|categories

(3) من قوله “ويكره الخيلاء والزهو في المشي..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

نبدأ أولًا بمتن “أصول الآداب ومكارم الأخلاق المشروعة”، ويوجد عددٌ من النسخ لمن لم يتيسر له الحصول على نسخةٍ من المتن، موجودٌ هنا عددٌ من النسخ.

حكم الخيلاء في المشي

قال المؤلف رحمه الله:

“فصلٌ: ويكره الخُيَلاء والزَّهْو في المشي، وإنما يمشي قصْدًا؛ فإن الخيلاء مِشيةٌ يبغضها الله تعالى، إلا بين الصَّفَين”.

الشرح:

“فصلٌ: ويكره الخيلاء والزهو في المشي، وإنما يمشي قصدًا، فإن الخيلاء مِشيةٌ يبغضها الله تعالى، إلا بين الصفَّين”.

الخيلاء هو الكبر والعُجب، والزهْو أثر من آثار الخيلاء، وهو التفاخر والتعاظم.

فالخيلاء إذنْ هو الكِبْر والعُجب.

الفرق بين الكبر والعجب

ولكن الفرق بين الكبر والعجب: أن العجب يتعاظم الإنسان في نفسه، من غير أن يحتقر غيره، وأما الكبر فلا تجد تفسيرًا له أحسن من تفسير النبي ، وقد فَسَّر الكبر وعرَّفه بأنه: بَطَرُ الحق، وغَمْط الناس [1]. بطر الحق يعني: رد الحق، وعدم قبوله، وغمط الناس يعني: احتقار الناس.

فإذا وَجد الإنسان فائدةً وحكمةً أو علمًا من أحدٍ ولم يقبله، ورده وهو يعرف بأنه حقٌّ، فهذا هو الكبر، هذه من صور الكبر، وهذا الذي يفعل ذلك تُمحَق بركة العلم من عنده؛ لأن الله تعالى قال: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف: 146]. فأخبر الله تعالى بأنه سوف يصرف المتكبرين عن آياته.

وأما غَمْط الناس: أي احتقار الناس وازدراؤهم، فهذا أيضًا من صور الكبر، فلا تجد تعريفًا للكبر أحسن من تعريف النبي .

والمتكبرون يحشرون يوم القيامة أمثالَ الذَّرِّ، يطؤهم الناس، جزاءً وفاقًا، ولكن تعبير المؤلف بالكراهية محل نظرٍ، إذا كان المقصود الكراهية بمعناها الاصطلاحي، فهذا محل نظرٍ، والصواب تحريم الخُيَلاء؛ لأن الخيلاء تجمع بين الكبر والعجب، إلا أن يكون مقصود المؤلف الكراهية بالمعنى الشرعي، فإن الكراهة بالمعنى الشرعي قد تطلق على التحريم.

معنى الكراهة في القرآن أو السنة

من يذكر لنا الدليل على أن الكراهة بالمعنى الشرعي في القرآن أو السنة؛ قد تطلق بمعنى التحريم، وليس الكراهة بالمعنى الاصطلاحي عند الفقهاء؟

نعم، أحسنت، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء: 38]، قال هذا بعدما ذكر الشرك بالله، وذكر الزنا، وذكر قتل النفس، وذكر أمورًا محرمةً، ثم قال: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا أي: محَرَّمًا تحريمًا عظيمًا، وأيضًا يقول النبي : إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال [2]. إضاعة المال من الأمور المحرمة.

فإذنْ: الكراهة في نصوص الشارع قد يراد بها التحريم، وليس الكراهة على المصطلح المعروف عند الفقهاء، وهو: ما أثيب تاركه ولم يعاقب فاعله.

فإذا كان المؤلف يقصد الكراهة بالمعنى الشرعي، كان كلامه مستقيمًا، وأما إذا كان يقصد الكراهة بمعناها الاصطلاحي -وهذا هو الأظهر من سياق عبارة المؤلف- فهذا محل نظرٍ، والصواب هو التحريم.

قال: “الزهو في المشي”. وهذا قد نهى الله تعالى عنه في قوله: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا يعني: متبخترًا زاهيًا، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء: 37].

وقال: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ [لقمان: 19]. فالزَّهْو في المشي من آثار الكبر، والمطلوب أن يمشي المسلم باعتدالٍ، مشيًا معتدلًا من غير أن يزهو بمشيه، وكان النبي إذا مشَى تَكَفَّأ تكفُّؤًا، كأنما ينحَطُّ من صَبَبٍ [3]. كما وَصَف الواصفون مِشية النبي ، يقولون: كأنما يتكفأ تكفؤًا، كأنما ينحط من صببٍ، يعني: ليس بالمسرع، وليس بالبطيء الذي يمشي بتماوتٍ، ولا بالمسرع إسراعًا شديدًا، وإنما يتكفأ تكفؤًا، كأنما ينحط من صببٍ، وهذا أحسن أنواع المشي.

وبكل حالٍ، المشي بجميع أنواعه لا تحريم فيه، ولا حظر فيه، إلا المشي على سبيل العُجب والزَّهْو والخُيَلاء، هذا هو الممنوع، وأما طبيعة بعض الناس أنه يمشي بطريقةٍ معينةٍ لا يعاب عليه، وإن كان الأحسن أن يمشي كما كان النبي يمشي، لكن بعض الناس تغلبه العادة أو الطبع، ونحو ذلك، فالأمر في هذا واسعٌ، إلا المشي الذي يكون على سبيل الزهو والعجب والخيلاء، وهو المقصود في قول الله تعالى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء: 37]. والله تعالى قال عن عباد الرحمن: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63]. هونًا يعني: بسكينةٍ ووقارٍ من غير إسراعٍ ولا تماوتٍ، وإنما بسكينةٍ ووقارٍ، كما هي مِشية النبي .

قال: “فإن الخُيَلاء مِشيةٌ يبغضها الله تعالى إلا بين الصفين”.

كما ذكرنا الاختيال الصواب أنه محرم، ومشية الخيلاء أنها محرمةٌ.

حكم الخيلاء حال الحرب

وأما قوله: “إلا بين الصَّفَّين”.

فمراده بذلك: إلا في حال الحرب، فإنه تجوز مشية الخُيلاء في حال الحرب، وذلك؛ لأن مِشية الخيلاء في حال الحرب فيها إظهار لعزة المسلم على الكافرين، والله تعالى وصف المؤمنين بأنهم أذلةٌ على المؤمنين، أعزةٌ على الكافرين، وقد جاء في ذلك حديث جابر بن عتيكٍ الأنصاري  وفيه: وأما الاختيال الذي يحب الله: اختيال الرجل بنفسه عند القتال، وعند الصدقة، والاختيال الذي يبغضه الله الخيلاء في الباطل [4]. وهذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد، ولكنه ضعيفٌ من جهة الإسناد، ولكن المعنى الذي ذكرنا أولًا يغني عنه، وهو أن الخيلاء في حال الحرب فيها يعني نوع إظهارٍ لعزة المسلم على الكفار، لكن هذا إنما يكون في حال الْتِحَام الصفوف.

خلق التغافل

“فصلٌ: ومن مكارم الأخلاق: التغافل عن ظهور مساوئ الناس، وما يبدو في غَفَلاتهم من كشف عورةٍ، أو خروج ريحٍ لها صوتٌ أو ريحٌ، ومن سمع ذلك فأظهر الطَّرَش أو النوم أو الغفلة؛ ليزيل خَجَل الفاعل كان ذلك من مكارم الأخلاق”.

الشرح:

ثم قال المؤلف رحمه الله: “فصلٌ: ومن مكارم الأخلاق: التغافل عن ظهور مساوئ الناس، وما يبدو في غَفَلاتهم”.

التغافل يعتبر من مكارم الأخلاق، ومن المروءة، وعدَّ أهل العلم التغافل من المروءة.

معنى التغافل

ومعنى التغافل أي: إظهار الغفلة، وعدم التدقيق، وإنما يظهر الإنسان الغفلة، وكأنه لم ينتبه لهذا الشيء، وهذا مطلوب في التعامل مع جميع الناس، مطلوب من الإنسان التغافل، وإلا إذا كان سيتعامل مع الناس بالمحاسبة والتدقيق عن كل شيءٍ، فإنه يكون بعيدًا عن مكارم الأخلاق، وربما لا يجد له صاحبًا.

إذَا أنْتَ لَمْ تَشْرَبْ مِرَاراً عَلَى القَذَى ظَمِئتَ وَأَيُّ النَّاسِ تَصْفُو مَشَارِبُهْ؟

ولهذا قال الماوردي في أدب الدنيا والدين: قال بعض الحكماء: وجدت أكثر أمور الدنيا لا تجوز إلا بالتغافل.

وكما يقول الشاعر:

لَيْسَ الغبيُّ بسيّدٍ في قَوْمِهِ لكنَّ سيِّدَ قَوْمِهِ المُتَغَابي

الغبي يعني: لا يكون سيدًا في قومه، السيادة تحتاج إلى ذكاءٍ وفطنةٍ، لكن أيضًا هذا الذكي والفطن لا بد أن يكون متغافلًا ليس غافلًا، وإنما متغافلٌ، يعني: يتسامح، ولا يُدقِّق في الأمور كثيرًا في التعامل، وقد يسمع الإنسان مثلًا كلمةً نابيةً، فيتغافل عنها، ويُعرض عنها ولا يُدقِّق فيها، ولا يُحقِّق، هذا أحسن في التعامل، قد يتصرف معه بعض الناس تصرفًا غير مناسبٍ، فيتغافل عنه، بهذه الطريقة تسمو أخلاقه.

ولهذا قيل للإمام أحمد: إن فلانًا يقول: العافية عشرة أجزاءٍ؛ تسعة منها في التغافل، قال: أخطأ، بل العافية عشرة أجزاء، كلها في التغافل. وقال الأعمش: التغافل يطفئ شرًّا كثيرًا.

مع من يكون التغافل؟

التغافل في التعامل مع جميع الناس، التغافل في التعامل مع الزوجة بالنسبة للزوج، ومع الأولاد، ومع الوالدين، ومع الأصحاب، ومع الجيران، ومع جميع الناس، فليجعل المسلم هذا مبدأً له في الحياة.

وهذا له أصلٌ في كتاب الله ​​​​​​​ في قول الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199]. هذه الآية من أصول الأخلاق، خُذِ الْعَفْوَ أي: خذ ما صفا وعفا لك من أخلاق الناس، وفي هذا المعنى يقول النبي : لا يَفْرَكْ يعني: لا يبغض مؤمنٌ ومؤمنةً؛ أن كره منها خُلقًا، رضي منها خُلقًا آخر [5]. رواه مسلمٌ، أي: أن الإنسان عندما يتعامل مع آخر يركز على النواحي الإيجابية، والجوانب المشرقة، ويتغافل عن النواحي السلبية، فيأخذ ما عفا وصفا له من أخلاق الناس، فإنه إذا فعل ذلك سيرتاح كثيرًا، وسيكون حسَن الخلق، ومحبوبًا عند الناس.

وعلى ذلك فعند التعامل مثلًا مع الآخرين، مثلًا الزوج مع زوجته، أو الولد مع والديه، أو الوالد مع أولاده، أو الإنسان مع أصحابه، إذا وضع معايير صارمةً في التعامل معهم، وأن من أخل بهذه المعايير عاتبه، وربما هجره، فإن هذا عن حسن الخلق بمَعْزِلٍ، وإنما يتسامح، ما وُجد من هذا الشخص من كريم خلقٍ، ومن حسن تعاملٍ يُقبَل، وما لم يوجد يُتَغاضى عنه، فهذه قاعدةٌ عظيمةٌ في باب الأخلاق، تجد بعض الوالدين دائمًا يتشكَّى من أولاده، وأنهم لا يبرونه، وأنهم كذا وكذا، بينما تجد والدين آخرين يَتشَكَّران من أولادهما، مع أنه ربما التعامل هو نفس التعامل، وربما يكون التعامل مع الثاني أسوأ، لكن هؤلاء ينظرون بمنظار الشكر لما يحصل من الأولاد، والتغاضي عما لم يحصل منهم.

وهكذا أيضًا بالنسبة للتعامل مع الزوجة، والتعامل مع الأصحاب، والتعامل مع الجيران، خذ ما سمَحَت به طباع الناس، وهذا معنى قوله: خُذِ الْعَفْوَ خذ ما عفا لك وصفا لك، وسمحت به طباع الناس، ولا تطلب منهم أكثر من ذلك، اقنَع بهذا، لا تطلب منهم أكثر من ذلك، وارض به، فإنك بهذا ترتاح كثيرًا، وهذا هو الذي يحقق حسن الخلق، وأما إذا وضع الإنسان معايير صارمةً للتعامل معه، فسيجد أن أكثر الناس لا يطبقونها، لن يطبقوا هذه المعايير، ويبقى في تسخُّطٍ، وفي نَكَدٍ، وفي قلقٍ، ويتشكى من كل الناس، تجد أنه يتشكى من زوجته، ويتشكى من أولاده، ويتشكى من جيرانه، ويتشكى من الناس جميعًا، والمشكلة لديه هو، وليست من الناس، هذه يعني قضايا أمورٍ مهمةٍ ينبغي العناية بها.

فإذنْ خُلُق التغافل من الأخلاق العظيمة، التي ينبغي أن يدرِّب الإنسان نفسه عليها، فيحرص على أن يتغافل في تعامله مع الآخرين، لا يُدَقق، لا يُحَقق في التعامل مع الآخرين، وإنما يتغافل ويُعرض، يعني مثلًا: زميلٌ لك، قال كلمةً غير لائقةٍ غير مناسبةٍ، تغافل عنها، كأنه ما قال شيئًا.

وذُكر أن الإمام أحمد رحمه الله زار رجلًا من الحنفية، والحنفية لهم آراء في النبيذ، لا يراها جمهور العلماء، يرون فيها التحريم، والحنفية لهم آراء في النبيذ، وأنه إذا لم يكن من عصير عنبٍ، ولم يكن يُسكِر، فإنه يجوز، وهذا قولٌ مرجوحٌ، لكن الإمام أحمد لما أتى يزور هذا الرجل، الخادم -خادم هذا الرجل- أخذ النبيذ، ويريد أن يخفيه عن الإمام أحمد، فقال هذا الرجل: دعه. فأتى الإمام أحمد، وجعل هذا النبيذ خلف ظهره، وعاد هذا الرجل، ثم خرج، فقيل له: أما ترى فلانًا يشرب النبيذ؟! قال: لم أر شيئًا، وأعرض عن كلام من تكلم، فقيل لهذا الرجل، فقال: والله لا أشرب هذا النبيذ مرةً أخرى، وإنما طلبت إظهاره؛ إذ كيف أستحي من الإمام أحمد، ولا أستحي من الله ​​​​​​​؟!

الشاهد: أن الإمام أحمد تغافَل، ولم يُدَقق في هذه المسألة كثيرًا؛ لأنه يعرف أن هذا الرجل مجتهدٌ اجتهادًا خاطئًا.

فهذا إنما نقصد في التعامل، وليس معنى ذلك التغافل في إنكار المنكر، إنكار المنكر مطلوبٌ؛ من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه… [6]. لكن الكلام في التعامل يعني: إنسانٌ أساء إليك في التعامل، قال كلمةً نابيةً، تَصرَّف تصرفًا غير مناسبٍ، ينبغي أن تستعمل خلق التغافل، وألا تُدَقق وتُحقق معه كثيرًا، خاصةً إذا لم يكن هذا خُلقًا دائمًا له، وإنما حصل منه زلةً، فلا تقف مع هذه الزلة، وكأنها لم تَبدُر منه، ولم تحصُل منه.

ولهذا نجد كلمات الحكماء مُطْبِقةً على هذا، على مدح التغافل، واعتباره من المروءة، واعتباره من أسباب السلامة والعافية، فتجد كتب الأدب كلها تثني على هذا الخلق الرفيع، وهو خُلق التغافل.

التغافل عما يبدو في غفلات الناس

أيضًا ذكر المؤلف التغافل عن أمرٍ آخر، وهو ما يبدو في غَفَلاتهم من كشف عورةٍ، أو خروج ريحٍ لها صوتٌ أو ريحٌ.

يعني: أحيانًا في مجالس الناس ربما تنكشف العورة، وخاصةً قديمًا كان كثيرٌ من الناس يلبسون ثوبًا واحدًا، كما قال جابرٌ : “أيُّنا له ثوبان على عهد النبي ؟”، وتجد هذا أيضًا عندما تكون مُحْرِمًا، فربما تبدو العورة، فإذا بدت العورة، فينبغي للإنسان أن يتغافل كأنه ما رأى شيئًا، حتى لا يُحرِج من أمامه، أو خرج ريحٌ لها صوتٌ مثلًا، فمثلًا بعض الناس قد يخرج منه ريحٌ لها صوتٌ، فمثل هذا ينبغي أن يتغافل عنه، كأن الإنسان ما سمع شيئًا.

والأحسن في مكارم الأخلاق، قال: “ومن سمع ذلك فأظهر الطَّرَش أو النوم أو الغفلة؛ ليزيل خجل الفاعل، كان ذلك من مكارم الأخلاق”.

الأحسن: أن يتصرف تصرفًا كأنه منشغلٌ بأمرٍ آخر، كأنه نائمٌ، أو أنه منشغلٌ بأمرٍ آخر.

معنى “أظهر الطرش”

قال: “أظهر الطرش”. الطرش يعني: الصَّمَم، كأنه ما سمع شيئًا، أو النوم، أو كأنه نائم، أو الغفلة أو الانشغال بشيءٍ آخر، فمثلًا إذا كان معه هاتفٌ جوالٌ كأنه منشغلٌ به، ونحو ذلك، هذا أبلغ في مكارم الأخلاق؛ حتى لا يقع الحرج لهذا الذي قد خرج منه هذا الصوت.

وهذه لطائف تُذكر في باب مكارم الأخلاق، فينبغي للمسلم أن يراعيها، وأن يحرص دومًا على حسن الخُلق؛ فإن حسن الخُلق درجةٌ رفيعةٌ، بل قال النبي : أثقل ما يكون في ميزان العبد يوم القيامة، تقوى الله وحسن الخلق [7].

وحسن الخلق يُحَبب الإنسان للناس، وإذا أحب الناس الإنسان قبلوا دعوته وتقبلوا منه، حتى في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونجد أن دُوَلًا لم يدخلها المسلمون بالسيف، من دول جنوب شرق آسيا مثلًا، وإنما دخلها التجار المسلمون، وتعاملوا مع الناس بحسن خُلقٍ، فأحبهم الناس، وأحبوا دينهم، فاعتنقوا دين الإسلام، وانتشر الإسلام في تلك البلدان، بسبب حسن الخُلق.

فينبغي للمسلم أن يحرص على حسن الخُلق خاصةً طالب العلم، وأن يكون حسن الأخلاق، كريم التعامل مع الناس.

ومن أبرز قواعد حسن الخلق هذا الذي ذكرنا: التغافل.

وأما أن يكون الإنسان مُدققًا محققًا في كل كلمةٍ تُقال، وفي كل تصرفٍ يقال، فسيبقى في مشاكل مع الناس، وفي خصوماتٍ، ولن يصفو له أحدٌ، ولن يبقى له صديقٌ، وسيتخاصم مع زوجته، مع إخوانه، حتى مع والديه، مع جيرانه، ولن يبقى له أحدٌ؛ لأن الخطأ وارد من الجميع، وربما أن بعض الناس يتصرف تصرفًا يظنه تصرفًا مناسبًا، وأنت لا تراه كذلك، فينبغي إذنْ استعمال التغافل والتغاضي عن الهفوات، وعدم التدقيق والتحقيق في هذه القضايا، وكأن هذا المتكلم لم يقل شيئًا، وكأنه لم يتصرف مثل هذا التصرف، وبذلك تدوم المحبة والمودة والألفة بينك وبين الآخرين.

وهذا -كما ذكَر- له أصلٌ في قول الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ خذ ما عفا وصفا لك من أخلاق الناس، ولا تتطلب منهم ما لم تسمح به طباعهم ولا نفوسهم.

لا، هذا في التعامل مع المبتدعة، فالمبتدعة يُتعامَل معهم تعاملٌ خاصٌّ، يعني: يحذر منهم، ولا يثنى عليهم، ويقبل الحق حتى لو أتى من الشيطان، والنبي قال: صَدَقَك وهو كذوبٌ [8]، حتى لو أتى من كافرٍ، يمكن أن يُؤخذ الحق، لكن من غير ثناء على قائله؛ حتى لا يغتر الناس به، إذا كان مبتدعًا، خاصةً المبتدع الداعية إلى بدعته، هذا كان السلف يحذرون منه، المبتدع الداعي إلى بدعته، هذا لا بد من التحذير منه؛ حتى لا يخدع الناس ولا يَغُرَّ الناس.

الحدود إذا كانت زلةً أو هفوةً، إنسانٌ ليس معروفًا بكثرة الأخطاء، أما إذا كثرت الأخطاء من الإنسان على شخصٍ، فهنا لا تأتي مسألة التغافل.

أما إنكار المنكر، لا نتكلم عنه، إنكار المنكر هذا باب آخر، إنكار المنكر يجب حسَب الاستطاعة، من رأى منكم منكرًا فلغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن يستطع فبقلبه [9]. لكن هذا الكلام في التعامل مع الآخرين.

ففي التعامل مع الآخرين، يعني: الإنسان لا يُدَقق مع كل كلمةٍ تقال، أو كل موقفٍ، يَتسامح كثيرًا، إلا إذا كثرت من إنسانٍ، فيبذل له النصح، فإن أبى فيخفف التعامل معه، من غير هجرٍ، أيضًا فإنه يبقى له حق الإسلام.

نعم، إذا كان مجتهدًا، فله اجتهاده، فلا إنكار في مسائل الاجتهاد التي يكون الخلاف فيها قويًّا.

هذا أصلًا صدر في تعميم من الوزارة من قديمٍ، بمنع القيام للمعلم، حتى هذا ممنوعٌ في جميع مدارس المملكة، وصدر فيه تعميمٌ بعدم القيام للمعلم، بناءً على فتوى الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، بأن هذا محرمٌ، نحن فصَّلنا الكلام في هذا الدرس السابق، لكن الشيخ يرى أن هذه الصورة محرمةٌ، وبناءً على ذلك ورد التعميم بمنع قيام الطلاب للمعلم.

ونكتفي بهذا القدر في أصول الآداب ومكارم الأخلاق المشروعة.

فنسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعًا للصواب والهداية وللخير والفلاح.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 91.
^2 رواه البخاري: 1477، ومسلم: 593.
^3 رواه الترمذي: 3637، وقال: حسنٌ صحيحٌ، وأحمد: 746.
^4 رواه أبو داود: 2659، والنسائي: 2558، وأحمد: 23752.
^5 رواه مسلم: 1469.
^6 رواه مسلم: 49.
^7 رواه الترمذي: 2004، وقال: صحيحٌ، وابن ماجه: 4246، وأحمد: 9096.
^8 رواه البخاري: 2311.
^9 سبق تخريجه.