(7) تتمة ‌‌باب السؤال بأسماء الله تعالى- من حديث “اذكروا أنتم اسم الله وكلوا”

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

تتمة ‌‌باب: السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها

هذا الحديث حديث عائشة: عن أناس كانوا يأتون بلحم، وكانوا حديث عهد بشِرْك، ولا يدرى هل ذكر اسم الله عليها أم لا؟ فهم يقولون: يا رسول الله، إن قومًا يأتوننا بلحم، فلا ندري أذكروا اسم عليه أم لا؟ فقال: سموا أنتم وكلوا، واذكروا اسم الله أنتم اذكروا أنتم اسم الله وكلوا، وفي اللفظ الآخر: سمُّوا أنتم وكلوا ^[2]، وهذا موضع الشاهد، أنه قال: اذكروا أنتم اسم الله.

وهذا دليل على أن المسلم ينبغي أن يبني الأمور على الأصل، فإذا كان هذا اللحم يأتي من مسلمين، أو من أهل كتاب، فالأصل الحل والإباحة، ولا تسأل هل ذكروا اسم الله عليه، أم لم يذكروا اسم عليه؟ لا تسأل؛ ولهذا قوله: سمُّوا أنتم وكلوا نوع من التوبيخ لهم؛ لماذا تسأل؟ افعل ما هو مطلوب منك أنت، وهو أن تُسمي عند الأكل، لكن لا تسأل، ابْنِ على الأصل.

حكم اللحوم المستوردة من بلاد أهل الكتاب

وعلى ذلك فاللحوم المستوردة من بلاد أهل الكتاب الأصل فيها الحل والإباحة، فمثلًا: لحوم الدواجن المستوردة من البرازيل، أو فرنسا، أو بلاد أهل الكتاب عمومًا، الأصل فيها أنها مباحة، إلا إذا عَلِمت بأنها تذبح بالصاعق ونحو ذلك، فلا تأكل، أما إذا لم تَعْلَم ابْنِ الأمر على الأصل، وهو الحل والإباحة.

وهذا من يُسر هذه الشريعة، بعض الناس قد يقول: إنه تأتي أخبار من هنا وهناك بأنهم عندهم صعق، وأن عندهم أخطاء، وأن عندهم كذا، فنقول: مقام الورع شيء، والحكم شيء آخر، الحكم أن الأصل الحل، ولا يجوز أن تحرم ما أحل الله، إلا إذا عَلِمت يقينًا بأن هذا اللحم بعينه قد ذُبح بالصعق، أو ذُبح بطريقة غير مشروعة، هنا لا يجوز، إن كنت لا تعلم، ابْنِ على الأصل.

مقام الورع مقام آخر، فالإنسان قد لا يُحرم الشيء على الناس، ولا على نفسه، لكن يتورع، يقول: لا، أنا ما آكل إلا الدجاج المحلي، أو اللحوم التي ذُبحت محليًا، أو من بلاد إسلامية أثق في ذبحهم، هذا مقام الورع، هذا مقام رفيع عظيم.

وفرق بين أني أتورع، وبين أني أُحرم على الناس، فرق بين المقامين، من حيث الحكم الأصل الحل والإباحة، ومن أراد أن يتورع فمقام الورع مقام عظيم، لك أن تتورع، تقول: أنا لا آكل إلا من -مثلًا- اللحوم المحلية، أو نحو ذلك.

حكم التسمية عند الذبح

قال المصنف رحمه الله:

وهذا موضع الشاهد: أنه يُسمي، يعني: يذكر اسم الله، يقول: بسم الله، والله أكبر، وهذا هو المشروع عند الذبح، أن يقول: بسم الله، والله أكبر، بسم الله وجوبًا، والله أكبر استحبابًا.

هل يشرع أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم عند الذبح؟ لا، قال أهل العلم: إنَّ السنة أن يقتصر على قول: بسم الله، من غير زيادة الرحمن الرحيم، ثم إن هذا موضع ذبح، لا يناسب ذكر الرحمة هنا، يكتفي بقول: بسم الله، والله أكبر، ثم يذبح.

والتسمية واجبة عند الذبح: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121]، فيجب أن يُسمي عند الذبح، وإذا نَسي اختلف العلماء هل تحل الذبيحة أو لا تحل؟ وجمهور أهل العلم على أنها تحل، وهو القول الراجح، وهو ما رجحه البخاري نفسه، واستدل بدليل فيه استنباط عجيب، قال: باب قول الله تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121]، ولا يُسمَّى الناسي فاسقًا، وهذا يدل على أن من ترك التسمية ناسيًا أن الذبيحة حلال؛ لأن الناسي لا يُسمَّى فاسقًا، والله تعالى قال: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121]، هذا استنباط عجيب من البخاري رحمه الله.

فالقول الراجح: أنه إذا نسي، فإن الذبيحة حلال، وهو قول جماهير أهل العلم.

قال:

هذا في صلاة عيد الأضحى خطب الناس، وقال: من ذبح قبل أن يصلي، يعني: صلاة العيد، فهي شاة لحم كما في الروية الأخرى، ليست بأضحية؛ لأن الأضحية يشترط لصحتها أن تكون بعد صلاة العيد؛ ولهذا قال: فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله، يعني: يضحي ذاكرًا اسم الله تعالى، ويستحب أن يضيف لذلك التكبير، يقول: بسم الله، والله أكبر.

بابٌ: ما يذكر في الذَّات والنُّعوت وأسامي الله 

قال المصنف رحمه الله:

المراد إطلاق الذات على الله سبحانه، هل يقال: ذات الله؟ هل يقال: لله ذات؟ هذا مراد المصنف رحمه الله.

قصة خُبيب الأنصاري 

ثم ذكر المصنف طرفًا من قصة خُبيب.

هذه القصة قصة سَرِيَة أوردها المصنف البخاري في حديث آخر، أورد القصة بطولها: أنَّ النبي  أرسل سَرِيَة من عشرة من أصحابه، وأمر عليهم عاصم بن ثابت، كان من هؤلاء السَّرية خُبيب الأنصاري، فحاصرهم قوم من المشركين من بني لِحْيَان؛ لما حاصروهم طلبوا منهم أن ينزلوا، حاصروهم في جبل، قالوا: انزلوا، وعليكم عهد الله وميثاقه أن لا نمسَّكم بسوء، فقال عاصم: والله لا أنزل على ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فرموه بالنَّبْلِ مع سبعة من أصحابه فقتلوهم، ونزل إليهم ثلاثة صدقوهم، ونزلوا على أنهم في عهد الله تعالى، وميثاقه، ولكن هؤلاء المشركين غدروا بهم، كما توقع عاصم، فأخذوا خُبيبًا، وربطوه، وأوثقوه هو ومن معه، ثم باعوهم في سوق مكة، جعلوهم عبيدًا وأرِقاء، فكان خُبيب في سوق مكة مربوط بالحبال، وتقول بنت الحارث: وجدته يأكل قِطف عنب، رزقًا من الله ساقه إليه، وما بمكة عنب ^[6]، ماذا تسمى هذه؟ كرامة، يأكل عنب في مكة، ما في مكة عنب أصلًا، سبحان الله!

هذا مثل ما كان الله يسوق لمريم يأتيها رزقها، كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37]، كان تأتيها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، وكان خُبيب يأتيه العنب يأكل منه في مكة.

فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه، قال لهم: ذروني أركع ركعتين، توضأ وركع ركعتين، قبل ذلك كما ذكر هنا: أن ابنة الحارث أخبرته حين اجتمعوا، استعار منها موس يستحد بها، يعني: طلب موس؛ لكي يحلق بها العانة، ثم لما خرجوا من الحرم، وأرادوا أن يقتلوه، قال: دعوني أصلي ركعتين، صلى ركعتين، وقال: لولا أن تقولوا: إني طولت مخافة القتل لطولت فيهما، ثم قال هذين البيتين المشهورين:

ولست أُبالي حين أُقتل مسلمًا

على أي شِقٍ كان لله مصرعي

وذلك في ذاتِ الإله وإن يشأ

يُبارك على أوصالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ

ثم قتلوه ، واستجاب الله لدعوة عاصم لما قال: “اللهم أخبر عنا نبيك”، فأخبر الله نبيه، قال: “فأخبر النبي  أصحابه خبرهم يوم أصيبوا”.

الشاهد من هذه القصة قول خُبيب: “وذلك في ذات الإله”، فاستدل بهذا البخاري على أن الله يُطلق عليه الذات، يقال: ذات الإله، وذات الرب، وأن لله ذاتًا، فلا بأس أن يقال: ذات الله.

ومما يدل لذلك أيضًا قول النبي : إن إبراهيم  لم يكذب إلا ثلاث كذبات؛ اثنتين في ذات الله ^[7]، فإذن تطلق ذات الله على الرب ​​​​​​​، يقال: ذات الله، وفي ذات الله؛ (وذلك في ذات الإله وإن يشأ)، فهي مما تطلق على الله ​​​​​​​ عند أهل السنة والجماعة، وهذا هو الذي لأجله ساق المصنف هذه القصة، لو أن المصنف رحمه الله أتى أيضًا بقصة إبراهيم لكان أوضح.

بابٌ: قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ

قال المصنف رحمه الله:

إثبات النفس لله سبحانه

ومراد المصنف في هذا الباب إثبات النفس لله سبحانه، والمراد بالنفس: الله تعالى المتصف بصفاته، ولا يقصد ذاتًا منفكة عن الصفات، كما لا يراد به صفة الذات، وإنما إذا قيل: نفس الله، أي: الله ​​​​​​​ متصف بصفاته وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116].

وقوله: ما من أحدٍ أَغْيَرُ من الله: سيأتي الكلام عن إثبات الغيرة لله ​​​​​​​ على الوصف اللائق به، سيأتي في باب: لا شخص أغير من الله؛ ولذلك نرجئ الكلام عنها عندما يأتي الكلام عن ذلك الباب.

من أجل ذلك حرَّم الفواحش: الله تعالى يغار على محارمه؛ ولذلك حرم الله الفواحش، فلا يجوز إظهار الفواحش في المجتمع، ولا إشاعة الفواحش في المجتمع، والذين يفعلون ذلك يحادون الله ورسوله، يجب محاربة إظهار الفواحش.

والمعصية إذا كانت ليست معلنة لا تضر إلا صاحبها، لكنها إذا أعلنت في المجتمع وجب على المجتمع أن ينكرها، فإن لم ينكرها عمتهم العقوبة، وهذا من سنن الله ​​​​​​​؛ ولذلك لما قيل للنبي : أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث ^[9]، إذا كثر الخبث، وكثرت المنكرات ولم تُنكر، فإن الله تعالى يسلط على المجتمع عقوبات.

عقوبة الهلاك هذه إهلاكُ المجتمع كله، مثل: هلاك قوم عاد، وقوم ثمود، والأمم السابقة، هذه من بعد ما أنزل الله التوراة، أصبحت لا يقدرها الله على المجتمعات من بعد نزول التوراة، كما قال سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى [القصص:43]، كانت قبل نزول التوراة، بعد نزول التوراة تكون العقوبات بغير الهلاك الذي يستأصل الجميع، قد تكون العقوبة بغلاء الأسعار، قد تكون العقوبة بتفريق القلوب، قد تكون العقوبة بتسليط الظلمة، قد تكون بأي شيء يقدره الله ​​​​​​​ على العباد، بسبب ظهور المنكر، إذا ظهر المنكر ولم ينكر، فإن الله يعاقب المجتمع كله، فمن ذلك ظهور الفواحش، فالله تعالى يغار على محارمه من أجل ذلك حرَّم الفواحش.

وما أحدٌ أحبَّ إليه المدحُ من الله: الله تعالى يحب المدح والحمد والثناء، وهو مستحق بحقٍ لذلك، لكن الله تعالى يحب من عباده أن يمدحوه، وأن يثنوا عليه؛ ولذلك من أعظم أسباب إجابة الدعاء أن يتقدم على الدعاء المدح والثناء لله، إذا أردت أن تستجاب دعوتك قدم المدح والثناء قبل الدعاء.

ولهذا في حديث الشفاعة: لما يأتي الناس إلى آدم، وإلى نوح، وإلى إبراهيم وموسى وعيسى، كلهم يعتذرون، ثم يأتون إلى محمد ، فيذهب ويسجد تحت العرش، ويحمد الله، ويثني عليه، يقول عليه الصلاة والسلام: ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي ^[10] يفتح الله عليه، ثم يسأل الله الشفاعة، فيقبل الله شفاعته، فقدَّم قبل أن يَسأل الله الشفاعة الحمد والثناء على الله سبحانه.

ينبغي أن يغرس تعظيم الله في النفوس، وحمد الله، والثناء عليه دائمًا، في المحاضرات والدروس وخطب الجمعة، فخطب الجمعة من أبرز مقاصدها: غرس تعظيم الله، ومحبة الله في النفوس، العجب من بعض الخطباء يأتي يتكلم بكلام عن أحداث سياسية، وعن أمور، لكنه لا يعتني بهذه المعاني، فينبغي أن تخصص خطب للثناء على الله، وحمده، وبيان عظمته وقدرته وصفاته، فالله تعالى هو أحق أن يحمد، وأن يمدح، وأن يثنى عليه، وأن يمجد في جميع المحافل، وجميع الأماكن جل وعلا، وهو يحب من عباده أن يمدحوه، وأن يثنوا عليه؛ لهذا قال: وما أحدٌ أحبَّ إليه المدحُ من الله.

وفي الحديث الآخر، أو في الرواية الأخرى: ولا أحدَ أحبُّ إليه العذرُ من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين.

قال:

وإنما أورد المؤلف هذا لقوله: وهو يكتب على نفسه، لأجل إثبات النفس لله سبحانه وتعالى، وهذا حديث عظيم، من رحمة الله تعالى بعباده أنه لما خلق الخلق كتب كتابًا، وهو عنده على العرش إن رحمتي تغلب غضبي، سبحان الله!

هذا الرب الذي هو على كل شيء قدير، الذي له ملك السماوات والأرض، كل شيء آتٍ له عبدًا، ومع ذلك رحمن رحيم، رحمته تغلب غضبه جل وعلا، وهو سبحانه له الرحمة العظيمة الواسعة لعباده جل وعلا.

عندما يتذكر المسلم ذلك فإنه يُقبل على ربه الرحمن الرحيم، ذي الرحمة الواسعة، وأرحم بك من أمك وأبيك، أرحم بالإنسان من الوالدة بولدها، ورحمته سبقت غضبه جل وعلا.

لكنه رحيم وقريب ولطيف بعباده المؤمنين، وشديد العقاب على من عصاه اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:98]، فعندما تقول: الله غفور رحيم، تذكر بأن الله شديد العقاب.

قال:

هذا الحديث حديث عظيم، يقول الله تعالى في هذا الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي، أورد المؤلف أولًا هذا الحديث؛ لقوله: إن ذكرني في نفسه، ذكرتُهُ في نفسي، أورده لإثبات النفس لله ​​​​​​​، وقلنا: إن هذا قد دلت له أدلة كثيرة.

قال: أنا عند ظن عبدي بي: يعني: إن ظننت بالله الظن الحسن، أعطاك الله تعالى كما تظن، وإن ظننت بالله الظن السوء، أعطاك الله على ظنك السيئ؛ ولذلك فأحسن الظن بالله، إن دعوت الله تعالى، وأنت تظن أن الله سيستجيب لك استجاب الله لك، لكن دعوت الله، وأنت تظن أنه لن يستجيب لك، فلن يستجاب لك، أحسن الظن بالله ​​​​​​​.

ولذلك أنكر الله على الظانين بالله ظن السوء: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الفتح:6]، أحسن الظن بالله ​​​​​​​.

هنا قال: أنا عند ظن، ولم يقل: أنا عند حسن ظن، أنا عند ظن عبدي بي، إن ظننت الظن الحسن أعطاك الله ما تؤمل، وإن ظننت الظن السيئ أعطاك الله كما ظننت، فليحرص المسلم على أن يحسن الظن بالله ​​​​​​​.

قال: وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرتُهُ في نفسي: إذا ذكر العبد ربه ذكره الله وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، إن ذكرني في نفسه، ذكرتُهُ في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ، ذكرتُهُ في ملأٍ خيرٍ منه، وهذا يدل على فضل ذكر الله تعالى أمام الناس، تَذكُر الله أمام الناس، يذكرك الله في ملأٍ خيرٍ منه، وإذا ذكرت الله في نفسك، ذكرك الله في نفسه.

ابن القيم رحمه الله يقول: لو لم يكن من فوائد الذكر إلا هذه الفائدة لكفى، أنك تذكر الله، فيذكرك أنت أيها العبد الضعيف المسكين، يذكرك الله تعالى العظيم الكبير، الذي هو أكبر من كل شيء، أي شرف أعظم من هذا!

قال: وإن تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا: وهذا من كرم الله، وإلا الله تعالى لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، لكن هذا من كرم الله، وعظيم فضله ولطفه ورحمته جل وعلا.

وإن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة: مع غناه جل وعلا عن طاعة الطائعين، كما قال في الحديث القدسي: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا ^[13]، لكن الله تعالى من عظيم رحمته بعباده ولطفه وكرمه يحب من عباده أن يتوبوا إليه، وأن ينيبوا إليه، وإذا تقربوا إليه تقرب الله منهم أكثر جل وعلا.

ويصف النبي  فرح الله بتوبة عبده بوصف عجيب بديع، يقول: للهُ أشد فرحًا بتوبة عبده، من أحدكم كان على راحلته، وعليها طعامه وشرابه، وضلت به في صحراء، يعني: كان على راحلته، وعليها طعامه وشرابه، ثم ضلت به في صحراء، يعني: ذهبت هذه الراحلة وعليها الطعام والشراب، فجلس تحت ظل شجرة ينتظر الموت، تصور إنسان في البر في صحراء، والطعام والشراب والزاد وكل شيء على بعيره، ثم هذا البعير وهرب وشرد، وأصبح وحيدًا ما عنده شيء، ما عنده أحد يساعده في البر، جلس تحت ظل شجرة ينتظر الموت، فبينما هو كذلك نام، فلما استيقظ إذا براحلته عنده، وعليها طعامه وشرابه، ففرح فرحًا عظيمًا، فقال: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح، ماذا تتصورون هذا الفرح؟ فرح إنسان وجد الحياة بعدما تيقن الموت، فرح عظيم فالله تعالى أشد فرحًا من هذا براحلته، عندما يتوب عبدي ^[14]، سبحان الله! انظر إلى عظيم رحمة الله، وعظيم لطفه بعباده، مع غناه جل وعلا عن عباده، لكن الله تعالى يفرح بتوبة عبده، يحب من عباده أن يتوبوا إليه، وأن ينيبوا إليه جل وعلا.

بابٌ: قول الله ​​​​​​​: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ

قال:

إثبات الوجه لله 

ومراد المصنف بهذه الترجمة إثبات الوجه لله ​​​​​​​، وعبر بالوجه عن الذات كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، أي: إلا إياه، وقيل: إلا ما أريد به وجهه.

وهذا فيه إثبات صفة الوجه لله ​​​​​​​ خلافًا لطوائف من المبتدعة الذين أنكروا صفة الوجه لله ​​​​​​​، فالله سبحانه وتعالى وجهه ليس كوجه المخلوقين، الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير جل وعلا، لكن قد يطلق الوجه ويراد به الذات، كما في قوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، يعني: إلا هو جل وعلا، قد يعبر عن الوجه بالذات، وتقول: أريد بذلك وجه الله، ويجوز التعوذ بصفة الوجه؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام هنا: أعوذ بوجهك، فيجوز أن تقول: أعوذ بوجه الله ​​​​​​​، وأسألك بوجهك، لكن ورد النهي عن أن يسأل العبد شيئًا بوجه الله إلا الجنة لا يسأل بوجه الله إلا الجنة ^[16]؛ لأن الجنة هي غاية المنى بالنسبة للإنسان، أما الأدعية الأخرى غير الجنة، فلا يسأل بوجه الله تعالى شيئًا سوى الجنة.

فيجوز إذن أن تقول: “اللهم إني أسألك بوجهك الجنة”، ويجوز أن تقول: “اللهم إني أعوذ بوجهك”، أعوذ بوجهك من كذا، فالوجه صفة من صفات الله ​​​​​​​، وهو من صفات الله سبحانه وتعالى، فيسأل بوجه الله، ويستعاذ بوجه الله جل وعلا، وهو من صفات الله تعالى عند أهل السنة والجماعة.

وقد يعبر كما ذكرنا عن الوجه، ويراد به الذات، كأن تقول: أنا أريد وجه الله، كما قال الله تعالى: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الإنسان:9]، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام:52]، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [الليل:20]، فالمقصود بذلك ذات الله ​​​​​​​.

ولعلنا نكتفي بهذا القدر، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.