الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(6) باب رحمة النبي ﷺ للصبيان- من حديث: “قدم ناس من الأعراب..”
|categories

(6) باب رحمة النبي ﷺ للصبيان- من حديث: “قدم ناس من الأعراب..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه، واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فنُرحب بكم أيها الإخوة مع استئناف هذا الدرس في التعليق على كتاب “الفضائل” من “صحيح مسلم” في هذا اليوم: الثلاثاء، الثالث عشر من شهر الله المحرم، من عام 1442هـ.

وكنا قد توقفنا في الفترة الماضية بسبب ظروف جائحة (كورونا)، ثم الإجازة الصيفية، والآن نستأنف هذا الدرس على بركة الله ​​​​​​​، ونسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق والسداد.

كنا قد وصلنا إلى حديث عائشة رضي الله عنها في باب رحمة النبي للصبيان والعيال، وتواضعه، وفضل ذلك.

بابٌ: رحمة النبي  للصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك

قال المصنف رحمه الله:

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُريبٍ قالا: حدثنا أبو أسامة وابن نُميرٍ، عن هشامٍ، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالتْ: قَدِمَ ناسٌ من الأعراب على رسول الله  فقالوا: أتُقبِّلون صِبيانكم؟ فقالوا: نعم. فقالوا: لكنَّا والله ما نُقبِّل. فقال رسول الله : وأَمْلِك إن كان الله نزع منكم الرحمة، وقال ابن نُمير: من قلبك الرحمة [1].

ثم أخرجه مسلمٌ رحمه الله من طريقٍ أخرى، وأيضًا بمتنٍ أوضح، فقال:

وحدثني عمرو الناقد وابن أبي عمر -جميعًا-، عن سفيان. قال عمرو: حدثنا سفيان بن عُيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة : أن الأقرع بن حابس.

هنا في هذه الرواية سمَّى القائل، وهو: الأقرع بن حابس.

أن الأقرع بن حابس أبصر النبيَّ يُقبِّل الحسن .

أيضًا سمَّى المُقبَّل وهو: الحسن ، وهو ابن بنت النبي .

فقال -يعني: الأقرع-: إن لي عشرةً من الولد ما قبَّلتُ واحدًا منهم. فقال رسول الله : إنه مَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم [2].

حدثنا عبد بن حُميد: أخبرنا عبدالرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهري: حدثني أبو سلمة، عن أبي هريرة ، عن النبي  بمثله.

إذن أخرجه مسلمٌ رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها، وأيضًا من حديث أبي هريرة .

حدثنا زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم -كلاهما-، عن جريرٍ. ح.

يعني: طريقًا أخرى.

وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعلي بن خَشْرَم قالا: أخبرنا عيسى بن يونس. ح، وحدثنا أبو كُريبٍ محمد بن العلاء: حدثنا أبو معاوية. ح، وحدثنا أبو سعيدٍ الأشجُّ: حدثنا حفصٌ -يعني: ابن غِيَاث-، كلهم عن الأعمش، عن زيد بن وهب وأبي ظبيان، عن جرير بن عبدالله قال: قال رسول الله : مَن لا يَرْحَم الناس لا يَرْحَمْه الله ​​​​​​​ [3].

أيضًا ساقه المُصنف الإمام مسلمٌ رحمه الله بروايةٍ أخرى:

وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيع وعبدالله بن نُمير، عن إسماعيل، عن قيسٍ، عن جريرٍ، عن النبي . ح، وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن أبي عمر وأحمد بن عبدة قالوا: حدثنا سفيان، عن عمرٍو، عن نافع بن جبير، عن جريرٍ ، عن النبي  بمثل حديث الأعمش.

إذن أخرجه مسلمٌ عن ثلاثةٍ من الصحابة: عن عائشة، وأبي هريرة، وجريرٍ .

وأكثرها تفصيلًا رواية أبي هريرة ؛ وذلك أن الأقرع بن حابس أبصر النبيَّ يُقبِّل ابن ابنته -ابن فاطمة- الحسن، والأقرع كان أعرابيًّا، وكان صَلْفًا، فقال: إن لي عشرةً من الولد ما قَبَّلْتُ منهم أحدًا. فأنكر النبي مقولته، قال: وأَمْلِك إن كان الله نزع منكم الرحمة، هذا دليلٌ على عدم الرحمة، ثم قال: مَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم.

وجاء في روايةٍ: مَن لا يَرْحَم الناس لا يَرْحَمْه الله ​​​​​​​.

قال العلماء: وهذا عامٌّ يتناول رحمة الأطفال وغيرهم.

وهذا دليلٌ على فضل الرحمة، وعلى أن الإنسان ينبغي أن يكون رحيمًا، وأن الرحمة في الإنسان وصف كمالٍ، وليست وصف نقصٍ، وأن مَن يَرحم الناس، ويعطف عليهم، ويُشفق عليهم، فإن الله ​​​​​​​ يرحمه؛ جزاءً وفاقًا؛ ولهذا في رواية جريرٍ قال عليه الصلاة والسلام: مَن لا يَرحم الناس لا يَرحمه الله.

فمَن كان شديدًا، صَلْفًا، قاسيًا، ليس في قلبه رحمةٌ، فالله ​​​​​​​ لا يرحمه؛ جزاءً وفاقًا.

فوائد حديث: مَن لا يرحم الناس لا يرحمه الله

في هذا الحديث من الفوائد: مشروعية تقبيل الأطفال، وأن هذا من الرحمة بهم، ومن مُلاطفتهم، وأكمل الهدي هدي النبي ، وكان يُقبِّل الأطفال؛ قَبَّل الحسن والحسين -كما سيأتي-، كان يُقبِّل الأطفال ويُلاطفهم، وربما مازحهم أحيانًا، فهذا من كمال خُلُقه عليه الصلاة والسلام.

أما مَن يكون قاسيًا مع الأطفال، فَظًّا، غليظًا، فإن هذا بعيدٌ عن حُسن الخُلُق؛ ولهذا أنكر النبي عليه الصلاة والسلام على هذا الرجل، قال: وأَمْلِك إن كان الله نزع منكم الرحمة، فَعَدَّ عدم تقبيل الأطفال مثالًا لنزع الرحمة من القلب.

قال بعض أهل العلم: وحكمة هذه الرحمة تسخير القوي للضعيف، والكبير للصغير؛ حتى يُحفظ نوعه، وتتم مصلحته، وهذه هي الرحمة التي جعلها الله في القلوب في هذه الدار، وهي رحمةٌ واحدةٌ من مئة رحمةٍ ادَّخرها الله تعالى ليوم القيامة، فيرحم بها عباده المؤمنين وقت أهوال يوم القيامة.

أقسام الرحمة

الرحمة تنقسم إلى قسمين:

  • القسم الأول: الرحمة التي هي صفة فعلٍ، وهي مخلوقةٌ، وهي المقصودة في هذا الحديث، وهي مئة رحمةٍ خلقها الله ​​​​​​​، وأنزل رحمةً واحدةً في الأرض، فهي التي يتراحم بها الناس في الدنيا، وادَّخر تسعةً وتسعين رحمةً ليوم القيامة.
  • والقسم الثاني: الرحمة التي هي صفة ذاتٍ قديمةٍ غير مخلوقةٍ، وهذه لا يَعْتَريها عَدٌّ وإحصاءٌ، ولا تقسيمٌ، وهي صفةٌ من صفات الله ​​​​​​​، وهي رحمةٌ حقيقيةٌ، وهذا هو منهج الصحابة والتابعين: إثبات صفة الرحمة لله ​​​​​​​ على الصفة اللائقة بالله ، ليست كرحمة المخلوقين.

فالمقصود بالرحمة المذكورة في هذا الحديث ليست الرحمة التي هي صفة ذات الله ​​​​​​​، وإنما المقصود بها الرحمة المخلوقة.

إذن الرحمة تنقسم إلى هذين القسمين:

  • الرحمة التي هي صفة فعلٍ، المخلوقة، وهي مئة قسمٍ، أنزل الله قسمًا واحدًا منها في الأرض، وادَّخر تسعةً وتسعين إلى يوم القيامة.
  • الثانية: الرحمة التي هي صفة ذاتٍ قديمةٍ غير مخلوقةٍ، وهذه صفةٌ لله ​​​​​​​، والله تعالى هو الرحمن الرحيم.

ننتقل بعد ذلك إلى: باب كثرة حيائه .

وأُنبِّه هنا إلى أن التبويبات ليست من الإمام مسلم، وإنما هذه من النووي الشارح، رحمهم الله تعالى جميعًا.

بابٌ: كثرة حيائه

قال الإمام مسلمٌ رحمه الله:

حدثني عبيدالله بن معاذ: حدثنا أبي: حدثنا شعبة، عن قتادة، سمع عبدالله بن أبي عتبة يُحدث عن أبي سعيدٍ الخدري. ح، وحدثنا زهير بن حرب ومحمد بن المُثنى وأحمد بن سنان، قال زهير: حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن قتادة قال: سمعتُ عبدالله بن أبي عتبة يقول: سمعتُ أبا سعيدٍ الخدري يقول: كان رسول الله أشد حياءً من العَذْراء في خِدْرِها، وكان إذا كَرِهَ شيئًا عرفناه في وجهه [4].

“كان رسول الله أشد حياءً” الحياء هو: انقباضٌ يجده الإنسان من نفسه يحمله على الامتناع عن مُلابسة ما يُعاب عليه ويُسْتَقْبَح منه، هذا هو تعريف الحياء.

ونقيضه الصَّلَف وعدم المُبالاة بما يُسْتَقْبَح، وكلاهما جِبِلِّيٌّ ومُكْتَسبٌ، والنبي قد جُبِلَ على الحياء، فكان عليه الصلاة والسلام حَيِيًّا، بل كما يصف ذلك أبو سعيدٍ الخدري : “كان أشدَّ حياءً من العَذْراء”.

والعَذْراء هي: الفتاة البكر، ووجه تسميتها “عَذْراء” أن عذرتها باقيةٌ، وهي البكارة.

في خِدْرِها” الخِدْر هو: سترٌ يُجْعَل للبكر في جنب البيت، فالفتاة البكر الأصل فيها أنها ذات حياءٍ شديدٍ؛ ولذلك فإن الفتاة البكر إذنها صِمَاتها من شدة حيائها، هذا هو الأصل في المرأة، وإن كانت قد تغيَّرت الأحوال عند بعض النساء في الوقت الحاضر، لكن هذا هو الأصل في المرأة، وأن الحياء بالنسبة لها هو صفة كمالٍ، ويشتد ذلك بالنسبة للبكر.

كان عليه الصلاة والسلام حييًّا، شديد الحياء: “أشد حياءً من العَذْراء” يعني: من الفتاة البكر “في خِدْرِها”.

“وكان إذا كَرِهَ شيئًا عرفناه في وجهه” أي: لا يتكلم به لحيائه، بل يتغير وجهه فتظهر منه كراهيته.

وهذا يدل على فضيلة الحياء، وهو شعبةٌ من شُعَب الإيمان، والحياء خيرٌ كله [5]، والحياء لا يأتي إلا بخيرٍ [6].

وينبغي أن يتربى أفراد المجتمع على الحياء؛ الحياء من فعل ما يُعاب وما يُسْتَقْبَح؛ لأنه إذا نُزع الحياء فإن الإنسان لا يُبالي، ويفعل الأمور المُسْتَقْبَحة والمُسْتَنْكَرة أمام الناس.

وحياء النبي إنما هو فيما يتعلق بالحظوظ النفسية، أما فيما يتعلق بأمور الدين: كانتهاك حُرمات الله، أو انتهاك حُرمة أحد المسلمين، فإنه يشتد غضبه دون استحياءٍ من ذلك.

فالحياء المحمود هو الحياء المُتعلق بالحظوظ الدنيوية والحظوظ النفسية، أما الحياء الذي ينشأ عنه الإخلال بالحقوق فهذا ليس حياءً شرعيًّا، بل عجزٌ ومهانةٌ، ويُسميه بعض الناس: خجلًا، وهو خجل مذمومٌ؛ فالخجل عندما يرى الإنسان انتهاك حُرمات الله، ويقول: إنه استحيا أن يتكلم. هذا ليس حياءً، وإنما هذا خجلٌ مذمومٌ.

وكذلك أيضًا لو كان هناك حقٌّ له فسكت ولم يتكلم، هذا ليس من الحياء المحمود، لكن الحياء المحمود أن الإنسان يكون بعيدًا عن فعل ما يُسْتَقْبح ويُعاب، يعني: أنه ينقبض عن فعل ما يُسْتَقْبح ويُعاب، فيكون بعيدًا عن الصَّلافة، وعن عدم المُبالاة.

قال:

حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا: حدثنا جريرٌ، عن الأعمش، عن شقيقٍ، عن مسروقٍ قال: دخلنا على عبدالله بن عمرو حين قَدِمَ معاوية إلى الكوفة، فذكر رسول الله فقال: لم يكن فاحشًا، ولا مُتَفَحِّشًا.

هنا وصف عبدُالله بن عمرو بن العاص الصحابي الجليل النبيَّ بأنه لم يكن فاحشًا، ولا مُتَفَحِّشًا.

والفاحش: من الفُحْش، وهي الزيادة عن الحدِّ في الكلام السيئ.

والمُتَفَحِّش: المُتكلِّف ذلك.

فالنبي لم يكن الفُحْش خُلُقًا له، ولا مُكْتَسبًا، بل كان عليه الصلاة والسلام كريم الخُلُق، بعيدًا عن أن يتكلم بكلام فُحْشٍ، أو كلامٍ قبيحٍ، وكلامٍ سيئٍ.

قال:

قال رسول الله : إن من خياركم أحاسنكم أخلاقًا.

قال عثمان: حين قدم مع معاوية إلى الكوفة [7].

إن من خياركم أحاسنكم أخلاقًا دلَّ هذا على فضل حُسن الخُلُق، وعلى أن خيار الناس هم أحسنهم أخلاقًا؛ ولذلك فإن حُسن الخُلُق هو صفة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو أيضًا صفة أولياء الله ​​​​​​​ والصدِّيقين والصالحين.

والإنسان الذي يكون سيئ الخُلُق يكون بعيدًا عن الصلاح، فينبغي الاقتداء بالأنبياء والصدِّيقين والصالحين في حُسن الخُلُق.

قال الحسن البصري رحمه الله: “حقيقة حُسن الخُلُق بذل المعروف، وكفُّ الأذى، وطلاقة الوجه”.

وهذا تعريفٌ له بالمثال، وإلا فإن حُسن الخُلُق لا ينحصر في هذه الأمور الثلاثة، وإنما كأن الحسن رحمه الله يقول: إن من أبرز صفات حُسن الخُلُق: بذل المعروف، وكفُّ الأذى، وطلاقة الوجه.

وقال القاضي عياض رحمه الله: “هو مُخالطة الناس بالجميل والبِشْر، والتَّودد لهم، والإشفاق عليهم، واحتمالهم، والحلم عنهم، والصبر عليهم في المكاره، وترك الكِبْر والاستطالة عليهم، ومُجانبة الغِلْظة والغضب والمُؤاخذة”.

وهذا أيضًا تعريفٌ بالمثال، فهذه كلها أمثلةٌ وصورٌ لحُسن الخُلُق، وليست حدًّا له، فنحتاج إلى أن نذكر حدًّا أو تعريفًا لحُسن الخُلُق.

وأحسن ما قيل في تعريفه هو: أن تُعامل الناس بمثل ما تُحب أن يُعاملوك به.

فإذا كنت تُحب أن يُعاملك الناس باحترامٍ فعاملهم باحترامٍ، وإذا كنت تُحب أن يُعاملك الناس بالطَّيِّب من القول فعاملهم بالطَّيب من القول، وإذا كنت لا ترضى أن أحدًا يجرحك بالكلام فلا تجرح الناس بالكلام.

فحُسن الخُلُق: إذا كنت تُحب أن مَن يلقاك يلقاك بالبِشْر والابتسامة والتَّودد والجميل من القول فافعل ذلك أنت مع الناس.

إذن حقيقة حُسن الخُلُق هي: أن تُعامل الناس بمثل ما تُحب أن يُعاملوك به، كما قال عليه الصلاة والسلام: لا يُؤمن أحدكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه [8].

هل الخُلُق غريزيٌّ أو مُكْتَسَبٌ؟

الخُلُق عمومًا -سواءٌ كان حسنًا أو سيئًا- هل هو غريزيٌّ أو مُكْتَسَبٌ؟

يعني: بعض الناس يقول: أنا طبيعتي هكذا منذ أن ظهرتُ إلى الدنيا وهذه أخلاقي.

فقد يكون سريع الغضب، وقد يكون ما يتكلم إلا بالسيئ من القول، وقد يكون عَجِلًا، طائشًا.

فنقول: إن الخُلُق هو هيئةٌ راسخةٌ للنفس تصدر عنها الأفعال بسهولةٍ ويُسْرٍ، ومنه ما هو غريزةٌ وجِبِلِّيٌّ، ومنه ما هو مُكْتَسَبٌ.

فمن الناس مَن يُولد حسن الأخلاق: حليمًا، سَخِيًّا، كريم النفس بطبيعته، ومن الناس مَن يُولد على العكس من ذلك.

هذا هو القسم الأول: الجِبِلِّي أو الغريزي.

القسم الثاني: هو القسم المُكْتَسب، وهو: أن يُدرِّب الإنسانُ نفسَه على اكتساب الأخلاق الكريمة، وعلى التَّخلُّص من الأخلاق السيئة.

فمثلًا: إذا كان سريع الغضب يُدرِّب نفسه على الحلم وترك الغضب؛ ولهذا جاء رجلٌ إلى النبي فقال: يا رسول الله، أوصني. قال: لا تغضب، فردد مرارًا، قال: لا تغضب [9]، أخرجه البخاري في “صحيحه”، فلولا أن ترك الغضب مُستطاعٌ لما قال النبي  لهذا الرجل: لا تغضب، وردد عليه ذلك، ولقال ذلك الرجل: يا رسول الله، أنا جُبِلْتُ على الغضب، كيف ما أغضب؟!

فدلَّ هذا على أنه يمكن ترك الغضب، ويمكن اكتساب صفة الحلم، ولكن هذا يحتاج إلى تمرينٍ للنفس وتدرُّجٍ وتدريبٍ، فمثلًا: مَن كان يعرف من نفسه أنه عنده شدة غضبٍ وسرعة غضبٍ يقول: هذا اليوم، هذه الساعة -مثلًا: من الرابعة إلى الخامسة- لن أغضب مهما كان السبب. وفي اليوم الثاني يجعلها ساعتين، وفي اليوم الثالث يجعلها أربع ساعاتٍ، وفي اليوم الرابع يجعلها -مثلًا- ثماني ساعاتٍ، وهكذا، وسيجد نفسه مع مرور الوقت قد اكتسب صفة الحلم.

وهكذا بالنسبة لبقية الأخلاق الكريمة: كالتواضع، وانتقاء الطَّيِّب من القول، ونحو ذلك.

فالأخلاق إذن منها ما هو جِبِلَّةٌ، ومنها ما هو مُكْتَسَبٌ؛ ولذلك ينبغي أن يحرص المسلم على أن يكتسب الأخلاق الكريمة، وأن يبتعد عن الأخلاق السيئة، والقاعدة في هذا: أن تُعامل الناس بمثل ما تُحب أن يُعاملوك به.

انظر إلى حال مَن تُعاملهم؛ هناك أناسٌ تُحبهم وترتاح لهم، وهناك أناسٌ ما تُحبهم، ولا ترتاح لهم، لماذا هؤلاء تُحبهم؟

انظر إلى الصفات الجميلة فيهم، فاحرص على أن تكتسبها، وانظر إلى الصفات السيئة في الأشخاص الذين لا تُحبهم وتكره الجلوس معهم فاجتنبها.

النبي هنا يقول: إن من خياركم أحاسنكم أخلاقًا، فخير الناس أحاسنهم أخلاقًا، ويتأكد هذا في حقِّ طالب العلم، فلا يليق بطالب العلم أن يكون سيِّئ الخُلُق، بَذِيئًا، لا يتكلم إلا بالفُحْش من القول، بل ينبغي أن يكون طالب العلم حَسَنَ الخُلُق، كريم التعامل، هَيِّنًا، لَيِّنًا، سَمْحًا، سهلًا.

وهذه -كما ذكرنا- هي صفة الكُمَّل من البشر؛ صفة الأنبياء والرسل، والأولياء، والصدِّيقين، والصالحين، تجتمع فيهم هذه الصفة: أن عندهم حُسن خُلُقٍ، وكرم خُلُقٍ، وطِيب نفسٍ.

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث من طريقٍ آخر فقال:

وحدثنا ابن نمير: حدثنا أبي. ح، وحدثنا أبو سعيدٍ الأشجُّ: حدثنا أبو خالدٍ -يعني: الأحمر- كلهم عن الأعمش بهذا الإسناد مثله.

تبسُّمه وحُسن عِشْرته

بابٌ: تبسُّمه وحُسن عِشْرته.

حدثنا يحيى بن يحيى: أخبرنا أبو خيثمة، عن سِمَاك بن حربٍ قال: قلتُ لجابر بن سَمُرَة : أكنتَ تُجالس رسول الله ؟ قال: نعم، كثيرًا، كان لا يقوم من مُصلاه الذي يُصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعتْ قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم  [10].

فوائد حديث “أكنتَ تُجالس رسول الله ؟”

هذا الحديث فيه عدة فوائد:

1. أولًا من فوائده: استحباب جلوس المُصلي في مُصلاه بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، والأحسن أن يبقى حتى تطلع الشمس طلوعًا حسنًا -يعني: يزول وقت النهي-؛ ولهذا جاء في الرواية الأخرى عند مسلمٍ: “حتى تطلع الشمس حسنًا” [11] يعني: طلوعًا حسنًا.

وهذا الوقت من الأوقات الفاضلة، وقد أمر الله تعالى بالتَّسبيح فيه والذكر: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39]، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:42]، والبُكْرَة هي أول النهار، يعني: بعد صلاة الصبح.

كيفية اغتنام الوقت بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس

هذا الوقت ينبغي أن يغتنمه المسلم في الذكر والدعاء، ونحو ذلك.

قال أهل العلم: وإنما كان عليه الصلاة والسلام يجلس في مُصلاه بعد صلاة الصبح؛ لأن ذلك الوقت وقت نهيٍ -لا يُصلى فيه-، وهو بعد صلاةٍ مشهودةٍ -وهي صلاة الفجر-: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، وأشغال اليوم لم تَأْتِ بعد، فيكون الإنسان خاليًا من المشاغل، فيقع الذكر والدعاء على فراغ قلبٍ، وحضور فهمٍ.

وجاء في حديث أنسٍ عند الترمذي: أن النبي  قال: مَن صلى الغَدَاة في جماعةٍ، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين؛ كانت له كأجر حجةٍ وعمرةٍ تامَّةٍ، تامَّةٍ، تامَّةٍ [12]، لكن هذا الحديث ضعيفٌ، لا يثبت عن النبي ، ويُغْنِي عنه حديث جابرٍ هنا الذي ذكر فيه: أن النبي كان يجلس في مُصلاه حتى تطلع الشمس.

فينبغي لك أخي المسلم أن تحرص على اغتنام هذا الوقت الفاضل، وأن تنشغل فيه بالذكر.

واختلف العلماء: أيهما أفضل: أن يشتغل فيه بتلاوة القرآن، أو بالذكر والدعاء؟

والذي يظهر أن الأفضل هو: الأصلح لقلب المسلم، ولم يرد في ذلك شيءٌ، فالأفضل هو الأصلح لقلب المسلم.

والمرأة في ذلك كالرجل؛ ينبغي إذا صَلَّتْ صلاة الفجر أن تبقى في مُصلاها تذكر الله ​​​​​​​ حتى تطلع الشمس، فهذه سنةٌ عن النبي كان يُداوم عليها غالبًا.

وإنما قلتُ: غالبًا؛ لأنه في بعض الأحيان كان يخرج بعد صلاة الصبح مُباشرةً، كما في حديث جويرية رضي الله عنها لما صلى النبي صلاة الصبح، ثم رجع بعدما أضحى، فقال: ما زِلْتِ على الحال التي فارقتُكِ عليها؟ قالت: نعم. قال: لقد قلتُ بعدكِ أربع كلماتٍ ثلاث مراتٍ لو وُزِنَتْ بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهنَّ: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزِنَة عرشه، ومِداد كلماته [13]، لكنه غالبًا كان عليه الصلاة والسلام يجلس في مُصلاه حتى تطلع الشمس، مُمتثلًا أمر ربه: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39].

2. أيضًا من فوائد هذا الحديث: جواز الحديث المُباح في المسجد، فإن الصحابة كانوا يتحدثون في أمر الجاهلية ويضحكون، يعني: يتحدثون حديثًا يُؤدي إلى الضحك، وكان عليه الصلاة والسلام يُقرُّهم على ذلك، ويتبسَّم.

وهذا يدل على جواز الحديث المباح، بشرط أن يكون مُباحًا، فلو أن أحد جماعة المسجد جلس يتحدث معك في أمورٍ مُباحةٍ في المسجد فلا بأس.

وبعض العامة يُنكر هذا، وهذا الإنكار لا وجه له؛ لأن الصحابة كانوا يفعلونه بين يدي النبي ، لكن التوسع في ذلك يُخْشَى معه من أن يجرَّ الكلامُ المباحُ كلامًا مُحرمًا؛ فيقع الإنسان في الغيبة، أو السخرية، أو نحو ذلك؛ ولهذا ينبغي عدم التوسع في ذلك، وإلا فأصل الكلام المُباح في المسجد لا بأس به، بل يجوز حتى الشعر المُباح، فكان حسَّان يُلقي الشعر في مسجد النبي ، فلَحَظَ إليه عمر ، فقال: “قد كنتُ أُنشد الشعر فيه بحضرة مَن هو خيرٌ مني ومنك” يعني: رسول الله .

3. أيضًا من فوائد هذا الحديث: حُسن خُلُق النبي ؛ حيث كان يُجالس أصحابه، ولا يترفَّع عنهم، ويتبسَّط معهم، ويستمع لحديثهم وحكاياتهم، ويُشاركهم أيضًا، ويتفاعل معهم؛ حيث كانوا يضحكون، وكان يتبسَّم، وهذا من كمال حُسن الخلق.

وهذا يدل على أن الإنسان ينبغي أن ينبسط ويتبسَّط مع الآخرين، فلا يكون مُنْزَويًا، مُنْقَبضًا، وهذا يُلْحَظ على بعض طلبة العلم، فتجد أنه لا يدخل مع العامة، ويكون مُنْقَبضًا، وهذا خلاف هدي النبي عليه الصلاة والسلام، أكمل الهدي هدي النبي ، كان عليه الصلاة والسلام يُجالس أصحابه، ويتحدث معهم، ويستمع إليهم، ويتحدثون الحديث الذي يُضْحِك ويضحكون ويتبسَّم، لكن بشرط أن يكون ذلك الحديث مُباحًا، ولا يكون مُحرمًا، وقد قال عليه الصلاة والسلام: المؤمن الذي يُخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يُخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم [14].

ثم إنه إذا فعل ذلك طالبُ العلم كان ذلك أدعى لدعوة العامة إلى الله ​​​​​​​، وإلى نشر العلم؛ لأنهم يُحبونه إذا فعل ذلك ويألفونه، فالتَّبسط مع الناس في الحديث من حُسن الخُلُق، ومن مكارم الأخلاق، بشرط أن يكون ذلك الحديث مُباحًا، ولا يجرُّ إلى الكلام المُحرَّم.

4. أيضًا من فوائد هذا الحديث: أنه لا بأس بأن يذكر الإنسان الأعمال التي كان يعملها قبل استقامته مُسْتَقْبحًا لها، وشاكرًا لنعمة الله ​​​​​​​ أن هداه؛ فإن الصحابة كانوا يذكرون الأعمال التي كانوا يعملونها أيام كونهم غير مسلمين؛ استقباحًا لها، وشكرًا لما هداهم الله ​​​​​​​ إليه من الدين الحنيف، بل إن هذا يدخل في الشكر؛ فإن من أبواب الشكر التي يغفل عنها كثيرٌ من الناس: ذكر نِعَم الله تعالى، والله تعالى يقول: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [البقرة:231]، فمن الشكر أن تذكر نِعَم الله عليك، وذلك بأن تُعدِّدها على وجه الشكر لله سبحانه، فتشكر الله ​​​​​​​ وتذكر هذه النعم فيما بينك وبين نفسك، وعند الآخرين، فتقول: أنا كنتُ في كذا وكذا، وأنعم الله عليَّ بكذا وكذا، فاللهم لك الحمد، ولك الشكر. فهذا يدخل في الشكر.

وهذا المعنى يغفل عنه كثيرٌ من الناس، ولو تأملنا قول الله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ نجد أنها تكررتْ في القرآن كثيرًا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [فاطر:3].

فذِكْر نِعَم الله تعالى وتعدادها على وجه الشكر هذا من أبواب الشكر، فالصحابة كانوا يذكرون ما كانوا عليه في الجاهلية، ويذكرون أن الله تعالى هداهم؛ وذلك من باب تذكُّر نِعَم الله العظيمة عليهم، وهذا يدخل في باب الشكر.

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [المائدة:20]، هنا موسى يُذكِّر بني إسرائيل يقول: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، ثم ذكر لهم نعمتين:

النعمة الأولى: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ.

النعمة الثانية: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا.

النعمة الثالثة: وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:20].

إذن تذكير الناس بنِعَم الله ​​​​​​​ هذا بابٌ من أبواب الشكر، فكون الإنسان يذكر نِعَم الله عليه هذا من أبواب الشكر.

5. أيضًا من فوائد هذا الحديث: أن التَّبسُّم في وجه الآخرين من حُسن الخُلُق، وكان عليه الصلاة والسلام كثير التَّبسُّم، وكان تبسُّمه هو الغالب، لم يكن يضحك ضحكًا بصوتٍ مُرتفعٍ في معظم أحيانه، وإنما كان يتبسَّم.

قال جرير بن عبدالله البجلي : “ما حَجَبَني النبي منذ أسلمتُ، ولا رآني إلا تَبَسَّم في وجهي[15].

وجاء في الحديث الصحيح: تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقةٌ [16].

فالتَّبسُّم عند مُلاقاة الآخرين هذا من كمال حُسن الخلق، وأنت انظر لحالك عندما يُقابلك شخصٌ ويتبسم في وجهك، أو يُقابلك شخصٌ آخر عابسًا، تجد الفرق كبيرًا بين هذا وذاك؛ فالذي يُقابلك مُتبسمًا تأنس إليه وتتبسَّط له، أما الذي يُقابلك بوجهٍ مُكْفَهِرٍّ عابسٍ فإنك تنقبض منه وتستوحش منه.

إذن ينبغي عند مُلاقاة الآخرين أن يُلاقيهم المسلم بالبِشْر وبالتَّبسُّم.

رحمته  للنساء والرفق بهن

بابٌ: رحمته  للنساء والرفق بهن.

حدثنا أبو الربيع العَتَكي وحامد بن عمر وقتيبة بن سعيد وأبو كاملٍ -جميعًا-، عن حماد بن زيدٍ. قال أبو الربيع: حدثنا حماد: حدثنا أيوب، عن أبي قِلَابة، عن أنسٍ قال: كان رسول الله في بعض أسفاره، وغلامٌ أسود يُقال له: أَنْجَشَة يَحْدُو، فقال له رسول الله : يا أَنْجَشَة، رُويدك سَوْقًا بالقوارير [17].

ثم ساق المُصنف رحمه الله الحديث برواياتٍ أخرى، ولعلنا أولًا نستعرض هذه الروايات، ثم نتكلم عن الحديث في الجملة.

قال:

وحدثنا أبو الربيع العَتَكي وحامد بن عمر وأبو كاملٍ، قالوا: حدثنا حماد، عن ثابتٍ، عن أنسٍ بنحوه.

وحدثني عمرو الناقد وزهير بن حرب -كلاهما-، عن ابن عُلَيَّة. قال زهير: حدثنا إسماعيل: حدثنا أيوب، عن أبي قِلَابة، عن أنسٍ : أن النبي أتى على أزواجه وسوَّاقٌ يسوق بِهنَّ يُقال له: أَنْجَشَة، فقال: وَيْحَكَ يا أَنْجَشَة! رُويدًا سوقك بالقوارير.

قال: قال أبو قِلَابة: تكلم رسول الله بكلمةٍ لو تكلم بها بعضُكم لعبتُموها عليه.

وحدثنا يحيى بن يحيى: أخبرنا يزيد بن زُرَيْعٍ، عن سليمان التيمي، عن أنس بن مالك. ح، وحدثنا أبو كامل: حدثنا يزيد: حدثنا التيمي، عن أنس بن مالك قال: كانت أم سُليم مع نساء النبي وهنَّ يسوق بهنَّ سَوَّاقٌ، فقال نبي الله : أي أَنْجَشَة، رويدًا سوقك بالقوارير.

وحدثنا ابن المُثنى: حدثنا عبدالصمد: حدثني همام: حدثنا قتادة، عن أنسٍ قال: كان لرسول الله حَادٍ حسن الصوت، فقال له رسول الله : رُويدًا يا أَنْجَشَة، لا تكسر القوارير يعني: ضَعَفَة النساء.

وحدثناه ابن بشار: حدثنا أبو داود: حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنسٍ ، عن النبي ، ولم يذكر: حَادٍ حسن الصوت [18].

هذه القصة ساقها الإمام مسلمٌ رحمه الله بهذه الروايات، وحاصلها: أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام كان معهنَّ أم سُليم وبعض النساء، وكُنَّ معه في سفرٍ، قال: “في بعض أسفاره”، وقال في “تنبيه المُعْلِم”: إنها حجة الوداع.

وكان معه غلامٌ أسود يُقال له: أَنْجَشَة، يَحْدُو.

يُقال: حدوت الإبل حَدْوًا، أي: حَثَثْتها على السير.

وكان حسن الصوت، ويترنم بأراجيز وأشعارٍ بأصواتٍ حسنةٍ، فقال له عليه الصلاة والسلام: يا أَنْجَشَة، رُويدًا سوقك بالقوارير.

القوارير يعني: ضعفة النساء، وسُميت بذلك تشبيهًا بقارورة الزجاج؛ لضعفها وإسراع الانكسار إليها.

المراد بحديث: وَيْحَكَ يا أَنْجَشَة! رُويدًا سوقك بالقوارير

اختلف العلماء في المراد بهذا الحديث على قولين:

  • القول الأول: أن معناه: أن أَنْجَشَة كان حسن الصوت، وكان يَحْدُو بهنَّ ويُنْشِد نشيدًا من القَرِيظ ومن الأراجيز وما فيه تَشْبِيبٌ، فلم يأمن من فتنتهنَّ بذلك، فأمر بالكفِّ عن ذلك.
    فالمعنى: رفقًا بالقوارير يعني: بالنساء، حتى لا تحصل الفتنة، فيفتتنَّ بصوتك.
  • والقول الثاني: أن المراد به الرفق في السير.

قالوا: لأن الإبل إذا سمعت الحُدَاء والصوت الحسن بالشعر وبالأراجيز فإنها تُسرع في المشي؛ لأنها تَسْتَلِذُّ ذلك، فإذا أسرعت المشي أزعجت الراكب، فَنَهَاه عليه الصلاة والسلام عن ذلك؛ لأن النساء يضعفن عند شدة الحركة، فيُخشى سقوطهن، أو لحوق الضَّرر بهنَّ.

إذن هنا قولان:

  • القول الأول: أن المقصود بقوله: رفقًا بالقوارير يعني: حتى لا تحصل الفتنة من هؤلاء النساء بصوتك الحسن.
  • والقول الثاني: أن المقصود أن صوتك الحسن يَحُثُّ الإبل على سرعة السير، فهذا يُؤدي إلى الإضرار بالراكب على الإبل، ومنهم النساء الضعيفات.
    والأقرب هو القول الأول.

قال القاضي عياض رحمه الله: “هذا أشبه بمقصوده “، وذلك أن المرأة بطبيعتها أنها ربما تُحب الصوت الحسن من الرجال، وبعض النساء يكون عندهن ضعفٌ شديدٌ في هذا الجانب، فربما تفتتن بصوت ذلك المُنشد بصوتٍ حسنٍ، ويتعلق قلبها به، فكأنه عليه الصلاة والسلام يقول: يا أَنْجَشَة، صوتك حسنٌ، فانتبه، لا تفتن النساء اللاتي يستمعن إليك.

هذا هو الأقرب في معنى هذا الحديث.

فوائد حديث: وَيْحَكَ يا أَنْجَشَة! رُويدًا سوقك بالقوارير

هذا الحديث فيه فوائد، منها:

  • أولًا: رحمة النبي بالنساء، فإنه قال: رفقًا بالقوارير، فخَصَّهُنَّ بذلك.
    وعلى كلا القولين في معنى الحديث فهو يدل على رحمته عليه الصلاة والسلام بالنساء، وقد شبَّههنَّ بالقوارير تشبيهًا بقارورة الزجاج؛ لضعفها وإسراع الانكسار إليها.
  • أيضًا من فوائد هذا الحديث: جواز الحُدَاء، وهو التَّرنم بالأراجيز والأصوات الحسنة، وبالشعر المُلحَّن، فهذا لا بأس به، وقد كان معروفًا عند العرب، كانوا يترنمون بالأشعار، ويأتون بها بأصواتٍ مُلحَّنةٍ، فهذا جائزٌ، ولا بأس به، ويُسميه بعض الناس: نشيدًا، ويُسميه غيرهم بتسمياتٍ أخرى.
    فإذا كانت هذه غير مصحوبةٍ بالمعازف فلا بأس بها؛ كانت تُفعل بحضرة النبي كما في هذا الحديث.
    أما إذا كانت مصحوبةً بالمعازف فإنها مُحرَّمةٌ؛ لأدلةٍ كثيرةٍ، منها: قول النبي عليه الصلاة والسلام -كما في البخاري علَّقه بصيغة الجزم-: ليكوننَّ من أُمتي أقوامٌ يستحلُّون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف [19]، فقرن المعازف بالخمر وبالحِر -بالزنا-، فهذا يدل على تحريمه، أما إذا كانت بدون معازف فلا بأس بها.

وهذا يقودنا إلى معرفة حكم ما يُسمى بالشيلات:

الشيلات إذا كانت بدون معازف فلا بأس بها، فإذا كان شخصٌ يأتي بشعرٍ مُلحَّنٍ بصوتٍ حسنٍ فهذا لا بأس به، يأتي بقصيدةٍ ويُنشدها بصوتٍ مُلحَّنٍ هذا لا بأس به، أما إذا كانت مصحوبةً بمعازف فإنها لا تجوز، إذا كانت مصحوبةً بأصواتٍ بشريةٍ مُتداخلةٍ على وجهٍ لا يُشبه المعازف فلا بأس بها.

إذن عندنا الشعر المُلحَّن الذي كان يُسميه بعض السلف: غناء، هذا لا بأس به، واشتبه هذا على بعض الناس فأتوا بهذه الآثار المروية عن بعض الصحابة والتابعين، والتي فيها تسمية الشعر المُلحَّن: غناءً، وقالوا: إن هذا يدل على أنهم يستمعون الأغاني.

وهذا كلامٌ غير صحيحٍ، بل حكى ابن رجب وغيره من أهل العلم الإجماع على تحريم الاستماع للمعازف، وأن ما أُثر في ذلك عن بعض السلف: أن المقصود به الشعر المُلحَّن.

  • أيضًا من فوائد هذا الحديث، هنا ذكر النووي قال -من فوائده-: “مُباعدة النساء من الرجال، ومن سماع كلامهم إلا الوعظ ونحوه”.
    يعني: ما كان يُخشى منه الفتنة فينبغي ألا يكون المجلس فيه مُختلطًا بين الرجال والنساء.

هنا في هذا الحديث قال: “قال أبو قِلابة: تكلم رسول الله بكلمةٍ لو تكلم بها بعضكم لعبتُموها عليه”.

قال بعض الشُّرَّاح: إن أبا قِلابة قال هذا الكلام لأهل العراق لما كان عندهم، وكان عندهم شيءٌ من التَّكلُّف، ومَن كان يتنطَّع في العبارة لا يأتي بمثل هذه الألفاظ، يجتنب مثل هذه الألفاظ، فكونه عليه الصلاة والسلام يقول: رفقًا بالقوارير، يقول: هذه كلمةٌ لو تكلم بها بعضكم لعبتُموها عليه؛ لما في هؤلاء من التَّكلُّف والتَّنطُّع.

هذا هو مقصود أبي قِلابة بهذه الكلمة.

ثم قال النووي رحمه الله: “بابٌ: قُرب النبي من الناس، وتبرُّكهم به، وتواضعه لهم”.

قال الإمام مسلمٌ في “صحيحه”:

حدثنا مجاهد بن موسى وأبو بكر بن النضر بن أبي النضر وهارون بن عبدالله -جميعًا-، عن أبي النضر. قال أبو بكرٍ: حدثنا أبو النضر -يعني: هاشم بن القاسم-: حدثنا سليمان بن المُغيرة، عن ثابتٍ، عن أنس بن مالكٍ قال: كان رسول الله إذا صلى الغَدَاة جاء خَدَمُ المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يُؤتى بإناءٍ إلا غمس يده فيها، فربما جاؤوه في الغَدَاة الباردة، فيغمس يده فيها [20].

هذا الحديث يذكر فيه أنسٌ : أن النبي كان إذا صلى صلاة الفجر جاء خَدَمُ المدينة وجواريهم والولدان والصبيان، أتوا بالأواني التي فيها الماء؛ لأجل أن يغمس النبي يده في هذا الماء، فيتبركون به، قال: “فما يُؤتى بإناءٍ إلا غمس يده فيها”.

وهذا يدل على جواز التَّبرك بالنبي ، كان الصحابة  يتبركون بالنبي ؛ يتبركون بإدخال يده في الماء، ويتبركون بشعره، ويتبركون بكل شيءٍ يقع منه عليه الصلاة والسلام، وهذا خاصٌّ بالنبي .

والنووي رحمه الله في شرحه على مسلمٍ قال: إنه يدل على جواز التَّبرُّك بآثار الصالحين.

وقد أخطأ في ذلك كما قال كثيرٌ من المُحققين من أهل العلم، قالوا: إن هذا الحديث لا يدل على جواز التَّبرُّك بآثار الصالحين؛ وذلك لأن الصحابة  لم يفعلوه مع غير النبي ، ولم يفعلوه مع الخلفاء الراشدين؛ لم يفعلوه مع أبي بكرٍ الصديق، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا العشرة المُبشرين بالجنة، ولم يفعلوه مع أحدٍ قط سوى النبي ، ولو كان مشروعًا لنُقِلَ عن الصحابة .

ثم إنه تبرُّكٌ بآثار الصالحين قد يُفضي إلى الوقوع في الشرك، وتعظيمهم من دون الله ، وإلى الغلوِّ في الصالحين، فإن الغلوَّ في الصالحين من أبواب الشرك.

فالصواب إذن أن التَّبرك خاصٌّ بالنبي ، وأنه لا يشمل التَّبرك بآثار الصالحين.

  • أيضًا من فوائد هذا الحديث: تعظيم الصحابة للنبي ؛ حيث كانوا يُرسلون خَدَمَهم ليغمس يده في آنيتهم.

وأيضًا ذكر بعض الشُّرَّاح أن من الفوائد: طهارة الماء المُستعمل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يُدخل يده في هذا الماء، ثم يأخذونه ويستفيدون منه ويشربونه، ولو كان يتنجَّس بذلك لما فعله الصحابة وأقرَّهم النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك.

قال الإمام مسلمٌ رحمه الله:

حدثنا محمد بن رافع: حدثنا أبو النضر: حدثنا سليمان، عن ثابتٍ، عن أنسٍ قال: لقد رأيتُ رسول الله والحلَّاق يحلقه، وأطاف به أصحابه، فما يُريدون أن تقع شعرةٌ إلا في يد رجلٍ [21].

كما ذكرنا كان الصحابة يتبركون بآثاره عليه الصلاة والسلام، ويتبركون بشعره، فكان الحلَّاق يحلق شعره، فما تقع شعرةٌ إلا ويتسابقون عليها يريدون التَّبرك بها.

وهذا يدل على تعظيم الصحابة للنبي ؛ ولهذا قال عروة بن مسعودٍ لما أرسلته قريشٌ في صُلح الحُدَيبية ليُصالح النبيَّ ، فلما رجع إليهم قال: أي قوم، لقد وفدتُ على الملوك، ووفدتُ على قيصر، وعلى كسرى، وعلى النَّجاشي، والله ما رأيتُ ملكًا قط يُعظِّمه أصحابه ما يُعظِّم أصحابُ محمدٍ محمدًا.

فكان الصحابة يُعظِّمون النبيَّ تعظيمًا شديدًا، لكن من غير غلوٍّ.

وهذا الحديث أيضًا يُؤكِّد ما ذكرناه من التَّبرك بآثار النبي ، والتَّبرك بآثار النبي -كما ذكرنا- جائزٌ في حياته، وأيضًا لو وُجد شيءٌ من آثاره بعد مماته، لكن الآن في وقتنا الحاضر -ونحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري- لا يوجد شيءٌ من آثار النبي ، وما يُذْكَر من أنها تُوجد في بعض البلدان آثار النبي عليه الصلاة والسلام، فكل هذه لم تثبت، والغالب أن هذا الكلام غير صحيحٍ.

قال:

وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن ثابتٍ، عن أنسٍ: أن امرأةً كان في عقلها شيءٌ، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجةً. فقال: يا أم فلان، انظري أيّ السكك شئتِ حتى أقضي لكِ حاجتكِ، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغتْ من حاجتها [22].

وهذا يدل على تواضع النبي عليه الصلاة والسلام، تلقاه المرأة وتأخذ بيده ويقضي لها حاجتها، مع أنه عليه الصلاة والسلام هو النبي، وهو الرسول، وهو أيضًا القائد للمسلمين، فهو رئيس الدولة الإسلامية في المدينة، ومع ذلك تلقاه المرأة وتأخذ بيده ويقضي حاجتها.

ذات مرةٍ لَقِيَتْه امرأةٌ كان في عقلها شيءٌ -يعني: من الجنون-، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجةً. يعني: اقضِ حاجتي، قال: انظري أيّ السكك أي: الطُّرق تُريدين أقضي حاجتكِ منها، فخلا معها في بعض الطريق، يعني: وقف معها في طريقٍ، وتكلم معها، وقضى حاجتها عليه الصلاة والسلام.

وهذا يدل على تواضعه عليه الصلاة والسلام، ويدل أيضًا على قُربه من الناس ومُخالطته لهم.

فانظر كيف أن المرأة في عقلها شيءٌ، ومع ذلك تأتي للنبي عليه الصلاة والسلام وتطلب منه أن يقضي لها حاجتها، فيفعل، فأيُّ خُلُقٍ أعظم من هذا؟!

وهذا يدل على كمال خُلُق النبي عليه الصلاة والسلام، وقد وصفه الله تعالى فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فأكَّد الله ​​​​​​​ ذلك بمُؤكدات:

  1. المُؤكد الأول: “إنَّ”.
  2. المُؤكد الثاني: اللام وَإِنَّكَ لَ.
  3. المُؤكد الثالث: حرف الاستعلاء “على”.
  4. المُؤكد الرابع: وصف الخُلُق بأنه عظيمٌ، فكان خُلُق النبي عظيمًا جدًّا.

انظر إلى حُسن خُلُقه؛ كيف أنه تلقاه المرأة التي في عقلها شيءٌ وتطلب منه أن يقضي حاجتها، فيستجيب ويذهب معها، بل يقول: اختاري أيّ طريقٍ تُريدين، ويقضي لها حاجتها.

  • من فوائد هذا الحديث: ذكر بعض الشُّرَّاح أنه يُستفاد من هذا الحديث: أن الخلوة بالمرأة الأجنبية إذا كانت في الطريق والناس يُشاهدون فهذا جائزٌ، وإنما يُنْهَى عنها إذا كانا في محلٍّ لا يراهما أحدٌ.

فخلوة الرجل بالمرأة: أن يكونا في مكانٍ بحيث لا يراهما أحدٌ، أما لو كانا في مكانٍ والناس تنظر إليهما فلا يُعتبر ذلك خلوةً؛ ولهذا قال: “فخلا معها في بعض الطرق”، ولم يُعتبر هذا من الخلوة المُحرَّمة.

ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند باب: “مُباعدته للآثام”، نفتتح به درسنا القادم -إن شاء الله-، وما تبقى الآن من الوقت نُجيب فيه على ما تيسر من الأسئلة.

الأسئلة

السؤال: هل ورد فضلٌ لسلامة الصدر على الناس قبل النوم؟

ويقصد بذلك العفو عمَّن أخطأ في حقِّه.

الجواب: لا أعلم أنه ورد في ذلك شيءٌ خاصٌّ، ولكن هذا مطلوبٌ في كل وقتٍ: قبل النوم، وبعد النوم، وفي كل وقتٍ، كما قال عليه الصلاة والسلام لما سُئل عن خير الناس قال: كل مَخْمُوم القلب، صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مَخْمُوم القلب؟ قال: هو التَّقي، النَّقي، لا إثمَ فيه، ولا بَغْيَ، ولا غِلَّ، ولا حسد [23] أي: سليم الصدر، فهذا خير الناس، والله تعالى أثنى على المؤمنين الذين يدعون بهذا الدعاء: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].

السؤال: كيف نجمع بين حديث: إن الله تجاوز عن أُمتي ما حدَّثتْ به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم [24]، وبين قول الله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284]؟

الجواب: آية: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ هذه منسوخةٌ، هذه نزلتْ فشقَّ ذلك على الصحابة، وأتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وجَثَوا على الرُّكَب، فقالوا: أي رسول الله، كُلِّفْنا من الأعمال ما نُطِيقُ: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أُنْزِلَتْ عليك هذه الآية ولا نُطِيقها. فقال: أتُريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، فقالوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فأنزل الله تعالى الآية التي بعدها: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286]، قبلها الآية: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] [25].

فهذه الآية: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ منسوخةٌ بالآية التي بعدها: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ….

وعلى ذلك فما يُحدِّث الإنسان به نفسه غير مُؤاخذٍ به، وهذا من رحمة الله بالمؤمنين، حَدِيث النفس كله لا يُؤاخذ به الإنسان، الهواجس وأحاديث النفس لا تُؤاخذ بها -الحمد لله-، هذا من رحمة الله وفضله على عباده: إن الله تجاوز عن أُمتي ما حدَّثتْ به أنفسها بشرط: ما لم تعمل أو تتكلم، تُحاسَب على العمل، وعلى الكلام، أما حديث النفس فهذا لا تُحاسَب عليه، ولا تُؤاخذ به.

السؤال: إذا نسي المأموم قراءة الفاتحة في الركعة الثالثة من صلاة العشاء، فهل يلزمه إعادتها؟

الجواب: قراءة الفاتحة ركنٌ في حقِّ الإمام والمُنفرد، وأما المأموم فليستْ ركنًا في حقِّه، وإنما هي واجبةٌ، والواجبات عمومًا يتحمَّلها الإمام عن المأموم، فلو ترك المأموم واجبًا من واجبات الصلاة صحَّتْ صلاته، ولم يلزمه حتى سجود السهو.

وعلى ذلك فإذا ترك المأموم قراءة الفاتحة في إحدى الركعات -في الركعة الثالثة أو الرابعة مثلًا من صلاة العشاء- فصلاته صحيحةٌ.

السؤال: اشتبهتْ عليَّ مسألةٌ، فهل آخذ بالأحوط أم بالأيسر؟

الجواب: الورع أن تأخذ بالأحوط، ولكن إذا كان السائل عاميًّا، فالعامي فرضه التقليد.

ولا أقصد بالعامي الذي لا يقرأ ولا يكتب، يعني: العوام هم غير العلماء، فهذا فرضه التقليد.

مَن يُقلِّد؟

يُقلِّد مَن يرى أنه الأوثق في نفسه من العلماء: في علمه ودينه وأمانته.

كما لو اختلف الأطباء الآن بالنسبة لك، ذهبتَ لطبيبٍ فقال: كذا، وذهبتَ لطبيبٍ آخر فقال: كذا، وذهبتَ لطبيبٍ ثالثٍ فقال: كذا، تأخذ برأي مَن؟

تأخذ برأي مَن ترى أنه الأحذق في الطبِّ، والأكثر علمًا.

كذلك أيضًا بالنسبة لعلماء الشريعة إذا اختلفوا، فتأخذ بقول مَن ترى أنه الأوثق لديك في علمه ودينه وأمانته.

وأما فيما يتعلق بعملك الخاص فكونك تأخذ بالأحوط هذا هو مُقتضى الورع.

السؤال: هل يجوز الدعاء بلهجةٍ عاميةٍ؟

الجواب: لا بأس بذلك، الأمر في هذا واسعٌ، فالله تعالى يعلم مقصوده، ويعلم مُراده، بل حتى يجوز الدعاء أيضًا بغير اللغة العربية، والله تعالى يقول: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4]، ولا يُلْزَم العامة بأن يتكلَّفوا الدعاء بالفصيح، لكن كلما دعوتَ بالمأثور كان ذلك أفضل وأقرب للسنة.

السؤال: زكاة الأغنام: أنا أُزكي ما أنتجتْ وتمَّ بيعه فقط، وأُخرج زكاته بنهاية الحول على أنه مالٌ 2,5%، فهل الأصول -الأُمهات المُعدَّة للإنتاج- عليها زكاةٌ؟

الجواب: نعم، هذه مسألةٌ يكثر السؤال عنها، تكون هناك أغنامٌ، والأمهات تبقى، ويبيع النِّتاج، ففي هذه يُزكَّى النِّتاج فقط زكاة عروض التجارة، وأما الأُمهات فتُزكَّى زكاة بهيمة الأنعام إذا تحقَّقَتْ فيها الشروط، فهذه مما تتبعَّض فيها الأحكام.

نكتفي بهذا القدر، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 2317.
^2 رواه مسلم: 2318.
^3 رواه مسلم: 2319.
^4 رواه مسلم: 2320.
^5 رواه مسلم: 37.
^6 رواه البخاري: 6117، ومسلم: 37.
^7 رواه مسلم: 2321.
^8 رواه البخاري: 13، ومسلم: 45.
^9 رواه البخاري: 6116.
^10 رواه مسلم: 2322.
^11 رواه مسلم: 670.
^12 رواه الترمذي: 586.
^13 رواه مسلم: 2726.
^14 رواه الترمذي: 2507، وأحمد: 5022.
^15 رواه البخاري: 3035، ومسلم: 2475.
^16 رواه الترمذي: 1956، وقال: حسنٌ.
^17, ^18 رواه مسلم: 2323.
^19 رواه البخاري: 5590.
^20 رواه مسلم: 2324.
^21 رواه مسلم: 2325.
^22 رواه مسلم: 2326.
^23 رواه ابن ماجه: 4216.
^24 رواه البخاري: 5269، ومسلم: 127.
^25 رواه مسلم: 125.