الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري/(9) بابٌ: كلام الرب عز وجل يوم القيامة- من حديث «إذا كان يوم القيامة..»
|categories

(9) بابٌ: كلام الرب عز وجل يوم القيامة- من حديث «إذا كان يوم القيامة..»

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا.

نسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

ربنا آتنا من لدنك رحمةً، وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا.

هذا هو المجلس الثامن والأخير في هذه الدورة من شرح كتاب “التوحيد” من “صحيح البخاري”، وبهذا المجلس نختتم هذه الدورة، إن شاء الله تعالى، ونسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق.

بابٌ: كلام الرب يوم القيامة

كنا قد وصلنا إلى باب: كلام الرب يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، وهذا هو الباب الثامن مما يستدلُّ به البخاري على إثبات الكلام لله تعالى.

وسبق أن أشرنا إلى أن هذه المسألة من المسائل التي شاعتْ في زمن الإمام البخاري، وامتُحن الناس فيها امتحانًا عظيمًا، وأن المأمون أجبر الناس على نفي صفة الكلام، وإنكار أن القرآن مُنزلٌ، بل أجبر الناس على أن يقولوا: إن القرآن مخلوقٌ، وحصل ما حصل من الفتنة في زمن الإمام أحمد.

ولذلك نجد أن الإمام البخاري ركَّز على هذه المسألة للردِّ على أهل البدع، ولكل قومٍ وارثٌ، فهؤلاء -أهل البدع- لهم جماعاتٌ وأتباعٌ في العالم في الوقت الحاضر؛ ولذلك ينبغي أن يضبط طالب العلم أصول العقيدة السلفية الصحيحة؛ ليكون على بينةٍ من أمره.

هذا الباب إذن عَقَدَه المصنف رحمه الله ليُثبت كلام الرب ، فذكر أولًا:

حديث أنسٍ  قال: سمعتُ النبي يقول: إذا كان يوم القيامة شفعتُ، فقلتُ: يا رب، أدخل الجنة مَن كان في قلبه خردلةٌ يعني: من إيمانٍ، فيدخلون، ثم أقول: أدخل الجنة مَن كان في قلبه أدنى شيءٍ، فقال أنسٌ: كأني أنظر إلى أصابع رسول الله [1].

عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان

المراد بالشيء: الإيمان، أو أقلّ جزءٍ من الإيمان، وهو دليلٌ على تفاوت الإيمان بين الناس، وأن الإيمان يزيد وينقص، وهذا هو مُعتقد أهل السنة والجماعة، ومُعتقد السلف الصالح: أن الإيمان يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، خلافًا للخوارج والمُعتزلة الذين عندهم أن الإيمان يذهب مرةً واحدةً، فعند الخوارج أن مُرتكب الكبيرة يكون كافرًا، والمعتزلة يقولون: يكون في منزلةٍ بين المنزلتين.

معتقد أهل السنة والجماعة في مُرتكب الكبيرة

أما أهل السنة والجماعة فيقولون: إن الإيمان يزيد وينقص، وأن مُرتكب الكبيرة مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته في الدنيا، وأما في الآخرة فتحت مشيئة الله تعالى: إن شاء عذَّبه، وإن شاء عفا عنه، لكنه لا يخلد في النار.

هذا معتقد أهل السنة والجماعة في مُرتكب الكبيرة، فينبغي أن يُضبط، وأن يُحفظ، خلافًا للخوارج والمعتزلة الذين قالوا: إن مُرتكب الكبيرة يكون في النار خالدًا فيها.

إذن معتقد أهل السنة والجماعة في مُرتكب الكبيرة: أنه في الدنيا مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، ولا يكفر، حتى لو كان مُنتحرًا.

إنسانٌ مُنتحرٌ، قتل نفسه، هل يكفر؟

الجواب: لا يكفر، فالانتحار قتل النفس، وقتل النفس من كبائر الذنوب، فيدخل في هذه القاعدة، حتى لو كان مُنتحرًا، فهو مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، وفي الآخرة تحت مشيئة الله: إن شاء الله عذَّبه، وإن شاء عفا عنه، وإذا دخل النار لا يخلد فيها؛ لهذا الحديث وما جاء في معناه.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث الشفاعة، ونُلاحظ أن المؤلف كرر هذا الحديث؛ وذلك لأنه حديثٌ عظيمٌ، وتُستفاد منه فوائد كثيرةٌ، وسبق أن شرحنا هذا الحديث وعلَّقنا عليه مرارًا، ولا حاجة لأن نُعيد الكلام مرةً أخرى.

وغرض المؤلف من إيراده: أن فيه دلالةً على أن الله تعالى يتكلم ويُخاطب مَن شاء من عباده، وأنه متى شاء تكلم يوم القيامة وقبلها.

آخر أهل الجنة دخولًا الجنة

ثم ساق المصنف بعد ذلك حديث عبدالله بن مسعود  في آخر أهل الجنة دخولًا، قال:

إن آخر أهل الجنة دخولًا الجنة، وآخر أهل النار خروجًا من النار: رجلٌ يخرج حَبْوًا، فيقول له ربُّه: ادخل الجنة. فيقول: ربِّ، الجنة مَلْأَى. فيقول له ذلك ثلاث مراتٍ، فكل ذلك يُعيد عليه: الجنة مَلْأَى. فيقول: إن لك مثل الدنيا عشر مرارٍ [2].

سبق أن ذكرنا أيضًا في روايةٍ مُطولةٍ قصته، وأن الله يأخذ عليه العهود والمواثيق أولًا، يقول: يا ربِّ، اصرفْ وجهي عن النار، فيأخذ الله عليه العهود والمواثيق ألا يسأل غيرها، ثم بعد ذلك يقول: يا ربِّ، قَرِّبْني إلى باب الجنة، فيأخذ الله عليه العهود والمواثيق، ثم يقول: يا ربِّ، أدخلني الجنة، فيأخذ الله عليه العهود والمواثيق، فيقول: ويلك يا ابن آدم، ما أغدرك! ألم آخذ عليك العهود والمواثيق ألا تسألني غيرها؟، ثم يقول الله له: ادخل الجنة، فيقول: يا ربِّ، الجنة مَلْأَى، فيضحك رب العالمين، ثم بعد ذلك يدخل الجنة.

وقبل أن يدخل الجنة يقول الله له: تَمَنَّ، فيتمنى، فيُذكره الله تعالى، فيتمنى، ويتمنى، ويتمنى، حتى تنقطع أُمنياته، ثم يقول الله له: لك ذلك وعشرة أمثاله [3].

وهذا آخر أهل الجنة دخولًا الجنة، وهو أقلّ المؤمنين إيمانًا، وأكثرهم معاصٍ، ومع ذلك يُعطيه الله هذا العطاء العظيم، يقول له: تَمَنَّ، ثم تَمَنَّ، ثم تَمَنَّ، حتى تنقطع أُمنياته، فيُذكره الله بأُمنياتٍ أخرى، فيتمنى، ويتمنى، ويتمنى، فإذا انتهتْ جميع أُمنياته يقول الله له: لك ذلك وعشرة أمثاله، وهذا أقلُّ أهل الجنة منزلةً، سبحان الله! فما بالك بمَن هو فوقه؟! شيءٌ عظيمٌ.

ولذلك يا إخواني نعيم الجنة هو السعادة الحقيقية، وهو السعادة الأبدية، ودخول الجنة هو التعريف النهائي للسعادة، فإذا أردتَ التعريف النهائي للسعادة فاقرأ قول الله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ [هود:108]، هذا هو التعريف النهائي للسعادة، وإلا -والله- فغيرها ليس بسعادةٍ، فنعيم الدنيا مهما حصَّل الإنسان منه لن يبقى، والنهاية الموت، ومن بعد الموت جزاءٌ وحسابٌ وبعثٌ ونشورٌ.

هَبْ أن الدنيا أتتْ إليك صَفْوًا، أليس مصيرها إلى الفناء؟

السعادة الحقيقية هي دخول الجنة؛ لأنها سعادةٌ أبديةٌ، يعني: إلى ما لا نهاية، فمقام الإنسان في الجنة ليس ألف سنةٍ، ولا مليون سنة، إلى ما لا نهاية، أبد الآباد، ثم فيها من النعيم شيءٌ لا يخطر على البال.

هذا الآن الذي نتكلم عن حاله أقلّ أهل الجنة درجاتٍ، أقلّ أهل الجنة منزلةً، يتمنى حتى تنقطع جميع أمانيه، ويُذكره الله تعالى بأماني أخرى، ثم يقول الله له: لك ذلك وعشرة أمثاله.

تصور هذا العطاء العظيم، هذا أقلّ أهل الجنة منزلةً.

إذا فكر الإنسان بهذا يعرف حقارة هذه الدنيا، وأنها لا تستحق من الإنسان كل هذا العناء والتَّعب والنَّصَب والشقاء والمُخاصمات، فيجتهد للجنة التي فيها السعادة العظيمة التي لا أعظم منها، والسعادة الأبدية.

ما من أحدٍ يوم القيامة إلا سيُكلمه ربه ​​​​​​​

ثم ساق المصنف رحمه الله حديث عدي بن حاتم، وسبق أيضًا التعليق عليه، قال:

قال رسول الله : ما منكم أحدٌ إلا سيُكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم من عمله، وينظر أَشْأَم منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ [4].

قلنا: إن الله سيُكلم كل واحدٍ من الناس، ليس بينه وبينه ترجمان، بلغته التي يتحدث بها -سبحان الله!- ويُقرره الله بذنوبه: عملتَ كذا وكذا يوم كذا وكذا، عملتَ كذا وكذا يوم كذا وكذا، حتى إذا ظنَّ أنه هالكٌ قال الله: فإني قد سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم [5]، يقولها لعبده المؤمن، والله على كل شيءٍ قديرٌ.

ولما سُئل ابن عباسٍ رضي الله عنهما: كيف يُحاسب الله الناس في ساعةٍ واحدةٍ؟

قال: أليس يرزقهم في ساعةٍ واحدةٍ؟

فقُدرة الله تعالى لا حدَّ لها، وهو على كل شيءٍ قديرٌ.

وهنا تكون النار حائلةً بين الناس وبين الجنة -سبحان الله!- مع أن النار في الأرض، والجنة في السماء، ولكنه عالمٌ آخر يختلف عن الدنيا، ولا نستطيع أن نتخيله، ولكن نُؤمن به كما ورد.

قال: فاتَّقوا النار ولو بشِقِّ تمرةٍ يعني: ولو أن تتصدق بشِقِّ تمرةٍ، فكل شيءٍ ينفع الإنسان يوم القيامة؛ ولذلك إذا مات الإنسان يرى أن كل شيءٍ مُرتبٌ على ما عمل في الدنيا.

ثم ساق المؤلف حديث ابن مسعودٍ ، وسبق معنا مرارًا، وسبق التعليق عليه:

إنَّ الله يجعل السماوات على إصبعٍ، والأرضين على إصبعٍ … [6].

إلى آخر الحديث، فلا نحتاج لأن نُكرر الكلام فيه.

ثم ساق حديث ابن عمر رضي الله عنهما:

أن رجلًا سأل ابن عمر: كيف سمعتَ رسول الله يقول في النَّجوى؟ قال: يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كَنَفَهُ عليه.

يعني: يضع ستره، يستره ربه عن رؤية الخلائق؛ لئلا يفتضح أمامهم؛ لأنه حين السؤال والتقرير بذنوبه تتغير حاله، ويظهر على وجهه الخوف الشديد والكرب والشدة.

تصور أن الربَّ العظيم يُكلمك، ويُقررك بذنوبك، ويسألك، كيف سيكون موقفك؟

يقول الله للإنسان: عملتَ كذا وكذا يوم كذا وكذا، عملتَ كذا وكذا يوم كذا وكذا.

قال:

فيقول: أعملتَ كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: عملتَ كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيُقرره.

طبعًا هذا للمؤمن.

ثم يقول: إني سترتُ عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم [7].

هل يُكلم الله ​​​​​​​ أهل النار؟

قد يُكلم الله بعض أهل النار، كما جاء في الصحيحين عن أنسٍ : أن النبي قال: يقول الله تبارك وتعالى لأهون أهل النار عذابًا: لو كانت لك الدنيا وما فيها، أكنت مُفْتَديًا بها؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردتُ منك أهون من هذا وأنت في صُلْب آدم: ألا تُشرك بي، فأبيتَ إلا الشرك [8].

وجاء في “صحيح مسلم”: أن النبي قال: يخرج من النار أربعةٌ، فيُعرضون على الله، فيلتفت أحدهم فيقول: أي ربِّ، إذ أخرجتني منها فلا تُعِدْني فيها، فيُنجيه الله منها [9]، ويُعيد الثلاثة الآخرين إلى النار.

كلهم مُستحقون النار، لكن الله عرضهم عليه لعلهم أن يسألوه فيرحمهم، وواحدٌ منهم هو الذي سأل، والثلاثة الآخرون سكتوا، وهذا يدل على أهمية المُبادرة، وفضل المُبادرة، وأن الإنسان إذا سنحتْ له فرصةٌ ينبغي أن يُبادر إليها، وأن يقتنصها ويغتنمها.

ولهذا قال الشراح: هذا فيه دليلٌ على ذمِّ العجز، فهؤلاء الثلاثة سكتوا وعجزوا، فعندهم عجزٌ وكسلٌ، وليست عندهم مُبادرةٌ، وهذا الرجل واحدٌ منهم سأل الله، قال: يا ربِّ، إذا أنجيتني من النار فلا تُعدني فيها، فأنجاه الله تعالى.

والنبي ذكر لنا هذا الآن في الدنيا لأجل أن نستفيد من هذه القصة، فالإنسان ينبغي أن يغتنم مواطن الرحمة في الدنيا، وأيضًا في الآخرة كلها.

بابٌ: ما جاء في قول الله ​​​​​​​: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا

ثم قال المؤلف رحمه الله:

بابٌ: ما جاء في قول الله ​​​​​​​: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164].

أورد المُصنف هذا الباب أيضًا لإثبات صفة الكلام لله ، وهذه الآية هي أقوى ما ورد في الرد على المعتزلة ومَن وافقهم في إنكار صفة الكلام.

سبحان الله! هم يُنكرون صفة الكلام لله، والله يرد عليهم، يقول: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، حتى لا يُؤولوا وَكَلَّمَ؛ لأنهم يُؤولون وَكَلَّمَ، قالوا: ليس المقصود الكلام الذي هو بالحرف والصوت، فردَّ الله عليهم فقال: تَكْلِيمًا تأكيدًا؛ لأنه كلَّمه، فالعجب من هؤلاء.

ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: “أنا ألتزم ألا يحتج مُبطلٌ بآيةٍ أو حديثٍ صحيحٍ على باطله إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله”.

فهل هناك أصرح من هذا في إثبات صفة الكلام لله؛ أن الله يقول: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا؟ هل هناك شيءٌ أصرح من هذا؟

لكن هؤلاء يُعملون عقولهم، يقولون: كيف يُكلم الله موسى ؟

إذا كلَّم الله موسى  إذن هو يُشابه خلقه!

هذا غير صحيحٍ، فالله تعالى يتكلم بكلامٍ يليق بجلاله وعظمته.

يُكلم الله موسى  على الأرض وهو فوق العرش، فهل خلا العرش عندما كلَّم اللهُ موسى ؟

لا، ما خلا العرش، فعندما ينزل الله إلى السماء الدنيا ويقول: هل من سائلٍ يُعطى؟ هل من داعٍ يُستجاب له؟ هل من مُستغفرٍ يُغفر له؟ [10]، هل يخلو العرش؟

لا يخلو العرش، فالله على كل شيءٍ قديرٌ، والأرض قبضته يوم القيامة، والسماوات مطوياتٌ بيمينه، ولا يُقاس الخالق بالمخلوق، فالله على كل شيءٍ قديرٌ؛ يُكلم موسى  وهو فوق عرشه، وهو لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، فلا يُقاس الخالق بالمخلوق.

فهذه الفرق المُنحرفة في باب الأسماء والصفات إنما أتاها هذا الانحراف -سواءٌ من جهة التأويل، أو من جهة التعطيل، أو التحريف- من كونها تُشبِّه الله بالخلق، والله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.

هل يُحتج بالقدر عند المصائب؟

ثم ساق المصنف حديث أبي هريرة :

أن النبي قال: احتجَّ آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي أخرجتَ ذُريتك من الجنة؟ قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه، ثم تلومني على أمرٍ قد قُدِّر عليَّ قبل أن أُخلق؟! فحجَّ آدمُ موسى [11].

جاء في الرواية الأخرى: أن موسى  لما لقي آدم  قال: خَيَّبْتَنَا، وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخَطَّ لك بيده، أتلومني على أمرٍ قدَّره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنةً؟ فقال عليه الصلاة والسلام: فحجَّ آدمُ موسى، فحجَّ آدمُ موسى، فحجَّ آدمُ موسى [12].

وموسى  لم يَلُمْ آدم  إلا من جهة المصيبة التي أصابتْ ذُريته بما فعل من الأكل من الشجرة، لا لأنه تارك الأمر، مُذنبٌ، عاصٍ؛ ولهذا قال: لماذا أخرجتنا؟ خيَّبْتنا وأخرجتنا من الجنة. ولم يقل: لماذا خالفتَ أمر الله وعصيتَ؟

وكما قال أبو العباس ابن تيمية وغيره: موسى  أعلم من أن يلوم آدم  على معصيةٍ، فلم يَلُمْه على ارتكاب معصيةٍ، وإنما لامه على المصيبة التي حصلتْ، والقدر يُحتج به عند المصائب؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: فحجَّ آدمُ موسى؛ لأن آدم  قال: هذه مصيبةٌ، احتجَّ فيها بالقدر.

وعلى هذا فالقدر يُحتجُّ به في المصائب، لا في المعائب، هذه قاعدةٌ: “القدر يُحتجُّ به في المصائب، لا في المعائب”.

إذن ينبغي أن يُفهم هذا الحديث الفهم الصحيح، فموسى  أعلم من أن يلوم آدم  على ارتكاب معصيةٍ، فلم يَلُمْه على ذلك، إنما لامه على المصيبة التي حصلتْ، فاحتجَّ آدمُ  بالقدر، واحتجاج آدم  هنا صحيحٌ؛ لأنه احتجَّ بالقدر على المصيبة، والاحتجاج بالقدر على المصيبة سائغٌ؛ لأن القدر يُحتجُّ به في المصائب، لا في المعائب.

ولو أن شخصًا مُقصرًا في الصلاة نُصِحَ، فقال: قدر الله عليَّ أن أكون مُقصرًا في الصلاة.

هنا احتجاجه بالقدر غير صحيحٍ؛ ولهذا لما سرق رجلٌ في عهد عمر  أمر بقطع يده، فقال: لا تَلُمْني يا أمير المؤمنين، فإنما سرقتُ بقدر الله. فقال عمر : ونحن نقطع يدك بقدر الله.

فلا يُحتج إذن بالقدر في ارتكاب المعاصي والمعائب، لكن إذا وقعت المصيبة يُحتج فيها بالقدر، كإنسانٍ وقعتْ له مصيبةٌ: حصل له حادث سيارةٍ، أو حصلتْ له خسارةٌ، أو حصل له طلاقٌ، أو حصلت له مصيبةٌ من المصائب، هنا يحتج بالقدر، يقول: هذا شيءٌ قد قدَّره الله عليَّ.

إذن هذه قاعدةٌ مفيدةٌ لطالب العلم: أن القدر يُحتج به في المصائب، لا في المعائب.

اضبط هذه القاعدة وطبِّقها: القدر يُحتج به في المصائب، لا في المعائب.

ثم أيضًا آدم  قبل أن يخلقه الله قدّر أنه في الأرض: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، فآدم  خُلِقَ لكي يكون في الأرض.

فقول بعض الناس: لو أن آدم  ما أكل من الشجرة لكنَّا في الجنة.

نقول: الله تعالى قدَّر قبل أن يخلق البشرية -قبل أن يخلق آدم  وذُريته- أن يكونوا في الأرض: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: إن الجنة التي دخلها آدم  ليست هي الجنة التي وُعِدَ المؤمنون بها في الآخرة؛ لأن الجنة التي وُعِدَ المؤمنون بها في الآخرة مَن يدخلها يخلد أبد الآباد، وآدم  لم يخلد فيها؛ ولأن الجنة التي في الآخرة لا يدخلها إبليس، فإبليس أكفر الكافرين، فكيف دخل إبليس هنا؟!

ولأن الجنة التي وُعِدَ بها المؤمنون ليس فيها تكليفٌ، أما هذه ففيها تكليفٌ: كُلْ مما شِئْتَ، ولا تأكل من هذه الشجرة.

فهذا قولٌ لبعض أهل العلم.

المقصود: أنه في هذه القصة حجَّ آدمُ موسى عليهما السلام؛ لأن آدم  احتجَّ بالقدر على المصيبة.

ومحل الشاهد قوله: وكلامه، اصطفاك الله برسالاته وكلامه، ففيه إثبات صفة الكلام لله.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 7509.
^2 رواه البخاري: 7511.
^3 رواه البخاري: 806، ومسلم: 182.
^4 رواه البخاري: 7512.
^5 رواه البخاري: 7514، ومسلم: 2768.
^6 رواه البخاري: 7513.
^7 رواه البخاري: 7514.
^8 رواه البخاري: 3334، ومسلم: 2805.
^9 رواه مسلم: 192.
^10 رواه مسلم: 758.
^11 رواه البخاري: 7515.
^12 رواه البخاري: 6614، ومسلم: 2652.