الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(1) باب فضل نسب النبي ﷺ من حديث “إن الله اصطفى كنانة..”
|categories

(1) باب فضل نسب النبي ﷺ من حديث “إن الله اصطفى كنانة..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

يوجد نسخٌ من كتاب الفضائل من “صحيح مسلمٍ” في مقدمة المسجد، من لم يكن معه نسخةٌ يستلم نسخةً.

كتاب الفضائل

بعدما انتهينا من المناظرات الفقهية، ننتقل إلى كتابٍ جديدٍ، وهو كتاب الفضائل من “صحيح مسلمٍ”.

و”صحيح مسلمٍ” مع “صحيح البخاري” هما أصح كتابين بعد كتاب الله ، وقد تلقتهما الأمة بالقبول، وجعل الله تعالى لهما قبولًا عظيمًا، ونفع الله تعالى بهما نفعًا كبيرًا، وقيض الله تعالى هذين الإمامين: البخاري ومسلمًا، لخدمة السنة.

وقد اشترطا على أنفسهما ألا يذكرا إلا ما صح عن النبي ، وكانا يتحريان في ذلك تحريًا شديدًا، حتى إن البخاري كان لا يكتب حديثًا إلا صلى ركعتين، واستخار ربه في كتابة ذلك الحديث.

واختلف العلماء أيهما أعلى درجةً، وأضبط صحةً: البخاري أو مسلمٌ؟

فمن العلماء من فضَّل مسلمًا على البخاري، ومنهم من فضل البخاري على مسلمٍ، وهو الصحيح؛ فالبخاري أكثر إتقانًا وضبطًا وتشددًا أيضًا في قبول الأحاديث بالجملة؛ فإن البخاري يشترط شروطًا لا يشترطها مسلمٌ، مثل: اللقاء مع المعاصرة مثلًا، ونحو ذلك، وامتاز “صحيح مسلمٍ” بحسن الترتيب والتبويب، وبكلٍّ فهُما قد تلقتهما الأمة بالقبول.

وإذا اتفق البخاري ومسلمٌ على حديثٍ فهذا أصح ما يكون، وإذا انفرد البخاري أو انفرد مسلمٌ، فالبخاري أصح في الجملة من مسلمٍ، وإن كان أحيانًا قد تثبت رواية مسلمٍ ولا تثبت رواية البخاري، والعكس، لكن كلامنا من حيث الأصل.

فضائل النبي

وفي هذا الدرس سوف نقرأ من كتاب الفضائل في فضائل النبي أولًا.

ثم بعد ذلك في فضائل بعض الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.

ثم في فضائل الصحابة .

وهذه الفضائل فيها نوعٌ من السير والقصص النافعة، وفيها أيضًا أحكامٌ شرعيةٌ، ولطائف وفوائد، فهي تجمع ما بين الحديث والسير والفقه، وأيضًا لطائف وفوائد، كما سنرى.

والأصل أن مسلمًا لم يبوِّب لـ”صحيحه”، وإنما هذا التبويب من النووي، ومسلمٌ لم يبوب، فهذه الأبواب من النووي، وإن كان قد رتبها على شكل أبوابٍ.

فنبدأ أولًا بالحديث الأول:

القارئ:

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمتابعين والمستمعين.

باب فضل نسب النبي

قال المصنف رحمه الله:

باب: فضل نسب النبي ، وتسليم الحَجَر عليه قبل النبوة.

حدثنا محمد بن مهران الرازي ومحمد بن عبدالرحمن بن سهمٍ جميعًا، عن الوليد، قال ابن مهران: حدثنا الوليد بن مسلمٍ، حدثنا الأوزاعي، عن أبي عمارٍ شدادٍ، أنه سمع واثلة بن الأسقع يقول: سمعت رسول الله يقول: إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريشٍ بني هاشمٍ، واصطفاني من بني هاشمٍ [1].

الشرح:

هذا الحديث يبين فيه النبي الاصطفاء الذي كان له من جهة النسب، ومن حكمة الله أن الأنبياء يبعثون في أشراف أنسابهم، فلا تجد نبيًّا ذا نسبٍ وضيعٍ؛ لأن الناس لن يتقبلوا منه حتى تقوم عليهم الحجة، فكان من حكمة الله أنهم يبعثون في أشراف أقوامهم، وليس في هذا دلالةٌ على التفضيل بالنسب، فإن الميزان عند الله هو التقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ولكن حكمة الله تعالى اقتضت ذلك، حتى تقوم عليهم الحجة.

وقد كان العرب في الجاهلية يتفاخرون بالأنساب بالدرجة الأولى، ثم تأتي الفضائل في الدرجة الثانية، فلما جاء الإسلام كانت الفضيلة الأولى هي التقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].

وفي هذا الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل: كنانة بن خزيمة بن مدركة من ولد إسماعيل، إسماعيل بن إبراهيم عليه وعلى أبيه وعلى الأنبياء جميعًا الصلاة والسلام.

فإن نبينا محمدًا هو من ذرية إسماعيل، فأبوه إسماعيل، وأبوه إبراهيم أيضًا، عليهم الصلاة والسلام، ولذلك؛ لما وُلد له ولدٌ قال: إنه وُلد الليلة لي ولدٌ سميته على أبي إبراهيم [2]، فإبراهيم هو جد النبي ، وإن لم يكن هو جده القريب، لكن جده البعيد، فهو عليه الصلاة والسلام من نسل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.

واصطفى قريشًا من كنانة: قبيلة قريشٍ، ولا يزال نسبها ممتدًا إلى الآن، اصطفاها الله من كنانة.

واصطفى من قريشٍ بني هاشمٍ: وبنو هاشم بن عبد منافٍ، وعبد منافٍ له أربعة أبناءٍ:

الابن الأول: هاشمٌ، وهو جد النبي ، محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشمٍ، يعني جده الثاني.

ابنه الأول هاشم.

والثاني: المطلب.

والثالث: نوفلٌ.

والرابع: عبد شمسٍ، هؤلاء هم أبناء عبد منافٍ، أعيده مرةً أخرى:

الأول: هاشمٌ.

والثاني: المطلب.

والثالث: نوفلٌ.

والرابع: عبد شمسٍ.

بنو نوفلٍ وبنو عبد شمسٍ عادَوا النبي مع بقية قريشٍ، عادَوه وآذوه، وحصل منهم ما حصل.

بنو المطلب ناصروا النبي ، ونصروا بني هاشمٍ، وكانوا معهم في شعب أبي طالبٍ لما حوصر النبي ومن معه، وبنو هاشمٍ كان معهم بنو المطلب.

ولذلك أعطاهم النبي من الخُمس، وقال: إنهم لم يفارقونا في جاهليةٍ ولا في إسلامٍ [3].

من هم “آل البيت” الذين لا تحل لهم الزكاة؟

ولكن عندما يقال: “آل البيت”، هل المقصود بهم بنو هاشمٍ وبنو المطلب؟

باتفاق العلماء أن بني نوفلٍ وبني عبد شمسٍ لا يدخلون في آل البيت، هذا باتفاق العلماء.

لكن اختلف العلماء هل ينحصر “آل البيت”، الذين لا تحل لهم الزكاة، في بني هاشمٍ، أو يشمل “آل البيت” بني المطلب؟

هذا محل خلافٍ، والمذهب عند الحنابلة: أنهم لا ينحصرون في بني هاشمٍ؛ وإنما يشمل “آل البيت” بني المطلب.

والقول الثاني في المسألة، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد: أن “آل البيت” ينحصرون في بني هاشمٍ، وأن قول النبي عليه الصلاة والسلام: إنما بنو المطلب وبنو هاشمٍ شيءٌ واحدٌ، وأنهم لم يفارقونا في جاهليةٍ ولا في إسلامٍ [4]، هذا في باب النصرة فقط، وإلا من حيث النسب فـ”آل البيت” ينحصرون في بني هاشمٍ، هذا هو القول الصحيح، القول الراجح عند المحققين من أهل العلم: أن “آل البيت” الذين لا تحل لهم الزكاة هم بنو هاشمٍ فقط، ولا يشمل ذلك بني المطلب، وقد اختار هذا القول ابن تيمية رحمه الله، وجمعٌ من أهل العلم.

فعلى ذلك نقول: إن بني هاشمٍ هم الذين لا يحل لهم أخذ الزكاة، أما غيرهم من بني المطلب، وبني نوفلٍ، وبني عبد شمسٍ فيجوز.

واصطفى أيضًا بني عبد المطلب من بني هاشمٍ، فتجد شرف نسب النبي ، ولهذا قال: واصطفاني من بني هاشمٍ.

فهو عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم، وأكرم ولد آدم عليه الصلاة والسلام.

هل التكافؤ في النسب شرطٌ لصحة النكاح أو للزومه؟

وأيضًا نسبه شريفٌ كما ترون، لكن -كما ذكرنا- الميزان في الإسلام بالتقوى وليس بالنسب، ولكن عند الفقهاء يبحثون مسألة التكافؤ في النسب، وهل هو شرطٌ لصحة النكاح، أو شرطٌ للزومه؟

والقول الراجح: أنه ليس شرطًا، لا لصحة النكاح، ولا للزومه، وإنما العبرة بالتقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، التفاضل في الإسلام بالتقوى، لا فضل لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى [5].

وهنا النووي رحمه الله قال: استَدل به أصحابنا على أن غير قريشٍ من العرب ليس بكفءٍ لهم، ولا غير بني هاشمٍ كفءٌ لهم، إلا بني المطلب، فإنهم هم وبنو هاشمٍ شيءٌ واحدٌ.

ولكن هذا قولٌ مرجوحٌ، ونجد أن القرشيات تزوجن بموالي، فمثلًا زينب رضي الله عنها تزوجت بزيد بن حارثة  وهو مولًى، وأيضًا فاطمة بنت قيسٍ رضي الله عنها أشار عليها النبي عليه الصلاة والسلام بأن تتزوج أسامة بن زيدٍ، وهو مولًى، فهذا يدل على عدم رجحان ما ذكره النووي رحمه الله، وأن الصواب: أن هذا غير معتبرٍ، أن هذه الأمور كلها غير معتبرةٍ، وأن التفاضل بين الناس إنما هو بالتقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].

تسليم الحَجر على النبي

القارئ:

وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن أبي بكيرٍ، عن إبراهيم بن طَهْمان، حدثني سماك بن حربٍ، عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله : إني لأعرف حَجرًا بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن [6].

الشرح:

هذه آيةٌ من آيات النبي ، وبعضهم يعبر بـ”معجزة”، كالنووي يعبر بقوله: “معجزة”، ومن أهل العلم من يقول: الأحسن ألا يعبر بـ”معجزة”، وإنما يعبر بـ”آيةٍ”؛ لأن هذا هو المصطلح الشرعي في القرآن والسنة: “الآية”.

ونجد في القرآن التعبير بالآية، وفي السنة: ما من نبيٍّ إلا وأعطيَ من الآيات ما على مثلها آمن البشر [7]، وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، فـ”الآية” هو التعبير الشرعي، فالأفضل والأحسن أن نعبر بـ”الآية”؛ لأن “المعجزة” معناها: أنه يعجز غيره عن هذا الشيء، وهذا قد يدخل فيه أيضًا غير آية الأنبياء من الكرامات، ومن الأشياء التي قد يفعلها السحرة، ونحو ذلك، فالأحسن هو التعبير بالآية، فنقول: هذه آيةٌ من آيات النبي عليه الصلاة والسلام.

قال: إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليَّ: قيل: إن هذا الحجر هو الحجر الأسود، ولكن لم يثبت هذا بسندٍ صحيحٍ، وإنما هو قولٌ لبعض أهل العلم، وقيل: غيره، فالله تعالى أعلم، ولا يهمنا معرفة عين ذلك الحجر، لكن يهمنا يعني العبرة من هذا.

كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن: وهذا التسليم تسليمٌ حقيقيٌّ، يعني يسمع النبي منه صوتًا بالسلام.

وقوله: قبل أن أبعث هذا يدل على أنه كان هناك إرهاصاتٌ ببعثة النبي عليه الصلاة والسلام، كون الحجر يسلم عليه قبل بعثته، هذا يدل على ذلك، وفي هذا أيضًا إشارةٌ إلى أن الجمادات لها إدراكٌ، ولكنه إدراكٌ بحسبها، ومما يدل لذلك: قول الله : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44].

ولا يمكن أن تسبح هذه الجمادات إلا ولها إدراكٌ، جعل الله تعالى فيها إدراكًا، لكن إدراك كل شيءٍ بحسبه، إدراك الجماد غير إدراك النبات، غير إدراك الحيوان، غير إدراك الإنسان، غير إدراك الملائكة، كل شيءٍ له إدراكٌ مناسبٌ لخلقته.

فهذه الجمادات لها إدراكٌ، وتسبح بحمد الله : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، وأيضًا: يقول الله تعالى: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74]، يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ: وهذا يدل على أن عندها خشيةً لله تعالى، لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21]، والخشية متعلقةٌ بالمشاعر، فهذا يدل على وجود الإدراك لها، وكان الحصى يسبح بيد النبي عليه الصلاة والسلام، كان الحصى يسبح بيده.

وأيضًا قصة جِذع النخلة، كان عليه الصلاة والسلام يخطب على جذع نخلةٍ، ثم إن امرأةً من بني النجار صنعت للنبي منبرًا، فرمى الجذع وأصبح يخطب على المنبر، فسمعوا لهذا الجذع صوتًا، صوت بكاءٍ كبكاء الصبي، سبحان الله! فنزل النبي عليه الصلاة والسلام من على المنبر، وأخذ هذا الجذع واحتضنه، وجعل يسكته كما يسكت الصبي، سبحان الله! جاء في بعض الروايات أنه قال له: أما ترضى أن تكون جذعًا في الجنة؟ [8].

جذعٌ ويبكي كما يبكي الصبي! هذا من آيات الله العظيمة، هذا يدل على أن الجمادات لها نوع إدراكٍ، ولكن هذا الإدراك الله أعلم بحقيقته وكيفيته، وهذا يدل على عظمة الله ، كيف خلق هذا الخلق العظيم بهذا الإتقان وهذا الإبداع وهذا التقدير، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2].

معنى قوله : أنا سيد ولد آدم

القارئ:

وحدثني الحكم بن موسى أبو صالحٍ، حدثنا هِقْلٌ، يعني: ابن زيادٍ، عن الأوزاعي، حدثني أبو عمارٍ، حدثني عبدالله بن فَرُّوخَ، حدثني أبو هريرة  قال: قال رسول الله : أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافعٍ، وأول مشفعٍ [9].

الشرح:

يقول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: أنا سيد ولد آدم، والسيد: هو الذي يَفوق قومه في الخير، وقيل: هو الذي يُفزع إليه في النوائب والشدائد فيقوم بأمرهم، ويتحمل مكارههم، ويدفع عنهم.

ولا بد أن يكون السيد كريمًا، فالبخيل لا يكون سيدًا في قومه، وأيضًا لا بد أن يكون شجاعًا، لا يمكن أن ينال السيادة إلا من اجتمع فيه الكرم والشجاعة، وأما الجبان والبخيل فهذا بعيد عن السيادة.

ولذلك قد أحيانًا يجتمع الكرم والشجاعة في إنسانٍ، مع عدم سداد الرأي، فيكون الأحمق المطاع، والأحمق المطاع وُجد من قديمٍ، ويكونون ساداتٍ في أقوامهم من قديمٍ؛ لأنه اجتمع لديه الكرم والشجاعة.

لكن الناس لا تُسوِّد البخيل ولا الجبان، فلا بد إذنْ من هاتين الخصلتين: الكرم والشجاعة، هما موطن القوة بالنسبة للإنسان.

النبي عليه الصلاة والسلام فاق البشر في جميع خصال الخير؛ ولذلك هو سيدهم، وهنا قال: سيد ولد آدم يوم القيامة، فقيد ذلك بيوم القيامة مع أنه سيدهم أيضًا في الدنيا، ولكن سبب التقييد: أنه في يوم القيامة يظهر سؤدده عليه الصلاة والسلام لكل أحدٍ.

ونظير هذا قول الله : مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، الله تعالى مالك يوم الدين والدنيا، لماذا قال الله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ؟ لأنه يظهر ملك الله يوم القيامة: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]، فهذا هو سبب التقييد، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة.

معنى قوله : أول من ينشق عنه القبر

قال: وأول من ينشق عنه القبر، أول من ينشق عنه القبر؛ وذلك أن الناس يموتون جميعًا، وآخرهم -آخر من يموت من البشر- من تقوم عليهم الساعة، وهم شرار البشر، شرار الخلق، شرار الناس هم من تقوم عليهم الساعة؛ فإن الله يبعث في آخر الزمان ريحًا طيبةً تقبض روح كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ، فلا يبقى إلا شرار الناس.

وبيَّن النبي عليه الصلاة والسلام صفة قيام الساعة بالنفخ في الصور: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68]، فبنفخة الصعق يموت الناس كلهم، بل يصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله.

ويبقون مدة زمنيةً، الله أعلم بها، جاء تحديدها بأربعين، قيل لأبي هريرة : أربعون يومًا، أربعون عامًا، أربعون شهرًا؟ قال: “أبَيْتُ” [10]، يعني: ليس عندي علمٌ في هذا، أربعون وحدةً زمنيةً، الله أعلم بمقدارها.

ثم إن الله يأمر بالأرواح فتجتمع في الصور، وقبل ذلك يُنزل الله تعالى من السماء ماءً كمني الرجال، وينزل على القبور، فتنبت الأجساد من عَجْب الذَّنَب، كل شيءٍ يبلى من الإنسان إلا عجب الذنب، العُصْعُص آخر العمود الفِقْري، هذا لا يبلى أبدًا، وهو صغيرٌ جدًّا لا يرى بالعين المجردة، إلا الأنبياء ومن شاء الله من الصديقين والشهداء والصالحين؛ هؤلاء لا تأكل الأرض أجسادهم، فتنبت الأجساد، حتى إذا تكامل نموها، أمر الله تعالى إسرافيل بالنفخ في الصور، فتطايرت الأرواح، وذهبت كل روحٍ إلى جسدها بقدرة العزيز الحكيم.

أول من ينشق عنه القبر نبينا محمدٌ عليه الصلاة والسلام، هو أول من ينشق عنه القبر، أول من يقوم من قبره، وهذه ميزةٌ لنبينا محمدٍ .

ثم تنشق القبور عن الناس، يقومون حفاةً عراةً غُرلًا بُهمًا، تموج بهم الأرض في يوم طويل جدًّا، مقداره خمسون ألف سنةٍ، وينال الناس من الكرب والغم ما لا يطيقون معه ولا يحتملون.

وقد دلت النصوص على أنه بعد خمسٍ وعشرين ألف سنةٍ يكون الحساب، ذكر هذا المفسرون عند قول الله : أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24]؛ رُوي هذا عن ابن مسعودٍ وابن عباسٍ وبعض الصحابة والتابعين .

خمسٌ وعشرون ألف سنةٍ، كم نسبة عمرك إلى هذا الرقم؟ كم تعيش؟ ستين سنةً، سبعين، مائةً، كم نسبته إلى وقوفك فقط في الموقف خمسًا وعشرين ألف سنةٍ؟ يومٌ عظيمٌ! ولذلك؛ يجعل الولدان شيبًا، أرأيت الطفل الصغير يشيب من أهواله؟! يومٌ عظيمٌ شديدٌ، فأول من ينشق عنه القبر هو نبينا محمدٌ .

معنى قوله : أول شافعٍ

قال: وأول شافعٍ، وإنما قال عليه الصلاة والسلام: أول شافعٍ، مع أنه قد يشفع غيره؛ لأنه قد يشفع اثنان، فيشفع الثاني منهما قبل الأول، فهو عليه الصلاة والسلام أول شافعٍ للعصاة، لا يتقدمه شافعٌ غيره، فلا يتقدمه شافعٌ لا من الملائكة، ولا من النبيين، ولا من المؤمنين في جميع أقسام الشفاعة، على أن الشفاعة العامة لأهل الموقف خاصةٌ به لا تكون لغيره.

الشفاعة العظمى

إن الشفاعات أنواعٌ: أعظمها الشفاعة العظمى، الشفاعة العظمى هذه تكون لأهل الموقف، كما ذكرنا أن الناس تموج بهم الأرض، أعدادٌ عظيمةٌ؛ يعني أمة محمد عليه الصلاة والسلام فقط نسبتها للأمم كنسبة الشعرة في جلد الثور، وهذا يدل على كثرة البشر، كثرةٌ عظيمةٌ جدًّا.

فتموج بهم الأرض هذه المدة الطويلة، فيقول الناس بعضهم لبعضٍ: ألا نبحث عمن يشفع لنا عند الرب ، يشفع في أي شيءٍ؟ في الفصل والقضاء بين عباده، فيذهبون لآدم فيعتذر، ويذهبون إلى نوحٍ فيعتذر، ويذهبون إلى إبراهيم فيعتذر، ويذهبون إلى موسى فيعتذر، ويذهبون إلى عيسى فيعتذر، حتى يذهبوا إلى محمدٍ فلا يعتذر، ويذهب فيسجد تحت العرش، ويقبل الله شفاعته، ويظهر الله تعالى فضله للأولين والآخرين.

هذه الشفاعة اختص بها نبينا محمدٌ عليه الصلاة والسلام، فهي الشفاعة العظمى التي يظهر الله تعالى بها فضله على الأولين والآخرين.

لكن أيضًا للنبي عليه الصلاة والسلام شفاعاتٌ أخرى؛ ومنها: شفاعته لأهل الجنة في فتح أبوابها؛ فإن أهل الجنة عندما يجوزون الصراط ويأتون للجنة يجدون أبوابها مغلقةً، فيأتون آدم ويطلبون منه الشفاعة، كما جاء في “صحيح مسلمٍ” من حديث أبي هريرة ، فيقول آدم: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم؟! [11] يعني: كيف تتشفعون بي؟!

فمباشرةً يذهبون إلى محمدٍ عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم علموا في المرة السابقة بأن الذي شفع لهم في الموقف هو محمدٌ عليه الصلاة والسلام، فيشفع، فتفتح أبوب الجنة الثمانية، وهذا هو السر -والله أعلم- في قول الله في سورة الزمر: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا، أكمل الآية: وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:73].

بينما في جهنم قال: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ [الزمر:71]، ما قال: (و) فما هو السر؟ لماذا جاءت الواو في قوله: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ [الزمر:73]؛ لأنها على تقدير فعلٍ محذوفٍ، أي: وشفَع محمدٌ فتحت أبوابها، خذ هذه الفائدة اللطيفة التي قل أن توجد في كتابٍ.

المقصود أنها على تقدير فعلٍ محذوفٍ، أي: وشفع محمدٌ فتحت أبوابها، فيشفع لأهل الجنة في دخول الجنة، وله عليه الصلاة والسلام عدة شفاعاتٍ، فهو أول شافعٍ، فلا يتقدمه شافعٌ، ولهذا قال: وأول شافعٍ، وأول مشفعٍ، أيضًا وأول مشفعٍ، فتظهر فضائل وكرامات هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.

وهنا ذكر عليه الصلاة والسلام فضائله، وفي الحديث الآخر قال: ولا فخر [12]، يعني: لم يقل النبي عليه الصلاة والسلام هذا فخرًا، بل صرح في إحدى الروايات بعدم الفخر، قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر.

لماذا قال : أنا سيد ولد آدم؟

طيب، لماذا قال ذلك؟ قال ذلك من باب التحدث بنعمة الله ​​​​​​​؛ فإن التحدث بنعمة الله جزءٌ من شكر النعم، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]، فينبغي أن تظهر النعم على الإنسان، ويتحدث بها على سبيل الشكر، وليس على سبيل الفخر.

وأيضًا هو من البيان الذي يبلِّغه لأمته؛ لكي يعرفوا فضائله ويعظموه ويوقروه؛ فإنه لا يمكن معرفة ذلك إلا عن طريقه عليه الصلاة والسلام.

وأما نهيه عليه الصلاة والسلام عن التفضيل بين الأنبياء، قال: لا تفضلوا بين الأنبياء [13]، وفي الحديث الآخر: لا تفضلوني على موسى [14]، فهذا قاله عليه الصلاة والسلام على سبيل الأدب والتواضع.

وأيضًا المقصود: التفضيل الذي يؤدي إلى تنقيص المفضول؛ ولهذا قال: لا تفضلوني على موسى، مع أنه أفضل، لكن لما كان الموقف أن اليهودي فضل موسى ، والصحابي فضل محمدًا ، قال عليه الصلاة والسلام: لا تفضلوني على موسى؛ لأنه كان في هذا نوعٌ من التنقيص لموسى ، وإلا هو أفضل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام جميعًا.

نبع الماء من بين أصابعه 

القارئ:

وحدثني أبو الربيع سليمان بن داود العَتَكي، حدثنا حماد يعني ابن زيد، حدثنا ثابت، عن أنسٍ، أن النبي دعا بماءٍ فأتي بقدحٍ رَحْراحٍ، فجعل القوم يتوضؤون، فحزرت ما بين الستين إلى الثمانين، قال: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه [15].

الشرح:

هذه آيةٌ من آيات النبي : أن الماء ينبع من أصابعه، وقد جاء هذا في عدة أحاديث، ومسلمٌ ساق عدة رواياتٍ، قال: “دعا بماءٍ فأُتي بقدحٍ” يعني: بوعاءٍ.

“رَحْراح”: الرحراح معناه: الواسع القصير الجدار.

“فجعل القوم يتوضؤون”: يتوضؤون من هذا القدح، قدحٍ صغيرٍ فيه ماءٌ قليلٌ،، فسبحان الله! كفَى الجميع! توضؤوا جميعهم.

قال: “فحزرت” -يعني: هؤلاء الذين توضؤوا- “ما بين الستين إلى الثمانين”، سبحان الله! توضؤوا من ماءٍ في قدحٍ صغيرٍ، وهذا من آياته عليه الصلاة والسلام، فكان الماء ينبُع من أصابعه عليه الصلاة والسلام، وهذا من آيات النبي ، ولهذا قال: “فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه”.

القارئ:

وحدثني إسحاق بن موسى الأنصاري، حدثنا معنٌ، حدثنا مالكٌ، ح، وحدثني أبو الطاهر، أخبرنا ابن وهبٍ، عن مالك بن أنسٍ، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالكٍ، أنه قال: رأيت رسول الله وحانت صلاة العصر، فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأُتي رسول الله بوَضوءٍ، فوَضَع رسول الله في ذلك الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضؤوا منه، قال: فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم [16].

الشرح:

هذا في إحدى أسفار النبي عليه الصلاة والسلام حانت صلاة العصر، والتمس الناس الوضوء، الوضوء، يعني: الماء الذي يتوضأ به، أما الوضوء بضم الواو فهو الفعل، فعل التوضؤ، مثل طَهور وطُهور، وسَحور وسُحور، فالوضوء إذن الماء الذي يتوضأ به.

فأتي النبي بوضوء، يعني: بماء، لكن هذا الماء قليل لا يكفي لهؤلاء كلهم، فوضع يده في ذلك الإناء، وأمر الناس أن يتوضؤوا، قال: فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه، حتى توضأ هؤلاء كلهم، وهو قريب من الحديث السابق، أو قريب من الرواية الأخرى.

القارئ:

حدثني أبو غسان المِسمعي، حدثنا معاذ -يعني ابن هشام-، حدثني أبي، عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك، أن نبي الله وأصحابه بالزوراء -قال: والزوراء بالمدينة عند السوق والمسجد فيما ثَمَّهْ- دعا بقدحٍ فيه ماءٌ، فوضع كفه فيه، فجعل ينبع من بين أصابعه، فتوضأ جميع أصحابه، قال: قلت: كم كانوا يا أبا حمزة؟ قال: كانوا زُهاء الثلاثمئة [17].

الشرح:

هذه قصةٌ أخرى، أو أنها هي نفس القصة السابقة، النووي وبعض الشراح قالوا: إن هذه قضيةٌ أخرى؛ لأن هنا ذكر رقمًا أخر، قال: زُهاء الثلاثمئة، بينما في الرواية الأولى قال: “ما بين الستين إلى الثمانين”، والراوي هنا نفس الراوي، هو أنسٌ ، فيبعد أن تكون القضية واحدةً، فالظاهر أنهما قضيتان جرتا في وقتين.

ولهذا؛ ظاهر هذا قال: إنها بالزوراء عند السوق في المدينة، فجعل الماء ينبع من أصابعه، فيظهر أن هذا كان يحدث مرارًا، أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا كان الماء قليلًا ووضع يده في هذا الإناء، فنبع الماء من بين أصابعه، يعني: لم يحدث هذا مرةً واحدةً؛ وإنما عدة مراتٍ، فهذا من آياته عليه الصلاة والسلام.

حكم التبرك بآثار النبي 

القارئ:

وحدثنا محمد بن المثنَّى، حدثنا محمد بن جعفرٍ، حدثنا سعيدٌ، عن قتادة، عن أنسٍ: “أن النبي كان بالزوراء، فأتي بإناء ماءٍ لا يغمر أصابعه، أو قدر ما يواري أصابعه”، ثم ذكر نحو حديث هشامٍ.

الشرح:

يعني: أن الماء قليلٌ، لكنه كثر بكون الماء ينبع من أصابع النبي ، إذنْ هذه من آيات النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك؛ فالنبي هل يُتبرك بآثاره أو لا يتبرك؛ بشعره، بوضوئه، بآثاره؟

نعم، في حياته يُتبرك بآثاره، وبعد وفاته الموجود أيضًا يُتبرك؛ ولهذا تقول أم سلمة رضي الله عنها: “كان عندنا جُلجُلٌ من فضة، فيه شعراتٌ من شعر النبي ، فكنا نستشفي بها [18]، يعني: يتبركون بها.

ولكن نحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري، مضى أكثر من ألف وأربعمئةٍ وأربعين سنةً، فلا يوجد الآن شيءٌ من آثار النبي على وجه التحقيق، وما يدعيه بعض الناس من وجود شعراتٍ كل هذا لا يثبت؛ لا قَدَحٌ، ولا شعراتٌ، ولا أي شيءٍ، فكل هذه لا تثبت، لا يثبت وجود شيءٍ من آثار النبي عليه الصلاة والسلام الآن.

ولذلك فلا يُتبرك الآن بشيءٍ من آثاره عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذه كلها لا تثبت، وإنما يستغلها بعض الخرافيين والدجاجلة؛ لأجل التلبيس على الناس، وربما ابتزاز أموالهم، ونحو ذلك.

حكم التبرك بآثار الصالحين

طيب، التبرك بآثار غير النبي عليه الصلاة والسلام؛ التبرك مثلًا بالصالحين، هل يجوز؟

لا يجوز، ولذلك؛ لم يكن الصحابة  يتبركون بأبي بكرٍ الصديق، ولا بعمر بن الخطاب، ولا بعثمان، ولا بعلي، ولا بالعشرة المبشرين بالجنة ، فلا يجوز التبرك بغير النبي عليه الصلاة والسلام، إنما هذا خاصٌّ بالنبي ، وما تفعله بعض الطوائف من التبرك بمشايخهم فهذا منكرٌ ولا يجوز، إنما هذا خاصٌّ بالنبي .

الطالب:

الشيخ: التبرك أنه يأخذ الأثر المتبقي مثل الوضوء مثلًا، الماء الذي توضأ به، ويتمسح به، أو يأخذ شعره مثلًا، ويغسله ويتبرك بهذا الماء، ونحو ذلك.

قصة عُكَّة أم مالكٍ رضي الله عنها

القارئ:

وحدثني سلمة بن شبيبٍ، حدثنا الحسن بن أعين، حدثنا معقلٌ، عن أبي الزبير، عن جابرٍ: أن أم مالكٍ كانت تهدي للنبي في عُكَّةٍ لها سمنًا، فيأتيها بنوها فيسألون الأُدْم، وليس عندهم شيءٌ، فتعمد إلى الذي كانت تهدي فيه للنبي ، فتجد فيه سمنًا، فما زال يقيم لها أُدْم بيتها حتى عصَرَته، فأتت النبي فقال: عصرتيها؟ فقالت: نعم، قال لو تركتيها ما زال قائمًا [19].

الشرح:

نعم، هذه امرأةٌ من نساء الصحابة  يقال لها: أم مالكٍ، كانت تُهدي للنبي سمنًا في عُكَّةٍ، والعكة: أصغر من القربة، يوضع فيها السمن، فهذه العكة تُهديها للنبي عليه الصلاة والسلام، فيأخذ النبي عليه الصلاة والسلام السمن، ويرجع لها هذه العكة، فيأتيها بنوها، فيسألونها الأُدْم، يعني: ما يأتدمون به، وليس عندهم شيءٌ، فتأتي لهذه العكة، فتجد فيها سمنًا سبحان الله! وهي فارغةٌ ما فيها شيءٌ تجد فيها سمنًا.

“فما زال يقيم لها أدم” يعني: ما زال موجودًا حاضرًا، كل مرةٍ تأتي لهذه العكة فتجد فيها سمنًا، وتعطي أولادها، كل مرةٍ تأتي لهذه العكة فتجد فيها سمنًا.

“حتى عصرته”: أخذت هذه العكة وعصرت السمن، فلما عصرته انقطع، فالنبي عليه الصلاة والسلام سألها قال: أعصرتيها؟ قالت: نعم، قال: لو تركتيها ما زال قائمًا، لو تركتيها استمر.

ونظير هذا قول عائشة رضي الله عنها: “كان عندنا شعيرٌ نأكل منه، فلما كِلْته فني” [20]، هذا في “صحيح البخاري”، كانوا يأكلون منه، ما كالته، لكن لما قامت بكيله وحسبت كم فيه انتهى، فني.

فهذا يدل على أن البركة تكون عندما لا يَستقصي الإنسان في حساب ذلك الشيء، ويتركه على حاله، إذا وجد شيئًا فيه بركةٌ يتركه على حاله، لا يستقصي فيه.

ولكن جاء في حديث آخر قول النبي عليه الصلاة والسلام، حديث المقدام بن معدي كرب في “صحيح مسلمٍ”، قول النبي عليه الصلاة والسلام: كيلوا طعامكم، يبارك لكم فيه [21] وهذا في “صحيح البخاري”.

وهذا يتعارض أو يُشكِل على هذا الحديث، والحديث الذي بعده، وللعلماء جوابٌ عن ذلك، لكن نجيب عنه بعدما نأخذ القصة التي بعده، وهي في معنى هذه القصة.

قصة رجلٍ أعطاه النبي شَطر وَسْق شعيرٍ

القارئ:

وحدثني سلمة بن شبيبٍ، حدثنا الحسن بن أعين، حدثنا معقِلٌ، عن أبي الزبير، عن جابرٍ، أن رجلًا أتى النبي يستطعمه، فأطعمه شَطر وَسْق شعيرٍ، فما زال الرجل يأكل منه وامرأته وضيفهما حتى كاله، فأتى النبي فقال: لو لم تكله لأكلتم منه، ولقام لكم [22].

الشرح:

نعم، هذا رجلٌ أتى النبي يستطعمه، فأطعمه شطر -يعني: نصف- وسق شعيرٍ، فأصبح هذا الرجل يأكل منه وامرأته والضيف، ويأكل منه وبارك الله لهم في هذا الشعير.

لما كاله فني، قال: فأتى النبي فقال: لو لم تَكِلْه لأكلتم منه، ولقام لكم، يعني: استمر معكم.

إذنْ المرأة لما عصرت العُكَّة فنيت، هذا الرجل لما كال هذا الشعير فني، عائشة رضي الله عنها لما كالت الشعير فني.

النووي رحمه الله قال في هذا، في حديث البراء، أنها حين عصرت العكة ذهبت بركة السمن، وفي حديث الرجل حين كال الشعير، ومثله حديث عائشة حين كالت الشعير ففني، قال النووي: قال العلماء: الحكمة في ذلك: أن عصرها وكيله مضاد للتسليم والتوكل على رزق الله، ويتضمن التدبير والأخذ بالحول والقوة، وتكلف الإحاطة بأسرار حكم الله تعالى وفضله، فعوقب فاعله بزواله.

يعني كأنه يقول: إن الإنسان إذا حصل له بركةٌ في شيءٍ يتركه على حاله، لا يستقصي لا يكيله لا يحسبه، ويسلم الأمر لله ، ويتوكل على الله تعالى، فإذا وجدت الشيء من أموالك جعل الله فيه بركةً فاتركه، لا تستقصِ، تبدأ تحسب وتعد، اتركه على حاله، تستمر البركة فيه بإذن الله.

الجمع بين حديث: لو لم تَكِلْه..، وبين: كِيلوا طعامكم..

طيب، نعود للإشكال الذي طرحناه قبل قليلٍ: هنا النبي عليه الصلاة والسلام قال: لو لم تكله لأكلتم منه وأيضًا عائشة رضي الله عنها قالت: كلته ففني، وفي حديث المقدام بن معدي كرب، قال: كيلوا طعامكم، يبارك لكم فيه، وهذا في “صحيح البخاري”، كيف نجمع بين هذين الحديثين؟

الجواب: أحسن ما قيل في الجمع: إن المراد بالكيل في قوله: كيلوا طعامكم، الكيل عند المبايعة، يعني عند البيع والشراء، فهذا مطلوبٌ من أجل حق المتبايعَين؛ فيندب، ويكون هذا من أسباب البركة.

أما الكيل عند الإنفاق، فقد يبعث عليه الشح والحرص فكره، فيكون إذنْ الكيل عند البيع والشراء مطلوبًا، ومندوبًا إليه، وأما الكيل عند الإنفاق فمكروهٌ.

عند الإنفاق لا تدقق، لا تَكِل، لا تحسب، لا تستقصِ، يبارك الله تعالى لك في هذا الشيء، ومن هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام: إن هذا المال خضرٌ حلوٌ، فمن أخذه بسخاوة نفسٍ بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفسٍ لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع [23].

ما معنى هذا الحديث؟

هذا الحديث جاء في قصة حكيم بن حزامٍ، قال: سألت النبي فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، بعدما أعطاه المرة الثالثة، وعظه موعظةً قصيرةً، لكنها مؤثرةٌ جدًّا، فقال: يا حكيم، إن هذا المال خضرٌ حلوٌ، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خيرٌ من اليد السفلى قال حكيمٌ: والله لا أرزأ بعدك أحدًا أبدًا، يعني: ما أطلب من أحدٍ بعدك شيئًا، وبقي طيلة حياته لا يسأل شيئًا.

لما كان في عهد أبي بكرٍ الصديق  كان يعطَى حقه من العطاء؛ لأنه قديمًا كانت الدولة ليست كالدولة الحديثة الآن، كانت الدولة فقط تتكفل بحفظ الأمن الداخلي والخارجي والتقاضي، وما يأتي الدولة من شيءٍ يوزعونها بين الناس، يسمى “العطاء”.

فكان يعطى حكيمٌ  العطاء من بيت المال فيأبى، ففي عهد عمر كان يعطيه حقه من العطاء من بيت المال فيأبى، فيقول عمر: أشهدكم أني أعطيه حقه فيأبى، فيقول حكيمٌ: والله إني قلت: إني لا أرزأ بعدك أحدًا أبدًا.

فانظر إلى عظيم تأثير موعظة النبي عليه الصلاة والسلام له بكلماتٍ يسيرةٍ، فقال: إن هذا المال خضرٌ حلوٌ المال محبوبٌ للنفوس: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20].

فمن أخذه بسخاوة نفسٍ يعني: من غير تعلقٍ، ومن غير شحٍّ، ومن غير شرهٍ، ومن غير طمعٍ بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس يعني: بشحٍّ وحرصٍ وتعلقٍ وطمعٍ لم يبارك له فيه، وكان الذي يأكل ولا يشبع.

فهذا يدل على أن الإنسان ينبغي أن يضبط علاقته بالمال، لا يتمسك بالمال بشرهٍ وحرصٍ وتعلقٍ وطمعٍ، هذا تنزع البركة من هذا المال، لكن يكون بسخاوة نفسٍ، وكرم نفسٍ.

ولهذا؛ في هذه القصص، هذه المرأة لما كانت العكة عندها كان تجد السمن فيها، لما أتاها شيءٌ من الحرص عصرتها انقطع السمن، هذا الرجل أيضًا، هذا الشعير كان يأكل منه هو وأهله والضيف، لما أصبح يكيله يعني كأنه طرأ عليه شيءٌ من الشح فني.

عائشة رضي الله عنها كان عندها شعير، تقول: نأكل منه ولما كالته كأن لديها شيءٌ من الحرص فني، ولهذا؛ القرطبي رحمه الله -وليس هو القرطبي صاحب أحكام القرآن، وإنما هو القرطبي شارح “مسلمٍ”- يقول: من رزق شيئًا، أو أكرم بكرامةٍ، أو لطف به في أمرٍ ما، فالمتعيِّن عليه موالاة الشكر، ورؤية المنة لله، ولا يحدث في ذلك تغييرًا، بل يتركها على حالها، لا يغير.

كان عمران بن حصينٍ  تسلم عليه الملائكة عند السحر، فكان كتم ذلك، ما أحدٌ يدري، ومستمرٌّ، لما كوى، يعني أحدث تغييرًا انقطع تسليم الملائكة عليه، كما في “صحيح مسلمٍ” [24].

فيعني يقول: من رزقه الله لطفًا، أو بركةً في شيءٍ ينبغي أن يشكر الله ولا يغير، لا يحدث في ذلك تغييرًا، إذا غير فقد ينقطع هذا الشيء، هذا الشيء من البركة أو اللطف، أو نحو ذلك.

فهذه من المعاني اللطيفة الدقيقة.

جريان عين تبوك ببركة النبي

القارئ:

حدثنا عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي، حدثنا أبو عليٍّ الحنفي، حدثنا مالكٌ وهو ابن أنسٍ، عن أبي الزبير المكي، أن أبا الطفيل عامر بن واثلة أخبره أن معاذ بن جبلٍ أخبره، قال: خرجنا مع رسول الله عام غزوة تبوك، فكان يجمع الصلاة، فصلى الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، حتى إذا كان يومًا أخَّر الصلاة، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل، ثم خرج بعد ذلك، فصلى المغرب والعشاء جميعًا، ثم قال: إنكم ستأتون غدًا -إن شاء الله- عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئًا حتى آتي، فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشِّراك تَبِضُّ بشيءٍ من ماءٍ، قال: فسألهما رسول الله : هل مسستما من مائها شيئًا؟ قالا: نعم، فسبَّهما النبي ، وقال لهما ما شاء الله أن يقول، قال: ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلًا قليلًا، حتى اجتمع في شيءٍ، قال وغسل رسول الله به يديه ووجهه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماءٍ منهمرٍ، أو قال: غزيرٍ -شك أبو عليٍّ أيهما قال- فاستقى الناس، ثم قال: يوشك يا معاذ -إن طالت بك حياةٌ- أن ترى ما هاهنا قد مُلئ جِنَانًا [25].

الشرح:

حكم الجمع بين الصلاتين للمسافر والمقيم

نعم، هذه القصة حصلت في غزوة تبوك، غزوة تبوك كانت في السنة التاسعة من الهجرة، وكان النبي يجمع الصلاة، مع كونه مقيمًا، وهذا فيه دليلٌ على أن الجمع لا يختص بحال السير والضرب في الأرض، وإنما المسافر أيضًا إذا أقام يجوز له أن يجمع، وإن كان الأفضل، الأفضل في حق المسافر أن يترك الجمع، وأن يصلي كل صلاةٍ في وقتها، لكن أحيانًا تقتضي المصلحة الجمع، كأن يكون الماء قليلًا، وهذا هو الظاهر من حال النبي عليه الصلاة والسلام هنا مع أصحابه.

فيجوز الجمع، والأفضل أن تصلَّى كل صلاةٍ في وقتها، فكان يجمع الصلاة عليه الصلاة والسلام ربما كان الماء قليلًا، أو لغير ذلك من الأسباب، ويجوز الجمع حتى من غير سببٍ، ما دام مسافرًا، فالسفر نفسه يعتبر سببًا.

نعم، إذا جاز الجمع جاز القصر، يجوز الجمع مع القصر، فكان يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، ثم قال: إنكم ستأتون غدًا -إن شاء الله- عين تبوك، في موضع تبوك، مدينة تبوك المعروفة الآن.

وإنكم لن تأتوها حتى يضحي الناس يعني: تأتون ضحًى، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئًا حتى آتي؛ لأنه كان جيشٌ كبيرٌ، وكان بعضهم يتقدم يعني على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: لا أحد يمس من مائها شيئًا.

وذلك ليظهر انفراده بالمعجزة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يأخذ هذا الماء، ويضعه بين أصابعه فيكثر الماء.

قال: فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشِّراك تَبِضُّ بشيءٍ من ماءٍ، يعني: العين قليلةٌ ليست كثيرةً، والشِّراك: هو سير النعل، والمراد أن الماء الذي يخرج منها ماءٌ قليلٌ جدًّا.

إشكالٌ حول سب النبي للرجلين

هنا وجد النبي عليه الصلاة والسلام هذين الرجلين، سألهما قال: هل مسستما من مائها شيئًا؟ قالا: نعم، فسبَّهما النبي ، وقال لهما ما شاء الله، الذي سب من؟ الساب من هو؟ النبي عليه الصلاة والسلام.

طيب هنا يأتي إشكالٌ: كيف يسب النبي عليه الصلاة والسلام، وهو قد قال: إن المؤمن ليس باللعان ولا بالطعان [26]، وقال: سباب المسلم فسوقٌ [27]، يعني: نهى عليه الصلاة والسلام عن السب، وهنا سب هذين الرجلين.

قيل: إنهما من المنافقين، يعني وهما مستحقان أصلًا للسب.

وقيل، وهو الأقرب -والله أعلم- إن من خصائص النبي أن سبه ينقلب إلى زكاةٍ ورحمةٍ وقربةٍ لمن سب، هذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، ويدل لهذا: ما جاء في “صحيح مسلمٍ” أن النبي قال: اللهم من لعنتُه أو سببته، وليس لذلك بأهلٍ، فاجعل ذلك زكاةً ورحمةً وقربةً تقربه إليك يوم القيامة [28]، فيكون هذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، أن السب ينقلب إلى زكاةٍ ورحمةٍ وقربةٍ، فهذا أجود من الأول، والأول أيضًا محتملٌ، فمحتملٌ أنهما من المنافقين، وأنهما يستحقان السب، لكن الثاني: أن من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام أن سبه ينقلب إلى رحمةٍ وقربةٍ وزكاةٍ.

قال: “ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلًا قليلًا”؛ لأن ماءها قليلٌ جدًّا، “حتى اجتمع في شيءٍ، وغسل رسول الله فيه يديه ووجهه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماءٍ منهمرٍ”، سبحان الله! هذه العين التي كانت تَبِض بالماء، ما فيها إلا ماءٌ قليلٌ جدًّا؛ لما النبي عليه الصلاة والسلام غسل وجهه ويديه، وأعاده فيها أصبحت تجري بماءٍ غزيرٍ منهمرٍ، آيةٌ من آيات الله تعالى.

“حتى استقى الناس” وكان معه جيشٌ كاملٌ، عددٌ كثيرٌ، فتحولت هذه العين إلى عينٍ غزيرةٍ، فاستقى منها الناس.

جزيرة العرب ستعود مروجًا وأنهارًا

“ثم قال: يوشك يا معاذ -إن طالت بك حياة- أن ترى ما هاهنا قد ملئ جِنَانًا يعني: قد ملئ بساتين وخضرةً، وفي الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام: لا تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجًا وأنهارًا [29].

هنا بعض العلماء يقول: إن هذا قد حصل، وأن هذه العين التي في تبوك عادت جنانًا وبساتين وخضرةً، بل قال ابن وضَّاحٍ: رأيت ذلك الموضع جنانًا ونضرة.

ويحتمل أن المراد: هو ما قاله عليه الصلاة والسلام: لا تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجًا وأنهارًا، وهذا لا يُعلم أنه قد حصل أن جزيرة العرب أصبحت مروجًا وأنهارًا، وهذا يدل على أنها ستعود، وقوله: ستعود، يدل على أنها كانت كذلك من قبل.

ومن يبحث في الجيولوجيا يقول: إنها كانت جزيرة العرب من قديمٍ، منذ آلاف السنين، كانت مروجًا وأنهارًا، فقوله: حتى تعود، يدل على أنها كانت قديمًا كذلك، وهذا من آياته عليه الصلاة والسلام.

كيف تعود جزيرة العرب مروجًا وأنهارًا؟ الله تعالى أعلم، لا ندري، ولذلك؛ أشراط الساعة التي أخبر النبي عنها لا يُجزم فيها بشيءٍ إلا بعد وقوعها، أما قبل الوقوع لا يجزم بأن هذا من أشراط الساعة إلا بعد أن يقع؛ لأنه أحيانًا بعض الناس ينزل بعض الأحداث المعاصرة على أشراط الساعة، ثم يتبين خطؤه، يعني يقع في خطأٍ عظيمٍ بهذا التنزيل.

لكن إذا وقع هذا الشيء هنا يعني يقال بذلك، يعني بعض المعاصرين تكلم في هذا، وقال: إن المراد بذلك المزارع الموجودة الآن والبساتين، ولكن هذا بعيدٌ، قوله: مروجًا وأنهارًا، يدل على النضرة، وأنهار! لا يعهد أن جزيرة العرب أتى فيها أنهارٌ من عهد النبي إلى وقتنا هذا، هي صحراء قاحلةٌ، لكن هذا سيتحقق.

فهل المقصود بقوله عليه الصلاة والسلام: يوشك يا معاذ -إن طال بك حياةٌ- أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانًا، يعني ما حصل، مما ذكره ابن وضاحٍ وغيره، أو أن المقصود بقوله عليه الصلاة والسلام هذا: ما ذكره في الحديث الآخر، أنه لا تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجًا وأنهارًا؟ الله تعالى أعلم، هذا محتملٌ.

لكن قوله: يا معاذ إن طالت بك حياةٌ، يدل على قرب حصول ذلك، وأن هذه الأماكن سوف تزرع، وتكون جنانًا ونضرةً، وبعض من عاصر ذلك قال: إن هذا قد حصل، فالله تعالى أعلم.

القارئ:

حدثنا عبدالله بن مسلمة بن قَعْنبٍ، حدثنا سليمان بن بلالٍ، عن عمرو بن يحيى، عن عباس بن سهل بن سعدٍ الساعدي، عن أبي حميدٍ، قال: خرجنا مع رسول الله غزوة تبوك، فأتينا وادي القرى على حديقةٍ لامرأةٍ، فقال رسول الله : اخرُصوها، فخرصناها وخرصها رسول الله عشرة أوسقٍ، وقال: أَحصيها حتى نرجع إليك، إن شاء الله، فانطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله : ستهب عليكم الليلة ريحٌ شديدةٌ، فلا يقم فيها أحدٌ منكم، فمن كان له بعيرٌ فليشد عقاله، فهبت ريحٌ شديدةٌ، فقام رجلٌ فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طَيِّئٍ، فجاء رسول ابن العَلْماء، صاحب أيلة، إلى رسول الله بكتابٍ، وأهدى له بغلةً بيضاء [30].

الشرح:

طيب، هذا الحديث حديثٌ طويلٌ، وفيه أحكامٌ وفوائد، وأيضًا شرحه يطول، فنرجئه -إن شاء الله- للدرس القادم، ونقف عند هذا الحديث، حتى نشرحه على مهلٍ، ونبين ما يتضمنه من الأحكام إن شاء الله تعالى، فنكتفي بهذا القدر.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

نجيب عما تيسر من الأسئلة:

السؤال: هذا سائلٌ يقول: هل فعل الحجامة سنةٌ، أم يفعله الذي يحتاج إليه؟ وهل ورد في السنة أن لها وقتًا محددًا؟

الجواب: الحجامة مباحةٌ، لا يقال: إنها سنةٌ، وإنما هي من الأمور المباحة، لكن أخبر النبي بأن فيها علاجًا وشفاءً من بعض الأمراض، وقال: الشفاء في ثلاثةٍ…، وذكر منها: شرطة محجمٍ [31]، وقال أيضًا، والحديث في “صحيح البخاري”، قال عليه الصلاة والسلام: إن أمثل ما تداويتم به الحجامة [32].

ونفعها عظيمٌ وظاهرٌ، واتفق على ذلك الناس قديمًا، وأيضًا حتى حديثًا هي مصنفةٌ من ضمن الطب البديل؛ ولها فوائد كثيرةٌ، ومن أحسن من تكلم عنها ابن القيم رحمه الله في “الطب النبوي”.

وأما: هل هناك وقت محدد لها؟

روي في ذلك أحاديث، لكنها لا تثبت من جهة الأسانيد، روي في ذلك حديث: من احتجم لسبع عشرة، أو تسع عشرة، أو إحدى وعشرين كان شفاءً من كل داءٍ [33]، لكنه ضعيفٌ، فلا يثبت في ذلك وقتٌ محددٌ.

ولكن ذكر ابن القيم في “الطب النبوي” وغيره: أن أفضل أوقاتها: هو الربع الثالث من الشهر الهجري القمري، يعني من السابع عشر إلى الحادي والعشرين، هذا أفضل أوقاتها.

وأما أفضله بالنسبة للسَّنة: فهو فصل الربيع، يعني يقولون: في شهر إبريل، إبريل من السَّنة الشمسية، وهو أفضل أوقاته في السَّنة.

وبالنسبة للشهر: فالربع الثالث، من السابع عشر إلى الحادي والعشرين، وأن يكون على الريق صباحًا، هذا أفضل وأنفع ما يكون، فهي من الطب النبوي، ولا يقال: إنها سنةٌ، هي مثل شرب العسل، ومثل الكي، وإن كان الكي ورد أيضًا كراهته، لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة، لكن هي مثل شرب العسل، هل شرب العسل سنةٌ؟ هي مثله، فهي نقول: إنها مباحةٌ، ولا يقال: إنها سنةٌ.

لكن النبي عليه الصلاة والسلام أرشد لبعض ما يتعالج به، وما يستطب به، كما أن الله تعالى قال عن العسل: فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ [النحل:69]، والنبي عليه الصلاة والسلام ذكر أمورًا يستشفى بها؛ مثل: الحبة السوداء، والقُسط  البحري، وأيضًا كذلك بالنسبة للحجامة ذكرها عليه الصلاة والسلام، وذكر أمورًا يستشفى بها.

وكان النبي عليه الصلاة والسلام له عنايةٌ بالطب والتطبب، ولذلك؛ ذكر بعض الأمور التي يستشفى بها، وكان يأخذ القثاء مع الرطب، ويقول: نكسر برد هذا بحر هذا [34]، فهذا يدل على عناية النبي عليه الصلاة والسلام بهذه المسائل، لكن لا يقال: إنها سنةٌ، وإنما يقال: إنها مباحةٌ كسائر ما يُتداوى به.

السؤال: طلقت زوجتي بضغطٍ من أهلي، ولا زلت أفكر بها، ما توجيهكم؟

الجواب: لا يلزم طاعة الوالدين في طلاق الزوجة، إلا أن يكون هناك سببٌ معتبرٌ شرعًا؛ كأن تسيء إليهما مثلًا، أما إذا لم يكن هناك سببٌ معتبرٌ شرعًا، وإنما مجرد كراهة الأب أو الأم لهذه الزوجة، فلا يلزم الابن أن يطيعهما في ذلك؛ لأن القاعدة في الطاعة للوالدين أنها بالمعروف.

ولذلك؛ جاء رجلٌ للإمام أحمد، وقال: إن أبي يأمرني بطلاق امرأتي، قال: لا تطلقها، قال: أليس عمر لما أمر ابنه عبدالله رضي الله عنهما بطلاق امرأته قال له النبي : أطع أباك؟ [35]، قال: إذا كان أبوك مثل عمر فطلقها؛ لأن عمر لا يمكن أن يأمر ابنه بطلاق امرأته إلا بسببٍ معتبرٍ شرعًا.

فعلى ذلك: نقول للأخ السائل الكريم: إذا كان هذا الضغط من الوالدين لتطليق زوجتك إذا لم يكن لسببٍ معتبرٍ شرعًا، فلا يلزمك ذلك، ولك أن تراجعها، أما إذا كان لسببٍ معتبرٍ شرعًا فتطيعهما.

السؤال: هذا سائلٌ يقول: إن الله خلق إبليس للاختبار؛ فلماذا يعذبه في الآخرة؟

الجواب: أولًا طرح مثل هذه الأسئلة، هذا طرحٌ غير مناسبٍ، ولا يليق بالمسلم أن يطرح مثل هذه الأسئلة، الله تعالى أحكم الحاكمين، والله تعالى لا يخلق شيئًا إلا لحكمةٍ، ولا يأمر بشيءٍ إلا لحكمةٍ، ولا ينهى عن شيءٍ إلا لحكمةٍ، فخلقه حكمة الحِكم، وأمره حكمة الحِكم، ونهيه حكمة الحِكم جل وعلا.

وإنما يتهم الإنسان عقله ورأيه، هذا مقتضى العبودية لله ، فلا تطرح مثل هذه الأسئلة؛ لماذا يفعل الله كذا؟ الله تعالى أعلم وأحكم، أنت مخلوقٌ صغيرٌ، لا بد أن تعرف قدرك وحجمك في هذا الكون، الإنسان لا يعلم إلا شيئًا يسيرًا من ظاهر عالم المادة، أما العوالم الأخرى فلا يعلمها، حتى روحه التي بين جنبيه، روحه التي بين جنبيه لا يعرف حقيقتها، ولا يعرف كُنْهها.

لهذا؛ لما سئل النبي عن الروح أنزل الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]، ليست من عالمكم؛ من عالمٍ آخر لا تعرفونه ولا تدركونه: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].

والإنسان في هذه الأرض صغيرٌ جدًّا يعني يعيش معه فقط من البشر الآن الأحياء أكثر من سبعة ملياراتٍ، وهذه الأرض نقطةٌ صغيرةٌ جدًّا في المجرة، في المجموعة الشمسية، والمجموعة الشمسية نقطةٌ صغيرةٌ في مجرة درب التبانة، ويوجد بلايين المجرات في هذا الكون، خلقٌ عظيمٌ، ولذلك؛ فلا تطرح مثل هذه الأسئلة.

ثم أيضًا هذا السؤال غير صحيحٍ، كيف يقول: إن الله خلق إبليس للاختبار؟ خلق الله إبليس كما خلق غيره، وأمره كما أمر الملائكة بالسجود لآدم، ولكنه عصى الله واستكبر، وعلل ذلك فقال: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76]، في زعمه أن النار أشرف من الطين، فكيف يسجد الفاضل للمفضول؟ فلَعَنه الله وطرده، مع أن هذا القياس الذي ذكره ناقشه ابن القيم وغيره، قالوا: غير صحيحٍ، بل الطين أشرف من النار، لكن هو في زعمه يعتقد هذا، فلعنه الله تعالى وطرده؛ بسبب كفره واستكباره وعصيانه لربه ، والله تعالى هو الحكيم العليم، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء:23].

السؤال: هل يجزئ الغسل من غير جنابة عن الوضوء؟

الجواب: أما الغسل الواجب عمومًا: سواءٌ كان من جنابةٍ أو غيره؛ كغسل الحيض مثلًا، فجمهور الفقهاء يقولون: إنه يجزئ عن الوضوء إذا نوى ذلك.

وقد سئل الإمام أحمد: هل يُجزئ غسل الجنابة عن الوضوء؟ قال: نعم، إذا نواه، وعلل ذلك الفقهاء بأنهما طهارتان: صغرى وكبرى، فدخلت الصغرى في الكبرى.

أما الغسل غير الواجب: فلا يُجزئ عن الوضوء؛ لأن الأصل أن المسلم مأمورٌ بغَسل أعضائه الأربعة المذكورة في الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، وأن يكون ذلك مرتبًا.

لا نخرج عن هذا الأصل إلا بشيءٍ واضحٍ، بالنسبة لإجزاء الغسل الواجب، هنا القياس واضحٌ، طهارتان: صغرى وكبرى، دخلت الصغرى في الكبرى.

لكن هذا القياس لا يتأتى في الغسل غير الواجب؛ ولذلك لا يجزئ الغسل غير الواجب عن الوضوء؛ فغسل الجمعة لا يجزئ عن الوضوء، وغسل التبرد والتنظف لا يجزئ عن الوضوء، وهذا اختيار شيخنا ابن بازٍ والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله تعالى، أن الغسل غير الواجب لا يجزئ عن الوضوء.

ولذلك؛ ينبغي التنبه لهذا، خاصةً في غسل الجمعة، تجد بعض الناس يغتسل للجمعة، ثم يأتي للمسجد الجامع ولا يتوضأ، فهذا بناءً على هذا القول صلاته غير صحيحةٍ؛ لأنه لم يتوضأ.

على أن الأفضل في غسل الجمعة: أن تأتي به على صفة غسل الجنابة، وإذا أتيت به على الصفة الكاملة لغسل الجنابة فسوف تتوضأ في أوله، ويرتفع الإشكال في هذا.

السؤال: بدأت صلاتي وسمعت جماعةً يصلون خلفي، هل يشرع لي قطع صلاتي والدخول معهم؟

الجواب: نعم، لا بأس بهذا، بل هذا هو الأفضل، فأنت بدأت صلاتك منفردًا، وسمعت جماعةً فتريد أن تقلب صلاة الفريضة إلى نفلٍ، ثم تذهب وتصلي مع الجماعة لتحصِّل أجر الجماعة، هذا لا بأس به، وقلب الفريضة لنافلةٍ لسببٍ لا بأس به، إذا كان لسببٍ، وهذا يعتبر سببًا؛ لأنك تريد تحصيل أجر الجماعة.

فعلى ذلك نقول: الأفضل في حقك: أن تقلب هذه الصلاة إلى نفلٍ إلى ركعتين خفيفتين، ثم تدخل مع الجماعة الجديدة، فتضمن بذلك أجر الجماعة.

السؤال: هل يجوز الحلف على الكذب بين الزوجين؟

الجواب: أولًا الكذب بين الزوجين قد رخص فيه النبي ؛ كما في حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها، قالت: “ولم أسمعه يرخص في شيءٍ إلا في ثلاثٍ”، يعني في شيءٍ من الكذب: “في الحرب، وفي الإصلاح بين المتخاصمين، وفي الكذب بين الزوجين” [36].

وما عدا ذلك لا يجوز فيه الكذب، هذه الأمور الثلاثة المصلحة فيها ظاهرةٌ.

أما الحرب: فالحرب خدعةٌ؛ كما قال عليه الصلاة والسلام [37].

وأما في الإصلاح بين المتخاصمين: فالمصلحة ظاهرةٌ؛ لأنه يأتي لهذا ويقول: إن فلانًا يثني عليك، وفلانًا يذكرك بالخير، يريد أن يؤلف قلبه للصلح، ويَسُل ما في نفسه من الضغينة، فمصلحته ظاهرةٌ.

كذلك أيضًا بين الزوجين، لكن فيما يخصهما، ليس معنى ذلك أنهما يكذبان على الناس، ويكذبان على الآخرين، لا، المقصود فيما يخصهما؛ لأن أيضًا مصلحة هذا ظاهرةٌ.

وأيضًا في الكذب على الزوجين، كذب أحد الزوجين على الآخر، ينبغي ألا يكثر، وإنما يلجأ إليه عند الحاجة؛ لأنه إذا كثر فهذا يهز الثقة، يصبح الرجل لا يثق بامرأته، والمرأة لا تثق بزوجها، كل منهما يعتقد أن الآخر يكذب عليه، لكن هذا يلجأ إليه عند الحاجة ووجود المصلحة الظاهرة.

ويبقى سؤال الأخ الكريم: هل يجوز الحلف؟

إذا جاز الكذب جاز الحلف عليه.

السؤال: ما أفضل الصلوات الخمس؟

الجواب: أفضل الصلوات الخمس الصلاة الوسطى؛ لأن الله خصها بالذكر في قوله: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، والصلاة الوسطى: هي صلاة العصر؛ لقول النبي في الحديث المتفق على صحته: شغلونا -يعني: المشركين- عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا [38]، وهذا نصٌّ صحيحٌ صريحٌ.

أما كونه صحيحًا فهو في “الصحيحين”، وأما كونه صريحًا فظاهرٌ: شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، فأفضل الصلوات الخمس: هي صلاة العصر، ويليها في الأفضلية صلاة الفجر؛ لقول الله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، قرآن الفجر المقصود به: صلاة الفجر، وسميت قرآنًا لأنه يشرع تطويل القراءة فيها، ومعنى مَشْهُودًا أي: تشهدها الملائكة.

وقد أخبر النبي بأن الملائكة تجتمع في صلاة الفجر وصلاة العصر، قال: يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكة بالنهار، فيجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم، كيف وجدتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون [39].

طيب، من هم الملائكة الذين يجتمعون في هاتين الصلاتين؟

أولًا: الملائكة الكتبة؛ لأنه وُكل بكل إنسانٍ ملكان: ملكٌ عن يمينه، وملكٌ عن يساره؛ ملكٌ عن يمينه يكتب الحسنات، وملكٌ عن يساره يكتب السيئات: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ۝مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17-18]، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ۝كِرَامًا كَاتِبِينَ ۝يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12].

وهذان الملكان من صلاة الفجر إلى العصر، ثم يعقبهما ملكان آخران من العصر إلى الفجر، فيكون المجموع كم؟ أربعةً؛ ملكان من الصبح إلى العصر، وملكان من العصر إلى الفجر.

أيضًا: يتعاقب الحفظة، فإنه قد وكل بكل إنسانٍ ملكان: ملكٌ أمامه، وملكٌ خلفه: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]، سبحان الله! انظر عناية الله وتكريمه للإنسان: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70]، فجعل الله تعالى أيضًا ملكين يحفظان الإنسان: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]، لكن إذا جاء القدر خلوا بينه وبينه، فملك بين يديه، وملك خلفه، الاثنان أيضًا يتعاقبون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فكم مجموع الملائكة الحفظة أيضًا؟ أربعةٌ.

أربعةٌ وأربعةٌ ثمانيةٌ، معنى ذلك: يتعاقب ثمانيةٌ من الملائكة على هذا الإنسان، سبحان الله! ذكر هذا ابن كثيرٍ في تفسيره، وغيره من أهل العلم.

الطالب:

الشيخ: نعم، يتعاقب ثمانيةٌ من الملائكة: أربعةٌ كتبةٌ، وأربعةٌ حفظةٌ، فسبحان الله! انظر إلى عظيم تكريم الله تعالى للإنسان، أربعةٌ لأجل حفظ الإنسان، وأربعةٌ لأجل كتابة الأعمال عليه، وتتعاقب هذه الملائكة في صلاة الفجر وفي صلاة العصر، ولذلك؛ فهاتان الصلاتان هم أفضل الصلوات الخمس.

ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: من صلى البردين دخل الجنة [40]، والمقصود بالبردين: الفجر والعصر، ولكن هذا من نصوص الوعد، يعني إذا دخل الجنة إذا حقق الشروط، وانتفت الموانع، فهو كسائر أحاديث الوعد.

ليس معنى ذلك أنه يصلي فقط الفجر والعصر، ويترك بقية الصلوات، لا، هذا من نصوص الوعد، يعني: إذا فعل ذلك وأتى بالشروط، وانتفت الموانع، كبقية نصوص الوعد.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 2276.
^2 رواه مسلم: 2315.
^3 رواه أبو داود: 2980، والنسائي: 4423.
^4 سبق تخريجه.
^5 رواه أحمد: 23489 بنحوه.
^6 رواه مسلم: 2277.
^7 رواه البخاري: 7274، ومسلم: 152.
^8 رواه أحمد: 21260 بنحوه.
^9 رواه مسلم: 2278.
^10 رواه البخاري: 4814، ومسلم: 2955.
^11 رواه مسلم: 195.
^12 رواه الترمذي: 3615، وقال: حسنٌ، وابن ماجه: 4308.
^13 رواه البخاري: 2412، ومسلم: 2374 بنحوه.
^14 رواه البخاري: 2411، ومسلم: 2373 بنحوه.
^15 رواه البخاري: 200، ومسلم: 2279.
^16 رواه البخاري: 169، ومسلم: 2279.
^17 رواه مسلم: 2279.
^18 رواه البخاري: 5896.
^19 رواه مسلم: 2280.
^20 رواه البخاري: 6451، ومسلم: 2973.
^21 رواه البخاري: 2128.
^22 رواه مسلم: 2281.
^23 رواه البخاري: 1472، ومسلم: 1035.
^24 رواه مسلم: 1226.
^25 رواه مسلم: 706.
^26 رواه الترمذي: 1977، وقال: حسنٌ غريبٌ.
^27 رواه البخاري: 48، ومسلم: 64.
^28 رواه مسلم: 2600 بنحوه.
^29 رواه مسلم: 157.
^30 رواه مسلم: 1392.
^31 رواه البخاري: 5681، ومسلم: 2205.
^32 رواه البخاري: 5696، ومسلم: 1577.
^33 رواه أبو داود: 3861.
^34 رواه البخاري: 5440، ومسلم: 2043.
^35 رواه النسائي في السنن الكبرى: 5631، وأحمد: 4711.
^36 رواه مسلم: 2605.
^37 رواه البخاري: 3030، ومسلم: 1739.
^38 رواه البخاري: 2931، ومسلم: 627.
^39 رواه البخاري: 555، ومسلم: 632.
^40 رواه البخاري: 574، ومسلم: 635.