الرئيسية/دروس علمية/دروس من الحرم- عمدة الفقه/(13) كتاب الزكاة- من قوله: “وهي واجبة على كل مسلم..”
|

(13) كتاب الزكاة- من قوله: “وهي واجبة على كل مسلم..”

مشاهدة من الموقع

دروس من الحرم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو الدرس الأول في شرح “العمدة في الفقه”، في هذه الدورة، وهو تكملة لشروح سابقة بدأناها في شرح هذا المتن، ووصلنا إلى كتاب الزكاة.

أهمية طلب العلم

وقبل أن نبدأ في شرح عبارة المؤلف رحمه الله، أُذكِّر بأهمية طلب العلم، وأنه من أشرف الأعمال، ومن أفضلها وأعظمها منزلة، ولهذا؛ قال الإمام أحمد رحمه الله: طلب العلم لا يَعْدِلُه شيء لمن صحت نيته.

فطلب العلم الشرعي من أشرف الأعمال، وهو أيضًا علامة على أنه أريد بالعبد الخير، كما قال النبي : من يرد الله به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدين [1].

تأملوا -أيها الإخوة- هذا الحديث العظيم الذي أخرجه البخاري ومسلم: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين. مفهوم هذا الحديث: أن من لم يرد به الخير لا يوفق للفقه في الدين، والإنسان لا يستطيع أن يعرف مَحَالَّ محبة الله ​​​​​​​ ​​​​​​​ومرضاته إلا عن طريق الفقه في الدين، ومهما كان عليه من القوة في العبادة، فإنه لا يكون بمنزلة العالم الذي يعرف مواطن مَحَابِّ الله ​​​​​​​، ويعرف مواضع رضوان الله ويكثر منها، فالعالم أفضل من العابد إذا عمل بعلمه أيها الإخوة.

فضل علم الشريعة ومكانة أهله

والعلم الذي قد وردت النصوص في الثناء عليه وعلى أهله في الكتاب والسنة: إنما هو علم الشريعة، ولا يدخل في ذلك علوم الدنيا، لا يدخل في ذلك علم الطب مثلًا، أو الهندسة، أو أي علم من علوم الدنيا؛ لأن الأنبياء لم يُورِّثوا للناس العلوم الدنيوية؛ وإنما ورَّثوا علم الشريعة، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهمًا؛ وإنما ورثوا العلم [2]، فجميع النصوص في الكتاب والسنة التي فيها الثناء على العلم وأهله، المراد بذلك: العلم الشرعي.

وأما علوم الدنيا، فالأصل فيها: الإباحة، وقد يؤجر الإنسان عليها بحسب نيته، قد يؤجر عليها إذا أخلص النية بأن نوى بتعلم هذا العلم نفع المسلمين مثلًا، لكن العلم الوارد في الكتاب والسنة، الذي أُثْنِيَ عليه وعلى أهله، المقصود به: علم الشريعة، ولهذا؛ بين الله ​​​​​​​ رفعة العلماء، وقال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11]. وقال ​​​​​​​: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 9]. واستشهد الله ​​​​​​​ بأولي العلم على أعظم مشهود، وهو التوحيد، فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18]. فخص الله ​​​​​​​  من البشر طائفة استشهد بهم على أعظم مشهود، وهو وحدانيته، من هي هذه الطائفة؟ هم أولو العلم، وهذا أعظم ما يكون من التعديل لهم والتزكية؛ إذ إنه لا يستشهد إلا بالعدول، فهذا تعديل وتزكية من الرب ​​​​​​​ بأولي العلم.

أبرز آداب طالب العلم

والأحاديث والنصوص من الكتاب والسنة في فضل العلم، وبيان مكانة أهله كثيرة، ومن أبرز ما ينبغي أن يتصف به طالب العلم: إخلاص النية لله ، قيل للإمام أحمد: كيف يخلص النية في طلب العلم؟ قال: أن ينوي رفع الجهل عن نفسه، ورفع الجهل عن غيره، هذا معنى إخلاص النية ينوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسه، ورفع الجهل عن غيره؛ بنشر العلم، والدعوة إلى الله ​​​​​​​، وألا يريد بهذا العلم رياء ولا سمعة.

وقد ذكر النبي  مِن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة: ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم؛ ليقال: عالم. وقرأت القرآن؛ ليقال: هو قارئ. فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار [3]، نسأل الله السلامة والعافية.

ومن آداب طالب العلم كذلك: العمل بما يعلم، وإلا عِلم بلا عمل لا فائدة منه، بل هو حجة على صاحبه يوم القيامة، فطالب علم يطلب العلم، لكنه لا يصلي صلاة الفجر مع الجماعة في المسجد، إذنْ ما قيمة العلم الذي تعلمه؟! أو عاقٌّ لوالديه، أو سيئ الخلق، أو نحو ذلك، لا بد أن يظهر أثر العلم على أخلاق طالب العلم، وعلى سمته، وعلى سلوكه، وعلى عبادته.

وأيضًا من آداب طالب العلم أن يظهر أثر العلم عليه في الدعوة إلى الله ​​​​​​​، فإن الدعوة إلى الله من فروض الكفاية، لكنها تتأكد أول ما تتأكد على طلبة العلم، وبعض الناس يتعلم العلم، لكن علمه لنفسه فقط، لا يدعو إلى الله  بهذا العلم، ولا ينشر هذا العلم، الدعوة إلى الله  ​​​​​​​من أفضل وأشرف وأعظم الأعمال، كما قال ​​​​​​​: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت: 33]. وعدد سكان الأرض الآن كم أيها الإخوة؟ كم عدد سكان الأرض؟ أكثر من سبعة مليارات إنسان، وعدد المسلمين؟ العدد التقريبي كم؟ مليار ونصف تقريبًا، يعني: خمسة مليارات ونصف أكثر من الثلثين غير مسلمين، فهل أقمنا عليهم الحجة؟ هل علمناهم الإسلام؟ هل بينا لهم حقيقة دين الإسلام؟

إذنْ: المسؤولية علينا كبيرة، المسؤولية على المسلمين عمومًا، وعلى طلاب العلم -على وجه الخصوص- في تبليغ دين الله للناس، فإن كثيرًا من هؤلاء من غير المسلمين الإسلام عنده مشوَّه، وَصَلَه بصورة مشَوَّهة، أنه دين إرهاب وقتل، وبعضهم لم يصله الإسلام أصلًا، فهذه مسؤولية على المسلمين عمومًا، وعلى طلاب العلم على وجه الخصوص.

وأيضًا من آداب طالب العلم، ولعلي أختم بها في هذه المقدمة الموجزة: الحرص على ضبط العلم؛ لأن بعض الإخوة يحضر دورات كثيرة، ويحضر دروسًا كثيرةً، ولكن ضبطه قليل؛ بسبب قلة الحرص، وبسبب عدم العناية بآلية العناية والتحصيل بالضبط.

أبرز وسائل ضبط العلم

ومن أبرز وسائل ضبط العلم: الكتابة، فيكتب ملخصًا للدرس الذي حضره؛ أبرز الفوائد، أبرز ما قيل في هذا الدرس، لكن يكتبها كتابة ويراجعها فيما بعد، وليس كما يفعل أيضًا بعض الطلاب؛ يكتب ويكتب، لكنه لا يراجع، هذا سرعان ما ينسى، والوسيلة الثانية: الإفادة من وسائل التقنية الحديثة، بأن يستخدم المسجل، يسجل مثلًا دروس هذه الدورة، ثم يسمعها مرة ومرتين وثلاثًا، يعني: على الأقل ثلاث مرات، فيجد أن ما قيل في هذه الدورة وفي غيرها من الدروس، قد استقر في ذهنه، وأنه أفاد منه، أما مع عدم العناية بضبط آلية التحصيل، فإنه وإن كان يؤجر على حضوره -فمجرد الحضور يؤجر عليه- لكن يفوته ضبط العلم خاصة في هذا الزمن الذي نعيشه، والذي ضعفت فيه الذاكرة لدى أكثر الناس، مع وجود وسائل التقنية الحديثة ضعفت الذاكرة لدى أكثر الناس؛ لأنهم أصبحوا يعتمدون عليها، والذاكرة إذا مرنت قويت، وإذا أهملت ضعفت، ولهذا؛ فينبغي مع هذا الضعف أن يعوض بكثرة المراجعة لما هو مكتوب، أو لما هو مسجل.

وأكتفي بهذا القدر في هذه المقدمة.

كتاب الزكاة

وننتقل بعد ذلك لما أردنا شرحه، وإن شاء الله، سوف نشرح في هذه الدورة كتاب الزكاة كاملًا، والذي يحضر معنا جميع الدروس سيحصل على حصيلة لا بأس بها -إن شاء الله- في أبرز مسائل وأحكام الزكاة.

معنى الزكاة

الزكاة معناها في اللغة: التطهير والصلاح، ومنه قول الله : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة: 103]، وقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس: 9]. ويقال: زكا الزرع. إذا نما وزاد.

فمادة الزكاة في اللغة العربية تدور حول معنى التطهير والصلاح، والنماء والزيادة.

ومعناها اصطلاحًا: حق معلوم، في مال مخصوص، بطائفة مخصوصة.

حق معلوم: إما أن يكون العشر، أو نصف العشر، أو ربع العشر، على ما سيأتي -إن شاء الله- بيانه.

في مال مخصوص: وهي الأموال التي تجب فيها الزكاة، وسيأتي الكلام عنها إن شاء الله.

لطائفة مخصوصة: وهم أصحاب الزكاة الثمانية، وسيأتي الكلام عنهم أيضًا إن شاء الله تعالى.

متى فرضت الزكاة؟

اختلف العلماء في وقت فرضية الزكاة، والراجح: أنها فرضت بعد الهجرة، في السنة الثانية أو الثالثة من الهجرة، وأما ما قبل الهجرة، فقد نزل قول الله : وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام: 141]. فكانوا مأمورين بالتصدق مما لديهم بإجمال، ومن غير بيان التفاصيل، وهل هو أمر إيجاب، أو استحباب على خلاف بين العلماء، والأقرب: أنه على الاستحباب، وأن إيجاب الزكاة إنما كان بعد الهجرة.

الحكمة من فرضية الزكاة

وقد فرضت الزكاة لحِكَم عظيمة؛ فهي مواساة من الأغنياء للفقراء، فالله ​​​​​​​ امتحن الأغنياء بالفقراء، وامتحن الفقراء بالأغنياء، كما قال : وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ [الفرقان: 20].

وأيضًا فيها تطهير للنفس من الشح والبخل، فإن الإنسان إذا تعود على الإمساك وعدم الإنفاق يصبح بخيلًا شحيحًا، لا يكاد يعطي أحدًا شيئًا، ولا تزال هذه الخصلة معه، بل إنها مع تقدم السن تزيد؛ لقول النبي : يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنتان: حب الدنيا، وطول الأمل [4]، لكن الشريعة أوجبت على المكلف الزكاة تطهيرًا له من هذا الشح والبخل، وأيضًا من حكم مشروعيتها ظهور التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، وشيوع المحبة والمودة بينهم، فهذا الغني يعطي الفقير، ويعطف عليه، والشريعة الإسلامية تدعو إلى كل ما من شأنه تقوية أواصر المجتمع، وإلى كل ما من شأنه تقوية المحبة والمودة بين أفراد المجتمع، ولهذا؛ شرعت الصلاة مع الجماعة في المسجد، مع أن بإمكان الإنسان أن يصلي في بيته، وربما تكون صلاته في بيته أكثر خشوعًا من صلاته في المسجد، لكن شرعت الصلاة مع الجماعة في المسجد؛ لأجل تحقيق هذه المعاني، معاني التكافل بين أفراد المجتمع؛ المحبة والمودة، ومعاني التكافل الاجتماعي عامة، إلى غير ذلك من الحكم الكثيرة في مشروعية الزكاة، والله لا يشرِّع شيئًا لعباده إلا وفيه الحكمة، بل وهو حكمة الحكم، وغاية الحكم، والله حكيم عليم، وهو أحكم الحاكمين.

شروط وجوب الزكاة

قال المصنف رحمه الله: وهي واجبة على كل مسلم.

وجوب الزكاة معلوم من الدين بالضرورة، فالزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وهي من شعائر الإسلام، ولهذا؛ لو امتنع أهل بلد عن دفعها وجب قتاله، ولما امتنعت بعض قبائل العرب بعد وفاة النبي  من دفع الزكاة حاربهم الصحابة حتى أخذوا منهم الزكاة، وقال أبو بكر قولته المشهورة: والله! لو منعوني عِقَالًا -وفي لفظ: عَنَاقًا- كانوا يؤدونه لرسول الله   لقاتلتهم عليه.

  • الإسلام

قال: على كل مسلم. فيفهم من كلام المؤلف: أن الكافر لا تجب عليه الزكاة، لا تجب عليه الزكاة وجوب أداء، ولا تقبل منه لو دفعها، وذلك؛ لأنها عبادة وقربة وطاعة، والعبادة لا تصح من الكافر، ولكنها تجب عليه وجوب خطاب، فالكفار مخاطبون بفروع الشريعة، في أظهر قولي العلماء، ومما يدل لذلك قول الله عن المنافقين: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة: 54]؛ فدل هذا على أن الكافر لا تقبل منه الزكاة، لكنه محاسب على ترك الزكاة، وأيضًا على جميع فروع الشريعة، كذلك محاسب على ترك الصلاة، محاسب على ترك الصيام، محاسب على ترك الحج.

طيب من يذكُر لنا الدليل على أن الكافر محاسب على ترك هذه الواجبات الشرعية؟

نعم، أحسنت، بارك الله فيك، قول الله : مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: 42]. هذا السؤال لهؤلاء المجرمين أصحاب النار، يُسألون هذا السؤال: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: 42]. قالوا: ..، أكمل الآية: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر: 43]. طيب ما الدليل على أنهم كفار؟

نكمل الآيات: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۝ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ۝ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ۝ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر: 43-46].

التكذيب بيوم الدين كفر، ودل ذلك على أنهم كفار، ومع ذلك حوسبوا على ترك الصلاة، وهكذا يحاسبون على ترك الزكاة، وترك الصيام، وترك سائر الواجبات الشرعية، فإذا كان المسلم يحاسب فالكافر كذلك.

  • الحرية

وقول المصنف رحمه الله: على مسلم حر.

فالرقيق لا تجب عليه الزكاة، وذلك؛ لأنه لا يملك مالًا، بل هو وماله ملك لسيده، والرق معناه: عجز حكمي يقوم بالإنسان بسبب كفره بالله ، ولهذا؛ لا يجوز أن يُسترَقَّ إلا الكافر، لكن الرق في الوقت الحاضر انقرض وانقطع، وأصبح ممنوعًا رسميًّا في جميع دول العالم، فهو قد انقطع.

  • النصاب

قال: مَلَكَ نصابًا ملكًا تامًّا.

فلا تجب الزكاة في المال إذا لم يَكمُل النصاب، لا بد من إكمال النصاب.

والنصاب: قدر معلوم في المال، سيأتي الكلام عنه -إن شاء الله- فالنصاب مثلًا في الإبل: خمس، ونصاب الغنم: أربعون، وسيأتي بيان ذلك بالتفصيل -إن شاء الله- فإذا كان المال الذي عنده أقل من النصاب فلا تجب فيه الزكاة.

وقول المصنف: ملكًا تامًّا. لا بد أن يكون الملك تامًّا، فإن كان غير مستقر، فلا تجب فيه الزكاة، أو كان لا مالك له، فلا تجب فيه الزكاة، فمن أمثلة الملك غير المستقر، يقولون: مال المكاتب، وهو العبد الذي اشترى نفسه من سيده بأقساط، فهذا لا تجب فيه الزكاة، وذلك؛ لأنه غير مستقر، فإنه يحتمل أن هذا المكاتب يعجز عن سداد الأقساط، فيعود مملوكًا، يعود رقيقًا، وتبطل المكاتبة، ويصبح هذا المال الذي بيده مِلكًا لسيده، وأيضًا قلنا: لا تجب الزكاة في المال الذي لا مالك له، ومن ذلك أموال الأوقاف، لا زكاة فيها، وأموال الجمعيات الخيرية، كلها لا زكاة فيها، وكذلك أيضًا الصناديق الخيرية، والصناديق العائلية التي يراد منها سد ما قد يتعرض له أحد أفراد العائلة من الأخطار، فهذه كلها لا تجب فيها الزكاة؛ لأنه لا مالك لها، وإنما قد تصدق بها أصحابها، أو أنها موقوفة لوجه الله ​​​​​​​، فجميع الأوقاف لا زكاة فيها.

  • حولان الحول

قال: ولا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول.

وهذا أيضًا محل إجماع بين العلماء، أنه لا تجب الزكاة في المال إلا إذا حال عليه الحول، إلا ما سيستثنيه المؤلف، وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما، رُوي في حديث مرفوعًا، وفي سنده مقال، وَرَدَ عن ابن عمر رضي الله عنهما، لقوله: لا تجب الزكاة في مال حتى يحول عليه الحول [5].

والمقصود بالحول: السنة الهجرية القمرية، وليس السنة الشمسية، فإذا حال الحول على هذا المال وجبت فيه الزكاة، وكثير من المسلمين في دول العالم الإسلامي إنما يعتمدون على السنة الشمسية الميلادية، بل في جميع دول العالم الإسلامي ما عدا المملكة العربية السعودية، تعتمد الدول والعالم الإسلامي على السنة الميلادية الشمسية، وشرعًا المعتمد عليه: السنة القمرية الهجرية، وهذا هو ميقات المسلمين، أما التقويم الميلادي فهو ميقات النصارى، والله  يقول: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189]. التاريخ القمري الهجري هو شعار الأمة الإسلامية، فينبغي للمسلمين أن يعتزوا به، وأن يعتنوا به، وأن يكون شائعًا لدى الصغار والكبار، مشتهِرًا معروفًا لديهم، ومع الأسف! في كثير من دول العالم الإسلامي لا يعرفون الشهر القمري الهجري إلا عند دخول رمضان أو خروجه، أو عند الحج فقط، ولا شك أن هذا تقصير، يتأكد على طلبة العلم على وجه الخصوص أن يشيعوا التاريخ الهجري القمري في الناس؛ لأنه متعلق بهوية الأمة، وهو شعار المسلمين.

فالزكاة إذنْ لا تجب في مال حتى يحول عليه الحول، ومعنى الحول، يعني: الحول بالسنة الهجرية القمرية، وعلى هذا: فإذا كان المعتمد في تلك الدولة السنة الميلادية، فلا بد من ملاحظة الفرق بين السنة الهجرية القمرية، والسنة الشمسية الميلادية، وهو أحد عشر يومًا، فينبغي إذنْ ملاحظة هذا الفرق؛ لأنه قبل أن تنتهي السنة الشمسية الميلادية بأحد عشر يومًا يزكي المال الذي عنده.

ما لا يشترط لزكاته حولان الحول

لكن المؤلف استثنى من حَوَلَان الحول مسألة لا يُشترط فيها حولان الحول، وهي الخارج من الأرض، فالخارج من الأرض لا يشترط لوجوب الزكاة فيه أن يحول عليه الحول؛ وإنما يجب إخراج زكاة الحبوب والثمار عند الحصاد، بقول الله ​​​​​​​: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام: 141]. فلا يرتبط إذنْ بحولان الحول؛ فبعض الحبوب والثمار تثمر في السنة مرتين مثلًا، وعلى ذلك؛ تزكى مرتين.

فإذنْ: الحبوب والثمار إنما تجب زكاتها عند الحصاد والجَذَاذ، إذنْ هذه المسألة الأولى المستثناة من قول المؤلف: لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول.

  • الاستثناء الأول: الحبوب والثمار؛ فإن الزكاة فيها عند الحصاد والجذاذ.
  • والمستثنى الثاني: قال: ونماء النصاب من النتاج والربح.

وهما ما يعبر عنه بعض الفقهاء بنتاج السائمة، وربح التجارة نتاج، فالنماء تابع للأصل، ولا يشترط له حَوَلَان الحول، ولهذا؛ قال المصنف: فإن حولهما حول أصلهما. فالنماء تابع لأصله متولد منه، وعلى ذلك: لو كان لشخص مئة وعشرون من الغنم، وقبل أن يحول الحول بيومين نتجت إحدى الأغنام، فأصبحت مئة وإحدى وعشرين، ففيها شاتان، مع أنها لو كانت مئة وعشرين ففيها شاة واحدة، وهذا؛ لأن نتاج السائمة لا يشترط له حَوَلَان الحول.

مثال آخر بالنسبة لربح التجارة: لو أن شخصًا اشترى أرضًا بمئة ألف، ثم إنها أصبحت تساوي عند تمام الحول مئة وثلاثين، فهل يزكي مئة ألف، أو مئة وثلاثين؟ يزكي مئة وثلاثين.

طيب، لو كانت إلى ما قبل شهر من حَوَلَان الحول تساوي مئة، لكن في الشهر الأخير ارتفعت فأصبحت مئة وثلاثين، فيزكي كم؟ مئة وثلاثين.

طيب لو كانت المسألة بالعكس: اشترى الأرض بمئة ألف ثم نزلت أسعار الأراضي، وأصبحت قيمتها عند حَوَلَان الحول ثمانين ألفًا، فيزكي كم؟ ثمانين ألفًا، إذنْ: العبرة بقيمتها عند تمام الحول، سواء أكانت زيادة أم نقصان، إذنْ نتاج السائمة، وربح التجارة لا يشترط له الحول، وإنما حوله تابع لأصله.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
1 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
2 رواه أبو داود: 3641، والترمذي: 2682، وابن ماجه: 223.
3 رواه مسلم: 1905.
4 رواه البخاري: 6421، ومسلم: 1047.
5 رواه البيهقي في “السنن الكبرى”: 7320، والدارقطني: 1894.