|categories

(13) من قوله “ويكره إزالة الأوساخ في المساجد..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فنبدأ أولًا بشرح (فصول الآداب ومكارم الأخلاق المشروعة) لأبي الوفاء ابن عقيلٍ الحنبلي رحمه الله.

“فصلٌ: ويكره إزالة الأوساخ في المساجد..”

كنا قد وصلنا إلى قول المصنف رحمه الله:

“فصلٌ: ويكره إزالة الأوساخ في المساجد؛ كتقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط، والعملُ والصنائع؛ كالخياطة والخَرْز والحَلْج والتجارة، وما شاكَل ذلك إذا كثر، ولا يكره ذلك إذا قل؛ مثل رَقْع ثوبٍ، أو خَصْف نعلٍ، أو تشريكها إذا انقطع شِسْعها”.

الشرح:

“فصلٌ: ويكره إزالة الأوساخ في المساجد كتقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط، والعملُ والصنائع؛ كالخياطة والخَرْز والحَلْج والتجارة، وما شاكل ذلك إذا كثر”.

المساجد هي بيوت الله ​​​​​​​، كما قال سبحانه: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ۝رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:36-37].

فالمساجد هي دور العبادة، وكما قال النبي : إنما بُنِيَت لما بنيت له [1] من الصلاة والذكر وتلاوة القرآن، وأنواع العبادة، وليست دُورًا للتجارة، أو للعب أو اللهو، أو إزالة الأوساخ، أو عمل الصنائع، ليست لهذا.

وينبغي العناية بها، وتعظيمها؛ فهي أحب البقاع إلى الله ​​​​​​​ كما أخبر بذلك النبي : أحب البقاع إلى الله تعالى مساجدها [2]. وقد أمر النبي ببناء المساجد في الدُّور، وأن تنظف وتطيب [3]. في الدُّور يعني: في القبائل التي هي تسمَّى في الوقت الحاضر بالأحياء، أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تنظَّف، وأن تطيب.

في النسخة التي بين أيديكم قبله، وفي النسخة الأصل: إخْصاء البهائم بعد هذا الفصل، على كل حالٍ تقديم وتأخير، فأمره سهل.

“أمر النبي ببناء المساجد في الدُّور، وأن تنظف، وأن تطيب”. وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي، وفي سنده مقالٌ، لكن العمل عليه عند أهل العلم.

وقد كان الناس من صدر الإسلام يجمِّرون المساجد، يعني: يبخرونها ويطيبونها، ويُعنَون بها، والمساجد لها خصوصيةٌ في بعض العبادات، ومنها الاجتماع، والاستماع لتلاوة القرآن وتدارسه؛ فإن النبي خص الفضل المذكور في الحديث بالمساجد، قال: ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده [4].

فخص هذا التدارس بكونهم مجتمعين في بيتٍ من بيوت الله، يعني: في مسجدٍ، وهذا يدل على أن بعض العبادات تَشرُف بفعلها في المسجد، ويَعظم ثوابها وأجرها بفعلها في المسجد؛ كتدارس القرآن، فتدارس القرآن الأفضل أن يكون في المساجد، وإن كان يجوز أن يكون في غير المساجد، لكن الأفضل أن يكون في المساجد؛ لهذا الحديث وما في معناه.

قال: “ويكره إزالة الأوساخ في المساجد”.

إزالة الأوساخ في المساجد، يكره ذلك، ومثَّل المؤلف بتقليم الأظافر، وقص الشارب، ونتف الإبط؛ لأن المساجد مطلوبٌ تنظيفها، وليس إلقاء القذر والأوساخ فيها، وإذا تعمد ذلك وكثر، قد يكون هذا محرمًا، إذا تعمد إلقاء الأوساخ في المساجد وكثر ذلك منه.

قال: “والعمل والصنائع والحَلْج والتجارة”

كذلك أيضًا المساجد تنزه عن الأعمال الحِرْفيَّة والصنائع؛ لأنها دُورٌ للعبادة، ومثَّل المؤلف، قال: “كالخياطة والخَرْز” يعني: المساجد ليست محلًّا للخياطة، ولا الخَرْز.

“والحَلْج” يعني: حلج القطن، وتخليصه من بذوره، هذا المراد بالحلج، يعني: تخليص القطن من بذوره، فهذه أيضًا يكره أن تكون في المسجد.

حكم التجارة أو الدعاية لها في المسجد

قال: “والتجارة”. فيرى المؤلف: أن التجارة مكروهةٌ في المسجد، وهذا روايةٌ عن الإمام أحمد، والقول الثاني في المسألة: أن التجارة في المسجد محرمةٌ، وهذا هو القول الراجح؛ لقول النبي : إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك [5]؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام لمَن نَشَد ضالَّةً في المسجد: لا ردها الله عليك [6].

فهنا أمر النبي بالدعاء على من باع أو اشترى في المسجد، أو نَشَد ضالةً، فالدعاء عليه من باب التعزير له، الدعاء عليه بألا يُربِح الله تجارته، والدعاء عليه بألا يَرُد الله ضالته، وهذا من باب التعزير له على فعل هذه المعصية، وهذا يقتضي تحريم ذلك، تحريم أن يكون البيع والشراء في المسجد، وكذلك التجارة في المسجد، وما كان في معناه، ولهذا؛ قال المؤلف: “وما شاكَل ذلك” يعني: وما كان في معنى ذلك، ومن ذلك: الدعاية التجارية في المسجد؛ لأنه لا يجوز أن تكون الدعايات التجارية داخل المساجد، المساجد دُور العبادة، فإذا كان لا يجوز البيع ولا الشراء في المسجد، فكذلك أيضًا الدعاية التجارية والإعلان التجاري لا يجوز أن يكون داخل المسجد.

طيب، إذا كان الإعلان عن المحاضرات، محاضرةٍ أو دورةٍ علميةٍ أو نحو ذلك، وكتب: الراعي الرسمي شركة كذا، أو مؤسسة كذا، هل هذا من الدعاية الممنوعة أو الجائزة؟

نعم، طيب، هل هذا مقصود أم لا؟ هل هو تَبَعٌ أو ليس تبعًا؟

نعم، إذا كتب الراعي الرسمي كذا.

نعم، مقصود، لو لم يكن مقصودًا أصلًا ما تكفل بهذا الإعلان، وما تكفل بالإعلان إلا لأجل هذه الدعاية، أليس كذلك؟ ما وضع هذا الإعلان وبذل المال إلا لأجل دعايةٍ له، ولذلك؛ يكتب: الراعي الرسمي كذا، فنقول: إذا كانت الدعاية مقصودةً، فإن هذا لا يجوز أن يكون داخل المسجد، أما لو كان ذلك وقع تَبَعًا، فهذا لا بأس، تبع مثل ماذا؟ مثل لو كتب مثلًا على مكبر الصوت: صنع في كذا، أو المناديل صنع في شركة كذا مثلًا، فهذا وقع تبعًا، هذا ما يضر، لكن إذا كان مقصودًا، كأن يقول: الراعي الرسمي. هذا مقصودٌ، ولولا هذه الكتابة وهذه العبارة ما تكفل هذا الراعي بتكلفة هذه الإعلانات، فالدعاية مقصودةٌ، فإذا كانت الدعاية مقصودةً فإن هذا لا يجوز، وأما إذا كانت غير مقصودةٍ، وإنما تقع تبعًا فهذا لا بأس به، كما مثلنا، كأن يكتب على مكبر الصوت صنع بكذا، أو المناديل، أو نحو ذلك، أو حتى مثلًا الماء الذي يشرب، صنع في مصانع كذا، هذه غير مقصودةٍ، هذه لا حرج فيها، لكن المقصودة هذه لا تجوز.

طيب، كيف نتعامل مع هذه الإعلانات؟ هي فيها فائدةٌ، فيها إعلان الدروس، فيها إعلان المحاضرات؟

نعم، تطمس، أو يوضع عليها ما يغطيها، ويستفاد من الإعلان، وهذا أحسن من أن يقال: إنها تمزق، أو تُعلَّق خارج المسجد.

نعم، إذا كان مقصودًا، أنه يقصد به الدعاية، فهذا لا يجوز، وأما إذا لم يكن مقصودًا، وإنما من باب التعريف بهذا المنتج، فلا حرج.

طيب، التقاويم، هل الإعلان مقصودٌ أو غير مقصودٍ؟

مقصودةٌ، وُضع أصلًا من باب الدعاية لهذه الشركة أو المؤسسة، ولذلك؛ يُوجد في بعض المساجد أحيانًا تقاويم فيها دعايةٌ لمؤسسةٍ أو شركةٍ، فهذه ما يجوز أن تكون داخل المسجد، إلا أن تُطمَس هذه الدعاية أو تُغطَّى.

لا، إذا كانت خيريةً، فهنا ليست تجاريةً، لا حرج، المهم ألا تكون تجاريةً، ألا تكون مقيدة الدعاية بالتجارية، ألا تكون دعايةً تجاريةً أو إعلانًا تجاريًّا.

قال: “إذا كثُر”. ومفهوم كلام المؤلف: أنه إذا لم يكثر فإن هذا جائزٌ، وهذا في أمور التجارة غير صحيحٍ، أمور التجارة هي محرمةٌ على القول الراجح، قلَّت أم كثرت؛ سواءً كانت بيعًا أم شراءً، أم دعايةً أم إعلانًا أم غير ذلك.

قال: “ولا يكره ذلك إذا قلَّ”. هذا ربما يُحمل كلام المؤلف على الأعمال الحِرْفيَّة ونحوها، فإذا كانت يسيرةً، مثل؟

عندكم: “النجارة”؟

محتمِلة “النجارة” على كل حالٍ تلحق بالأعمال الحِرْفية، لكن في النسخة الأصل: “التجارة”.

قال: “ولا يكره ذلك إذا قلَّ؛ مثل رَقْع ثوبٍ، أو خَصْف نعلٍ، أو تشريكها إذا انقطع شِسْعها”. يعني: مثل الأشياء اليسيرة هذه لا حرج فيها، مثل ما مثَّل المؤلف، ولهذا؛ لو أن أحدًا انقطعت نعله فأصلحها داخل المسجد، لا حرج في ذلك؛ لأن هذه أشياء يسيرةٌ.

حكم الكلام داخل المسجد

طيب، (السواليف) والأحاديث داخل المسجد؟ إذا كانت في أمر محرمٍ فهي محرمةٌ؛ سواءٌ كان داخل المسجد، أو خارج المسجد؛ كأن تكون غيبةً أو نميمةً أو سخريَةً، فهذه محرمةً؛ سواءٌ أكانت داخل المسجد، أو خارج المسجد، ولكن الكلام المباح داخل المسجد، ما حكمه؟ جائزٌ، ولا بأس به، وقد كان النبي إذا صلى صلاة الصبح بقي في مصلاه، فكانوا يتحدثون في أمور الجاهلية، وما منَّ الله تعالى به عليهم من الإسلام، فكان عليه الصلاة والسلام يستمع ويتبسم [7]. رواه مسلمٌ.

ولأنه عليه الصلاة والسلام لما اعتكف كان يأتيه من يأتيه من الصحابة، وأتته زوجه صفية، وتحدثت معه ساعةً [8]. فالحديث داخل المسجد في الأمور المباحة لا بأس به، وإن كان ينبغي أن يكون الغالب على الإنسان أن يكون مُعْظَم وقته الذي يقضيه في المسجد في أمور الطاعة، لكن لو تحدث في أمورٍ جائزةٍ أو مباحةٍ، فلا حرج في ذلك إن شاء الله، لكن المهم أن يكون ذلك في أمورٍ جائزةٍ وأمورٍ مباحةٍ.

حكم الحديث في أمور التجارة داخل المسجد

الحديث في أمور التجارة مكروهٌ داخل المسجد، لكن لا يصل إلى درجة التحريم، ودليلنا لهذا: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى كعب بن مالكٍ وأحد الناس قد ارتفعت أصواتهما داخل المسجد، وكعبٌ في مقاضاته لدينه، أشار النبي عليه الصلاة والسلام لكعبٍ أنْ ضَعْ شطر دَينك. ففعل [9]. فهنا كان التقاضي دينًا في المسجد، ومع ذلك أقرهما النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك، فدل هذا على أن مثل هذه الأمور اليسيرة أنه لا حرج فيها.

فيقتصر محل النهي على البيع والشراء والدعاية، ونحو ذلك من الأمور التجارية المحضة.

حكم إخصاء البهائم

ثم قال المؤلف رحمه الله:

“فصلٌ: ولا يجوز إخْصَاء البهائم”.

الشرح:

“إخصاء البهائم”. الإخصاء معناه: إزالة الخُصْيَة.

وإخصاء البهائم يقولون: إن البهيمة إذا خُصيت، فإنها تَسْمَن ويطيب لحمها، وهذا معروف عند أرباب المواشي، تسمن ويطيب لحمها، فيعمد بعض الناس إلى إخصائها؛ لأجل هذه المصالح.

وقد اختلف العلماء في حكم إخصاء البهائم على قولين:

  • القول الأول: أن ذلك لا يجوز، وهو القول الذي قرَّره المؤلف رحمه الله، وذلك؛ لما فيه من إيلام البهائم وتعذيبها، فإن الإخصاء فيه نوعٌ من الألم والتعذيب.
  • والقول الثاني: أن إخصاء البهائم إذا كان فيه مصلحةٌ لا بأس به، هذا هو القول الراجح، وهو المذهب عند الحنابلة، أن إخصاء البهائم لا بأس به إذا كان فيه مصلحةٌ، كأن يقصد من ذلك تطييب لحمها، أو سِمَنها، أو نحو ذلك من المصالح، والدليل لهذا: ما جاء في “مسند الإمام أحمد” بسندٍ صحيحٍ: أن النبي ضحَّى بكبْشَين مَوْجُوءَين [10].

ومعنى: مَوْجُوءَين، يعني: خَصِيَّين، وهذا يدل على أيضًا أنه تجوز الأضحية -وهكذا الهدي والعقيقة- بالخَصِيِّ؛ لأن الخِصَاء ليس عيبًا في البهائم، وإنما هو وصف كمالٍ، ولذلك؛ اختار النبي هذين الكبشين ليضحي بهما، وكما نقلت، أن الخصاء للبهيمة مفيدٌ لها من جهة تطييب اللحم والسِّمَن كذلك، ولذلك؛ يفضل بعض الناس لحم البهيمة المخصية على غيرها؛ لأن لحمها يكون ألذَّ وأطيب، ولهذا المعنى؛ اختار النبي الأضحية بكبشين خصيين، وهذا هو القول الراجح: أن خِصَاء البهائم إذا كان فيه مصلحةٌ فلا بأس بذلك؛ لأن هذه البهائم خلقها الله تعالى لبني آدم، كل ما في الأرض خلقه الله تعالى لبني آدم، كل ما في الأرض، من يذكر لنا الدليل لهذا؟

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، كل ما في الأرض كله لبني آدم، فهذا من رحمة الله تعالى ببني آدم، ولذلك؛ ذكر الله تعالى هذا في معرِض الامتنان، فهذه البهائم خلقها الله تعالى لبني آدم، فإذا كان في هذا التصرف مصلحةٌ فلا حرج في ذلك، وما قد يحصل من إيلام الحيوان ينغمر في المصلحة المرجوة من ذلك.

حكم كي البهائم للوَسْم

قال: “ولا كيها بالنار للوَسْم”. أي: أنه لا يجوز كيُّ البهائم بالنار للوسم، وذلك؛ للتعليل السابق لما في ذلك من إيلام الحيوان، وأيضًا جاء في حديث جابرٍ  أن النبي نهى عن الضرب في الوجه، وعن الوسم في الوجه [11]. رواه مسلمٌ.

والقول الثاني في المسألة: أن وسم البهائم لا بأس به، بشرط ألا يكون ذلك في الوجه، وهذا هو القول الراجح، وذلك؛ لأن النبي كان يَسِم إبل الصدقة، وقد بوَّب البخاري في “صحيحه” في قوله: باب وسم الإمام إبل الصدقة بيده. وساق بسنده عن أنسٍ : غدوت إلى رسول الله ، فوافيته وفي يده المِيْسَم يَسِم إبل الصدقة [12]. هذا نصٌّ صحيحٌ صريحٌ في المسألة.

وأما الحديث الذي استدل به أصحاب القول الأول، فهذا إنما هو خاصٌّ بالوسم في الوجه، ونحن نقول: إن الوسم في الوجه محرمٌ، وذلك؛ للحديث الذي استدلوا به، وهو حديث جابرٍ  نهى رسول الله عن الضرب في الوجه، وعن الوسم في الوجه، ولأن وسم الحيوان في غير الوجه فيه منفعةٌ عظيمةٌ، ومصلحةٌ كبيرةٌ خاصةً في الإبل، فإن كثيرًا من الإبل لا تعرف إلا بالوسم، أرباب الإبل يعرفون أن هذه ناقة فلانٍ أو فلانٍ، من الوسم الذي توسم به، فلو لم تُوسَم لاشتبهت الإبل بعضها ببعض، ففي هذا الوسم مصلحةٌ كبيرةٌ.

ولذلك؛ فالقول الراجح: أن وسم الحيوان في غير الوجه لا بأس به، إذا كان في ذلك مصلحةٌ.

قال: “وتجوز المداواة حسبما أَجَزْنا في حق الناس في إحدى الروايتين”.

هذه عبارةٌ فيها إشكالٌ، وفي (غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب) أتت هذه العبارة بمعنًى آخر، ربما يكون هو المقصود، وأنه حصَل تصحيفٌ أو سقطٌ في هذه النسخة، قال: “ويجوز الكي للمداواة”. وهذا هو الذي يظهر من مراد المؤلف من هذه العبارة، أن مراده: ويجوز الكي للمداواة حسبما أجزنا في حق الناس في إحدى الروايتين، هذا الذي يظهر، يجوز كي البهائم للمداوة؛ لأن المؤلف منع من كي البهائم للوسم، فأراد أن يستدرك ويقول: إن كيها لغير الوسم للمداواة يجوز؛ لأننا أجزنا ذلك في حق الناس، فإذا أجزناه في حق الناس للمداواة، فنجيزه كذلك في حق البهائم، والذي يظهر أن كي البهائم جائزٌ للوسم وللمداواة ولغيرها، فإذا كان في ذلك مصلحةٌ أنه لا بأس به مطلقًا.

حكم بر الوالدين

“فصلٌ: وبر الوالدين واجبٌ، سُئل الإمام أحمد عن بر الوالدين أفرضٌ هو؟ فقال: لا أقول: فرضٌ، ولكنه واجبٌ، ولا يجوز طاعتهما في معصية الله تعالى، كذلك نص عليه؛ لقول النبي : لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الله تعالى [13].

الشرح:

قال: “وبر الوالدين واجبٌ، وسُئل أحمد عن بر الوالدين أفرضٌ هو؟ فقال: لا أقول: فرضٌ، ولكنه واجبٌ”.

وجوب بر الوالدين دلت عليه نصوصٌ كثيرةٌ من القرآن والسنة، منها قول الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ۝وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23- 24].

فأوجب الله تعالى بر الوالدين في هذه الآية، وفي آياتٍ أخرى، أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14].

وكذلك النبي لما سُئل عن أحب العمل إلى الله، قال: الصلاة على وقتها. قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله [14]. هذا الحديث رواه البخاري ومسلمٌ، فقدَّم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله، مع أن الجهاد هو ذِرْوَة سَنَام الإسلام، هذا يدل على عظيم فضل بر الوالدين، وعظيم أجره وثوابه، وهو أعظم ما يكون من صلة الرحم، فأعظم ما يكون من صلة الرحم: بر الوالدين، وإنما لم يقل: صلة الوالدين؛ لأن المطلوب مزيدٌ من الصلة، ومزيد الصلة يسمى برًّا؛ لأن البر هو الخير الكثير، وقد قال النبي كما في “الصحيحين”: لما خلق الله الخلق، قامت الرحم، فتعلقت بالعرش، وقالت: هذا مَقام العائذ بك من القَطِيعة. فقال الله لها: أما ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك؟ قالت: بلى. قال: فذلك لك [15]. فتكفل الله تعالى بأن يصل مَن وصل رحمه، وأن يقطع مَن قطع رحمه.

وقلنا: إن بر الوالدين أعظم ما يكون من صلة الرحم، وعقوق الوالدين أعظم ما يكون من قطيعة الرحم، ولذلك؛ يصله الله تعالى بماذا؟ ما معنى: أن أَصِلَ؟ يصله بأي شيءٍ؟ يصله بكل بِرٍّ وخيرٍ، وتوفيقٍ وتيسيرٍ، وأن أقطع من قطعك أي: يقطعه من كل خيرٍ ومن كل برٍّ، ومن كل توفيقٍ ومن كل تيسيرٍ، ولهذا؛ لا يمكن أن تجد عاقًّا لوالديه، أو قاطعًا لرحمه سعيدًا في حياته أبدًا، لا يمكن، حتى وإن حصَّل مالًا أو ثروةً أو شيئًا من متع الدنيا، فإنه سيكون تعيسًا في حياته؛ لأن هذه سنةٌ من سنن الله تعالى، أخبر عنها النبي عليه الصلاة والسلام أن الله تكفَّل بأن يقطع من قطع رحمه، والعقوق أبلغ ما يكون من قطيعة الرحم، يعني: تكفل الله تعالى بهذا، متى؟ لما خلق العرش، ونحن نؤمن بهذا كما ورد، ولا نسأل عن الكيفية، فالله على كل شيءٍ قديرٌ.

فهذه من سنن الله ​​​​​​​ التي لا تتغير ولا تتبدل: أن العاق لوالديه، القاطع لرحمه لا يمكن أن يَهْنأ بعيشٍ، أتعس الناس عيشًا، وأقلهم توفيقًا وتيسيرًا، وأن البار بوالديه، الواصل لرحمه، من أهنأِ الناس عيشًا، ومن أكثرهم توفيقًا وتيسيرًا في أموره.

هنا المؤلف أورد هذا الفرق بين الواجب والفرض.

قال: “لا أقول: فرضٌ، ولكنه واجبٌ”. هل هناك فرق بين الفرض والواجب؟

الفرق بين الفرض والواجب

الحنفية يُفَرقون ويرون أن الفرض آكد من الواجب، وأن الفرض ما ثبت بالقرآن، والواجب ما ثبت بالسنة، وجمهور العلماء على أنه لا فرق بين الفرض والواجب، وهذا هو القول الراجح: أنه لا فرق بين الفرض والواجب، وأن ما قيل: إنه واجبٌ. هو فرضٌ، وما قيل: إنه فرضٌ. هو واجبٌ، هذا هو القول الراجح: أنه لا فرق بين الفرض والواجب.

لكن في إحدى الروايتين، الإمام أحمد يُفرِّق بين الفرض والواجب، يعني: الفرض يكون لِمَا كان أكثر تأكُّدًا من الواجب.

ضابط وجوب طاعة الوالدين

قال: “ولا تجوز طاعتهما في معصية الله تعالى، كذلك نص عليه الإمام أحمد؛ لقول النبي : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق [16].

والله تعالى يقول: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]. لو أن المؤلف استدل بالآية لكان أولى، وأيضًا الحديث الذي ساقه المصنف: لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، ورد في أكثر من حديثٍ عند مسلمٍ وغيره: إنما الطاعة في المعروف، لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق [17].

لكن نحتاج إلى أن نذكر ضابطًا لطاعة الوالدين الواجبة، متى تجب طاعة الوالدين؟ هل كل ما أمر الوالد ولده به تجب طاعته فيه؟ يعني: لو أمره بأمرٍ لا فائدة له فيه، أو نهاه عن أمر له فيه فائدةٌ، يحتاج إلى أن نعرف ضابطًا لطاعة الوالدين الواجبة.

سبق أن أشرنا في الدروس السابقة إلى أن أحسن ما قيل في ضابط وجوب طاعة الوالدين: أنه تجب طاعتهما إذا أمرا، فيما فيه منفعةٌ لهما، ولا ضرر فيه على الولد، لاحِظ هذين القيدين، إذنْ ضابط وجوب طاعة الوالدين: أن يأمر ولدهما فيما فيه نفع لهما، ولا ضرر فيه على الولد، فإنْ أمَرَاه بما لا نفع لهما فيه من باب التَّعَنُّت، قال أبُ لولده: أريد أن تأتي لي بحصاةٍ من الجبل مثلًا، هل تجب طاعته؟ ماذا يستفيد منها؟ ما لها فائدةٌ، فلا تجب، أو أنه من باب التعنت، أو أن على الولد ضررًا فيما أمره والده به، كأن يأمره بتطليق زوجته من غير سببٍ معتبرٍ شرعًا، أو تأمره أمه بتطليق زوجته، فإنه لا تجب طاعتهما في ذلك، ولذلك؛ جاء رجل للإمام أحمد، فقال: إن أبي يأمرني بطلاق زوجتي. قال: لا تطلقها. قال: أليس النبي أمر ابن عمر رضي الله عنهما بأن يطيع أباه لما أمره بتطليق زوجته؟ قال: إذا كان أبوك مثل عمر فأطع أباك؛ لأن عمر لا يمكن أن يأمر ابنه بطلاق زوجته إلا بسببٍ شرعيٍّ، سببٍ معتبرٍ شرعًا، أما إذا كان لأجل تعنت أو لأجل مثلًا عدم محبةٍ، أو لأجل خلافٍ بين زوجته وبين أبيه، أو أمه، فلا تجب طاعة أبيه وأمه في تطليق زوجته.

لو نهاه أن يصوم الاثنين، نهى الأب ابنه أن يصوم يوم الإثنين، هذا الابن كل اثنين يصوم، قال له أبوه: لا تصم الاثنين، هل تجب طاعته؟ لا تجب طاعته؛ لأنه ليس فيه نفعٌ لهذا الأب، ويتضرر هذا الولد، كونه يريد أن يعمل عملاً صالحًا، وينهاه والده عن ذلك.

طيب، أيضًا: بعض الآباء أو الأمهات، قد يكون بطبعه يكره المتدينين، ويكره الدروس، ويكره المحاضرات مثلًا، فإذا أمر ولده بألا يذهب لحضور الدروس، هل تجب طاعته؟ لا تجب؛ لأنه ليس له فيه مصلحةٌ، ما فائدة الأب من نهي الولد ألا يحضر؟ لا تجب إلا إذا كان الأب والأم له مصلحةٌ، كأن يطلب منه مثلًا أن يوصله إلى مكانٍ معينٍ، تطلب منه والدته أن يوصلها إلى مكانٍ، إلى المستشفى، إلى السوق، إلى مكانٍ معينٍ، مثلًا وقت درسٍ أو وقت محاضرةٍ، قالت له: لا تذهب للدرس، أوصلنى، هنا تجب طاعتها؛ لماذا؟ لأن لها منفعةً، وأما إذا كان مجرد تعنتٍ وليس له منفعةٌ ولا مصلحةٌ لا تجب طاعتها.

أو كان على الابن ضررٌ، أو كان على الولد ضررٌ، فلا تجب طاعته فيما أمر به.

والأصل في هذا قول النبي : إنما الطاعة في المعروف [18]. هذه قاعدةُ طاعةِ البشر للبشر -غير النبي – إنما تكون في المعروف.

فطاعة الوالدين في المعروف، وطاعة الزوجة لزوجها في المعروف، وطاعة ولي الأمر بالمعروف، ولهذا؛ جاء في “الصحيحين” أن النبي بعث سَرِيَّةً، وأمَّر عليهم رجلًا، وأمَرَهم أن يطيعوه، يعني: هو أميرهم، ثم إن هذا الرجل أغضبوه، فأمرهم أن يجمعوا حطبًا، فجمعوا حطبًا، فأمرهم أن يضرموا فيها النار، فأضرموا فيها النار، فقال: ادخلوا فيها، فأرادوا أن يدخلوها، بعضهم أراد أن يدخل؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمرهم أن يطيعوه، ثم قال بعضهم لبعض: نحن ما اتبعنا النبي عليه الصلاة والسلام إلا فرارًا من النار، كيف ندخلها؟! فبينما هم كذلك يتحدثون ويتحاورون، خَمَد غضبه، وانطفأت النار، فبلغ ذلك النبي فقال: لو دخلوها لما خرجوا منها؛ إنما الطاعة في المعروف [19]. أخرجه البخاري ومسلمٌ.

فالطاعة إذنْ تكون بالمعروف، غير النبي عليه الصلاة والسلام إنما يُطاع بالمعروف، ليست طاعةً عمياء مطلقةً، وإنما بالمعروف، لا بد أن يكون فيه مصلحةٌ، ولا يكون على الإنسان ضررٌ، وإنما الطاعة المطلقة إنما تكون لله ولرسوله ، هذه طاعةٌ مطلقةٌ؛ لأن الله لا يمكن أن يأمر بشيءٍ إلا فيه منفعةٌ ومصلحةٌ، والنبي عليه الصلاة والسلام كذلك، لا يأمر بشيءٍ إلا فيه مصلحةٌ، لكن غير طاعة النبي عليه الصلاة والسلام من البشر، إنما تكون في المعروف، ومن ذلك طاعة الوالدين.

وذَكَر الضابط ابن تيمية رحمه الله: أنه فيما يكون لهما فيه منفعةٌ ولا ضرر فيه على الولد.

ومع ذلك إذا لم يطع الولد والديه؛ لكونه مثلًا ليس لهما فيه منفعةٌ، أو عليه ضررٌ، فعليه أن يصاحبهما في الدنيا معروفًا، وأن يجبر خواطرهما؛ لقول الله تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ولكن وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]. مع أنهما قد أمَرَاه بأعظم ذنبٍ عُصي الله به وهو الشرك، ومع ذلك قال الله تعالى: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا. وهذا قد يحصل عندما يختار الابن زوجةً، وأهله لا يريدون، والداه لا يريدان هذه الزوجة، فإذا لم يكن هناك سببٌ شرعيٌّ معتبرٌ لرفضهما هذه المرأة، فلا تجب طاعتهما، لكن مع ذلك يجبر خواطرهما، ويحسن صحبتهما، ويبر بهما.

هذا أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذا.

ونقف عند الاتكاء، وفي الدرس القادم -إن شاء الله- سنختم به هذه الدروس، ونتوقف إن شاء الله.

والدرس القادم أيضًا سننهي هذا الكتاب، وهو كتاب “فصول الآداب”، وسنسمي متنًا آخر بدلًا عنه إن شاء الله تعالى.

ونكتفي بهذا القدر في “فصول الآداب ومكارم الأخلاق المشروعة”.

فنسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعًا للصواب والهداية، وللخير والفلاح.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 569 بنحوه.
^2 رواه مسلم: 671.
^3 رواه أبو داود: 455، والترمذي: 594، وابن ماجه: 758، وأحمد: 26386.
^4 رواه مسلم: 2699.
^5 رواه الترمذي: 1321، وقال: حسنٌ، والنسائي في “السنن الكبرى”: 9933.
^6 رواه مسلم: 568.
^7 رواه مسلم: 670.
^8 رواه البخاري: 2035، ومسلم: 2175.
^9 رواه البخاري: 457، ومسلم: 1558.
^10 رواه أحمد: 25843.
^11 رواه مسلم: 2116.
^12 رواه البخاري: 1502.
^13 رواه البخاري: 7257، ومسلم: 1840 بنحوه.
^14 رواه البخاري: 527، ومسلم: 85.
^15 رواه البخاري: 7502، ومسلم: 2554.
^16, ^17, ^18 سبق تخريجه.
^19 رواه البخاري: 7145، ومسلم: 1840.