعة ويُسرها وسهولتها.

ولهذا قال علي بن أبي طالب : “العلم نقطةٌ كثَّرها الناس”، يعني: هذا الباب كله يمكن لو أردنا -يعني: بناءً على القول الراجح- يمكن ما نحتاج إلا إلى ثلاثة أسطرٍ: الماء قسمٌ واحدٌ: طهورٌ إلا إن تغير طعمه أو لونه أو ريحه بنجاسةٍ فهو نجسٌ، ولا نحتاج إلى هذه التفاصيل وهذه التفريعات بناءً على القول الراجح.

أما قوله: لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم [16]، فهذا لا يدل على أن بول الآدمي أو عَذِرَته إذا كانت في الماء الكثير أنه لا يطهر، فليس في هذا دلالةٌ ظاهرةٌ، وإنما هذا نهيٌ من النبي عليه الصلاة والسلام عن البول في الماء الدائم؛ لأنه يتسبب في تقذيره، ولكن ليس فيه دلالةٌ على أن الماء لا يطهر إذا كان كثيرًا، وكان فيه بول آدميٍّ أو عَذِرَته المائعة؛ ولهذا أيضًا يُردّ عليهم بمثل: البحار والأنهار وقع فيها بول الآدمي أو عَذِرَته المائعة، فهل يقولون: بعدم طهارتها؟

لا يمكن أن يقول به عالمٌ من العلماء، فهذا قولٌ ضعيفٌ.

طرق تطهير الماء النجس

طيب، ننتقل بعد ذلك إلى عبارة المؤلف، قال:

فإن زال تغيره بنفسه، أو بإضافة طهورٍ إليه، أو بنزحٍ منه، ويبقى بعده كثيرٌ طهر.

“فإن زال تغيره بنفسه” هنا انتقل المؤلف لبيان طرق تطهير الماء النجس:

  • الأمر الأول: أن يتغير بنفسه، فإذا تغير بنفسه فزالت عنه النجاسة، فإنه يكون طهورًا، لكنهم يشترطون أن يكون كثيرًا، وزالت عنه النجاسة، فحينئذٍ يكون طهورًا، وكذلك القليل يقولون: من باب أولى؛ ولهذا لم يُقيده المؤلف هنا بالكثير.
  • قال: “أو بإضافة طهورٍ إليه” في بعض النسخ: “أو بإضافة طهورٍ كثيرٍ”، ولا بد من هذا القيد: بأن يُضاف إليه طهورٌ كثيرٌ، فإنه يطهر؛ لأنه لو أُضيف إليه طهورٌ قليلٌ فعلى رأيهم قد لا يطهر، تبقى النجاسة.
  • قال: “أو بنزحٍ منه، ويبقى بعده كثيرٌ” فعندهم أن النزح مُطهرٌ، لكن بشرطين:
    • الشرط الأول: أن يبقى بعده ماءٌ كثيرٌ، وهو قُلتان فأكثر.
    • الشرط الثاني: ألا يكون مُتغيرًا بنجاسةٍ.

فالحاصل أن ما زاد على قُلتين يمكن تطهيره بثلاث طرقٍ:

  • الأول: الإضافة.
  • الثاني: زوال تغيره بنفسه.
  • الثالث: النزح.

أما إذا كان أقلَّ من قُلتين فليس هناك إلا طريقٌ واحدٌ وهو: الإضافة، فتغيره بنفسه لا يرد؛ لأنهم يقولون: حتى إذا كانت النجاسة لا تُرى يبقى نجسًا ما دام أنه قد لاقى النجاسة.

فخلاصة الكلام: أن ما زاد على القُلتين يطهر بثلاث طرقٍ: بالإضافة، وبزوال تغيره بنفسه، وبالنزح، وما كان أقلَّ من قُلتين فليس هناك طريقةٌ لتطهيره إلا طريقةٌ واحدةٌ وهي: الإضافة.

وهذا كله بناءً على التفصيل الذي ذكروه في تقسيم الماء إلى قليلٍ وكثيرٍ، والصواب: أنه متى زال تغير الماء النجس بأي وسيلةٍ فإنه يطهر من غير حاجةٍ إلى هذه التفاصيل، فإذا زالت نجاسة الماء بأي وسيلةٍ فإنه يطهر، وهذا هو مذهب الحنفية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، حتى لو زالت النجاسة بالشمس، أو بالريح، أو بأي مُزيلٍ؛ فإنه يُصبح طهورًا، ومن ذلك في الوقت الحاضر: مُعالجة مياه المجاري، فإن مياه المجاري تُعالج وتزول منها النجاسة، وحينئذٍ فإنها تُصبح مياهًا من قبيل الماء الطهور.

وقد صدر في هذا قرارٌ من مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، وكذلك من مجلس هيئة كبار العلماء بأن مُعالجة مياه المجاري تجعلها مياهًا طاهرةً، وأنه لا بأس باستخدامها في الطهارة، لكن يُستحسن عدم استخدامها في الأكل والشرب من باب الاستحسان فقط، وإلا فإن هذه المياه ترجع إلى طهوريتها.

والصواب أنه إذا زالت النجاسة بأي مُزيلٍ فإنها تكون مياهًا طاهرةً.

مقدار القُلتين

ثم المؤلف بناءً على القول بتقسيم الماء إلى قليلٍ وكثيرٍ، وضبطوا القليل بما كان دون القُلتين، والكثير بما بلغ القُلتين فأكثر؛ أراد المؤلف أن يُبين المقصود بالقُلتين فقال:

والكثير قُلتان تقريبًا، واليسير ما دونهما، وهما خمسمئة رطلٍ بالعراقي، وثمانون رطلًا وسُبعان ونصف سُبع رطلٍ بالقدسي، ومساحتهما -أي: القلتين- ذراعٌ وربعٌ طولًا وعرضًا وعمقًا.

هذا الكلام لا نحتاجه بناءً على القول الراجح، وهو: أن الماء قسمٌ واحدٌ، فلا نحتاج لهذا الكلام كله؛ لأننا نقول: إن الماء طهورٌ إلا إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه، لكن هذا بناء على تقسيم الماء، فعندهم القُلتان خمسمئة رطلٍ عراقيٍّ.

والقُلتان أولًا: هي تثنية قُلةٍ، والقُلة هي: الجَرَّة الكبيرة تُعْمَل من الطين ونحوه، ويقولون: إنها من قِلال هَجَر، وهَجَر على قول بعض أهل العلم أنها في الأحساء، وقيل: إنها قريةٌ قُرب المدينة، وهذا هو الأقرب، فهَجَر قريةٌ قُرب المدينة، ويدل لذلك أنه جاء في رواية أحمد والشافعي: إذا كان الماء قُلتين بقِلال هَجَر [17]، فالأقرب أن المقصود بهَجَر قريةٌ قُرب المدينة.

جاء ذكر قِلال هَجَر أيضًا في حديث الإسراء في “صحيح البخاري” لما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أنه بلغ سِدْرَة المُنْتَهى قال: فإذا نَبْقُها مثل قِلال هَجَر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة [18]، وهذا في “صحيح البخاري”.

قال ابن جُريج: “رأيتُ قِلال هَجَر، فالقُلة تَسَعُ قِربتين وشيئًا”.

قال الشافعي وغيره: “فالاحتياط أن تكون قِربتين ونصفًا”.

خمسمئة رطلٍ عراقيٍّ، يقولون: إن الرطل العراقي تسعون مثقالًا، والمثقال: أربع جراماتٍ وربع، فنضرب 90 × 4,25، كم تكون؟

382,5، فإذا ضربناها في خمسمئةٍ تكون تسعة عشر ألفًا ومئةً وخمسةً وعشرين، فتُصبح بالكيلو جرامات: مئةٌ وواحدٌ وتسعون كيلو جرامًا وربع، وهي تُعادل 93 صاعًا.

500 رطلًا عراقيًّا = 90 مثقالًا × 4,25 جرامًا = 382,5 جرامًا × 500 رطلًا عراقيًّا = 19125 جرامًا = 191,25 كيلو جرامًا.

وبناءً على القول الراجح لا نحتاج لهذا التقدير.

مساحة القُلتين

قال: “ومساحتهما” يعني: مساحة القُلتين “ذراعٌ وربعٌ طولًا وعرضًا وعمقًا”، الذراع يُعادل ثمانيةً وأربعين سنتيمترًا، هذا أصحُّ ما قيل في تقديره، يعني: أقلّ من نصف مترٍ باثنين سنتيمترًا.

طيب، ذراعٌ وربعٌ كم تكون بالسنتيمتر؟

إذا قلنا: الذراع 48 سنتيمترًا، ذراعٌ وربعٌ كم تكون؟

ستين سنتيمترًا.

إذن تكون 60 × 60، يعني: ذراعًا وربعًا طولًا وعرضًا وعمقًا، يعني: 60 × 60 طولًا وعرضًا × 60 عمقًا.

وهذا -كما ذكرنا- على القول بتقسيم الماء، وعلى القول الراجح لا نحتاج لهذا كله.

قال:

فإذا كان الماء الطهور كثيرًا، ولم يتغير بالنجاسة؛ فهو طهورٌ، ولو مع بقائها فيه.

وهذا بإجماع العلماء، فمثلًا: ماء بركةٍ كثيرٌ، أو مَسْبَحٍ، أو بحرٍ، أو نهرٍ بال فيه آدميٌّ، ولم يتغير طعمه، ولا لونه، ولا ريحه، فإنه يكون طهورًا بالإجماع، لكن الإجماع إنما هو في غير بول الآدمي أو عَذِرَته؛ لأن هناك مَن يقول: إذا كان بول الآدمي وعَذِرَته … فيُخالف في هذا، لكن في غير بول الآدمي وعَذِرَته بالإجماع، وأيضًا على القول الراجح حتى لو كان بول الآدمي أو عَذِرَته المائعة.

قال:

ولو مع بقائها فيه.

يعني: حتى أحيانًا إذا كان الماء كثيرًا وفيه نجاسةٌ قليلةٌ لم تُغير طعمه، ولا لونه، ولا ريحه، يكون طهورًا؛ ولذلك قاس بعض العلماء على ذلك مسألة ما إذا كانت توجد نسبة كحولٍ يسيرةٌ لا يحصل الإسكار منها لو أكثر من هذا المشروب، فإن هذا يُعْفَى عنه؛ قياسًا على هذه المسألة، وهذا يوجد في بعض أنواع الأدوية، فبعض أنواع الأدوية تكون فيها نسبة كحولٍ يسيرةٌ جدًّا، قد تكون واحدًا من ألفٍ، أو واحدًا من عشرة آلافٍ، فهذه لا تضر؛ لماذا؟

لأنه لو أكثر من شُرب هذا الدواء لما سَكِرَ، أما إذا كانت فيه نسبة كحولٍ يسيرةٌ، لكن لو أكثر من شُربه لسَكِرَ، فهذا لا يجوز؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ [19]، لكن الكلام في النسبة اليسيرة المُضمحلة، فهذه يقولون: تُقاس على يسير النجاسة في الماء الكثير.

فانتبه لهذه الفائدة.

قال:

وإن شكَّ في كثرته فهو نجسٌ.

يعني: مع الشك لا يكون طهورًا، وإنما يكون نجسًا.

حكم الطهارة إذا اشتبه ماءٌ طهورٌ بنجسٍ

قال:

وإن اشتبه ما تجوز به الطهارة بما لا تجوز به الطهارة، لم يتحرَّ، ويتيمم بلا إراقةٍ.

“إن اشتبه ما تجوز به الطهارة” وهو الطهور، “بما لا تجوز به الطهارة” وهو النجس.

كذلك أيضًا عندهم الطاهر، فيقول المؤلف: إنه لا يتحرى، وإنما يتيمم، وهذا هو المذهب، وهو قول الجمهور: أنه لا يتحرى، ويجتنبهما جميعًا، وهذا فيه تفصيلٌ:

أما إذا كان اشتباه طهورٍ بنجسٍ:

  • فالقول الأول: أنه لا يتحرى، وإنما يجتنبهما جميعًا، قالوا: لأن اجتناب النجس واجبٌ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ.
  • والقول الثاني في المسألة -وهو قول الشافعي-: أنه يتحرى، واستدلَّ بحديث ابن مسعودٍ ، وفيه: أن النبي قال: إذا شكَّ أحدكم في صلاته فليتحرَّ الصواب، فَلْيُتِمَّ عليه [20]، والحديث في الصحيحين؛ ولأنه إذا تعذر اليقين فإنه يُرجع لغلبة الظن، وهي التَّحري.
    وهذا القول هو الأقرب -والله أعلم-: أنه عند اشتباه الطهور بالنجس فإنه يتحرى؛ لأنه في أبواب العبادات المطلوب غلبة الظن، ففي أبواب العبادات لا يُطلب اليقين، والمطلوب غلبة الظن في جميع العبادات، حتى في غير الصلاة، حتى في الزكاة، وفي الصيام، وفي الحج، وفي أبواب العبادات المطلوب من المُكلف غلبة الظن فقط الذي هو التحري؛ ولهذا لو أعطى الزكاة مَن ظنَّه فقيرًا فبان غنيًّا أجزأ كما مرَّ معنا.

إذن القول الراجح -والله أعلم- هو: أنه يتحرى عند اشتباه الطهور بالنجس، وهكذا من باب أولى إذا اشتبه الطهور بالطاهر، يعني: بناءً على القول الذي رجحناه نقول: إنه لا يخلو أن يكون هذا الطاهر ما زال يُسمى: ماءً، فهو طهورٌ، أو غلب على اسمه: الطاهر، فإن هذا ليس بماءٍ؛ ولذلك لا حاجة لبحث هذه المسألة، لكن المذهب عند الحنابلة يقولون: إذا اشتبه طهورٌ بطاهرٍ توضأ من هذا غرفةً، ومن هذا غرفةً، وصلى صلاةً واحدةً، لكن الصواب بناءً على ما رجحناه من أنه لا وجود لقسم طاهرٍ غير طهورٍ، وحينئذٍ نقول: إن هذا الماء الأصل أنه طهورٌ إلا إذا غلب عليه اسم الطاهر، فإنه لا يُسمى: ماءً.

بقي أن نُشير إلى أن مسألة اشتباه الماء الطهور بالنجس ذكر الشيخ عبدالرحمن السعدي أنه بناء على القول الصحيح -وهو أن الماء ينقسم إلى طهورٍ ونجسٍ- يقلّ الاشتباه في المياه؛ لماذا؟

لأن النجس يُعرف بأحد أوصافه: بلونه، أو طعمه، أو ريحه، وبذلك فإنه يقلّ الاشتباه في هذه المسألة، يعني: يقلّ أن يشتبه ماءٌ طهورٌ بنجسٍ.

ذكر هذه الفائدة الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله.

قال:

ويلزم مَن علم بنجاسة شيءٍ إعلام مَن أراد أن يستعمله.

لقول النبي : الدين النصيحة [21]، والمؤمن مرآة أخيه [22]، فإذا علم بنجاسة شيءٍ ينبغي أن يُخبر أخاه المؤمن.

طيب، نأخذ سؤالًا شفهيًّا وسؤالًا مكتوبًا.

تفضل، نعم.

السائل: ……………

الشيخ: نعم، سؤال الأخ يقول: إنه في بعض البِرَك -وربما المسابح- يبول أحدٌ في هذا المَسْبَح أو البِرْكة، فهذا الماء هل يكون طهورًا أو نجسًا؟

بناءً -يا إخوان- على ما شرحناه في الدرس نريد الجواب منكم.

نعم.

طالب: ……..

الشيخ: نقول: طهورٌ إلا إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه، والغالب أنه إذا كانت بِرْكةٌ أو مَسْبَحٌ فإنه لا يتغير، هذا هو الغالب.

نعم.

طالب: أحسن الله إليك، يقول: لو تُوظِّفون قياس الماء القليل المُستعمل في رفع الحدث على العبد إذا عتق.

الشيخ: نعم، أقول: الحنابلة لما قالوا: إن الماء القليل إذا استُعمل في رفع حدثٍ كان طاهرًا غير طهورٍ. قالوا: قياسًا على العبد إذا عتق. فإنه لا يمكن عتقه مرةً أخرى، فقد أصبح حرًّا، وهكذا الماء إذا كان قليلًا واستُعمل في رفع الحدث لا يمكن استعماله في رفع الحدث مرةً أخرى، لكن هذا قياسٌ مع الفارق؛ لأن العبد إذا عتق لا يمكن أن يعود إلى الرقِّ، بينما الماء إذا استُعمل في طهارةٍ يبقى ماءً، يُسمى: ماءً، والعبد لا يُسمى: عبدًا، فقد أصبح حرًّا، لكن الماء يُسمى: ماءً، فالقياس قياسٌ مع الفارق.

هذا، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

والسلام عليكم.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه أبو داود: 81، والترمذي: 63، والنسائي: 238، وابن ماجه: 374، وأحمد: 17012.
^2 رواه مسلم: 323.
^3 رواه ابن ماجه: 372، وأحمد: 26801.
^4 رواه أحمد: 564 من حديث عليٍّ .
^5 رواه عبدالرزاق في “مصنفه”: 9114.
^6 رواه أبو داود: 83، والترمذي: 69، وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي: 59، وابن ماجه: 386، وأحمد: 8735، ومالك: 12.
^7 رواه الطبراني في “المعجم الأوسط”: 5747، والبيهقي في “السنن الكبرى”: 14، والدارقطني: 86.
^8 رواه البيهقي في “السنن الكبرى”: 1272.
^9 رواه أبو داود: 67، والترمذي: 66، وقال: حسنٌ، والنسائي: 326، وأحمد: 11815.
^10 رواه مسلم: 278.
^11, ^14, ^16 سبق تخريجه.
^12 رواه أبو داود: 63، والترمذي: 67، والنسائي: 52، وابن ماجه: 517، وأحمد: 4961، والشافعي في “مسنده”: ص7، والبيهقي في “السنن الكبرى”: 1231.
^13 رواه البخاري: 239، ومسلم: 282.
^15 رواه أبو داود: 64.
^17 رواه الشافعي في “مسنده”: ص165، والبيهقي في “السنن الكبرى”: 1250.
^18 رواه البخاري: 3887.
^19 رواه أبو داود: 3681، والترمذي: 1865، وقال: حسنٌ، وأحمد: 14703.
^20 رواه البخاري: 401، ومسلم: 572.
^21 رواه مسلم: 55.
^22 رواه البخاري في “الأدب المفرد”: 239.