الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب الحج من دليل الطالب/(02) كتاب الحج- من قوله: “فإن عجز عن السعي لعذر..”
|categories

(02) كتاب الحج- من قوله: “فإن عجز عن السعي لعذر..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

حياكم الله جميعًا في هذا الدرس الثاني من هذه الدورة التي ترتبها وتنظمها “الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي”، وهذا الدرس هو في شرح كتاب الحج من “دليل الطالب”.

تتمة شروط وجوب الحج

وكنا قد بدأنا في الدرس السابق بأول المتن فيما يتعلق بكتاب الحج، وأخذنا تعريفات الحج، وما يتعلق بها، وكذلك أيضًا: شروط وجوب الحج، ووصلنا إلى قول المصنف رحمه الله بعدما ذكر شرط الاستطاعة.

حكم من عجز عن الحج ببدنه

قال:

فإن عجز عن السعي لعذرٍ؛ ككِبَرٍ أو مرضٍ لا يرجى برؤه، لزمه أن يقيم نائبًا.

إذا كان الإنسان مريضًا مرضًا لا يرجى برؤه، أو كان كبيرًا في السن، وكان قادرًا على أن يحج بماله لكنه لا يستطيع أن يحج ببدنه، فيلزمه أن يقيم من يحج عنه، ما دام أن مرضه لا يرجى برؤه، أو أنه كبيرٌ في السن.

أما لو كان مريضًا مرضًا يرجى برؤه، فإنه لا يقيم من يحج عنه، وإنما ينتظر حتى يبرأ، لكن إذا كان مريضًا مرضًا لا يرجى برؤه، أو أنه كان كبيرًا في السن، فيلزمه أن يقيم من يحج عنه، إذا كان قادرًا على ذلك بماله.

شروط من يصح إنابته في الحج

ويشترط لهذا النائب أن يكون.. قال المؤلف:

أولًا:

حرًّا.

فلا يكون رقيقًا.

حكم حج المرأة عن الرجل

ولو امرأةً.

يعني: يصح أن تحج المرأة عن الرجل، والرجل عن المرأة.

قال: يحج ويعتمر عنه.

وقد دل لهذا عدة أحاديث؛ منها: ما جاء في “الصحيحين” عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن امرأةً من خَثْعَم أتت النبي فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل أحج عنه؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم، حجي عنه [1].

ففي قولها: “إن أبي أدركته فريضة الله على عباده في الحج”، هذا يقتضي الوجوب، وهذا وإن كان من قول المرأة، إلا أن إقرار النبي لها على ذلك هو موضع الاستدلال؛ لأن النبي أقرها على هذه المقولة، فدل ذلك على أن من كان قادرًا على الحج بماله دون بدنه يلزمه أن يقيم من يحج عنه.

هل يلزم النائب أن يحج من مكان المنيب؟

لكن هنا المؤلف قيد أن يكون النائب من بلده، فقال:

من بلده.

أي: إنه يجب أن يكون النائب يحج من بلد المستنيب، فإذا كان المستنيب مثلًا هذا المريض مرضًا لا يرجى برؤه، أو الكبير في السن مقيمًا في مدينة الرياض، فيلزمه أن يكون النائب الذي يحج عنه من مدينة الرياض، ولا يصح أن يوكل نائبًا من مكة مثلًا، أو من جدة، قالوا: لأن المنيب لو أراد أن يحج لنفسه لحج من مكانه، فكذا نائبه.

وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يلزم النائب أن يحج من مكان المنيب، وإنما له أن يحج من أي مكانٍ، قالوا: لأن السعي إلى مكة ليس مقصودًا لذاته؛ وإنما هو مقصود لغيره؛ ولهذا لو أن المنيب قد ذهب لمكة لغرضٍ، ثم بدا له أن يحج من مكة، جاز له ذلك بالإجماع، ولا يلزمه أن يرجع إلى بلده الذي هو مقيمٌ فيه فيحج منه.

فدل ذلك على أن حج المنيب من مكانه إنما هو مقصود لغيره؛ وليس مقصودًا لذاته، وهذا هو القول الراجح: أنه لا يلزم أن يكون النائب من بلد المنيب، فيصح أن يكون النائب من أي بلدٍ ومن أي مكانٍ، لك أن تنيب من يحج عنك من أي مكانٍ؛ من جدة، من مكة، من أي مكانٍ، على القول الراجح.

قال: ويجزئه ذلك ما لم يَزُل العذر قبل إحرام نائبه.

يعني: يجزئه تلك النيابة بالضوابط التي ذكرنا، لكن أراد المؤلف بهذا أن يبيِّن أن ذلك مشروطٌ فيه أنه قبل زوال العذر، فإن زال العذر قبل إحرام نائبه لم يجزئه.

فلو كان مريضًا مرضًا لا يرجى برؤه، وأناب من يحج عنه، ثم إنه في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة شفاه الله تعالى؛ فيلزمه أن يحج هو بنفسه، وليس له أن يطلب من هذا النائب أن يحج عنه.

حكم الحج عمن مات ولم يحج

قال: فلو مات قبل أن يستنيب، وجب أن يُدفع من تركته لمن يحج ويعتمر عنه.

يعني: لو أن هذا القادر بماله، والعاجز ببدنه، لم يُقم من يحج عنه حتى مات؛ فإنه يُحَجَّج عنه من تركته، ويُعتمر عنه من تركته؛ لأن الحج والعمرة دينٌ في ذمته، هي دينٌ لله ​​​​​​​، والله تعالى لما ذكر قسمة التركة قال: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، فالحج دينٌ، والعمرة دينٌ في ذمته.

والدين إما أن يكون دينًا لله، أو دينًا للآدميين، الحج والعمرة يعتبران دينًا لله ؛ ولذلك من كان قادرًا على الحج، ولم يحج، سواءٌ كان قادرًا ببدنه ثم مات، أو قادرًا بماله ولم يُقِم من يحج عنه؛ فيجب على الورثة أن يُحَجِّجوا عنه من تركته.

قال: ولا يصح ممن لم يحج عن نفسه حجٌّ عن غيره.

أي: إنه يشترط لمن أراد أن يحج عن غيره، أن يكون قد حج عن نفسه، وقد جاء في حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن النبي سمع رجلًا يقول: لبيك عن شُبْرُمة، قال: من شبرمة؟ قال: أخٌ أو قريبٌ لي، قال: حججت عن نفسك قال: لا، قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة [2]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه، واختلف في رفعه ووقفه، والصحيح: أنه موقوفٌ، ولا يصح مرفوعًا؛ ولهذا قال الإمام أحمد: رفعه خطأٌ، ولكن هذا الحديث عليه العمل عند أهل العلم.

والحج يجب على الفور، فلا يجوز لأحدٍ أن يحج عن غيره وهو لم يحج عن نفسه؛ لأنه إذا فعل ذلك لم يكن قد امتثل الأمر بالحج، والأمر يقتضي الفورية؛ فيكون آثمًا بتأخير الحج عن نفسه مع قدرته على ذلك.

قال المصنف رحمه الله:

وتزيد الأنثى شرطًا سادسًا.

هذا الشرط يعتبره بعض الفقهاء الشرط السادس، ويعتبره آخرون داخلًا في الشرط الخامس، في شرط الاستطاعة، والأقرب أنه يدخل في شرط الاستطاعة، وأن المرأة التي لا تجد محرمًا تعتبر غير مستطيعةٍ، وبكل حالٍ: لا مُشاحَّة في الاصطلاح.

قال:

وهو أن تجد لها زوجًا أو محرمًا.

لو أن المصنف رحمه الله قال: وهو أن تجد لها محرمًا، لكان أدق في العبارة؛ لأن الزوج يدخل في المحرم، فإن تعريف المحرم هو زوجها، ومن تَحرُم عليه على التأبيد بنسبٍ أو سببٍ مباحٍ.

قال:

مكلفًا.

يعني: يشترط في المحرم أن يكون مكلفًا، أي: عاقلًا بالغًا.

قال:

وتقدر على أجرته، وعلى الزاد والراحلة لها وله.

أي: يشترط في المرأة التي تريد الحج أن تقدر على أجرتها، وأجرة محرمها، يعني: مثلًا في وقتنا الحاضر تكون المرأة قادرةً على أن تدفع لحملة الحج أجرة الحج عن نفسها وعن محرمها، لو كان مثلًا أجرة الحج عشرة آلاف ريالٍ، وتوفر عندها عشرون ألف ريالٍ، فاضلًا عن حوائجها الأصلية، هنا يجب عليها أن تحج.

حكم حج المرأة مع رُفقةٍ مأمونةٍ

أما إذا لم تجد المرأة محرمًا، فعلى كلام المؤلف أنه لا يجب الحج عليها، لكن إذا لم تجد المرأة محرمًا، ووجدت رُفقةً مأمونةً، فهل يجب عليها أن تحج مع هذه الرفقة، أو لا يجب؟

قولان للفقهاء:

  • القول الأول: قول الحنابلة والحنفية؛ أنه لا يجب على المرأة التي لا تجد محرمًا أن تحج مع الرفقة المأمونة.
  • والقول الثاني: أنه يجب عليها أن تحج، ما دامت وجدت رفقةً مأمونةً، وهذا مذهب المالكية والشافعية.

القائلون بأنه لا يجب عليها، ما دامت لم تجد المحرم لا يجب عليها الحج، استدلوا بعموم الأدلة الدالة على عدم جواز سفر المرأة بغير محرمٍ، ومنها قول النبي : لا يخلوَنَّ رجلٌ بامرأةٍ، ولا تسافرن امرأةٌ إلا ومعها محرمٌ، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إني قد اكتُتِبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي خرجت حاجةً، فقال له النبي : اذهب فحج مع امرأتك [3].

ووجه الدلالة: أن هذا الرجل قد أصبح الجهاد في حقه فرض عينٍ؛ لأنه قد اكتُتب، ومع ذلك أمره النبي بتركه؛ ليكون محرمًا لامرأته، فدل ذلك على أنه لا يجب على المرأة الحج إلا مع وجود محرمها، وإلا فلو كان وجود المحرم ليس واجبًا لما أمره النبي بترك الجهاد الذي هو واجبٌ في حقه.

أما القائلون بأن المرأة إذا لم تجد المحرم ووجدت الرفقة فيجب عليها أن تحج، استدلوا بما جاء في “صحيح البخاري”: أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام حججن بعد موته بدون محرمٍ، وكان القائم عليهن عثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف؛ وذلك في خلافة عمر.

واستدلوا أيضًا بحديث عَدي بن حاتمٍ: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: فإن طالت بك حياةٌ؛ لتريَنَّ الظَّعِينة ترتحل من الحِيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله [4]، رواه البخاري، فتسير من الحِيرة بالعراق إلى مكة بدون محرمٍ.

والقول الراجح والله أعلم: هو القول الأول، وهو أن المرأة إذا لم تجد محرمًا لم يجب عليها الحج، حتى لو وجدت الرفقة المأمونة؛ لقوة أدلته.

أما حج نساء النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا غاية ما يدل عليه، هو جواز الحج مع الرفقة المأمونة، لكنه لا يدل على الوجوب، وأما حديث عدي بن حاتمٍ، وهو إخبارٌ عما سيقع، ولا يلزم منه الجواز؛ فإن النبي أخبر عن أمورٍ كثيرةٍ ستقع، بعضها جائزٌ وبعضها غير جائزٍ؛ فمثلًا: قوله عليه الصلاة والسلام: ليكونن من أمتي أقوامٌ يستحلون الحِرَ والحرير، والخمر والمعازف [5]، هذا لا يقتضي إباحة هذه الأشياء، هذا إخبارٌ، ومجرد الإخبار لا يستفاد منه حكمٌ بالجواز ولا بالمنع.

قال:

فإن حجت بلا محرمٍ، حَرُم وأجزأها.

إذا حجت المرأة بلا محرمٍ صح حجها، وأجزأها عن حجة الإسلام بإجماع العلماء، لكن هل تأثم أو لا تأثم؟ هذه المسألة متفرعةٌ من المسألة السابقة؛ فالحنفية والحنابلة يقولون: إنها تأثم، لكونها حجت بلا محرمٍ، والمالكية والشافعية يقولون: إنها لا تأثم؛ لأنها إنما حجت مع رفقةٍ مأمونةٍ.

والقول الراجح والله أعلم: هو القول الثاني، وهو أنها لا تأثم إذا كانت قد حجت مع رفقةٍ مأمونةٍ.

وهو اختيار الإمام ابن تيمية رحمه الله؛ لأن المقصود من المحرم هو حفظ المرأة وصيانتها، وأمنها على نفسها وعرضها ومالها، فإذا كان ذلك المقصود يتحقق مع الرفقة المأمونة، فلا تأثم بالإتيان بتلك العبادة.

وعلى هذا نقول: القول الراجح في المرأة التي لا تجد محرمًا، ولكنها تجد الرفقة المأمونة، لا يجب عليها الحج، لكن لو حجت مع هذه الرفقة المأمونة، فهي مأجورةٌ على ذلك ولا تأثم.

باب الإحرام

ثم قال المصنف رحمه الله:

باب الإحرام

تعريف الإحرام

الإحرام: هو نية الدخول في النُّسُك، وهذا التعريف تعريفٌ مهمٌّ؛ لأن بعض الناس يفهم من الإحرام أنه لُبْس ملابس الإحرام، وهذا الفهم غير صحيحٍ، الإحرام لا يتعلق باللباس، وإنما يتعلق بالنية؛ ولذلك لك أن تلبس ملابس الإحرام، وأنت في منزلك، ولا تكون قد أحرمت، لكن إذا نويت الدخول في النسك تكون قد أحرمت.

فمثلًا: الذي يريد أن يذهب إلى مكة عن طريق الطائرة، نقول: اغتسل في بيتك، والبس ملابس الإحرام في البيت، لكن لا تنوِ العمرة، لا تنو الإهلال بالعمرة أو بالحج، فتلبس ملابس الإحرام وأنت في بيتك بدون نيةٍ.

ثم إذا حاذيت الميقات وأنت في الطائرة تهل بالنسك، إن كنت تريد العمرة تقول: لبيك عمرةً، إن كنت تريد الحج تقول: لبيك حجًّا.

فإذنْ حقيقة الإحرام: هو نية الدخول في النسك، وليس مجرد لبس ملابس الإحرام، فإذا لبس الإنسان ملابس الإحرام ولم ينوِ الإحرام فليس بمحرمٍ، حتى وإن كان عليه ملابس الإحرام.

حكم الإحرام

قال:

وهو واجبٌ.

الإحرام من أركان الحج، ومن أركان العمرة كذلك، كما سيأتي؛ ولذلك من لم يحرم، لم يصح حجه ولم تصح عمرته.

من الميقات.

يعني: يجب أن يكون الإحرام من الميقات، والمؤلف رحمه الله أشار بهذه الإشارة المقتضبة، ولم يذكر هذه المواقيت، فلا أدري هل هذا نسيانٌ من المؤلف، أو أنه أراد بذلك الاختصار، وأن متنه هذا مختصرٌ، وأن من أراد معرفة هذه المواقيت يرجع لكتب الفقه الأخرى؟ هذا محتملٌ، لكن لا بد أن نذكر هذه المواقيت.

المواقيت المكانية

المواقيت خمسة:

  • الأول: ميقات أهل المدينة، ذو الحُليفة، ويسمى: “أبيار علي”، وهو أبعد المواقيت، بينه وبين مكة عشر مراحل لمَّا كانوا يسيرون بالإبل، وفي وقتنا الحاضر قرابة (400 كيلومترٍ)، والنبي عليه الصلاة والسلام لمَّا حج حجة الوداع أحرم من هذا الميقات، من ذي الحُليفة، وكان في الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة، ولم يصل إلى مكة إلا في الرابع من ذي الحجة، يعني بقي عشرة أيامٍ في الطريق.
  • الميقات الثاني: ميقات أهل الشام ومصر، وهو الجُحْفة، ميقات أهل الشام ومصر والمغرب: الجحفة، والجحفة قريةٌ خربت وأصبح الناس يحرمون من حذوها، من رابغ، لكن في الوقت الحاضر وُضع فيها أيضًا مسجدٌ ودورات مياهٍ، وأصبح الناس يحرمون منها، فإذا أحرم من الجحفة نفسها أو من رابغ؛ أجزأ.
  • الميقات الثالث: ميقات أهل اليمن، يَلَمْلَم، وهو أيضًا ميقاتٌ لمن أتى من المنطقة الجنوبية، منطقة عسير والباحة ونحوها.
  • الميقات الرابع: ميقات أهل نجدٍ، قَرْن المنازل، ويسمى: “السيل الكبير”، وهذه المواقيت الأربعة قد جاءت منصوصًا عليها في قول ابن عباسٍ رضي الله عنهما: وقت النبي لأهل المدينة ذا الحُليفة، ولأهل الشام الجُحفة، ولأهل نجدٍ قَرْن المنازل، ولأهل اليمن يَلَمْلَم، هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ [6].
  • الميقات الخامس: ذات عِرقٍ لأهل العراق، قيل: إن الذي وقته عمر بن الخطاب ، فإن أهل العراق أتوا إلى عمر ، وقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله حد لأهل نجدٍ قرنًا، وهو جورٌ عن طريقنا، وإنا إذا أردنا قرنًا شق علينا، فقال لهم عمر : انظروا إلى حذوها من طريقكم، فحد لهم ذات عرقٍ [7].

لكن جاء في حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: وقَّت النبي لأهل العراق ذات عِرقٍ [8]، والأقرب في هذا -والله أعلم- أن عمر لم يبلغه توقيت النبي ، فاجتهد ووافق اجتهاده توقيت النبي ، وهذا ليس بغريبٍ عن عمر ، فإنه قد وافق الوحي في عدة أمورٍ.

وذات عرقٍ كان شِعبًا مهجورًا لا يأتيه أحدٌ، فكان أهل العراق يُحرمون من السيل، لكن في السنوات الأخيرة وضع إليه طريقٌ، وفيه مسجدٌ ومغتسلٌ، وأصبح بعض الناس يحرمون منه الآن.

هذه المواقيت الخمسة لا يجوز تجاوزها بدون إحرامٍ لمن أراد النسك من حجٍّ أو عمرةٍ.

وهنا أريد أن أنبه إلى أن من أراد أن يحرم في الطائرة فعليه أن يحتاط؛ لأن الطائرة تسير بسرعةٍ كبيرةٍ جدًّا، تسير بسرعةٍ قد تصل إلى (800 كيلو أو 900 أو 1000 كيلو)، أو أكثر، وهذه المواقيت مساحتها صغيرةٌ، فهي قد تكون واديًا، أو مكانًا صغيرًا، فيمكن يعني الدقيقة الواحدة في الطائرة مؤثرةٌ، إذا كانت الطائرة تسير بسرعة (1000 كيلو)، فيمكن أن تقطع هذا الميقات وتتجاوزه في أقل من دقيقةٍ، فالدقيقة هنا مؤثرةٌ.

ولذلك فينبغي الدقة عند الإحرام في الطائرة، وإذا كان الإنسان يخشى أن يتأخر في الإحرام، أو نحو ذلك فإنه يحتاط، إذا كان الإنسان يخشى أن الطائرة تمر به، وهو لم يحرم من محاذاة الميقات، فإنه يحتاط ويحرم قُبيل محاذاة الميقات احتياطًا، لكن إذا أمكن الدِّقة، وأن يحرم من محاذاة الميقات بدقةٍ؛ هذا هو الأولى.

قال:

ومَن منزلُه دون الميقات، فميقاته منزله.

للحديث السابق، وفيه: ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة [9]، فمثلًا: أهل جدة يحرمون من جدة، أهل بحرة يحرمون من بحرة، أهل مكة يحرمون من مكة بالنسبة للحج.

وأما بالنسبة للعمرة فلا بد من أن يخرجوا خارج حدود الحرم، وأن يحرموا من الحِل؛ لأن النبي أمر عائشة بذلك، وكان ذلك في ليلٍ، وأيضًا في آخر حجة الوداع، ولا يخفى ما في ذلك من المشقة، فلولا أن ذلك واجبٌ لَمَا أمر النبي عليه الصلاة والسلام -لمَّا أرادت العمرة- أن تَخرج مع أخيها عبدالرحمن إلى التنعيم، وأن تحرم من التنعيم.

فإذنْ أهل مكة يحرمون للحج من مكة، ويحرمون للعمرة من الحِل، وأهل جدة وأهل بحرة والقرى التي حولها هؤلاء يحرمون للحج والعمرة من بيوتهم.

هل جدة تعتبر ميقاتًا؟

هل جدة تعتبر ميقاتًا، أو دون المواقيت؟

جدة دون المواقيت، ولا تعتبر ميقاتًا، وإذا أتيت بالطائرة من أي جهةٍ من الجهات تريد النزول في جدة، لا بد أن تحاذي أحد المواقيت، إذا أتيت من جهة الشمال، أو من جهة الجنوب، أو من جهة الشرق، أو من الشمال الشرقي، أو من الجنوب الشرقي، أو من الجنوب الغربي، لا بد أن تحاذي أحد المواقيت.

لا يمكن أن تصل إلى مطار جدة إلا وقد حاذيت أحد المواقيت، إلا في حالةٍ واحدةٍ، وهي: من كان في بلدة سواكن بالسودان، فهذه قال الفقهاء: إنه يمكن أن يصل إلى جدة من غير محاذاةٍ أيٍّ من المواقيت؛ ولهذا قال الفقهاء: إن من كان من أهل سواكن بالسودان، فله أن يحرم من جدة، فهؤلاء مستثنَون فقط، أهل سواكن بالسودان مستثنون، فلهم أن يحرموا من جدة؛ لأنهم يمكنهم أن يصلوا إلى جدة من غير أن يحاذوا أو يمروا بأحد المواقيت، بينما من أتى إلى جدة من أي جهةٍ أخرى لا بد أن يحاذي أحد المواقيت، أو أن يمر بأحد المواقيت.

وعلى ذلك نقول: جدة ليست ميقاتًا، وإنما هي دون المواقيت، ويلزم الإنسان أن يحرم من الميقات الذي يمر به قبل وصوله إلى جدة، إلا أهل سواكن بالسودان، ومن أتى عن طريق سواكن بالسودان، فهؤلاء لهم أن يحرموا من جدة؛ لأنهم لن يمروا بأيٍّ من المواقيت حتى يصلوا إلى جدة.

حكم إحرام فاقد العقل

قال المصنف رحمه الله:

ولا ينعقد الإحرام مع وجود الجنون، أو الإغماء، أو السكر.

وذلك؛ لعدم وجود النية منهم، وإذا انعقد لم يبطل إلا بالردة؛ لقول الله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وهذا يدل على أن الإحرام لا يرتفض برفضه، إذا أحرمت لزمك الإتمام، ولا تقل: أرفض الإحرام، وأدع الإحرام، وأعود إلى بلدي، كما يحصل من بعض العامة أنه يأتي محرمًا، ثم يحصل له عائقٌ يعوقه من مرضٍ، أو بعضهم حتى يرى زحامًا شديدًا، ويقوم بخلع ملابس الإحرام ويرجع لبيته، نقول: ما زلت محرمًا، الإحرام لا يرتفض برفضه، إلا أن يكون محصرًا، إذا كان محصرًا فإنه يفعل ما يفعل المحصر، وسيأتي الكلام -إن شاء الله- عن أحكام المحصر، أما إذا لم يكن محصرًا فهو ما زال محرمًا، والإحرام لا يرتفض برفضه.

لكن يفسد بالوطء في الفرج قبل التحلل الأول، ولا يبطل، بل يلزمه إتمامه والقضاء، قال ابن المنذر رحمه الله: أجمع أهل العلم على أن الحج لا يفسد بإتيان شيءٍ في حال الإحرام إلا الجماع، فالإحرام إذنْ لا يرتفض برفضه، ولا يفسد إلا بالجماع قبل التحلل الأول، وهذا سيأتي الكلام عنه بالتفصيل عند الكلام عن محظورات الإحرام إن شاء الله.

أنواع النسك

قال: ويخير من يريد الإحرام بين أن ينوي التمتع -وهو أفضل- أو ينوي الإفراد أو القِران.

من أراد الإحرام فهو مخيرٌ بين هذه الأنساك الثلاثة: التمتع، والإفراد، والقِران، وبيَّن المؤلف المقصود بها، قال:

فالتمتع: هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم بعد فراغه منها يحرم بالحج.

هذا هو تعريف التمتع، يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم يتحلل من إحرامه، ثم يحرم بالحج من عامه.

مثلًا أتى بعمرةٍ في شهر ذي القعدة، أو في شهر شوالٍ، أو في أول ذي الحجة، وتحلل، ثم أحرم بالحج، فإنه يكون متمتعًا.

وأما الإفراد، قال: هو أن يحرم بالحج، ثم بعد فراغه منه يحرم بالعمرة.

الإفراد معناه: أن يحرم بالحج فقط، وقول المؤلف: “ثم بعد فراغه منه يحرم بالعمرة”، هذا محل نظر؛ لأن هذه ليست حقيقة الإفراد، وإن كانت من صوره، لكن حقيقة الإفراد هو أن يحرم بالحج فقط.

والقِران: هو أن يحرم بالحج والعمرة معًا، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها.

القران معناه: أن يحرم بالعمرة والحج جميعًا، وهناك صورةٌ أخرى للقِران، وهي:

أن يحرم بالعمرة، ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها.

مثال ذلك: امرأةٌ أحرمت بالعمرة على أنها متمتعةٌ ثم حاضت، وجاء وقت عرفة، وقت الوقوف بعرفة، وهي لم تطهر بعد، فإنها تُدخل الحج على العمرة، فتكون قارنةً، كما فعلت عائشة رضي الله عنها.

فهذه هي أنواع النسك الثلاثة، أفضلها:

أولًا: من ساق الهدي، فيتعين في حقه القِران، وهذا هو النسك الذي اختاره النبي عليه الصلاة والسلام، لكن في وقتنا الحاضر لا أحد يسوق الهدي.

فإذا لم يسق الهدي -كما هو حال عامة الحجيج في وقتنا الحاضر- فأفضل هذه الأنساك: هو التمتع؛ لأن النبي أمر به الصحابة  وحث عليه، وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لَمَا سُقْت الهدي؛ ولجعلتها عمرةً [10]، يعني: إذا كنت متمتعًا، فأفضل الأنساك الثلاثة هو التمتع، إلا من ساق الهدي، فيتعين في حقه القِران.

قال:

فإن أحرم به ثم بها، لم يصح.

يعني: إذا أدخل العمرة على الحج لأجل أن يكون قارنًا لم يصح، وبعبارة أوضح: إذا أراد أن ينتقل من الإفراد إلى القران لم يصح، وهناك قولٌ آخر: أنه يصح، ويكون قارنًا، وهذه المسألة الأدلة فيها متكافئةٌ، وأنا متوقفٌ فيها، لم يظهر لي رجحان أيٍّ من القولين.

أما لو أراد أن ينتقل من التمتع إلى الإفراد ليس له ذلك، ولو كان العكس: أراد أن ينتقل من الإفراد إلى التمتع، أو من القران إلى التمتع فهذا هو الأفضل، وهذا هو الأكمل، وهذا هو الذي أرشد النبي إليه بعض الصحابة.

قال: ومن أحرم وأطلق؛ صح، وصرفه لما شاء، وما عمل قبل فلغوٌ.

هذا إنسانٌ أتى عند الميقات، وقال: لبيك اللهم لبيك، فسئل: يا فلان بم أحرمت؟ هل أنت متمتعٌ، أو أنت قارنٌ، أو أنت مفرِدٌ؟ قال: ما أدري، أنا لم أنو شيئًا، يقول المؤلف: إن هذا يصح، ويصرفه لما يشاء؛ يعني: إن شاء كان متمتعًا، وإن شاء كان مفرِدًا، وإن شاء كان قارنًا.

وكذلك لو قال: أحرمت بما أحرم به فلانٌ؛ كأن يأتي إنسانٌ عند الميقات ويحتار، ويعرف أن الشيخ الفلاني محل ثقةٍ، وقد حج، فيقول: أحرمت بما أحرم به الشيخ الفلاني، فهذا يصح.

والدليل لذلك ما جاء في “الصحيحين” أن عليًّا لما قدم على النبي من اليمن، قال له النبي : يا علي، بم أهللت؟ قال: أهللت بما أهل به النبي [11]، فأقره النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك.

قال: لكن السنة لمن أراد نسكًا أن يعيِّنه.

يعني: ألا يطلق، وإنما يعين هذا النسك؛ يعينه تمتعًا، أو إفرادًا، أو قرانًا، هذه هي السنة في هذا.

ثم تكلم المؤلف عن مسألة الاشتراط، وهذه -إن شاء الله- نفتتح بها الدرس القادم بإذن الله .

ونكتفي بهذا القدر في هذا الدرس، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 1513، ومسلم: 1334.
^2 رواه أبو داود: 1811، وابن ماجه: 2903.
^3 رواه البخاري: 1862، ومسلم: 1341.
^4 رواه البخاري: 3595.
^5 رواه البخاري: 5590، والحر: اسم لفرج المرأة، مشارق الأنوار للقاضي عايض: 1/ 187.
^6, ^9 رواه البخاري: 1524، ومسلم: 1181.
^7 رواه البخاري: 1531.
^8 رواه أبو داود: 1739، والنسائي: 2652.
^10 رواه البخاري: 1785، ومسلم: 1216.
^11 رواه البخاري: 4352، ومسلم: 1216.