الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب الصيام من دليل الطالب/(1) كتاب الصيام- من قوله: “يجب صوم رمضان برؤية هلاله..”
|categories

(1) كتاب الصيام- من قوله: “يجب صوم رمضان برؤية هلاله..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا مجلسٌ من مجالس الذكر، ومجلسٌ من مجالس العلم، وقد أخبر النبي  -كما في الحديث الصحيح- أن مجالس الذكر يباهي الله تعالى بها ملائكته [1].

وأيضًا: جاء في حديث أبي هريرة  أن النبي قال: إن لله ملائكةً سيارةً تلتمس مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلس ذكرٍ؛ قالوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم إلى السماء الدنيا -والملائكة تحف الجالسين في مجالس الذكر؛ احتفاءً بهم- ويقول الله تعالى لهم: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فتقول الملائكة: يا رب، إن فيهم فلانًا ليس منهم؛ وإنما أتى لحاجةٍ وجلس، فيقول الله: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم [2]، لو لم يكن في حضور مجالس الذكر إلا هذه الفائدة لكفى، أن تتعرض لمغفرة الله سبحانه، حتى لو لم تستفد شيئًا، وأنك أيضًا: تتعرض لنفحات الله، ومباهاة الله تعالى بالجالسين ملائكتَه؛ فهذا شرفٌ عظيمٌ؛ ولهذا ينبغي للمسلم أن يحرص على مجالس الذكر ومجالس العلم،

ثم أيضًا: الحرص على مثل هذه المجالس أمارةٌ على أنه أريد بالإنسان الخير إن شاء الله، والدليل لذلك: ما جاء في “الصحيحين” عن معاوية  أن النبي قال: من يُرِد الله به خيرًا؛ يفقهه في الدين [3]، تأملوا هذا الحديث: من يرد الله به خيرًا؛ يفقهه في الدين.

لا يمكن أن تعبد الله كما أراد الله إلا عن طريق العلم؛ ولذلك كان فضل العالم على العابد كبيرًا، فمن أراد مرضاة الله سبحانه؛ لا بد أن يطلب العلم، يُحصِّل العلم الذي ينير له الطريق؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا؛ سهل الله له به طريقًا إلى الجنة [4]، رواه مسلمٌ.

وهذا المجلس -أيها الإخوة- فيه هذه السلسلة من الدروس في شرح أحكام الصيام، ونحن مقبلون على هذا الموسم، موسم شهر رمضان، موسم التجارة مع الله ​​​​​​​ بالأعمال الصالحة، الذي لا يفصلنا عنه إلا أسبوعٌ أو أقل؛ ولذلك من يضبط المسائل التي تُشرح في هذا الدرس؛ سيضبط -إن شاء الله- معظم مسائل وأحكام الصيام، بل حتى معظم النوازل والمسائل المعاصرة المرتبطة بالصيام.

وقد كانت هذه هي طريقة مشايخنا، أنه إذا أتى موسمٌ يتفقهون في أحكامه؛ كان الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، كان شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله، وأيضًا سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، كلهم إذا أتى الموسم بدءوا يقرءون في أحكامه ومسائله، إذا أتى رمضان بدءوا يقرءون أحكام رمضان، الحج يقرءون أحكام الحج، وهذه هي طريقةٌ جيدةٌ؛ لأنه يكون فيها استحضارٌ، حتى لو كنت قد عرفتها وضبطتها، فقراءتك لها، وتباحثك فيها، ومذاكرتك لها ترسخ المعلومة، وتكون حاضرةً في الذهن؛ لأنك ربما تحتاج إليها أو تُسأل عنها، فهذه هي طريقة مشايخنا، أنه كلما أتى موسمٌ يتفقهون في أحكام ذلك الموسم، حتى لو كانوا قد ضبطوا مسائله، على الأقل من باب المذاكرة.

فنبدأ على بركة الله تعالى:

وقد اخترنا هذا المتن، متن “دليل الطالب”، وهذا المتن من أشهر المتون الفقهية عند الحنابلة، لمرعي الكرمي رحمه الله، وقد شرحته شرحًا موسَّعًا في “السلسبيل في شرح الدليل”، في ثمانية مجلداتٍ.

وهذا المتن تميز عن غيره بحسن الترتيب والتنظيم؛ ولذلك هو إلى الطريقة التعليمية أقرب، وإن كان “زاد المستقنع” يتفوق عليه بكثرة المسائل، يمتاز بكثرة المسائل، لكن “الدليل” يتميز بوضوح العبارة، وأيضًا حسن الترتيب، فهي إلى الطريقة التعليمية أقرب.

والطريقة: أن نشرح عبارة المصنف رحمه الله ودليلها، ودليل ما استدل به، ثم تُذكر أقوال الفقهاء في المسألة بأدلتها، ثم نبين القول الراجح.

أمثل طريقة للتفقه

والفقه هو معرفة الخلاف، يعني قد يقول قائلٌ: لماذا لا نكتفي بالقول الراجح؟

نقول: القول الراجح هذا يكفي للمبتدئين، لكن طلبة العلم لا بد أن يتعرفوا على أقوال العلماء، ومآخذهم، وأدلتهم، وهذا الخلاف عندما يذكر لطالب العلم يكون لديه..، يعني عندما يذكر هذا الخلاف، ويقوم طالب علم بتحرير المسائل الخلافية، ومناقشة الأدلة، وأيضًا الموازنة والتحليل، كل هذا يُكوِّن -مع مرور الوقت- الملكة لدى طالب العلم.

فالفقه هو معرفة الخلاف، والعبرة بالدليل، والله تعالى يقول: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65]، ولا يقول: ماذا أجبت أبا حنيفة، أو مالكًا، أو الشافعي، أو أحمد، أو غيرهم من الأئمة رحمهم الله؟

لكن لأجل التأصيل لطالب العلم؛ لا بد أن ينطلق من مدرسةٍ فقهيةٍ، وإلا لا يكون مؤصلًا، إذا كان يقول: أنا سأتبع الدليل، هذه كلمة حقٍّ، هذا صحيحٌ، لكن بأي طريقةٍ تسير في التفقه؟

ولذلك بعض طلبة العلم الذين يقولون: نتفقه عن طريق كُتب الحديث، ويتركون كتب الفقه؛ يكون عندهم قصورٌ كبيرٌ؛ فمثلًا: بعض الأبواب الأدلة فيها قليلةٌ، مثلًا باب الشركة، الأحاديث قليلةٌ، وحتى الأحاديث المروية فيها أكثرها ضعيفٌ، مع أن مسائلها كثيرةٌ جدًّا، ونوازلها كثيرةٌ جدًّا، فكيف يضبط طالب العلم أحكام الشركة، وقواعد الربح والخسارة في الشركات، ونوازل الشركة، إلا عن طريق كتب الفقه؟

ولذلك أمثل طريقةٍ للتفقه: أن تنطلق من كتب الفقه وتربطها بالحديث، لا العكس، تنطلق من كتب الفقه وتربطها بالحديث؛ لأنك تجمع بين الحديث والفقه جميعًا، وتجمع بين المسائل التي مبناها على الأثر، والمسائل التي مبناها على النظر.

وأيضًا تجمع مع ذلك في التفقه: أصول الفقه، فهذه أمثل طريقةٍ للتفقه، أن تجمع هذه العلوم الثلاثة: الفقه، وأصول الفقه، والحديث، وإذا قصرت في واحدٍ منها؛ يكون عندك قصورٌ في التفقه، وهذه الطريقة التي نسلكها -إن شاء الله- في الشرح، فنبدأ على بركة الله.

كتاب الصيام

قال المصنف رحمه الله تعالى:

كتاب الصيام

معنى الصيام

الصيام: معناه في اللغة، هذه المادة -مادة الصاد والياء والألف والميم- ومشتقاتها تدور حول معنى الإمساك، معناها في اللغة العربية يدور على الإمساك؛ ولذلك قال الله تعالى عن مريم عليها السلام: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا [مريم:26]، أي: إمساكًا عن الكلام.

ويقول الشاعر:

خيلٌ صيامٌ وأخرى غير صائمةٍ تحت العَجَاج وأخرى تَعْلُك اللُّجُما [5]

“خيلٌ صيامٌ” يعني: ممسكةٌ عن الصهيل، و”غير صائمةٍ” يعني: أنها يصدر منها الصهيل.

فإذنْ هذه المادة معناها في اللغة العربية: الإمساك، فإذا قلت: صائم مثلًا عن الأكل والشرب والمفطرات، أنت صائمٌ بالمعنى الشرعي، إذا قلت: صائمٌ عن الكلام، يعني: أنك لا تتكلم، ممسكٌ عن الكلام.

أما معنى الصيام شرعًا: فأحسن ما قيل في تعريفه، وهو أشهر من أن يُعرَّف، لكن جرت عادة الفقهاء بالتعريف، أحسن ما قيل: التعبد لله تعالى بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذه المفطرات سيأتي الكلام عنها إن شاء الله تعالى.

حكم صيام رمضان

والأصل في وجوب الصيام: الكتاب والسنة والإجماع.

من الكتاب قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].

وأما الأحاديث: فالأحاديث كثيرةٌ جدًّا؛ منها قول النبي عليه الصلاة والسلام: بني الإسلام على خمسٍ..، وذكر منها: صوم رمضان [6].

وأجمع العلماء على أنه ركنٌ من أركان الإسلام، ولا يجب على المسلم صيام غير رمضان إلا بنذرٍ أو كفارةٍ.

فضل الصيام

والصيام -فريضةً كان أو نافلةً- ورد في فضله نصوصٌ كثيرةٌ؛ ومنها: قول الله تعالى في الحديث القدسي: كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به [7].

ومعنى هذا الحديث: أن الأعمال الصالحة يُجزَى عليها المسلم من باب: الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعافٍ كثيرةٍ، لكن الجزاء على الصوم جزاءٌ خاصٌّ، ليس من باب: الحسنة بعشر أمثالها؛ إنما جزاءٌ خاصٌّ من الله ، وكما يقال: العطية بقدر معطيها، فالله تعالى هو أكرم الأكرمين.

يعني: أضرب لهذا مثلًا أُقرِّب به صورة المسألة: لو أن معلمًا قال لطلابه المتفوقين: أنت يا فلان، لك جائزةٌ مقدارها: كذا، وأنت يا فلان، جائزة كذا، وأنت يا فلان، جائزة كذا، أما أنت يا فلان، فلك جائزةٌ خاصةٌ عندي، فماذا نتوقع هذه الجائزة الخاصة؟ هل هي أفضل من جوائز زملائه، أو أقل؟

الجواب: أفضل؛ جائزةٌ خاصةٌ، هكذا الصوم، الصوم الثواب عليه خاصٌّ من عند الله ، وهذا يدل على عظيم أجره وثوابه.

وفي خصوص صيام رمضان يقول النبي : من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه [8]، متفقٌ عليه.

لكن هل المقصود بالمغفرة هنا: مغفرة الكبائر، أو الصغائر؟

الصغائر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مكفراتٌ لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر [9].

وجاء في قصة أبي أمامة، وهي قصةٌ لطيفةٌ، أخرج هذه القصة الإمام أحمد في “مسنده” بسندٍ صحيحٍ عن أبي أمامة ، قال: غزوت مع النبي غزوًا، فقلت: «يا رسول الله، ادعُ الله لي بالشهادة، قال: اللهم سلِّمهم وغنِّمهم، يعني: رُدَّهم سالمين، ووفقهم لاغتنام الغنائم، قال: فسَلِمنا وغَنِمنا.

ثم أتيته لمَّا أراد غزوًا فقلت: يا رسول الله، ادعُ الله لي بالشهادة، قال: اللهم سلمهم وغنمهم، قال: فسلمنا وغنمنا، ثم أراد غزوًا آخر، قلت: يا رسول الله، ادع الله لي بالشهادة، قال: اللهم سلمهم وغنمهم، قال: فسلمنا وغنمنا ثلاث مراتٍ.

قال: أتيته المرة الرابعة، قلت: يا رسول الله، إني كل مرةٍ أقول: ادع الله لي بالشهادة، وأنت تقول: اللهم سلمهم وغنمهم، وقد سلمنا وغنمنا، فادع الله لي بالشهادة، فسكت النبي عليه الصلاة والسلام، قال: يا رسول الله، مرني بعملٍ أعمله -وهذا موضع الشاهد- قال: عليك بالصوم؛ فإنه لا مِثل له، فأصبح أبو أمامة وزوجته وخادمه لا يُرَون إلا صائمِين، حتى إنه إذا رُئي دخانٌ في نهارٍ، عَرَف الناس أن عندهم ضيفًا.

قال: ثم أتيت النبي ، فقلت: يا رسول الله، إنك أمرتني بالصوم، وإنني أقوم بهذا، فمرني بعملٍ آخر، قال: عليك بالصلاة؛ فإنك لن تسجد لله سجدةً إلا رفعك الله بها درجةً، وحط عنك بها خطيئةً [10].

فالشاهد: قوله عليه الصلاة والسلام: عليك بالصوم؛ فإنه لا مِثل له، يعني: في الأجر والفضل والثواب، وفي هذه القصة من اللطائف: أنه إذا طَلَب أحدٌ منك طلبًا، فينبغي أن تتلطف معه في الرد، وأحسَنُ ما تفعل معه: أن تدعو له ثلاث مراتٍ، وأبو أمامة  يقول: “يا رسول الله، ادع الله لي بالشهادة”، ما قال له النبي عليه الصلاة والسلام: لن أدعو لك، دعا له بدعوةٍ أخرى: اللهم سلمه وغنمه.

فمثلًا: لو أتاك فقيرٌ وطلب منك شيئًا؛ ينبغي أن تتلطف معه: أسأل الله أن يغنيك، وأن يفتح عليك من أبواب الرزق، ونحو ذلك، يعني بدل أن ترد عليه بطريقةٍ قد لا تكون مقبولةً لديه، فتدعو الله تعالى له، يعني على الأقل يستفيد منك هذا الدعاء، فكان هذا من حكمة النبي عليه الصلاة والسلام في التعامل، لاحِظ، لم يرفض طلب أبي أمامة رفضًا مباشرًا، لكن بطريقٍ غير مباشرٍ قال: اللهم سلمه وغنمه.

طيب لماذا لم يدع النبي له بالشهادة، مع أنه هو القائل عليه الصلاة والسلام: من سأل الله الشهادة بصدقٍ؛ بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه [11]، رواه مسلمٌ؟

قيل: لعله أُوحِي إليه أنه لن يموت بالشهادة، فلعله ربما أوحي إليه، أو أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى أن طول العمر خيرٌ له؛ ولذلك في قصة الرجلين من بَلِيٍّ [12]، أحدهما قُتل في سبيل الله، والآخر مات بعده بسنةٍ، فرآهما أحد الصحابة في المنام، ورأى الذي مات بعده بسنةٍ أعلى درجةً في الجنة منه، فقيل للنبي عليه الصلاة والسلام: هذا مات شهيدًا، وهذا مات بعده بسنةٍ من غير شهادة؟ فقال: أليس قد صلى بعده كذا وكذا ركعةً، وصام رمضان؟ [13]، يعني: اجتمع عنده أعمالٌ كثيرةٌ في هذه السنة؛ صلى آلاف الركعات فيها، وصام رمضان، وعنده أعمالٌ صالحةٌ؛ فرفعته منزلةً عن الأول، مع أن الأول قُتل شهيدًا.

وهذا يدل على أن طول العمر مع حسن العمل من أعظم النعم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: خيركم من طال عمره وحسن عمله [14]، وهو حديثٌ صحيحٌ.

فمن الأدعية العظيمة التي ينبغي أن تحرص عليها: اللهم اجعلني ممن طال عمره وحسن عمله، لماذا؟ لأنك تكسب مع طول العمر حسناتٍ كثيرةً.

فالشاهد هو قوله عليه الصلاة والسلام في هذه القصة: عليك بالصوم؛ فإنه لا مثل له [15]، والأحاديث في فضل الصيام كثيرةٌ.

ولذلك ينبغي -أيها الإخوة- أن يكون لطالب العلم..، يعني يجعل له نصيبًا من صيام النافلة بعد الفرائض، ويصوم ما تيسر من النوافل، وسنتكلم -إن شاء الله تعالى- عن هذا في باب صيام النافلة بالتفصيل.

مراحل فرضية الصيام

صوم رمضان كان على ثلاث مراحل:

  • المرحلة الأولى: فُرِض أولًا صيام عاشوراء، فلما فُرض صيام شهر رمضان؛ نسخ وجوب عاشوراء؛ فأصبح صيامه مستحبًّا.
  • المرحلة الثانية: فَرْض صيام رمضان مع التخيير بين الصيام والإطعام، وهذه المرحلة جاءت الإشارة إليها في قول الله : وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184]، هذا كان في هذه المرحلة، يعني: من شاء أن يصوم، ومن شاء أن يفطر، لكن الصيام خيرٌ من الإفطار مع الإطعام، وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184]، يعني: من الإطعام، كانت هذه هي المرحلة الثانية.
  • المرحلة الثالثة: فَرْض صيام رمضان على التعيين بالآية التي بعدها؛ لقول الله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، والحكمة من هذا التدرج: أن الصيام يشق على النفوس، وما يشق على النفوس الحكمة تقتضي التدرج في فرضيته وفي وجوبه.

متى يجب صوم رمضان؟

نعود لعبارة المصنف رحمه الله، قال المصنف رحمه الله:

يجب صوم رمضان برؤية هلاله على جميع الناس.

يعني: برؤية هلاله، أو إكمال شعبان ثلاثين يومًا، وهذا بإجماع المسلمين؛ لقول الله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، ولقول النبي : صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُبِّيَ [16] عليكم؛ فأكملوا شعبان ثلاثين يومًا [17].

ثم انتقل المؤلف للكلام عن صيام يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤيته غيمٌ أو قَتَرٌ.

الآن نحن اليوم في اليوم الثالث والعشرين من شعبان، الثلاثون من شعبان هو يوم السبت القادم، لو مثلًا افترضنا أنه ما رُئي الهلال ليلة السبت، وحال دون رؤية الهلال غيمٌ أو قَتَرٌ، فهذا هو يوم الثلاثين من شعبان الذي يقصده المصنف.

حكم صيام يوم الشك

يقول المصنف رحمه الله:

وعلى من حال دونه ودون مطلعه غيمٌ أو قترٌ ليلة الثلاثين من شعبان احتياطًا بنية رمضان.

فقوله: “وعلى”، يعني: يجب صيام الثلاثين من شعبان، إذا حال دون رؤيته غيمٌ أو قترٌ، من باب الاحتياط، وهذه المسألة من أغرب مسائل الفقه.

فالمؤلف يقول: يجب، وهو المذهب المشهور من مذهب الحنابلة عند المتأخرين، وفي قولٍ آخر ربما هو الذي سنرجحه: أنه يحرم، يعني قول: يجب، وقول: يحرم؛ قول: يجب، إذا ما صمت أنت آثمٌ، وقول: يحرم، إذا صمت فأنت آثمٌ، هذه من أغرب مسائل الفقه! ولذلك سنفصل الكلام فيها.

هذا القول بأنه يجب صيام الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤيته غيمٌ أو قترٌ، هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة عند المتأخرين من فقهاء المذهب، ونصروه وصنفوا فيه المصنفات، وهو من المفردات، هذا المصطلح إذا مر معنا: “من المفردات”، ما المقصود به؟ من يبين؟ ما انفرد به الحنابلة عن بقية المذاهب، يعني: لم يقل أحدٌ بوجوب صيام يوم الثلاثين من شعبان إلا الحنابلة، إذا حال دون رؤيته غيمٌ أو قترٌ.

وقول المصنف: “غيمٌ”، يعني: سحابٌ، والقَتَر: جمع قَتَرَةٍ، وهي الغبار، لكن الفرق بين الغبار والقتر: أن القتر: هو ما ارتفع من الغبار في السماء، يسمى: قترًا، وأما ما كان أسفل الأرض يسمى: غبارًا، فالذي أسفل الأرض هذا يقال: غبارٌ، لكن الغبار إذا ارتفع يسمى: قترًا، ومفرده: قترةٌ، وقترةٌ مذكورةٌ في سورة عبس: تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [عبس:41].

طيب ما دليل الحنابلة على وجوب الصوم في هذه الصورة؟

الدليل: هو حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي قال: إنما الشهر تسعٌ وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم فاقدِروا له [18]، قالوا: معنى: فاقدروا له، يعني: ضيقوا عليه، كيف يكون التضييق عليه؟ بأن يجعل شعبان تسعةً وعشرين يومًا؛ كما في قوله سبحانه: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7]، قُدِرَ يعني: ضُيق، وقالوا: إن الصحابي الجليل عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، وهو الراوي لهذا الحديث، وكان إذا مضى من شعبان تسعةٌ وعشرون يومًا؛ يبعث من ينظر الهلال؛ فإن رُئي فذاك، وإن لم يُرَ، ولم يحل دون منظره سحابٌ ولا قترٌ؛ أصبح مفطرًا، وإن حال دون منظره سحابٌ أو قترٌ؛ أصبح صائمًا، قالوا: وهو الراوي، وهو أعلم بما رَوَى.

ولكن هذا الاستدلال محل نظرٍ؛ أولًا: قولهم: إن معنى: فاقدروا له، يعني: ضيِّقوا عليه، غير مسلَّمٍ؛ لأن النبي فسَّر مراده بقوله: فاقدروا له، في الرواية الأخرى، بقوله: فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين، والروايات يفسر بعضها بعضًا.

وأما فعل ابن عمر رضي الله عنهما فهو اجتهادٌ منه، وابن عمر رضي الله عنهما عنده مبالغةٌ في الاحتياط، وعنده آراءٌ واجتهاداتٌ لم يوافقه عليها بقية الصحابة ؛ كتتبع آثار النبي مثلًا، ونحو ذلك.

ثم أيضًا: ربما أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يفعل ذلك على سبيل الاستحباب والاحتياط؛ ولذلك لم يُنقل عنه أنه كان يأمر الناس بذلك، إنما كان يحتاط لنفسه.

والقول الثاني: أنه إذا حال دون رؤية الهلال غيمٌ أو قترٌ، فهذا هو يوم الشك الذي ورد النهي عن صومه [19]، وأما الحنابلة فلا يرون أن هذا يوم الشك، بل يقولون: يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا كان الجو صحوًا.

والصحيح: أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤيته غيمٌ أو قترٌ؛ لأنه إذا كان الجو صحوًا لم يكن فيه شكٌّ، إنما الشك إذا كان فيه سحابٌ أو قترٌ، أو عوالق تمنع الرؤية، هنا نشك، ربما يكون قد أهل الهلال ولم يره أحدٌ.

فالصواب: أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤيته غيمٌ أو قترٌ، ويوم الشك بهذا التحديد..، طبعًا عند الحنابلة -كما ذكرنا- يرون في تحديده القول الثاني، وقلنا: إنه قولٌ مرجوحٌ، لكن على القول الراجح: أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤيته غيمٌ أو قترٌ، ذكرنا المذهب عند المتأخرين وهو وجوب صومه.

وقال بعض الفقهاء: إنه يكره صومه، وهو قول المالكية والحنفية، وقال بعض الفقهاء: إنه يحرم صومه، وهو مذهب الشافعية.

لاحِظ الأقوال، أقوال متقابلةٌ؛ ولذلك قلت لكم: إن هذه من أغرب المسائل!

وقال بعض الفقهاء: إنه يجوز صومه، وقد ورد عن بعض الصحابة  أنه كان يصوم يوم الشك هذا على سبيل الاحتياط، وابن تيمية رحمه الله ذكر الآثار عن الصحابة ، قال: إن ظاهر هذه الآثار يدل على جواز صومه.

ولكن العبرة بالدليل، والله تعالى يقول: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، والأدلة تدل على تحريم صيام يوم الشك؛ كما في قول النبي : لا تَقَدَّموا رمضان بصوم يومٍ ولا يومين، إلا رجلٌ كان يصوم صومه فليصمه [20] وهذا في “الصحيحين”.

وقال عمار بن ياسرٍ : “من صام اليوم الذي يشك فيه؛ فقد عصى أبا القاسم [21].

فالأقرب والله أعلم: أن صيام يوم الشك محرمٌ، هذا هو الأظهر، وظاهر النصوص، يعني ما الذي يصرف النهي في قول النبي عليه الصلاة والسلام: لا تَقَدَّموا رمضان بصوم يومٍ أو يومين، من التحريم إلى غيره؟ ليس هناك صارفٌ، خاصةً تأيَّد بفهم بعض الصحابة : “من صام اليوم الذي يشك فيه؛ فقد عصى أبا القاسم “، وجاء أيضًا في معناه أحاديث أخرى، أما الصحابة  الذين كانوا يصومون يوم الشك، فالذي ثبت عنه: ابن عمر رضي الله عنهما، وابن عمر كان يفعل ذلك احتياطًا واجتهادًا من عنده، بقية الصحابة  يُحتاج إلى النظر في أسانيد ما نُقل عنهم، ولو ثبتت فهو اجتهادٌ من صحابةٍ خالفهم صحابةٌ آخرون، وقول الصحابي إذا خالفه قول صحابيٍّ آخر لم يكن حجةً بالإجماع، فقول عمار بن ياسرٍ : “من صام اليوم الذي يشك فيه؛ فقد عصى أبا القاسم “، الظاهر فيه أن عمارًا  يرى التحريم.

فعلى هذا نقول: الأقرب -والله أعلم- أن صوم يوم الشك يحرم؛ لظاهر حديث أبي هريرة : لا تَقَدَّموا رمضان بصوم يومٍ ولا يومين، وأيضًا قول عمارٍ : “من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم “، هذا هو الأظهر -والله أعلم- في تحرير هذه المسألة.

قال:

ويُجزِئ إن ظهر منه.

يعني: إن ظهر أن الثلاثين من شعبان أصبح من رمضان، يعني هو صامه على سبيل الاحتياط، ثم تبين أنه من رمضان، يقول: إنه يجزئ.

وتصلَّى التراويح.

في يوم الشك، هم لا يعتبرونه يوم الشك، يقولون: تصلى التراويح، يعني مثلًا يوم السبت القادم لو حال دون رؤية الهلال غيمٌ أو قترٌ، فعلى كلام المؤلف أنه تُصلى التراويح ليلة السبت.

لكن على القول الراجح أنه لا تصلى التراويح؛ لأنه لا زال من شعبان، ولم يثبت كونه من رمضان، ولا تصلى لأجل الاحتياط.

ثم قال المؤلف:

ولا تثبت بقية الأحكام؛ كوقوع الطلاق، والعتق، وحلول الأجل.

يعني لو قال رجلٌ: إذا دخل رمضان فأنت طالقٌ، لا تطلق بدخول ليلة الثلاثين من شعبان، هذا الذي قال: يجب صومه، لو قال لمملوكه: إذا دخل رمضان فأنت حرٌّ؛ لا يكون حرًّا بذلك، لو قال الدائن للمدين: إذا دخل شهر رمضان فقد حل الدين؛ لا يحل الدين بذلك.

وهذا التفريق بين الأحكام ليس له وجهٌ ظاهرٌ، بل إن هذا علامةٌ على أن هذا القول مرجوحٌ؛ فإن من علامة القول المرجوح: اضطرابه وعدم اطراده، ومن علامة القول الراجح: اطراده ووضوحه.

خذ هذه الفائدة: من علامة القول الراجح: اطراده ووضوحه، وسهولة فهمه وتطبيقه، ومن علامة القول المرجوح: اضطرابه، وصعوبة فهمه وصعوبة تطبيقه؛ ولذلك إذا وجدت قولًا، ثم تطرأ عليه الاستثناءات، استثناءٌ، وتفريقٌ بين الأحكام، هذه أمارةٌ على أنه في الغالب قولٌ مرجوحٌ.

والإمام ابن تيمية رحمه الله ذكر أن أصول مذهب أحمد تقتضي أن هذا لا يجب صومه، لكن هذا إنما قال به بعض الفقهاء الحنابلة المتأخرين.

بم تثبت رؤية الهلال؟

ثم قال المصنف رحمه الله:

وتثبت رؤية هلاله بخبر مسلمٍ، مكلفٍ، عدلٍ، ولو عبدًا أو أنثى.

فأفاد المصنف رحمه الله بأن شهر رمضان يثبت بشهادة شاهدٍ واحدٍ، ثم ذكر أوصاف هذا الشاهد، وسنتكلم عنها.

وهذه المسألة اختلف فيها الفقهاء: هل يثبت دخول شهر رمضان بشهادة شاهدٍ واحدٍ، أو لا بد من شاهدين، أو لا بد من أكثر من شاهدين؟

  • فالقول الذي ذكره المصنف: أنه يكفي شهادة شاهدٍ واحدٍ، هذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو أيضًا مذهب الشافعية.
  • القول الثاني: أنه لا بد من شاهدين فأكثر، إذا كان في موضعٍ يُعتنى فيه برؤية الهلال، أما إذا كان في موضعٍ لا يعتنى فيه برؤية الهلال؛ فيكفي شاهدٌ واحدٌ، وهذا هو مذهب المالكية.
  • القول الثالث: أنه يُكتفى بشاهدٍ واحدٍ إذا كان في السماء علةٌ؛ كغيمٍ أو قترٍ، أما إذا لم يكن في السماء علةٌ؛ فلا بد من جمعٍ عظيمٍ يغلب على الظن صدقهم، وحددها بعضهم بعشرةٍ، وهذا هو مذهب الحنفية.

القائلون بأنه يكفي شاهدٌ واحدٌ استدلوا بحديث الأعرابي أنه أتى النبي فقال: يا رسول الله، إني رأيت الهلال، قال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، قال: قم -يا بلال- فأذن في الناس بالصيام [22]، هذا الحديث أخرجه أصحاب السنن، وفي سنده مقالٌ، وضعفه كثيرٌ من المحدثين، وأيضًا في متنه نكارةٌ، كيف يأمر النبي عليه الصلاة والسلام الأمة بالصيام لأجل أعرابيٍّ لمجرد أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، بينما بقية الصحابة العدول -وفيهم من هو حاد البصر- لم يروا الهلال؟! وبكل حالٍ: فهو من جهة الصناعية الحديثية لا يثبت.

واستدلوا كذلك بحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: “تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي أني رأيته، فصام وأمر الناس بالصيام” [23]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود بسندٍ جيدٍ.

القائلون بأنه لا بد من شاهدين إذا كان في موضعٍ يُعتنى فيه برؤية الهلال؛ استدلوا بحديث عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب: أن النبي قال: فإن شَهِد شاهدان؛ فصوموا وأفطروا [24]، وهو حديثٌ أيضًا صحيحٌ، يشمل رمضان وغيره، أخرجه أحمد والنسائي.

وأما الموضع الذي لا يعتنى فيه برؤية الهلال يقولون: يكفي شاهدٌ واحدٌ احتياطًا لرمضان، هذا هو مذهب المالكية.

الحنفية قالوا: إذا كان في الجو علةٌ؛ كغيم مثلًا، يكفي شهادة شاهدٍ واحدٍ احتياطًا لرمضان، أما إذا لم يكن فيه علةٌ، لا بد من جمعٍ عظيمٍ، لا يتفرد شاهدٌ واحدٌ برؤية الهلال؛ لأن تفرده يورد الشك، كيف يرى هذا الإنسان الهلال وغيره لم يروا الهلال، وليس في الجو علةٌ؟! وهذا هو مذهب الحنفية؛ ولذلك تجدون البلدان التي ينتشر فيها المذهب الحنفي يتأخرون عن كثيرٍ من بلدان العالم الإسلامي في دخول شهر رمضان وفي شوالٍ؛ لأنهم على مذهب الحنفية الذين يشترطون -إذا لم يكن في السماء علة- جمعًا عظيمًا يغلب على الظن صدقهم.

والقول الثالث فيه بعدٌ؛ اشتراط جمعٍ عظيمٍ لا يتوافق مع الأدلة، ابن عمر رضي الله عنهما رأى الهلال، والنبي عليه الصلاة والسلام أمر بالصيام، مع أن الشاهد شاهدٌ واحدٌ، ففيه بعدٌ.

تبقى الموازنة بين القول الأول والثاني، وكلاهما له حظٌّ من النظر ومن الأثر أيضًا.

لكن الذي يظهر والله أعلم: أن القول الثاني أقرب؛ لأنه إذا كان في موضعٍ يُعتنى فيه برؤية الهلال؛ فانفراد شاهدٍ واحدٍ يورث الشك في شهادته، خاصةً مع تعجل بعض الشهود، وتوهم بعضهم، ومع وجود كثيرٍ -في وقتنا الحاضر- من العوالق والعوائق؛ مثل: الأقمار الصناعية، ودخان الطائرات، ونحو ذلك؛ فلذلك لا بد أن يُتشدد في هذا.

أما إذا كان في موضعٍ لا يُعتنى فيه برؤية الهلال، فيُكتفى بشاهدٍ واحدٍ؛ كما في قصة ابن عمر رضي الله عنهما.

وأما ما ذكره أصحاب القول الأول من الأدلة:

حديث الأعرابي تكلمنا عنه، وقلنا: إنه لا يثبت.

حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أولًا: يحتمل أنه كان هناك شاهدٌ آخر مع ابن عمر، ثانيًا: حتى لو لم يكن، فابن عمر عنده من الضبط والدقة والتحري والورع ما ليس عند غيره؛ فلا يقاس على ابن عمر غيره؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام اكتفى بشهادة خزيمة بن ثابتٍ عن شاهدين.

الذي يمكن أن يكون مستندًا لهذا القول: حديث الأعرابي لو ثبت، لكنه لا يثبت.

وعلى ذلك: فشهادة شاهدٍ واحدٍ تورث الشك، أنا قابلت بعض الشهود، رأيت أن بعضهم عنده شيءٌ من التوهم، أو الاستعجال أحيانًا، وإن كان بعضهم عنده أيضًا حدةٌ في النظر، وعنده ضبطٌ، ولكن ربما أن بعضهم قد يكون فيه هذا التوهم؛ ولذلك فلا بد من أن يشهد معه شاهدٌ آخر، حتى يُطمأن لدخول الشهر.

أوصاف من تقبل شهادته لرؤية الهلال

ثم ذكر المصنف رحمه الله أوصاف من تقبل شهادته:

  • الوصف الأول: قال: “بخبر مسلمٍ”، لا بد أن يكون الشاهد مسلمًا، وهذا بالإجماع.
  • الوصف الثاني: “مكلفٍ”، يعني أن يكون بالغًا عاقلًا، وهذا أيضًا بالاتفاق.
  • الوصف الثالث: “عدل”، أن يكون معروفًا بالعدالة، والعدل: هو من قام بالواجبات، ولم يفعل كبيرةً، ويكون غير معروفٍ بكثرة التوهم، أو الكذب، وهل الأصل في المسلم العدالة، أو الإنسان عمومًا، الأصل العدالة، أو الأصل عدم العدالة؟

من يجيب عن هذا السؤال؟

الطالب:

الشيخ: الأصل العدالة، أو عدم العدالة؟

الطالب:

الشيخ: عدم العدالة، طيب، نعم، تفضل.

الطالب:

الشيخ: الأصل العدالة.

الطالب:

الشيخ: عدم العدالة، طيب.

بعض الفقهاء قال: الأصل: العدالة؛ لأن الإسلام يقتضي أن يكون المسلمين عدولًا، والأصل: هو العدالة، وهذا هو المشهور أيضًا من مذهب الحنابلة.

والقول الثاني: إن الأصل: عدم العدالة؛ لأن الله تعالى وصف الإنسان بالظلم والجهل فقال: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، فإذا كان ظلومًا جهولًا؛ فالأصل فيه: عدم العدالة، لا بد من تعديله، وهذا هو القول الراجح، واختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ كأبي العباس ابن تيمية وابن القيم وغيرهما رحمهم الله، هذا هو القول الراجح؛ لأن الآية كالنص في المسألة.

فالأصل عدم العدالة، وهذا أيضًا عليه الإجماع العملي للمسلمين على مر الأجيال السابقة، إذا أُتِيَ بشاهدٍ يَطلب القاضي تعديله وتزكيته، ولو كان الأصل العدالة؛ لما احتيج إلى تزكية هذا الشاهد، فيكاد يكون إجماعًا عمليًّا من المسلمين.

ولذلك أبو الطيب المتنبي له بيته المشهور:

والظلمُ من شِيَم النفوس فإن تَجِد ذا عفةٍ فلِعِلَّةٍ لا يَظلمُ

يعني: انتَقَدَه بعضهم على هذا، لكن يظهر أن كلامه صحيحٌ؛ بناءً على هذا التقرير كلامه صحيحٌ، فالأصل عدم العدالة؛ ولذلك لا بد لو أَتَى شاهدٌ يشهد، لا بد من مُزَكِّين لهذا الشاهد؛ لأن الأصل عدم العدالة، لو قلنا: الأصل: العدالة، ما يحتاج لأن نأتي بمزكين له.

لكن من عُرف من الشهود بالكذب، أو بالوهم، كثرة الوهم، الوهم قد يَرِد، لكن كثرة الوهم، فهذا لا تقبل شهادته.

ولو عبدًا تقبل شهادة العبد؛ لأنه إنسانٌ مسلمٌ بالغٌ عاقلٌ، إذا كان عدلًا.

“أو أنثى”: تقبل شهادة المرأة بدخول شهر رمضان، لو أن امرأةً عندها حدةٌ في البصر، ورأت الهلال وشهدت؛ تقبل شهادتها، حتى لو لم يوجد إلا هي، إذا كانت عدلًا.

وتثبت بقية الأحكام تبعًا.

الأحكام السابقة تثبت إذا ثبتت رؤية الهلال، ولا يُقبل في بقية الشهود إلا رجلان عدلان؛ لحديث عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب السابق، وفيه: يقول عليه الصلاة والسلام: فإن شهد شاهدان؛ فصوموا وأفطروا.

فمثلًا: شهر شوالٍ لا بد من اثنين، شهر ذي القعدة لا بد من اثنين، شهر ذي الحجة لا بد من اثنين، جميع الشهود لا بد من اثنين، رمضان فيه الخلاف السابق.

مسألة اختلاف المطالع

طيب، هنا مسألةٌ يذكرها بعض الفقهاء: وهي مسألة اختلاف المطالع، هل هي مؤثرةٌ، أم غير مؤثرةٍ؟

يعني مثلًا: لو رُئِيَ الهلال عندنا بالمملكة، هل يَلزم الناس في أستراليا أو في أمريكا أن يصوموا بصومنا، أو لكل أهل بلدٍ رؤيتهم؟

أما اختلاف المطالع فهو مؤثرٌ حقيقةً، أما شرعًا فهو محل خلافٍ؛ فمثلًا: قد يغيب القمر قبل الشمس في الشرق مثلًا في أستراليا، أو في نيوزيلندا مثلًا، أو إندونيسيا، البلاد الشرقية، لكن عندنا في المملكة يَغرب الهلال بعد الشمس، فالناس هنا في المملكة يمكن أن يروا الهلال، والذين في بلاد الشرق لا يمكن أن يروا الهلال، ومن باب أولى في البلاد الغربية؛ مثل أمريكا، يمكن أن يروا الهلال من باب أولى، والمغرب، بلاد المغرب العربي؛ لأنه كلما تأخر الهلال؛ كلما تهيأت الفرصة لرؤيته أكثر؛ لأنه بعدما ينفصل عن الشمس، وهو ما يسمى بالاصطلاح الفلكي: “ولادة الهلال”؛ يبدأ ازدياد الضوء فيه شيئًا فشيئًا.

فاختلاف المطالع واقعٌ حسًّا، لكن هل هو معتبرٌ شرعًا؟ هذا محل خلافٍ بين الفقهاء:

فمنهم من قال: إنه غير معتبرٍ شرعًا، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، كان شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ يرجحه، إذا رُئي الهلال في أي بلدٍ يلزم المسلمين جميعًا في جميع البلدان الصيام أو الفطر.

والقول الثاني: أن اختلاف المطالع معتبرٌ شرعًا، وهذا هو القول الراجح، ويدل لذلك قصة ابن عباسٍ رضي الله عنهما لما صام الناس في الشام، والناس في المدينة لم يصوموا، فسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك، فقال: “هكذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام”، قيل: ألا يُكتفى برؤية معاوية -يعني رؤية الناس في الشام- قال: “لا، هكذا أمر النبي [25].

وذلك لأن دمشق تقع شرق المدينة؛ ولذلك الناس..، في مطلع المدينة يختلف عن مطلع دمشق، فلهذا اعتبر ابن عباسٍ رضي الله عنهما ومن معه من الصحابة  اعتبروا اختلاف المطلع، مطلع الهلال، فالأظهر -والله أعلم- أن اختلاف المطالع معتبرٌ شرعًا.

ولكن هل اتفاق المسلمين في جميع بلدان العالم على أن يصوموا في يومٍ واحدٍ، هل هو أمرٌ مقصودٌ شرعًا؟

ليس هناك دليلٌ يدل على أنه أمرٌ مقصودٌ شرعًا؛ مثل اختلافهم في الصلاة، أليس المسلمون يختلفون في الصلاة؟ الناس في الشرق يصلون ثم يصلون من بعدهم، ثم الذين في الغرب يصلون، فكذلك أيضًا اختلافهم في الصيام، فلا يضر، لكن المهم ألا يكون هذا الاختلاف كثيرًا، يعني: يكون في حدود الفارق يكون يومًا واحدًا.

وأيضًا ألا يختلف أهل البلد الواحد، فاتفاق الناس داخل البلد الواحد في الصوم وفي الفطر مقصودٌ شرعًا داخل البلد الواحد، ما الدليل؟

الطالب:

الشيخ: أحسنت قول النبي عليه الصلاة والسلام: الصوم يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطر الناس [26]، داخل البلد الواحد ينبغي ألا يختلف المسلمون، لكن من بلدٍ إلى بلدٍ، مع اختلاف المطالع، فلا يَضِير الاختلاف، لكن لا يكون اختلافًا كبيرًا؛ لأنه حصل في سنواتٍ مضت اختلافٌ كبيرٌ، أذكر مرةً في أحد المؤتمرات أنني تكلمت عن مسألة الاختلاف، وقلت: إنه حصل في بعض السنوات أن الاختلاف وصل إلى ثلاثة أيامٍ، فرد عليَّ أحد الحاضرين، قال: لا، بل بعض السنوات وصل إلى أربعة أيامٍ، يعني الناس صاموا السبت، وناس ما صاموا إلا الأربعاء.

وهذا الاختلاف لا شك أنه يورث إشكالًا كبيرًا، هذا غير مقبولٍ، لكن أن يكون الفرق يومًا، وهذا حصل في زمن الصحابة ، مثلًا ناسٌ يصومون السبت، وناسٌ يصومون الأحد، هذا حصل في زمن الصحابة ، هذا مقبولٌ، لكن لا يكون أكثر من يومٍ، إذا كان أكثر من يومٍ، معنى ذلك: أن هناك خطأً في فهم المسألة، وأيضًا لا يختلف المسلمون داخل البلد الواحد، فإذا كان في البلد الإسلامي يتبع الناسُ ولي الأمر، إذا اعتمد ولي الأمر رأيًا لا يختلف الناس عليه، لا ينازعونه، يتبعون ولي الأمر فيما يقرره.

البلاد غير الإسلامية ينبغي أن يتفق المسلمون، يكون لهم مراكز وجمعياتٌ، وينبغي ألا يختلفوا، مع الأسف! يوجد الاختلاف ليس داخل البلد، أحيانًا يقولون: داخل البيت الواحد، هذا صام رمضان، وهذا مفطرٌ، هذا مفطرٌ في العيد وهذا صائمٌ، وهذا لا ينبغي أن يكون داخل البلد الواحد، فضلًا عن البيت الواحد.

فإذنْ حتى نعرف مقصود الشارع نقول: الدليل دل على أن اجتماع المسلمين في الصوم أو الفطر داخل البلد الواحد أمرٌ مقصودٌ شرعًا، أما جميع البلدان فليس هناك دليلٌ يدل على أنه ينبغي أن يتفقوا في يومٍ واحدٍ، بل ظاهر المنقول عن الصحابة أنه لا يَضِير اختلافٌ ليومٍ واحدٍ بسبب اختلاف المطالع.

حكم الاعتماد في الرؤية على مكبرات الرؤية الحديثة

طيب هل يعتمد على المكبرات، مكبرات الرؤية، مثل ما يسمى بـ(الدربيل)، و(التلسكوب)، ومكبرات الرؤية الحديثة؟

الجواب: نعم، أكثر العلماء المعاصرين على أنه يجوز ذلك، وعندنا هنا في المملكة صدر قرارٌ لهيئة كبار العلماء بجواز الاعتماد على المراصد والمكبرات منذ عام ألفٍ وأربعمئةٍ وثلاثةٍ، يعني من قبل كم سنة؟ قبل أربعين عامًا، ومع ذلك -خلال هذه الأربعين عامًا- لم يحصل أنه رئي الهلال عبر المراصد أو المكبرات ولم ير بالعين المجردة ولو لمرةٍ واحدةٍ، دائمًا الشهود سباقون، يسبقون المراصد والمكبرات، ما حصل في أربعين عامًا، مع صدور قرار هيئة كبار العلماء، واعتماد الجهات القضائية عليه، ومع ذلك لم يحصل ولو لمرةٍ واحدةٍ أنه رُئي عبر المراصد والمكبرات ولم يُرَ بالعين المجردة، لكن قد يحصل توافق؛ يُرى بالعين المجردة والمراصد، هذا كثيرٌ.

قد يكون بالعين المجردة ولا يرى بالمراصد، حصل، لكن بالمراصد ولا يُرى بالعين المجردة، هذا لم يحصل ولو لمرةٍ واحدةٍ.

حكم الاعتماد على تقنية سي سي دي في رؤية الهلال

طيب هناك مسألةٌ أيضًا من المسائل المعاصرة، وهي من النوازل، وأنا ذكرت لكم أني سأذكر ما يتعلق بالصيام من النوازل والمسائل المستجدة والمعاصرة.

هناك الآن تقنيةٌ حديثةٌ للرؤية تسمى: تقنية (سي سي دي)، هذه يمكن أن يرى عن طريقها الهلال نهارًا، وفكرتها فكرة تجميع الصور، يعني تجمع ثلاثمئة صورةٍ في الدقيقة الواحدة، ثم هذه الصور تُجمع بطريقةٍ معينةٍ، وتعالج فتخرج صورة الهلال.

ولعلكم ترون هذا إذا أتى آخر الشهر، ترسل عبر وسائل التواصل الاجتماعي رؤية الهلال، سترون -إن شاء الله- في هلال رمضان، ستجدون صورة الهلال عبر تقنية (سي سي دي) ترسل لكم من صباح الجمعة أو من ظهر الجمعة.

هل هذه مقبولةٌ شرعًا، أو غير مقبولةٍ شرعًا؟

كلفني “المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي” بكتابة بحثٍ في هذه المسألة، وبحثتها وأرسلت لهم البحث، لم يعرض بعد على دورة المجمع، وتواصلت مع بعض المختصين بهذه التقنية وبعض الفلكيين.

وخلصت إلى أن فيها تفصيلًا؛ فإذا كانت الرؤية حيةً مباشرةً للهلال؛ فهذه رؤيةٌ معتبرةٌ شرعًا، إذا كانت بعد غروب الشمس، انتبه لهذا القيد، سأعلق عليه، إذا كانت الرؤية حيةً مباشرةً للهلال؛ فهذه معتبرةٌ شرعًا إذا كانت بعد غروب الشمس.

ثانيًا: إذا كانت الرؤية بطريق تجميع الصور وتكديسها، ومعالجتها؛ لكي تظهر صورة الهلال، فهذه غير معتبرةٍ، لأنها ليست رؤيةً شرعيةً للهلال، هذه صورة الهلال جمعت من هنا وهنا وهنا بطريقةٍ فنيةٍ، فليست في معنى الرؤية المقبولة شرعًا.

الحالة الثالثة: تصوير الهلال تصويرًا طبيعيًّا من غير تكديسٍ ولا معالجةٍ عبر الحاسوب، فهذه يعني محل نظرٍ، والذي يظهر أنه إذا كان يمكن رؤية الهلال بعدسة الكاميرا أثناء التصوير، فتكون معتبرةً؛ لأنها رؤيةٌ حقيقيةٌ بالعين.

أما إذا كان لا يمكن رؤية الهلال بها أثناء التصوير، وإنما لا بد من المعالجة؛ فهذه تلحق بمسألة معالجة الصور؛ فلا تعتبر.

وذكرت هذا التفصيل في كتاب “السلسبيل في شرح الدليل” لمن أراد الرجوع له.

لكن في الوقت الحاضر حتى الآن، أقول: حتى الآن، لا ندري مستقبلًا؛ التقنية في تقدم، لا يمكن أن يرى الهلال عبر تقنيةٍ (سي سي دي) إلا نهارًا فقط، والرؤية المعتبرة شرعًا لا بد أن تكون بعد غروب الشمس، أما قبل غروب الشمس لا تعتبر.

لو أن شاهدًا شهد برؤية الهلال قبل غروب الشمس بدقيقةٍ، لكنه لم ير بعد غروب الشمس؛ لا تقبل، فرؤية الهلال بتقنية (سي سي دي) حتى الآن في النهار فقط، ما حصل ولو لمرةٍ واحدةٍ أنها كانت بعد غروب الشمس؛ ولذلك ستجدون يوم الجمعة تُرسَل صور الهلال، لكن نهارًا، لكن: أعطُونا صورة الهلال بعد غروب الشمس، ما استطاعوا حتى الآن، لكن ربما مستقبلًا يمكن.

ولذلك المجامع الفقهية الآن تدرس هذه النازلة، لكن هذا هو الذي خَلَصتُ إليه بعد دراسةٍ وتأملٍ، وأيضًا استشارةٍ لأهل الاختصاص، هو هذا التفصيل الذي ذكرت، يعني التفريق بين الرؤية المباشرة، وبين ما كان في معنى تكديس الصور.

لكن عمليًّا لا تعتبر تقنية (سي سي دي) الآن؛ لأنها إنما تكون نهارًا، ولا تكون بعد غروب الشمس، لكن أخبرني بعض المختصين أنها يمكن أن تكون في المستقبل، يمكن بطريقةٍ معينةٍ، فلو حصل في المستقبل، إذا كانت رؤيةً مباشرةً؛ مثل الرؤية عبر (التلسكوب) و(الدربيل) فتقبل، أما إذا كانت بتجميع الصور وتكديسها ومعالجتها فهذه غير مقبولةٍ.

هل يثبت دخول الشهر بالحساب الفلكي؟

طيب، مسألة الحساب الفلكي، هل يعتبر في إثبات دخول الشهر؟

هذه مسألةٌ قديمةٌ تكلم عنها العلماء قديمًا، ومن أبرز من تكلم عنها: ابن السبكي وكذلك أيضًا ابن تيمية، رحمهما الله تعالى، من القرن الثامن؛ لأن الحساب كان قديمًا ومعروفًا.

والذي يظهر -والله أعلم- يعني هناك من العلماء من قال: إنه لا يعتمد على الحساب، ولا يعتبر لا في النفي ولا في الإثبات، وهذا هو القول الأكثر، ومنهم من قال: إنه يعتمد عليه في النفي والإثبات، وهذا قول قلةٍ، ومن أشهر من قال بهذا: الشيخ أحمد شاكر رحمه الله، وله في هذا رسالةٌ، أحمد شاكر يعني محدثٌ، وله..، وكتب في هذا رسالةً وبين وجهته.

والقول الثالث: القول بالتفصيل، وهو قول السُّبْكي رحمه الله، وهو أيضًا قول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، وهو التفريق بين النفي والإثبات، فيعتمد على الحساب في النفي دون الإثبات.

ما الفرق بين النفي والإثبات؟

الإثبات معناه: أن يقول الفلكيون: إن رؤية الهلال ممكنةٌ، ثم لا يتقدم شاهدٌ، يعني مثلًا يوم الجمعة القادم، قال الفلكي..، لو افترضنا أن الفلكيين قالوا: إن رؤية الهلال ممكنةٌ، لكن لم يتقدم شاهدٌ، هذا معنى الإثبات، فيقولون: في الإثبات لا يقبل الحساب، لا يعتبر، ما دام أنه لم يتقدم شاهدٌ، فيُكمَل شعبان ثلاثين يومًا.

وأما في النفي: إذا قال الفلكيون: إنه يستحيل رؤية الهلال؛ لكون مثلًا الهلال يغرب قبل الشمس، فيقولون: يعتمد عليه، وتُرَدُّ شهادة الشاهد.

والذي يظهر -والله أعلم- هو التفريق بين الحساب القطعي وغيره؛ فإن الحساب منه ما هو قطعيٌّ، ومنه ما هو ظنيٌّ؛ فالظني غير معتبرٍ، أما القطعي فمعتبرٌ؛ فمثلًا من القطعي: إذا غرب الهلال قبل الشمس فلكيًّا لا يمكن أن يُرى الهلال بعد غروب الشمس، فإذا أتى شاهدٌ وادَّعى رؤية الهلال فمعنى ذلك أنه متوهمٌ.

كيف عرفنا هذا؟ أن تخوض غروب القمر لشهرٍ كاملٍ، وطبِّقْه على الطبيعة، هل تجد فيه خطأً؟ ما تجد، مثل غروب الشمس، بل إن معادلة غروب الشمس هي نفسها معادلة غروب القمر، لكن فقط الخلاف في المدخلات فقط.

العملية الحسابية لغروب القمر هي نفسها العملية الحسابية لغروب الشمس، إذا كنت ستشك في غروب القمر؛ شُكَّ أيضًا في غروب الشمس، ولا تفطر في رمضان حتى تصعد السطح، وتنظر هل غربت بالفعل أم لا.

فإذا غرب القمر قبل الشمس، معنى ذلك: أنه لا يمكن أن يرى الهلال، هذا قطعيٌّ، لكن لو كان الهلال موجودًا؛ مثل الذي سيحصل يوم الجمعة القادم إن شاء الله تعالى، الهلال موجودٌ، لكن هنا كلام الفلكيين يكون ظنيًّا، لماذا؟ لأن الناس تختلف، يختلف الناس في حدة البصر، وفي الخبرة، ونحو ذلك، فبعض الناس ربما يكون عنده حدة نظرٍ، ويستطيع أن يرى الهلال، وهذه ترجع لقدرة العين البشرية، ما حدود رؤية العين البشرية للرؤية؟ هذه فقط لا يختص بها الفلكيون، يشترك معهم فيها أطباء العيون، ويشترك معهم فيها علماء الفيزياء، فما هي حدود قدرة العين البشرية؟ الهلال موجودٌ مثل يوم الجمعة القادم، الهلال موجودٌ في الأفق، لكن حدود قدرة العين البشرية هذا محل اجتهادٍ.

فهذا يعتبر ظنيًّا لا يكون قطعيًّا؛ ولذلك لو تقدم شهودٌ برؤية الهلال؛ تقبل شهادتهم، هذا الذي ظهر لي في بحث هذه المسألة: التفريق بين الحساب القطعي والحساب الظني؛ فمثلًا: غروب الهلال قطعيٌّ إذا غرب قبل الشمس، لا يمكن أن يرى الهلال، لكن إمكانية الرؤية ظنيةٌ، ليست قطعيةً، مثل الذي سيحصل يوم الجمعة القادم إن شاء الله، الهلال موجودٌ في الأفق، لكن حدود رؤية العين البشرية تختلف فيها الأنظار والاجتهادات.

فالخلاصة: أن القول الراجح في هذه المسألة: أنه لا يعتمد على الحساب الفلكي في الإثبات؛ لأن الأدلة قد دلت على اعتماد الرؤية: صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته [27].

وأما في النفي فيعتمد عليه فيما كان قطعيًّا من الحساب دون ما كان ظنيًا منه.

وهذا هو الذي عليه العمل في العشر السنوات الأخيرة، هذا هو الذي عليه العمل، ليس فقط عندنا بالمملكة، بل في العالم الإسلامي كله، يعني أنه إذا كان الحساب قطعيًّا لا يثبت دخول الشهر.

ومن أراد مزيدًا من التفصيل فلي كتابٌ كتبته لمؤتمرٍ كان في “رابطة العالم الإسلامي” عن الاستعانة بالحسابات الفلكية في إثبات الأهِلَّة، كتابٌ صغيرٌ تكلمت فيه عن هذه المسألة كلامًا مفصلًا، فمن أراد مزيدًا من التفصيل والتوضيح؛ فليرجع لهذا الكتاب.

شروط وجوب الصيام

قال المصنف رحمه الله:

وشرط وجوب الصيام أربعة أشياء:

قسَّم المصنف شروط الصوم إلى شروط وجوبٍ وشروط صحةٍ، وابتدأ بشروط الوجوب، فشروط الوجوب، قال:

الإسلام، والبلوغ، والعقل، والقدرة عليه.

هذه هي شروط الوجوب، أما الإسلام فهو شرطٌ لجميع العبادات، فإن العبادات لا تصح من الكافر؛ لأن العبادة يشترط لها النية، والنية لا تصح من كافرٍ، لكن لو أن الكافر فعل العبادة، هل يثاب عليها؟ من يجيب عن هذا السؤال؟ هل يجازى عليها؟

الطالب:

الشيخ: نعم، مطلقًا؟

الطالب:

الشيخ: طيب، أو فيه تفصيلٌ، أو..؟ نعم، تفضل.

الطالب:

الشيخ: نعم، أنت قاربت الجواب.

الطالب:

الشيخ: أحسنت! نقول: ما كان يشترط لصحته النية؛ فهذا لا يثاب عليه؛ لقول الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، لو صلى أو صام لا تُقبل صلاته ولا صيامه ولا يجزى على ذلك، بل يكون هباءً منثورًا.

لكن ما كان لا يشترط فيه النية، وإنما حتى لو لم يصح عبادةً يكون إحسانًا؛ مثل مثلًا الصدقة، لو دفع صدقةً، لو تبرع، فهذا يثاب عليه في الدنيا؛ لقول النبي : إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنةً، يُعطَى بها في الدنيا، ويجزى عليها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنةٌ يُجزَى بها [28]، إذا أتى الآخرة؛ أتى وليس معه شيءٌ، والحديث في “صحيح مسلمٍ”.

فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الكافر يُجزَى عليها في الدنيا، لكن قال العلماء، وذكر هذا الشراح: أن هذا فيما لا يشترط له تمحُّض النية؛ مثل مثلًا: الصدقات والتبرعات والإحسان، ونحو ذلك، المشاريع الخيرية، هذه إذا فعلها الكافر يثاب عليها في الدنيا؛ لأن الله تعالى عدلٌ، فيُعطَى في الدنيا، أما العبادات المحضة فهذه لا تقبل منه ولا تصح منه.

قال: “والبلوغ”، فالصوم لا يجب على غير البالغ؛ لأنه مرفوعٌ عنه القلم؛ لقول النبي : رفع القلم عن ثلاثةٍ، وذكر منهم: عن الصبي حتى يبلغ [29]، وسيأتي الكلام عن أمر الصبي في الصوم.

“والعقل”: كذلك لا يجب الصوم على المجنون؛ للحديث السابق، وذكر: وعن المجنون حتى يُفيق.

“والقدرة عليه”: يعني: أن يكون قادرًا على الصيام، ثم وضَّح المصنف هذا الشرط.

حكم من عجز عن الصيام لكِبَرٍ أو مرضٍ

قال:

فمن عجز عنه لكِبَرٍ، أو مرضٍ لا يرجى زواله؛ أفطر وأطعم عن كل يومٍ مسكينًا.

إن عجز عن الصوم لكبرٍ، كان كبيرًا في السن، أو مرضٍ لا يرجى بُرؤه، فإنه لا يجب عليه الصوم، ولكن يفطر ويطعم عن كل يومٍ مسكينًا.

لكن الذي يقرر أن المرض لا يرجى بُرؤه هم الأطباء المختصون؛ كالسرطان مثلًا إذا انتشر وأصبح من الدرجة الرابعة مثلًا، عافانا الله وإياكم، أو بعض الأمراض التي يقرر الأطباء أنها من الأمراض التي لا يرجى برؤها.

فإذا أفطر لمرضٍ لا يرجى برؤه، أو لكبرٍ؛ وجب عليه أن يطعم عن كل يومٍ مسكينًا، أفطر وأطعم عن كل يومٍ مسكينًا، ومعنى ذلك: إذا كان الشهر ثلاثين يومًا؛ أطعم ثلاثين مسكينًا، وإذا كان الشهر تسعةً وعشرين يومًا؛ أطعم تسعةً وعشرين مسكينًا.

هل يجوز إخراج الإطعام مقدَّمًا؟

لكن هنا مسألةٌ يكثر السؤال عنها، وهي: هل يجوز إخراج الإطعام مقدمًا في أول شهر رمضان؟

هذه المسألة خلافيةٌ بين الفقهاء:

  • فالقول الأول: أنه يجوز، وهذا هو مذهب الحنفية، وقالوا: إن شهر رمضان عبادةٌ واحدةٌ؛ فهو كاليوم الواحد.
  • والقول الثاني: أنه لا يجوز، لا يجوز تقديم الإطعام لأول رمضان، بل إما أن يطعم عن كل يومٍ بيومه، أو يؤخر الإطعام إلى ما بعد رمضان، وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة.

وأما المالكية تلاحظون أننا لم نذكر لهم قولًا؛ لأن المالكية أصلًا لا يرون وجوب الإطعام؛ وإنما يرون أنه مستحبٌّ.

القول الراجح هو القول الثاني: أنه لا يجوز تقديم الإطعام لأول رمضان، انتبه لهذه المسألة، القول الراجح أنه لا يجوز، وهذه ترجع لقاعدةٍ فقهيةٍ ذكرها الحافظ ابن رجبٍ وغيره، وهي: أنه لا يجوز تقديم العبادة على سبب وجوبها، ويجوز تقديمها بعد سبب الوجوب، وقبل شرط الوجوب.

أعيدها مرةً ثانيةً: لا يجوز تقديم العبادة قبل سبب الوجوب، ويجوز تقديمها بعد سبب الوجوب، وقبل شرط الوجوب.

نوضح هذه القاعدة بالمثال: مثلًا في كفارة اليمين سبب الوجوب هو الحلف، شرط الوجوب: هو الحنث، الحنث: أن يحنث في يمينه بأن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله.

طيب لا يجوز تقديم الكفارة قبل سبب الوجوب، لو قال شخصٌ: أنا الآن سأكفر كفارة يمينٍ، حتى إذا حلفتُ أكون قد كفرت مسبقًا، نقول: هذا لا يصح؛ لأنك قدمت الكفارة قبل سبب الوجوب.

لكن بعد سبب الوجوب، وقبل شرط الوجوب، لو أنك حلفت، وأردت أن تدفع الكفارة قبل أن تحنث فيجوز ذلك حتى قبل الحنث؛ لقول النبي كما في “الصحيحين” من حديث عبدالرحمن بن سمرة : فكفر عن يمينك، وَأْتِ الذي هو خيرٌ [30]، وهذا نصٌّ في المسألة: فكفر عن يمينك، بدأ بالكفارة: فكفر عن يمينك وَأْتِ الذي هو خيرٌ.

طيب كيف نربط هذا هنا بمسألتنا؟ طيب ما هو سبب الوجوب هنا بالنسبة للإطعام في رمضان؟

سبب الوجوب هو الفطر، فمعنى ذلك: أنك إذا أخرجت الإطعام في أول رمضان؛ تكون قد أخرجت الإطعام قبل سبب الوجوب؛ فلا يصح، وعلى هذا نقول: إن الإطعام إما أن يكون كل يومٍ بيومه، أو يؤخر الإطعام إلى آخر رمضان، أو إلى ما بعد رمضان.

مقدار الإطعام

وحدد المصنف مقدار الإطعام قال:

مُدَّ بُرٍّ، أو نصف صاعٍ من غيره.

ما معنى المُدِّ؟ إذا قيل: مُدٌّ، أو قيل: صاعٌ، هذه المصطلحات لا بد لطالب العلم أن يفهمها، ما معنى مدٍّ؟

مُدٌّ: يقولون، كما قال صاحب القاموس: هو مِلء كفي الإنسان معتدل الخلقة إذا مدهما، هذا هو المُدُّ، النبي عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ بالمد -بقدر هذا- ويغتسل بالصاع [31]، الصاع: أربعة أمدادٍ، يغتسل بقدر هذا أربع مراتٍ، هل هناك أحدٌ الآن يغتسل بقدر هذا أربع مراتٍ، أو حتى يتوضأ بالمد؟!

ولهذا كان الإمام أحمد يتوضأ، وكان أحد تلامذته يستره عن العامة، يقولون: نخشى أن يقولوا: إنه لا يحسن الوضوء، من قلة ولوعه بالماء، وهذا من فقه الإمام أحمد رحمه الله.

فإذنْ هذا هو المد، يقول المصنف: “مد برٍّ، أو نصف صاعٍ من غيره”، الحنابلة اعتمدوا على آثارٍ وردت عن بعض الصحابة  في هذا.

والقول الثاني: أن المرجع في الإطعام إلى العرف؛ لأن القاعدة في هذا الباب: أن كل ما ورد في الشرع وليس له حدٌّ في الشرع ولا في اللغة، فالمرجع إلى ماذا؟ إلى العرف، هذه هي القاعدة: “كل ما ورد في الشرع وليس له حدٌّ في الشرع ولا في اللغة؛ فالمرجع فيه إلى العرف”.

فهذه المسألة وردت في الشرع، وليس لها حدٌّ في الشرع ولا في اللغة، فالمرجع فيها هو العرف، وهذا هو الراجح، واختاره ابن تيمية رحمه الله وجمعٌ من المحققين من أهل العلم، وهو فعل أنسٍ ، أنس بن مالكٍ دعا له النبي بثلاث دعواتٍ، لما قدم النبي المدينة؛ أتت أم سليمٍ، وأم سليمٍ رضي الله عنها أعطاها الله حكمةً ورجاحة عقلٍ، عندها هذا الابن، عمره عشر سنواتٍ، هو أنسٌ، يتيمٌ، فرأت أن أفضل ما تقدمه لهذا اليتيم أن تجعله ملازمًا للنبي عليه الصلاة والسلام؛ يخالطه ويتعلم منه، يستفيد من سمته، فقالت: يا رسول الله، هذا أنسٌ غلامٌ يخدمك، وهبته لخدمتك، ثم قالت: ادع الله له، قال: فدعا لي بثلاث دعواتٍ، رأيت منها اثنتين في الدنيا، وأرجو الثالثة في الآخرة، قال: اللهم أكثر ماله وولده، وأطل عمره، واغفر ذنبه [32]، قال: فأكثر الله مالي، حتى إني أكثر الأنصار مالًا، وحتى إن بستاني يثمر في السنة مرتين، العادة ثمار الأشجار تثمر في السنة مرةً واحدةً، إلا بستان أنسٍ مرتين، ببركة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام.

قال: “وأكثر الله ولدي، وحدثتني -وهذا في البخاري- وحدثتني ابنتي أميمة أنه دُفن لصلبي -لصلبي، ليس من أحفادي، لصلبي- سنة الحجاج بضعٌ ومئةٌ من الولد”.

وأطال الله عمره حتى جاوز مئة عامٍ، قال: حتى استحييت من أهلي، واشتقت للقاء ربي، فكان في آخر عمره يشق عليه الصوم، كبير السن يحتاج إلى سوائل، يصعب عليه الصوم، فكان أنسٌ  يشق عليه الصوم، فكان يفطر في رمضان، وكان يجمع المساكين يغديهم أو يعشيهم.

طيب وأما الثالثة: فأرجو في الآخرة، ما هي الثالثة؟ مغفرة الذنوب، قال: “أما الثالثة فأرجوها في الآخرة”.

طيب، إذنْ هذه الشروط الأربعة هي شروط الوجوب، إذا تخلف شرطٌ منها لم يجب الصوم.

شروط صحة الصيام

ننتقل لشروط الصحة: قال: وشروط صحته ستةٌ، هذه من مزايا هذا المتن، لاحِظ كيف جمع شروط الوجوب، ثم شروط الصحة، ورتبها بهذه الطريقة! هذا الترتيب قد لا تجده في متنٍ آخر.

قال: شروط صحته ستةٌ: الإسلام.

لما سبق.

وانقطاع دم الحيض والنفاس.

وهذا بالإجماع؛ لقول النبي : أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم [33].

إذنْ الإسلام هذا واحدٌ، انقطاع دم الحيض اثنان، انقطاع دم النفاس ثلاثةٌ.

الرابع: التمييز.

التمييز شرطٌ للصحة، بينما قلنا: البلوغ شرطٌ للوجوب، معنى ذلك: الصبي المميز يصح منه الصوم، لكن لا يجب عليه.

ضابط التمييز اختُلف فيه، فقال بعضهم: إن المميز: هو من يفهم الخطاب ويرد الجواب، لكن هذا لا ينضبط، الآن بعض الأطفال ربما عمره ثلاث سنواتٍ يفهم الخطاب ويرد الجواب، هل هذا مميزٌ؟ لا يعتبر مميزًا؛ ولذلك لا تجد أحسن من التحديد الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: مروا أبناءكم بالصلاة لسبعٍ [34]، سبع سنواتٍ هذا هو سن التمييز، طيب، هل يجب على ولي الصبي المميز أن يأمره بالصوم؟

يقول المصنف:

فيجب على ولي المميز المطيق للصوم أمره به وضربه عليه؛ ليعتاده كالصلاة.

فإن النبي قال: مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها لعشرٍ، قالوا: فالصيام كذلك؛ وعلى هذا: إذا لم يأمر الولي هذا الصبي بالصوم فإنه يأثم.

القول الثاني: أنه يستحب للولي أن يأمر الصبي المميز بالصوم، ولا يجب، وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء، وهذا هو القول الراجح والله أعلم؛ لأن الصوم إذا كان ليس واجبًا على الصبي، فكيف نوجب على الولي أن يأمره به؟!

فالأقرب -والله أعلم- أنه يستحب ولا يجب؛ لما فيه من تمرين هذا الصبي على الصوم، وتعويده عليه، وحتى يألفه، ويحب هذه العبادة، وهذه كلها تدخل في باب المندوبات.

الخامس من شروط الصحة: العقل.

فلا يصح الصوم من المجنون باتفاق العلماء؛ لأن الصوم يحتاج إلى نيةٍ، والنية لا تصح من المجنون، لكن المغمى عليه، هذا الذي يهمنا، المجنون أمره واضحٌ، لكن المغمى عليه، هل يصح صومه، أو لا يصح؟

أما إذا كان الإغماء جميع النهار، فلا يصح صومه؛ لأن الصوم إمساكٌ بنيةٍ، ولم يحصل هذا الإمساك بنيةٍ من المغمى عليه إذا كان الإغماء جميع النهار.

يقول المصنف:

لكن لو نوى ليلًا، ثم جُن أو أغمي عليه جميع النهار وأفاق منه قليلًا؛ صح.

لو أفاق قليلًا، ولو دقيقةً واحدةً؛ صح صومه، لماذا؟ قالوا: لأنه يصح إضافة الإمساك إليه في ذلك الوقت، وقد وُجد منه إمساكٌ بنيةٍ في الجملة؛ فعلى هذا: المغمى عليه إذا أفاق ولو دقيقةً واحدةً أو أقل حتى؛ صح صومه، أما إذا أغمي عليه جميع النهار؛ لم يصح.

وهكذا أيضًا المصاب بالصرع مثلًا، أو قال: أو جُن مثلًا، أو مثلًا زال عقله لأي سببٍ، انخفض عليه السكر، أو نحو ذلك، المهم أنه إذا زال عقله، أغمي عليه جميع النهار؛ لا يصح صومه، إذا أفاق ولو قليلًا، ولو لحظةً؛ صح صومه.

حكم صيام المغمى عليه جميع النهار

لكن تَرِد مسألةٌ مهمةٌ: المغمى عليه جميع النهار، أو أيامًا، وهذا يعني المسألة يكثر السؤال عنها، هل يجب عليه القضاء؟

قلنا: أنه لا يصح صومه، مغمًى عليه جميعَ النهار، أو إنسانٌ مثلًا في غيبوبةٍ في المستشفى، بقي في المستشفى شهرًا أو شهرين أو ثلاثةً، ووافق ذلك رمضان، ثم زال الإغماء، هل يجب عليه قضاء صيام رمضان؟

الجواب: نعم يجب، في قول عامة الفقهاء أنه يجب، وهو الذي عليه المذاهب الأربعة.

طيب، هل يجب عليه قضاء الصلاة؟

أكثر الفقهاء على أنه لا يجب، وبعضهم قال: إذا كان يسيرًا وجب؛ كثلاثة أيامٍ فأقل، وإن كان كثيرًا لم يجب، أما عند الحنابلة فيجب مطلقًا، وهو من المفردات.

والراجح: هو أنه إذا كان الإغماء في حدود ثلاثة أيامٍ فأقل؛ فإنه يجب قضاء الصلاة، وإذا كان أكثر من ثلاثة أيامٍ لا يجب، وهو اختيار شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله.

لكن هذه المسألة..، فقط أريد أن أذكر هنا فائدةً: كيف نقول: إن المغمى عليه يؤمر بقضاء الصوم، ولا يؤمر بقضاء الصلاة؟

يعني: أغمي عليه مثلًا مدة شهرين، منها شهر رمضان، نقول: الصلاة لا يلزمك أن تقضيها على القول الراجح، والصيام يلزمك.

إن اعتبرناه مثل المجنون -افترضنا- لا يلزمه لا الصيام ولا الصلاة، إن اعتبرناه كالنائم؛ لزمه الصوم والصلاة.

ولذلك -أيها الإخوة- أنا أريد أخلص من هذا إلى فائدةٍ: وهي أن طالب العلم ينبغي ألا يبالغ في التقعيد، بعض القواعد أحيانًا ما تستطيع أن تضبطها، وإنما يُبالَغ في اتباع الدليل، اتَّبِع الدليل، لا أحد يستطيع أن يعترض عليك، لكن تقول لي: قاعدة، أصلًا القاعدة تحتاج إلى دليلٍ، القاعدة نفسها تحتاج إلى دليلٍ، فلذلك ربما بعض طلبة العلم يبالغ في التقعيد فتأتي مثل هذه الإشكالات.

هل المغمى عليه تأمره بقضاء الصوم، ولا تأمره بقضاء الصلاة؟ طيب على أي قاعدةٍ؟

فطالب العلم لا يبالغ في التقعيد، صحيح أن القواعد يستفاد منها في ضبط العلم، وفي جمع الفروع، وفي التأصيل، لكن لا يبالغ فيها، لا يكون فيها مبالغةٌ، بالِغ في تعظيم الدليل واتباع الدليل؛ لأن بعض المسائل لا تنتظم لك على قاعدةٍ.

لو أخذت مثلًا مسائل النية في الإحرام في الحج تجد أنها أيضًا فيها إشكالاتٌ إذا أردت أن تضبطها بالقواعد، ومسائل كثيرة من هذا الباب؛ فلذلك ينبغي أن يحرص طالب العلم على الدليل، لا يبالغ في التقعيد، حتى لو قلت: القاعدة هي كذا، يأتيك من يقول: ما الدليل أصلًا لهذه القاعدة؟

حكم تبييت النية للصيام

السادس: النية من الليل لكل يومٍ واجبٍ.

يعني: مراد المصنف تبييت النية من الليل؛ لقول النبي : من لم يجمع الصيام قبل الفجر، فلا صوم له [35]، أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد، وهو حديثٌ صحيحٌ.

طيب لماذا يجب تبييت النية من الليل؟ يعني: لماذا أمرت الشريعة بتبييت النية من الليل، والفقهاء في كتبهم نصوا على هذا: لا بد من تبييت النية من الليل في الصوم الواجب؟ من يجيب عن هذا السؤال، ما هي الحكمة؟

الشيخ: نعم.

الطالب:

الشيخ: أحسنت؛ لأن الصوم هو إمساكٌ بنيةٍ، فحتى يكون جميع النهار مشغولًا بالنية؛ لا بد من تبييت النية من الليل، فلو أنك لم تبيت النية من الليل؛ سيكون أول النهار غير مشمولٍ بنية الصوم، فهذه هي الحكمة من وجوب تبييت النية من الليل.

قال:

فمن خَطَرَ بقلبه ليلًا أنه صائمٌ؛ فقد نوى.

مجرد أنه يخطر بقلبه الصيام؛ يعتبر قد نوى.

وكذا الأكل والشرب بنية الصوم.

يعني: لو تسحر مثلًا فيكون قد نوى؛ ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: “من كان يعلم أن غدًا من رمضان وهو مسلمٌ يعتقد وجوب الصيام، وهو مريدٌ الصيام؛ هذه نية الصوم، وهو حين يتعشى عشاءَ مَن يريد الصوم؛ ولهذا يفرق الناس بين عشاء ليلة العيد، وعشاء ليالي شهر رمضان”.

ومن علم أن غدًا من رمضان فقد نوى رمضان، إذا كان قد اعتاد صيام رمضان، مجرد أن يعلم أن غدًا رمضان قد نوى.

ولذلك النية تتبع العلم، بل إن بعض العلماء يقول: لو كلفنا العمل بلا نيةٍ؛ لكان هذا من التكليف بما لا يطاق، أقول هذا لأنه قد يوجد بعض الناس عندهم وسوسةٌ في النية في الصوم، عندهم وساوس في هذا الباب.

لا تشدد فيها إذا علمت أن غدًا من رمضان أنت قد نويت، النية تتبع العلم..، سيأتي الكلام عنها، طيب: قال:

ولا يضر إن أتى بعد النية بمنافٍ للصوم.

يعني: لو نوى أن غدًا سيصوم رمضان، لكنه أكل أو شرب مثلًا، أو يعني في الليل..، أو نام لا يضر.

أو قال: إن شاء الله، غير مترددٍ.

قال: سأصوم غدًا إن شاء الله، تبركًا لا ترددًا، فهذا لا يضر.

وكذا لو قال ليلة الثلاثين من رمضان: إن كان غدًا من رمضان ففرضي، وإلا فمفطرٌ.

يعني: إذا قال ليلة الثلاثين من رمضان: إن كان غدًا من رمضان فأنا صائمٌ، وإلا فأنا مفطرٌ، يقول المؤلف: إنه لا يضر ويصح صومه، لماذا؟ لأن الأصل بقاء شهر رمضان وبقاء الصوم، لكن هو يضره إن قاله في أوله، يعني: لو قال ليلة الثلاثين من شعبان: إن كان غدًا من رمضان فأنا صائمٌ، وإلا فأنا مفطرٌ، يقول المؤلف: إن صومه لا يصح، لماذا؟ لأن الأصل بقاء شعبان، ولكن هذا محل نظرٍ، والأقرب -والله أعلم- أنه إذا قال ليلة الثلاثين من شعبان: إن غدًا من رمضان، فصومه صحيحٌ لماذا؟ لأن تردده ليس ترددًا في النية، وإنما تردد في ثبوت الشهر.

طيب، هل يشترط تبييت النية لكل يومٍ، أو تكفي نيةٌ واحدةٌ من أول شهر رمضان؟

هذه المسألة خلافيةٌ بين الفقهاء؛ المذهب عند الحنابلة: أنه لا بد من نيةٍ لكل يومٍ، وقال كثيرٌ من الفقهاء: إنه لا يشترط نيةٌ لكل يومٍ، وإنما يكفي نيةٌ واحدةٌ، والأقرب -والله أعلم- أنه يكفي نيةٌ واحدةٌ، إلا إذا قطع الصوم لعذرٍ؛ كامرأةٍ مثلًا قطعت الصوم لأجل الحيض، فلا بد من تجديد النية بعد زوال العذر.

يعني امرأةٌ نوت من أول رمضان أنها تصوم جميع الشهر، ثم أتاها الحيض سبعة أيامٍ فقطعت الصوم، ثم طهرت، فعندما تريد أن تصوم؛ فلا بد من أن تجدد النية.

فالقول الراجح إذن: أنه تكفي نيةٌ واحدةٌ من أول الشهر، إلا إذا قطع الصوم لعذرٍ، فإذا زال العذر فلا بد من تجديد النية.

وفرضه.

إنما قال المصنف: فرضه؛ احترازًا من السنن، الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، وسيأتي الكلام عن هذه المفطرات بالتفصيل.

من طلوع الفجر الثاني.

لأن الفجر فجران: فجرٌ أول، يسمى: الفجر الكاذب، وفجر ثانٍ، يسمى: الفجر الصادق، فالعبرة بالفجر الصادق؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: كلوا واشربوا، ولا يغرنكم الساطع المُصْعِد، حتى يعترض لكم الأحمر [36]، يعني: الفجر الصادق.

إلى غروب الشمس.

المقصود بغروب الشمس: سقوط قرص الشمس في الأفق، وليس المقصود به ذهاب الحمرة، انتبه لهذا؛ لأن بعض الناس يشكك، يقول: الناس تفطر وما زالت الشمس موجودةً، لكنه يقصد بذلك: الحمرة، الحمرة غير معتبرةٍ، المقصود: هو سقوط القرص.

فذَكَر لي أحد الإخوة، قال: إنني رأيت قرص الشمس والمؤذنون يؤذنون هنا في الرياض، قلت: هذا ما يمكن أبدًا؛ التقويم بالنسبة للمغرب في الرياض دقيقٌ ومنضبطٌ، قال: أبدًا، قلت: أين رأيته؟ ذكر لي مكانًا في غرب الرياض، قلت: أنا سأذهب لهذا المكان، فذهبت وراقبت الشمس وإذا الوقت مضبوطٌ ما فيه أي إشكالٍ، فتبين لي أن الإشكال عند الأخ الكريم إنما هو في الحمرة، كيف فهم غروب الشمس؟ فهم وجود الحمرة، الحمرة ما تضر، المهم هو سقوط القرص؛ فإذنْ إذا قيل: غروب الشمس، المقصود: سقوط القرص في الأفق، والتقاويم بالنسبة لغروب الشمس دقيقةٌ ومنضبطةٌ إلا في الأماكن المرتفعة، فينبغي أن يحسب الارتفاع؛ مثل من يذهب مثلًا للأبراج العالية في مكة أو في غيرها، فينبغي أن يراعي الفرق عندما يكون في مكان عالٍ؛ لأن المكان العالي قد يتأخر فيه الغروب قليلًا، ليس كثيرًا، قليلًا.

سنن الصوم

قال: وسننه ستةٌ:

انتقل المؤلف في الكلام عن سنن الصوم.

تعجيل الفطر.

لقول النبي : لا يزال الناس بخيرٍ ما عجَّلوا الفطر [37]، وهذا الحديث بهذا اللفظ أخرجه البخاري ومسلمٌ من حديث سهل بن سعدٍ ، وأما زيادة: وأخروا السحور [38]، وهذه وإن كان ذكرها صاحب “منار السبيل”، إلا أنها ليست في “الصحيحين”، هي عند أحمد، وسندها ضعيفٌ، المحفوظ: لا يزال الناس بخيرٍ ما عجلوا الفطر.

فالسنة: تعجيل الإفطار بعد غروب الشمس مباشرةً.

طيب، هل الأفضل أن تفطر بناءً على غلبة الظن، أو الأفضل أن تنتظر على حصول اليقين بغروب الشمس؟ من يجيب على هذا السؤال؟ نعم.

الطالب:

الشيخ: حصول اليقين، نعم.

الطالب:

الشيخ: غلبة الظن.

طيب، هذه المسألة ذكرها بعض العلماء، وممن ذكرها: ابن تيمية وغيره، وذكر أن الصحابة  كانوا يُفطِرون بناءً على غلبة الظن، وليس اليقين، بدليل قول أسماء رضي الله عنها: “أفطرنا على عهد رسول الله في يوم غيمٍ، ثم طلعت الشمس”، الحديث في “الصحيح” [39].

فلو كانوا يفطرون بناءً على اليقين؛ ما أفطروا والجو غائمٌ، وكما قال ابن تيمية رحمه الله: ليس هناك أطوع لله من صحابة رسول الله ، فلو كان الأفضل هو اليقين؛ لفعل ذلك الصحابة ، والظاهر المنقول عن الصحابة  أنهم كانوا يفطرون بناءً على غلبة الظن؛ ولهذا الأفضل هو الإفطار بناءً على غلبة الظن.

يعني: إذا غربت الشمس -بناءً على التقويم- وأذن المؤذن؛ أفطِرْ، ما من داعٍ لأن تقول: سأنتظر دقيقتين أو ثلاثًا أو خمسًا، حتى أتيقن، هذا يفعله بعض الناس، هذا يشبه أن يكون تنطعًا، ما دام أنه قد غربت الشمس بالتقويم الآن وأذن المؤذن، أو حتى لم يؤذن المؤذن، أذان المؤذن ليس شرطًا، العبرة بغروب الشمس، أفطِر، فما يفعله بعض الناس يقول: لا، أنا أريد أن أتأخر دقيقتين أو ثلاثًا احتياطًا، نقول: ليس هذا هو السنة، السنة: أن تفطر مباشرةً، بناءً على غلبة الظن بغروب الشمس.

قال: وتأخير السحور.

وهذا هو هدي النبي عليه الصلاة والسلام، أنه كان يؤخر السحور؛ ولهذا قال زيد بن ثابت : “تسحرنا مع النبي ، ثم قام إلى الصلاة، قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية” [40].

فالسنة تأخير السحور، والسحور سنةٌ، الذي هو التسحر، التسحر سنةٌ، فعندنا فرق بين السَّحور والسُّحور؛ السَّحور: هو اسمٌ لما يُتسحر به، والسُّحور: الفعل نفسه، فالسحور سنة؛ لقول النبي : تسحروا؛ فإن في السحور بركةً [41]، متفقٌ عليه، وهذا أمرٌ، وأقل ما يفيده الأمر: الاستحباب.

وبعض الناس تجد أنه لا يتسحر، يقوم لصلاة الفجر مباشرةً، وهذا خلاف السنة، وليس بالمقصود إذا قلنا: سحور، أنك لا بد أن تأكل وجبةً كاملةً، حتى لو تمراتٍ فقط، حتى لو قمت وأكلت تمراتٍ وماءً، هذا سحورٌ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: نعم سحور المؤمن التمر [42].

فينبغي أن يحرص المسلم على تطبيق السنة؛ يتسحر ولو على تمراتٍ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: فإن في السحور بركةً.

أولًا: بركة اتباع السنة، وأنك تؤجر على ذلك.

ثانيًا: أن من يتسحر يكون له قوةٌ في نهاره، يعطيه الله قوةً في نهاره، بخلاف من لا يتسحر.

قال: والزيادة في أعمال الخير.

يعني: يستحب للمسلم أن يتزود من أعمال الخير في شهر رمضان؛ لأن العبادة كما تَشرُف بشرف المكان، فتشرف أيضًا ويعظم أجرها بشرف الزمان؛ ولهذا كان النبي أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان [43].

فينبغي لك -أخي المسلم- إذا دخل شهر رمضان؛ أن تجتهد في الطاعات، وأن تري الله من نفسك خيرًا، وأن تكون حالك في رمضان هذا أحسن من حالك في رمضان في السنوات الماضية، ينبغي للمسلم كلما تقدم به العمر أن يكون إلى الله أقرب، فاحرص على أن تتزود بالطاعات، واجعل لك برنامجًا؛ لأنك إذا لم تجعل لك برنامجًا -وهو ما يسميه السلف بالمشارطة للنفس- فربما تتحمس في أول رمضان، ثم تفتر فيما بعد، وهذا تجدونه الآن من بعض العامة، يكثر المصلون في صلاة التراويح أول رمضان، ثم يبدأ العدد بالتناقص شيئًا فشيئًا.

لكن اجعل لك برنامجًا، مثلًا: قرِّر أن تصلي صلاة التراويح في المسجد مع الإمام من أولها إلى آخرها، هذا قرارٌ، مثلًا: أن تختم كذا ختمةً، لو افترضنا مثلًا أنك تختم ثلاث ختماتٍ؛ فمعنى ذلك كل عشرة أيام ختمةً، طيب كل عشرة أيامٍ ختمةً، القرآن كم جزءًا؟ ثلاثون جزءًا، يعني كل يومٍ تقرأ كم جزءًا؟ ثلاثة أجزاءٍ.

المهم أن تضع لك خطةً، وهناك من الصالحين من يختم القرآن كل يومٍ، كل يومٍ، الآن موجودون ناسٌ كثيرون ليسوا قلةً، كل يومٍ في رمضان.

كذلك أيضًا بالنسبة لتدارس القرآن: النبي عليه الصلاة والسلام كان يدارسه جبريل  كل ليلةٍ من ليالي رمضان، كذلك أيضًا: البذل والإنفاق، ينبغي أولًا أن تُخرج الزكاة، ثم يكون لك بذلٌ وصدقاتٌ، كذلك العمرة، العمرة في رمضان أجرها أجر حجٍّ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: عمرةٌ في رمضان تعدل حجةً، أو قال: حجةً معي [44].

وبعض الناس إذا أتت مثل هذه المواسم قام يزهد الناس في عمل الخير، ويرسل مقاطع، وربما أقوالًا لبعض العلماء وخلافاتٍ، وهذا -يا إخواني- من قلة التوفيق، اترك الناس تعمل الخير، إذا كنت أنت لن تعمل؛ فاترك الناس تعمل.

فبعض الناس يزهد الناس في تفطير الصائمين، وربما يركز على بعض الأخطاء أو بعض السلبيات التي تقع من بعض من يُفَطِّرون ويضخمها، هذه الأخطاء قد تقع، لكنها قلة، كم نسبتها؟ قلة؛ فينبغي ألا تضخم، هذا عملٌ صالحٌ، النبي عليه الصلاة والسلام لما سئل: أي الإسلام خير؟ قال: إطعام الطعام [45].

يعني: لو لم يكن في تفطير الطعام إلا إطعام الطعام، كذلك بعض الناس يزهِّد في العمرة في رمضان، أو يزهد الناس في بعض أعمال الخير، فنقول: ينبغي حث الناس على الخير، وعدم التزهيد.

وهذه المقاطع التي ترسل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ينبغي ألا يرسلها الإنسان إلا وفيها حث الناس على الخير، إذا وجدت مقطعًا فيه تزهيد الناس؛ لا ترسله، اجعله يقف عندك، مقطع يزهد الناس في تفطير الصائمين، يزهد الناس في العمرة في رمضان، يزهد الناس في بعض أعمال الخير، لا ترسله؛ لأن هذه المقاطع تؤثر على بعض العامة تأثيرًا سلبيًّا.

قال:

وقوله جهرًا إذا شُتم: إني صائمٌ.

لقول النبي : إذا كان يوم صوم أحدكم؛ فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله؛ فليقل: إني صائم [46]، متفقٌ عليه.

طيب، هنا قول المصنف: “جهرًا”، يعني: يقول جهرًا: إني صائمٌ.

اختلف العلماء في ذلك:

  • فالمصنف ومن وافقه يقولون: يقول جهرًا في صيام الفرض والنافلة؛ وذلك لكي يَسمعه الذي قد سبه أو شتمه فينزجر، وليبين له أنه ما ترك الرد عليه ضعفًا؛ وإنما ترك الرد عليه احترامًا للصوم.
  • القول الثاني: أنه يقول ذلك في نفسه في الفرض وفي النفل؛ خشية الرياء.
  • والقول الثالث: أنه يفرَّق بين الفرض والنفل؛ ففي صوم الفرض يجهر بقول: إني صائمٌ، وأما في صوم النافلة فلا يجهر.

والقول الراجح هو القول الأول: أنه يقول جهرًا بلسانه في الفرض والنفل: إني صائمٌ، وهذا اختاره ابن تيمية وابن القيم وجمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ لعموم الحديث؛ الحديث لم يفرق بين الفرض والنفل.

وهناك أيضًا عند بعض الإخوة مبالغةٌ في قضية إخفاء بعض الأعمال، مع أن في إظهارها مصالح، فمثلًا: مثل هذه المسألة سابَّه أحدٌ أو قاتله وهو صائمٌ صوم النافلة، ما المانع من أن يقول: إني صائمٌ؟ هذا ليس فيه رياءٌ، هو ما قصد الرياء؛ إنما أراد أن يوصل رسالةً لهذا الذي سابَّه بأن ترك أن يقابل السباب بمثله، ليس عجزًا؛ وإنما احترامًا للصوم، وحتى ينزجر وينكَفَّ.

كذلك أيضًا -لو أراد- يخبر بأنه يصوم؛ حتى يقتدي به زملاؤه، يقتدي به من يراه، هذا فيه مصالح، لو أراد أن يخبر مثلًا بأنه يقرأ القرآن، حتى يقتدي به غيره، فيعني ألا يكون هناك مبالغةٌ شديدةٌ في هذا، إذا كان في الإظهار مصلحةٌ، الأصل هو استحباب إخفاء العمل، لكن إذا كان في إظهاره مصلحةٌ فلا بأس.

ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام لما قال للصحابة : من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ -يعني: صيام تطوع- قال أبو بكرٍ  أمام الصحابة : أنا يا رسول الله، أنا أصبحت صائمًا، قال: من أطعم منكم مسكينًا؟، قال أبو بكرٍ: أنا، قال: من عاد اليوم منكم مريضًا؟، قال أبو بكرٍ: أنا، قال: من تبع منكم جنازةً؟ قال أبو بكرٍ: أنا [47]، ولم يقل أبو بكرٍ: إن هذا رياءٌ، أو إني أريد أن يكون العمل أخفيه، إنما قال: أنا صائمٌ، وما قصد بهذا الرياء.

قال: وقوله عند فطره:

انتقل المؤلف لما يقال عند الفطر.

اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، سبحانك وبحمدك، اللهم تقبل مني، إنك أنت السميع العليم.

رُوي في هذا حديثٌ مرفوعٌ، لكن بدون زيادة: “سبحانك وبحمدك”، حديث أنسٍ  أن النبي كان يقول عند فطره: بسم الله، اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، فتقبل مني إنك أنت السميع العليم [48]، هذا الحديث أخرجه الطبراني، وجميع طرقه ضعيفةٌ، ولا يصح هذا الحديث؛ ولذلك لا يعمل به.

وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي كان إذا أفطر قال: ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله [49]، أخرجه أبو داود والنسائي، وهو حديثٌ حسنٌ.

لكن الذي يقول ذلك: ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله، الذي كان قد ظمئ بالفعل، أما الذي كان ما ظمئ لا يقوله؛ لأنه يخبر خبرًا غير صادقٍ، هو ما ظمئ، لم يذهب الظمأ بهذا الفطر؛ ولأنه لم يظمأ، لكن إذا كان قد ظمئ بالفعل يقول: ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله.

طيب ما الذي ثبت عند الإفطار؟ ما الذي يقال عند الإفطار؟

الذي ثبت في ذلك: هو قول النبي : إن للصائم عند فطره دعوةً لا ترد [50]، هذا هو الذي ثبت، وهذا يدل على أنه ينبغي الدعاء عند الإفطار بما يحضرك من خيري الدنيا والآخرة، من غير تحديد بدعاءٍ معينٍ، فاللحظات التي تسبق الإفطار احرص على أن تغتنمها بالدعاء، وليس هناك دعاءٌ معينٌ، ادع الله تعالى بما يحضرك من خيري الدنيا والآخرة، فهذا الموضع من مواضع إجابة الدعاء: إن للصائم عند فطره دعوةً لا ترد.

قال:

وفطره على رُطبٍ، فإن عُدم فتمرٍ، فإن عدم فماءٍ.

وهذا قد جاء في حديث سلمان بن عامرٍ : إذا أفطر أحدكم؛ فليفطر على تمرٍ، فإن لم يجد؛ فليفطر على ماءٍ؛ فإنه طهورٌ [51]، وجاء في حديث أيضًا أنسٍ : «كان النبي يفطر على رطباتٍ قبل أن يصلي، فإن لم تكن؛ فعلى تمراتٍ، فإن لم تكن رطباتٌ؛ فعلى تمراتٍ، فإن لم تكن؛ حَسَا حسواتٍ من ماءٍ» [52].

والأحاديث بمجموعها ثابتةٌ؛ وهذا يدل على أن السنة: الفطر على الرطب، فإن لم يتيسر؛ فعلى التمر، فإن لم يتيسر؛ فعلى الماء، هذه هي السنة، وهو هدي النبي .

ونكتفي بهذا القدر في هذا المجلس، وإن شاء الله بعد المغرب نكمل بقية الشرح.

طيب، نجيب عن بعض الأسئلة، ولن نطيل، وبقية الأسئلة نجعلها بين الأذان والإقامة.

الأسئلة

السؤال: ما حكم من نام النهار كله، هل يعتبر صيامه كصيام المغمى عليه؟

الشيخ: من نام النهار كله صيامه صحيحٌ، لكنه وقع في محظورٍ أعظم من ترك الصيام، وهو ترك الصلاة، كيف ينام النهار كله ولا يصلي صلاة الظهر والعصر؟! تأخير الصلاة عن وقتها من غير عذرٍ من كبائر الذنوب، فهذا وإن كان صيامه صحيحًا، إلا أنه قد أخطأ بترك الصلاة، إلا إذا كان نام رغمًا عنه، وفعل الأسباب، ووضع المنبه، لكنه لم يستيقظ، فهذا يقضي متى ما استيقظ: من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها [53].

وأما بالنسبة للصيام فصيام النائم صحيحٌ، ولا يعتبر كالمغمى عليه.

السؤال: هل وجوب القضاء في الصيام دون الصلاة قياسٌ على الحيض والنفاس؟

الشيخ: يعني هذا يُستأنس به، يستأنس به بالنسبة للمغمى عليه، أنه يقضي الصوم ولا يقضي الصلاة، يستأنس بأن الحائض والنفساء تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؛ ولأن قضاء الصوم لا يشق، بخلاف قضاء صلواتٍ كثيرةٍ يشق.

السؤال: أرغب بشراء قطعة أرضٍ مملوكةٍ لإحدى الجهات، وهذه الجهة تبيعها نقدًا بمبلغٍ معينٍ، إذا كان قسطًا تكون الأقساط محملةً بفوائد، هل يجوز؟

الشيخ: نعم، يجوز، بيع الشيء نقدًا يختلف عن بيعه مقسطًا أو مؤجلًا، أنت مالك الأرض حرٌّ في تحديد الثمن، أنت تقول: ما أبيع هذه الأرض إلا نقدًا بكذا، أو مؤجلةً بكذا، أو مقسطةً بكذا، فهذا لا بأس به، إنما إذا ثبت المبلغ؛ ثبت الدين، لا تجوز الزيادة عليه، يعني مثلًا اتفق أن تبيع هذه الأرض بخمسمئة ألفٍ، لا يجوز فيما بعد أن تقول: أزيد عليك بسبب التأخر، هذا الذي لا يجوز، لكن في البداية يتفق البائع والمشتري على أي ثمنٍ يرتضيانه.

السؤال: ما قولكم فيمن يعيش في بلدٍ المذهب السائد فيه -يعني غير ظاهرٌ السؤال- وتبين لهم دخول الشهر نهارًا؟

الشيخ: المقصود أنه إذا كان في بلدٍ فيه اختلافاتٌ، فإذا كان البلد إسلاميًّا يتبع ولي الأمر فيما يقرره، إذا كان البلد ليس إسلاميًّا، فينظر لرأي جمهور المسلمين في ذلك البلد، ويصوم معهم ويفطر معهم.

السؤال: إذا اختلفت التوقيتات في بلاد غير المسلمين في مراكز إسلامية، فمن يتبع؟

الشيخ: يتبع جمهور العالم الإسلامي، عادةً جمهور العالم الإسلامي يكون على رأيٍ؛ مثل المملكة، ومصر، وبعض دول العالم الإسلامي، جمهورهم يكونون على رأيٍ، فيتبع جمهور العالم الإسلامي في ذلك.

وإن شاء الله بقية الأسئلة نجيب عنها بين الأذان والإقامة.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 2701.
^2 رواه مسلم: 2689.
^3 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
^4 رواه مسلم: 2699.
^5 العجاج: الغبار، وتعلك: أي تمضغ، واللجم: جمع لجام. ينظر المصباح المنير للفيومي: (ع ل ك).
^6 رواه البخاري: 8، ومسلم: 16.
^7 رواه ابن ماجه: 1638، وأحمد: 9714، بنحوه، وأصله في البخاري: 7492، ومسلم: 1151.
^8 رواه البخاري: 38، ومسلم: 759
^9 رواه مسلم: 233.
^10 رواه أحمد: 22140.
^11 رواه مسلم: 1909.
^12 بلي، بفتح الباء، وكسر اللام، وتشديد الياء: هو بلبي بن الحافِ -بالفاء المكسورة- بن قضاعة، والنسبة إليه: البلوي. ينظر جامع الأصول لابن الأثير: 12/ 858.
^13 رواه ابن ماجه: 3925، وأحمد: 1389، 8400.
^14 رواه الترمذي: 2329، بنحوه.
^15, ^27 سبق تخريجه.
^16 غبي: بضم الغين وتشديد الباء، وفي نسخة بفتح الغين وكسر الباء الخفيفة، ومعناه: خفي عليكم. ينظر مشارق الأنوار للقاضي عياض: 2/ 128.
^17 رواه البخاري: 1909، ومسلم: 1081.
^18 رواه مسلم: 1080.
^19, ^21 رواه أبو داود: 2334، والترمذي: 686، والنسائي: 2188، وابن ماجه: 1645، وذكره البخاري تعليقا: 3/ 26، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
^20 رواه البخاري: 1914، ومسلم: 1082.
^22 رواه أبو داود: 2340، والترمذي: 691، وابن ماجه: 1652، والنسائي: 2112.
^23 رواه أبو داود: 2342.
^24 رواه النسائي: 2116، وأحمد: 18895.
^25 رواه مسلم: 1087.
^26 رواه الترمذي: 802، بنحوه، وقال: حسنٌ.
^28 رواه مسلم: 2808.
^29 رواه أبو داود: 4402.
^30 رواه البخاري: 6622، ومسلم: 1652.
^31 رواه مسلم: 325.
^32 رواه البخاري: 6378، ومسلم: 2480.
^33 رواه البخاري: 304.
^34 رواه أبو داود: 495، وأحمد: 6756.
^35 رواه أبو داود: 2454، والترمذي: 730، وأحمد: 26457.
^36 رواه أبو داود: 2348، والترمذي: 705، وقال: حسنٌ.
^37 رواه البخاري: 1957، ومسلم: 1098.
^38 رواه أحمد: 21312.
^39 رواه البخاري: 1959.
^40 رواه البخاري: 1921.
^41 رواه البخاري: 1923، ومسلم: 1095.
^42 رواه أبو داود: 2345.
^43 رواه البخاري: 6، ومسلم: 2308.
^44 رواه البخاري: 1863، ومسلم: 1256.
^45 رواه البخاري: 12، ومسلم: 39، بنحوه.
^46 رواه البخاري: 1894، ومسلم: 1151.
^47 رواه مسلم: 1028.
^48 رواه الطبراني في الدعاء: 918.
^49 رواه أبو داود: 2357، والنسائي في السنن الكبرى: 3315.
^50 رواه ابن ماجه: 1753.
^51 رواه الترمذي: 658، وابن ماجه: 1699، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
^52 رواه أبو داود: 2356.
^53 رواه مسلم: 680.