|categories

(8) من قوله “ويستحب تحويل غسل اليد من الزهام..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

نبدأ أولًا: بشرح (فصول الآداب ومكارم الأخلاق المشروعة)، ووصلنا عند قول المصنف رحمه الله:

“فصلٌ: ويُستحب تحويل غسل اليد من الزُّهَام، وعند النوم أشد استحبابًا؛ فقد ورد التحذير منه من أجل الهوامِّ، ويكره لمن أراد المساجد للصلاة والاعتكاف أن يتعرض لأكل الخبائث من البقول؛ كالبصل والثُّوم والكُرَّاث؛ فقد نهى النبي عن قُربان المسجد معه.

ويستحب الإجابة إلى وليمة العُرْس، وليس له أن يستجيب إلى وليمة الختان، فإنها مُحدَثةٌ، وإذا حضر وليمة العرس لم يكن عليه الأكل، بل إن أكل، وإلا دعا وانصرف، وإنما يستحب الإجابة إليها إذا لم يكن فيها لعبٌ ولا منكرٌ ولا لهوٌ، فإن كان فيها محرمٌ حرمت الإجابة، وإن كان فيها مكروهٌ كرهت الإجابة، ويكره لأهل المروءات والفضائل التسرع إلى إجابة الطعام والتسامح وحضور الولائم غير الشرعية؛ فإنه يورث دناءةً وإسقاط الهيبة من صدور الناس.

ويستحب للمسلم عيادة أخيه المسلم، وحضور جنازته إذا مات، وتعزية أهله، ولا بأس بعيادة الذِّمِّيِّ؛ فقد عاد النبي يهوديًّا، وقال: كيف تجدك يا يهودي؟.

الشرح:

حكم غسل اليدين من الزُّهام

“فصلٌ: ويستحب (تحويل) -كذا- غسل اليد من الزُّهام” وربما تكون الكلمة فيها تصحيفٌ، وأنها: تعجيل؛ لأن (تحويل) لا معنى لهذه الكلمة، ويبدو أن فيها تصحيفًا من بعض النُّسَّاخ، وأن الكلمة: “يستحب تعجيل غسل اليد من الزُّهام”.

والزُّهَام، قال في القاموس: الزُّهْمة والزُّهُومة: ريح لحمٍ منتنٍ، فهي الريح المنتنة، والمراد بذلك: أنه تستحب المبادرة بغسل اليد بعد الفراغ من الأكل؛ لِمَا يَعْلَق في اليد من الدَّسَم الذي يكون فيه رائحةٌ، ولو بقي هذا الدسم لصدَرت منه روائح منتنةٌ.

ولا بأس بمسح اليد بالمنديل ونحوه بعد الفراغ من الأكل، قد جاء في حديث جابرٍ لمَّا سُئل عن الوضوء مما مسَّت النار -كما في “صحيح البخاري”- قال: لا، كنا زمان النبي لا نجد مثل ذلك من الطعام إلا قليلًا، فإذا نحن وجدناه لم يكن لنا مناديل إلا أَكُفَّنا وسواعِدنا [1].

حكم لعق الأصابع بعد الأكل

فأخبر بأنه لم يكن عندهم مناديل يستخدمونها إلا أيديَهم، لكن السُّنة أن يكون المسح بالمنديل بعد لعق الأصابع، يعني: ينبغي أن يكون المسح بالمنديل بعد لعق الأصابع، وذلك؛ لأن لعق الأصابع بعد الفراغ من الطعام سنةٌ، قد أمر النبي بلعق الأصابع؛ كما في حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما، أن النبي قال: إذا أكل أحدكم طعامًا، فلا يمسحْ يده حتى يَلعقها، أو يُلعِقها [2]. متفق عليه.

فقوله : فلا يمسح يده يعني: بالمنديل ونحوه حتى يلعقها، وهذا فيه إشارةٌ إلى أن السنة لعق الأصابع قبل مسحها بالمنديل.

وجاء في حديث كعب بن مالكٍ ، كما في “صحيح مسلمٍ”، قال: رأيت رسول الله يأكل بثلاث أصابع، فإذا فَرَغ لَعِقَها [3].

ولعْق الأصابع مستحبٌّ استحبابًا مؤكدًا، وجاء في حديث جابرٍ أن النبي أمر بلعق الأصابع، وقال: إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة [4]. رواه مسلم.

وبعض أهل التَّرَف يستقذر لعق الأصابع، وهذا الاستقذار في غير مَحَله؛ لأن النبي هو الذي أمر بلعق الأصابع، وأخبر بالحكمة في هذا، وهي أنه ربما يكون في هذا البركة؛ فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة.

فينبغي للمسلم إذنْ: أن يلعق أصابعه بعد الفراغ من الطعام، ثم بعد ذلك لا بأس أن يمسحها بالمنديل ونحوه، أو يغسلها.

ولكن هنا هذا الأمر بلعق الأصابع، هل يحمل على الوجوب، أو على الاستحباب؟

على الاستحباب، ما الصارف له؟ أنه في الآداب، نحن سبق أن ذكرنا: أن الراجح في الأمر في الآداب أنه على الاستحباب، وأن النهي في الآداب على الكراهة، وإن كان هناك من العلماء من قال: بأن الأمر في الآداب على الوجوب، وهم الظاهرية، ولذلك؛ الشيخ الألباني رحمه الله يوجب لعق الأصابع بعد الفراغ من الطعام؛ لأنه يأخذ بهذه القاعدة، ولكن الصحيح هو ما عليه جماهير أهل العلم: أن الأمر في الآداب على الاستحباب، أن كونه في الآداب هو الصارف له من الوجوب إلى الاستحباب، كما أن النهي في الآداب على الكراهة، والصارف له من التحريم إلى الكراهة كونه في الآداب.

لا، السنة الأكل باليد اليمنى، لذلك اللعق خاص باليد اليمنى.

الذي يظهر أن هذا خاص باليمين.

قال: “وعند النوم أشد استحبابًا، فقد ورد التحذير منه لأجل الهوامِّ”.

حكم غسل اليدين من الطعام عند النوم

يعني: أنه يتأكد استحباب غسل اليدين بعد الفراغ من الطعام عند النوم، وعلّل المؤلف بذلك، أو وجَّه لذلك، قال: إنه قد ورد التحذير منه، يقصد حديث أبي هريرة  أن النبي قال: من نام وفي يده غَمَرٌ ولم يغسله فأصابه شيءٌ؛ فلا يلومن إلا نفسه [5].

يعني: من نام وفي يده شيءٌ، يعني: بقايا أكلٍ، ولم يغسله، فأصابه شيءٌ، يعني من الهوامِّ ونحوها، فلا يلومن إلا نفسه. أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: إنه حسنٌ غريبٌ، يعني: الترمذي ضعفه، ومن أهل العلم من قال: إنه بمجموع الطرق يكون حسنًا.

فإذنْ عند النوم يكون غسل اليد بعد الفراغ من الطعام أشد استحبابًا.

حكم أكل البصل والثُّوم والكُرَّاث لمن تلزمه الجماعة

قال: “ويكره لمن أراد المساجد للصلاة والاعتكاف أن يتعرض لأكل الخبائث من البقول؛ كالبصل والثُّوم والكُرَّاث؛ فقد نهى النبي عن قربان المسجد معه”.

يكره لمن تَلزمه الجماعة، وأتى للمسجد لحضور صلاة الجماعة، وهكذا أيضًا الاعتكاف، أن يأكل الخبائث، يعني: الشيء المستكره رائحته من البقوليات، ومثَّل لها المؤلف بقوله: “كالبصل والثُّوم والكراث”، وذلك؛ لما فيها من الرائحة الكريهة؛ فقد قال النبي : من أكل ثُومًا أو بصلًا فليعتزلنا -أو- ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته [6]. متفقٌ عليه.

وفي روايةٍ عند مسلمٍ: من أكل البصل والثُّوم والكراث فلا يقربنَّ مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم [7].

فهنا نهَى النبي مَن أكَل البصل أو الثوم أو الكراث؛ عن أن يأتي المسجد، وعلَّل ذلك بعلتين: أذية الملائكة، وأذية بني آدم.

ولكن قد يقال: إن الملائكة أيضًا تتأذى حتى لو صلى في البيت، فعلى هذا يحمل على أن المقصود بهم نوعٌ من الملائكة، وهم الملائكة الذين في المسجد، وإلا الملائكة الكرام الكاتبون، يلازمون الإنسان حتى لو صلى في بيته، ولكن هذا الحكم محمولٌ على الكراهة، وهذا الذي عليه جماهير أهل العلم، وعليه المذاهب الأربعة، الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.

وذهبت الظاهرية إلى أنه محمولٌ على التحريم.

والقول الراجح: أنه محمولٌ على الكراهة، ولهذا؛ لمَّا قال النبي ذلك قال الناس: حُرِّمت، حُرِّمت. يعني: حُرِّم أكل البصل والثوم، فقال النبي : إنه ليس لي أن أحرم ما أحله الله [8]. هذا في “صحيح مسلم”، هذا فيه إشارةٌ إلى أن النهي هنا لا يقتضي التحريم، لكنه مكروهٌ كراهةً شديدةً.

وفي الوقت الحاضر تُوجد بعض المطهِّرات التي تزيل الرائحة الكريهة للبصل والثوم، تباع في الصيدليات، في الصيدليات يُوجد مزيلٌ الروائح الكريهة، فإذا كان أكل الإنسان بصلًا أو ثومًا فليستخدم هذه المزيلات، ولكن إذا لم يتيسر له أن يستخدم مزيل الرائحة الكريهة، فإنه إذا أكل البصل أو الثوم أو الكراث لِعِلَّةٍ؛ كالتداوي ونحوه، فيكون هذا عذرًا له في ترك الصلاة مع الجماعة، فيصلي في بيته.

أما إذا أكَلَها ليس لأجل التداوي؛ وإنما شهوةً وتلذذًا وطلبًا لمنافعها؛ فإن كان تَحَيُّلًا على إسقاط صلاة الجماعة حرم ذلك، وأما إن لم يكن تَحَيُّلًا كان ذلك بصفةٍ عارضةٍ، فالذي يظهر أنه في هذه الحال يسقط عنه وجوب صلاة الجماعة، بشرط ألا يَتخِذ ذلك حيلةً لإسقاط الصلاة مع الجماعة.

واستَدَل بهذه الأحاديث بعض العلماء على عدم وجوب صلاة الجماعة، ولكن هذا الاستدلال محل نظرٍ؛ لأن هذا لا يدل على عدم الوجوب، وإنما يدل على أن من أكلها، فإنه لا يصلي مع الجماعة، ما لم يتخذ ذلك حيلةً للتخلف عن الجماعة، فإن ذلك يحرم في حقه.

ويقاس على البصل والثوم والكراث: كل ما له رائحةٌ كريهةٌ؛ ومن ذلك: شرب الدخان، وكل ما يؤذي المصلين، فليس للإنسان أن يأتي للمسجد وفيه روائح كريهةٌ تؤذي المصلين وتؤذي الملائكة.

فإن قال قائل: إنَّ أمر النبي مَن أكَل البصل والثوم باعتزال المسجد يدل على أن هذا من الأعذار التي تبيح التخلف عن الجماعة، قال الخطابي: إنما أمَره باعتزال المسجد عقوبةً له، وليس هذا من باب الأعذار التي تبيح التخلف عن الجماعة؛ كالمطر والريح العاصف ونحو ذلك من الأمور، وإنما أمره بذلك عقوبة له، لكن مع ذلك -كما ذكرنا- يعتبر عذرًا إذا استخدم البصل والثوم للتداوي ونحوه، وأما إذا لم يكن للتداوي ونحوه؛ فإن كان ذلك حيلةً حرم، وان كان من غير حيلةٍ فإنه مكروهٌ كراهةً شديدةً، هذا الذي يظهر.

حكم إجابة وليمة العرس

قال: “وتستحب الإجابة إلى وليمة العرس”.

إجابة الوليمة عمومًا مستحبةٌ، ولكن وليمة العرس اختلف العلماء في حكم إجابتها على قولين:

  • القول الأول: أنها مستحبةٌ، وليست بواجبةٍ، وقد ذكر المَرْدَاويُّ في “الإنصاف” أن هذا هو اختيار أبي العباس ابن تيمية رحمه الله.
  • والقول الثاني: أنها واجبةٌ، وإليه ذهب الجمهور، وهو مذهب الحنابلة، بل إن ابن عبدالبر حكَى الاتفاق على ذلك، قال: لا أعلم خلافًا في وجوب إتيان الوليمة لمن دُعي إليها، إذا لم يكن فيها منكرٌ، كما في “التمهيد”.

وحكاية الاتفاق محل نظرٌ؛ فالخلاف فيها قائمٌ.

ومن قال بالوجوب استدل بقول النبي : إذا دُعيَ أحدكم إلى الوليمة فليأتها [9]. وبحديث أبي هريرة أن النبي قال: شرُّ الطعام طعام الوليمة، يُمنعها من يأتيها، ويُدعى إليها من يأباها، ومن لم يُجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله [10].

ولكن هذا الحديث لا يثبت مرفوعًا: من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله، فقوله: من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله. لا يثبت مرفوعًا إلى النبي ؛ وإنما هو موقوفٌ على أبي هريرة ، ولذلك؛ أخرجه البخاري في “صحيحه” موقوفًا على أبي هريرة ، هذا هو المحفوظ، من رواية الحديث، أن قوله: من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله. ليس من كلام النبي ؛ وإنما من كلام أبي هريرة .

وبناء على ذلك: إذا تأملنا الأحاديث التي يُستدل بها، ليس فيها دلالةٌ ظاهرةٌ على الوجوب، فإن قوله: إذا دُعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها. لم يخصِّص وليمة العرس، والمستدلون بهذا الحديث يخصصون الوجوب بوليمة العرس، وعلى ذلك: فالأمر في هذا الحديث محمولٌ على الاستحباب؛ لأنه في الآداب، فمحمولٌ على الاستحباب.

وأصرح ما ورد في ذلك: من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله، ولكن هذا من قول أبي هريرة  وليس من كلام النبي ، وإنما فهمه أبو هريرة من الحديث السابق، فهْمٌ فهِمَه أبو هريرة  من الحديث السابق.

وعلى ذلك: فالقول الراجح: هو القول الذي قرره المؤلف: وهو أن إجابة وليمة العرس مستحبةٌ كغيرها من الولائم؛ لأنه ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على الوجوب.

والقول بالوجوب يقتضي تأثيم من دُعي لوليمة عرسٍ ولم يحضر، هذا يحتاج إلى دليلٍ ظاهرٍ، وليس في المسألة دليلٌ، وعلى ذلك: فالقول الراجح: هو القول باستحباب إجابة وليمة العرس، وأنها كغيرها من الولائم.

«ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله» لا، هو قد جاء في الحديث السابق، حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق: إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها. وساقه مسلمٌ بروايةٍ أخرى: إذا دعا أحدكم أخاه فليُجِب، عرسًا كان أو نحوه، هذه رواية مسلمٍ، ولكن المحفوظ هو الرواية التي اتفق عليها البخاري ومسلم باللفظ السابق: إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها.

ثم إن مسلمًا ساقه بروايةٍ أخرى: إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسًا كان أو نحوه.

فمن خلال تتبع الروايات ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على وجوب إجابة وليمة العرس، وعلى هذا: فالقول الراجح: أن إجابة وليمة العرس مستحبةٌ كغيرها من الولائم.

حكم إجابة وليمة الختان

قال: “وليس عليه أن يستجيب إلى وليمة الختان؛ فإنها محدثة”.

يعني: ليس عليه يعني: لا يستحب أن يحضر وليمة الختان، وليمة الختان موجودةٌ قديمًا، ولم يكن الصحابة يفعلونها، لكنها موجودةٌ في بعض المجتمعات، ولا تزال إلى الآن موجودةً في بعض البلدان إذا خُتن الطفل وضعوا وليمةً، فهنا يقول: إن حضور وليمة الختان ليس مستحبًّا.

وهذه قد اختلف فيها الفقهاء:

  • فمنهم من قال: إن حضور وليمة الختان مستحبةٌ، وهو مذهب الحنفية.
  • ومنهم من قال: إن حضور وليمة الختان مباحٌ، وهو مذهب المالكية والحنابلة.
  • ومنهم من قال: إن حضور وليمة الختان مكروهٌ، وهو مذهب المالكية.

وعلى هذا يحمل كلام ابن عقيلٍ على القول الثالث؛ لأنه قال: إنها محدثةٌ.

والذي يظهر أن حضور وليمة الختان مباحٌ، وأنها كسائر الولائم، ولهذا؛ قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: دعوة الختان لم تكن الصحابة تفعلها، وهي مباحةٌ، ثم من العلماء من كرهها، ومنهم من رخَّص فيها، بل يستحبها.

فإذا أقيمت وليمةٌ بمناسبة الختان، فالذي يظهر أن هذا مباحٌ، ولا يقال: إنه محدثٌ أو بدعةٌ؛ لأنه لا يقصد التعبد لله ​​​​​​​ بذلك، والأصل في العادات الحل والإباحة، إلا ما ورد الدليل بمنعه وحظره.

هل يلزم الأكل لمن حضر وليمة العرس؟

قال: وإذا حضر وليمة العرس لم يكن عليه الأكل، بل إن أكل وإلا دعا وانصرف، يعني: إذا حضر وليمة العرس، أو غير العرس، فليس بلازمٍ أن يأكل، فيمكن أن يأتي ويدعو للحاضرين، أو يدعو للمتزوج ولأهل الزوجة ولأهلها، يدعو لهم بالبركة وبالخير؛ لحديث جابرٍ قال: قال رسول الله : إذا دُعي أحدكم إلى طعامه فليجب، فإن شاء طعم، وإن شاء ترك [11]. رواه مسلم.

فهذا يدل على أن القدر المستحب هو حضور الدعوة، أما الأكل فالأمر راجعٌ إليه.

لكن إن كان لن يأكل، فليدع لهم؛ لقوله : إن كان مفطرًا فليَطعَم، وإن كان صائمًا فليَدْعُ [12].

ولذلك ينبغي أن يدعو لهم، وبكل حالٍ فالدعاء للداعي للوليمة وغيرها سنةٌ، كان النبي إذا أجاب دعوةً دعا للداعي؛ كما في حديث: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم [13].

فالسنة إذنْ: أن الإنسان إذا حضر وليمةً أو دعوةً أنه يدعو لأهل البيت وللداعي.

بعض شروط إجابة وليمة العرس

قال: “وإنما تستحب الإجابة إليها إذا لم يكن فيها لعبٌ ولا منكرٌ ولا لهوٌ، فإن كان فيها محرَّمٌ حرُمت الإجابة، وإن كان فيها مكروهٌ كرهت الإجابة”.

أشار المؤلف إلى بعض شروط إجابة وليمة العرس، وهذه الشروط يذكرها القائلون بالوجوب، وهنا أشار إليها المؤلف في مقام الاستحباب؛ لأنه رجح القول بالاستحباب، فذكر أن من أبرز الشروط لذلك: ألا يكون في الوليمة المدعوِّ إليها منكرٌ، فإن كان فيها منكرٌ، فيجب عليه أن ينكر هذا المنكر بيده، إن كان له قدرةٌ بأن يكون مثلًا مسؤولًا عن ذلك، كأن يكون مثلًا من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو يكون أبًا لهذا الداعي، أو نحو ذلك، فإن لم يستطع بيده فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه.

لكن إذا لم يستطع تغيير المنكر باللسان، فإنه يحرم بقاؤه معهم؛ لقول الله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء: 140].

فينكر عليهم، فإن قبلوا وغيَّروا هذا المنكر، وإلا قام وترك هذا المجلس، وإلا كان شريكًا معهم في الإثم.

وعلى ذلك نقول: إن هذا أكثر ما يُحتاج لمثل هذه المسألة في أعراس النساء، يكون فيها منكراتٌ كثيرةٌ، يكون فيها معازف وموسيقى وآلات طَرَبٍ، فهذه لا تجوز، فمن تَحضُر تُنكر، فإن سُمع إليها، وإلا تسلم على الداعين لها، ثم تنصرف، ولا تبقى معهم، مع وجود هذا المنكر؛ لقول الله تعالى: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ.

ولكن ينبغي الحضور والإنكار؛ لأنه يوجد من الناس من إذا علم بالمنكر فغاية ما يفعل المقاطعة، المقاطعة ليست حلًّا، إنما المطلوب الحضور والإنكار، فإن لم يتقبلوا انصرف، وترك هذا المجلس؛ لأن ترك مثل هذه الأماكن بدون إنكارٍ مما يزيد المنكر، ومما يجعله يستمر، وإذا استمر استمرأه الناس، وأصبح المُنكِر يُنكَر عليه، وهذه من خطورة ترك المنكر وعدم إنكاره؛ تألفه النفوس، ويستأنس به الناس، ويُستنكَر إنكار المنكر، ولذلك؛ فمثل هذه الأماكن ينبغي حضورها والإنكار على من فعل ذلك المنكر، فإن قبل فالحمد لله، وإن لم يقبل غادر هذا المكان، ولم يجلس معهم.

حكم الطبول

نعم، الطبول محرمةٌ، الأصل في الطبل والدف ونحوها أنها من مزامير الشيطان، ولهذا؛ في قصة الجاريتين اللتين تضربان بالدف، قال أبو بكرٍ : أمزمور الشيطان في بيت رسول الله ؟! فقال النبي : دعهما؛ فإن لكل أمةٍ عيدًا، وهذا عيدنا أهل الإسلام [14]. فأقر أبا بكرٍ على فهمه أن الدف من مزامير الشيطان، ولم يقل له: إن الدف ليس من مزامير الشيطان، لكنه ذكر أن هذا الوقت مستثنًى، وأنه يجوز فيه ضرب الدف، هذا يدل على أن الأصل في الدف أنه لا يجوز استخدامه؛ لأنه من مزامير الشيطان، إلا في الحالات التي استثناها الشارع، وأما الطبل فهو أيضًا من مزامير الشيطان، ولم يرد فيه استثناء، بل جاء عند أبي داود: أن النبي قال: إن الله حرم الخمر والميسر والكَوْبَة [15]. والكَوْبَة: هي الطبل.

والفرق بين الطبل والدف: أن الدف من جهةٍ واحدةٍ، والطبل من جهتين، وهو أشد وقعًا إذا كان من الجهتين، فإنه يكون أشد وقعًا وإيقاعًا، فالطبل محرم مطلقًا، وأما الدف فيجوز في حالات منها حالات العرس للنساء، وكذلك أيضًا في يوم العيد، أيام العيد يجوز كذلك ضرب الدف.

وألحَقَ بعض أهل العلم بذلك قدوم الغائب، وعند الحرب، لكن لما كان الحرب قديمًا يعني بالآلات البسيطة، أما الآن فلا يحتاج الطبول في الحروب.

استخدام الرجال للدف في الأعراس محل خلافٍ، خلافٌ قويٌّ بين أهل العلم؛ هل يقال: إنه ما دام قد ورد فيه الرخصة للنساء كذلك يرخص فيه للرجال؛ لأن فيه إعلانًا للنكاح. أو يقال: إن هذا ليس من شأن الرجال، وإن هذا من شأن النساء، ولهذا؛ لم يكن يضرب بالدف من قِبَل الرجال في عهد النبي ، المسألة فيها قولان، ولم يتحرَّر لي القول الراجح منهما.

حكم حضور الوليمة من غير دعوةٍ

قال: “ويكره لأهل المروءات والفضائل التسرع إلى إجابة الطعام والتسامح بحضور الولائم غير الشرعية؛ فإنه يورث دناءةً وإسقاط الهيبة من صدور الناس”.

التسرع لإجابة الطعام، أولًا حضور الوليمة من غير دعوةٍ، هذا من خوارم المروءة، حضور الوليمة من غير دعوةٍ هذا يعده الفقهاء من خوارم المروءة، والذي يحضر الوليمة بلا دعوةٍ يسمونه ماذا؟ طفيليًّا، يسمونه الطفيلي، وقد نص الفقهاء في كتبهم على أن شهادة الطفيلي لا تقبل؛ لأن فعله هذا مخالفٌ للمروءة، وإن كان يأكل بإذنهم، لكن حضوره بلا دعوة نوعٌ من التطفل، فهو من خوارم المروءة، ولذلك؛ ينبغي للإنسان ألا يحضر وليمةً إلا وقد دُعي إليها، ولا يحضر إلى مناسبةٍ إلا وقد دعي إليها، ولكن إذا دعي، هنا يقول المؤلف: يكره التسرع إلى إجابة الطعام من أهل المروءات والفضائل. إن كان مراد المؤلف الولائم غير الشرعية، فإن هذا صحيحٌ، بل إنه إذا كان في تلك الولائم منكرٌ ولم يستطع إنكاره، فيحرم حضور تلك الولائم، وأما إن كان مراد المؤلف التسرع في إجابة الدعوة، فإن هذا ليس بمكروهٍ؛ إنما هو فعل النبي ، كان -عليه الصلاة والسلام- يجيب دعوة من دعاه، ويقول: لو دعيت إلى ذراعٍ أو كُرَاعٍ لأجبت [16]. كما في “صحيح البخاري”؛ ولأن هذا أقرب للتواضع، ومطلوبٌ لأهل الفضائل وأهل المروءات، أن يكونوا قدوةً لغيرهم في التواضع، وفي إجابة دعوة من دعاهم، وفي إجابة جميع الدعوات.

أما قول المؤلف: “إنه يكره”. فهذا لا دليل عليه، بل إنه خلاف هدي النبي ، إلا أن يكون مراد المؤلف يعني الولائم التي فيها أمورٌ مكروهةٌ فصحيحٌ، أو الولائم التي يكون فيها أمورٌ محرمةٌ، فعلى ما سبق، أنه ينبغي الحضور والإنكار، وعدم الجلوس إذا لم يغير المنكر، لكن ظاهر عبارة المؤلف: أن أهل المروءات والفضائل لا يجيبوا كل دعوة، ولهذا؛ علَّل هذا قال: إنه يورث إسقاط الهيبة من صدور الناس. ولكن هذا محل نظرٍ، وهدي النبي هو أكمل الهدي، وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يحضر ويجيب دعوة من دعاه، وكما ذكرنا في الحديث السابق: لو دعيت إلى ذراعٍ، أو كُرَاعٍ لأجبت [17].

ولكن قوله: “غير الشرعية”. ربما يحتمل أيضًا المعنى الآخر: أن مراده أنه يكره أن يحضروا ما فيه مكروهٌ.

وبكل حالٍ عبارة المؤلف هنا فيها نوعٌ من الاضطراب؛ لأنه قال: “غير الشرعية”، ثم قال: “لأن في هذا إسقاط الهيبة من صدور الناس”، ففيها قلقٌ العبارة، وعلى ذلك نحن نقول: إن السُّنة إجابة دعوة من دعاك، والاعتذار إذا كان لديك عذرٌ، أن تعتذر منه وتَجبُر خاطره، أما القول: بأن في ذلك إسقاط الهيبة من صدور الناس، فهذا محل نظرٍ، وهذا خلاف هدي النبي .

حكم عيادة المريض وحضور جنازة المسلم

قال: “ويستحب للمسلم عيادة أخيه المسلم”.

عيادة المريض مستحبةٌ استحبابًا مؤكدًا؛ لقول النبي : حق المسلم على المسلم خمس... وذكر منها: عيادة المريض [18]؛ ولقول الله تعالى في الحديث القدسي: يا ابن آدم، مرضتُ فلم تَعُدْني. فيقول: يا ربِّ، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تَعُده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدت ذلك عندي؟ [19]. رواه مسلم.

قال: “وحضور جنازته إذا مات” أي: أنه يستحب حضور جنازته.

والقول الثاني في المسألة: أن حضور جنازته فرض كفايةٍ، وهذا هو القول الراجح، أنه فرض كفايةٍ، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، ويدل لذلك: قول النبي : حق المسلم على المسلم ستٌّ. ومنها: إذا مات فاتبعه [20].

قال: “وتعزية أهله”. يستحب تعزية أهل أخيك المسلم إذا مات، التعزية مستحبةٌ استحبابًا مؤكدًا، وأفضل صيغ التعزية هي ما جاء في حديث أسامة قال: أرسلَت بنت النبي إليه أن ابنًا لها قُبِض، فأرسل إليها يقرئها السلام، ويقول: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مسمًّى، فلتصبر ولتحتسب [21]. متفقٌ عليه، فهذه أفضل صيغةٍ تقال في التعزية: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مسمًّى، فاصبر واحتسب. هذا أفضل ما يقال، ولو قال: أحسن الله عزاءك، وجبر مصابك، وغفر لميتك، كل ذلك حسنٌ.

قال: “ولا بأس بعيادة الذمي”.

حكم عيادة الذمي

لما تكلم عن عيادة المسلم انتقل الكلام إلى عيادة الذمي، والذمي: من الذِّمَّة وهي العهد والأمان، وهو الذمي الكافر الذي يعيش في بلاد المسلمين، ويُقَرُّ على دينه نظيرَ بذل الجزية، يعني: بعبارةٍ معاصِرةٍ هو: المواطن غير المسلم، الذي يُقَرُّ على دينه، ويعطي (يبذل) الجزية.

والكفار على أربعة أقسام:

  • القسم الأول: الكافر الحربي، وهو الذي بينه وبين المسلمين حربٌ معلنةٌ، وليس بينه وبينهم عهودٌ ولا مواثيق، فهذا الكافر دمه هدَرٌ، وماله هدرٌ.
  • القسم الثاني: الكافر المُستأمِن، وهو الحربي إذا أعطي الأمان، وهذا دمه معصومٌ، وماله معصومٌ.
  • القسم الثالث: الكافر الذمي، وهو الذي تكلمنا عنه قبل قليلٍ، وهو الكافر الذي يعيش في بلاد المسلمين، ويُقَرُّ على دينه نظيرَ بذل الجزية، على خلافٍ بين العلماء، هل هو خاصٌّ بأهل الكتاب، أو يشمل جميع الكفار.
  • القسم الرابع: الكافر المعاهد، وهو الذي بينه وبين المسلمين عهدٌ في أية صورةٍ من صور العهد، وهذا أيضًا دمه معصومٌ، وماله معصومٌ.

إذنْ: الحربي دمه هَدَرٌ، وماله هدرٌ، المستأمِن والذمي والمعاهد أموالهم معصومةٌ، ودماؤهم معصومةٌ، وقد ورد الوعيد الشديد في حق من تعرَّض لهم؛ كما في قول النبي : من قَتَل معاهدًا بغير حقٍّ لم يَرِح رائحة الجنة [22]. رواه البخاري.

فإذنْ: ثلاثة أقسامٍ دماؤهم معصومةٌ، وأموالهم معصومةٌ، وهم المستأمن والذمي والمعاهد، وإنما الذي دمه هدرٌ، وماله هدرٌ، هو الحربي الذي بينه وبين المسلمين حربٌ معلنةٌ، وليس بينه وبينهم عهودٌ، ولا مواثيق.

قال: “لا بأس بعيادة الذمي”. يعني: لا بأس بعيادة الذمي ومن كان في حكمه؛ كالمعاهد، وقال: فقد عاد النبيُّ يهوديًّا، وقال: كيف تجدك يا يهودي؟. وهذا الحديث الذي ذكره، لا يعرف بهذا اللفظ، لكن ابن القيم في أحكام أهل الذمة ذكر من طريق الأثرم بسنده عن أنسٍ  قال: كان رسول الله إذا عاد رجلًا على غير دين الإسلام لم يجلس عنده، وقال: كيف أنت يا يهودي، يا نصراني؟ [23].

ولا يعرف إسناده؛ لأن سنن الأثرم مفقودةٌ لا يعرف، يعني: إسناده مجهولٌ، لكن يغني عنه ما جاء في “صحيح البخاري” عن أنسٍ أن غلامًا يهوديًّا كان يخدم النبي فمرض، فأتاه النبي يعوده، فقال: أسلِم. فنظر إلى أبيه، فقال: أطع أبا القاسم. فأسلم، فخرج النبي من عنده وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار [24]. وهذا رواه البخاري، وترجم عليه قوله: باب عيادة المشرك. فتجوز عيادة الكافر إذا كان ذميًّا أو معاهدًا أو مستأمِنًا، لا بأس بعيادته، وينبغي عرض الإسلام عليه، كما فعل النبي  مع هذا الغلام اليهودي.

هذه أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بشرح هذا المتن، ونقف عند قوله: “والغِيبة حرامٌ”.

ونكتفي بهذا القدر في فصول الآداب ومكارم الأخلاق المشروعة.

فنسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعًا للصواب والهداية وللخير والفلاح.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 5457.
^2 رواه البخاري: 5456، ومسلم: 2031.
^3 رواه مسلم: 2032.
^4 رواه مسلم: 2033.
^5 رواه أبو داود: 3852، والترمذي: 1860، وابن ماجه: 3297.
^6 رواه البخاري: 855، ومسلم: 564.
^7 رواه مسلم: 564.
^8 رواه مسلم: 565.
^9 رواه البخاري: 5173، ومسلم: 1429.
^10 رواه البخاري: 5177، ومسلم: 1432.
^11 رواه مسلم: 1430.
^12 رواه أبو داود: 3737.
^13 رواه مسلم: 2042.
^14 رواه البخاري: 949، ومسلم: 892 بنحوه.
^15 رواه أبو داود: 3685، وأحمد: 2625.
^16 رواه البخاري: 2568.
^17 سبق تخريجه.
^18 رواه البخاري: 1240، ومسلم: 2162.
^19 رواه مسلم: 2569.
^20 رواه مسلم: 2162.
^21 رواه البخاري: 1284، ومسلم: 923.
^22 رواه البخاري: 3166.
^23 أحكام أهل الذمة: 3/ 207.
^24 رواه البخاري: 1356.