الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(37) باب تحريم الظن- من حديث “إياكم والظن..”
|categories

(37) باب تحريم الظن- من حديث “إياكم والظن..”

مشاهدة من الموقع

عناصر المادة

الحمدلله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

حياكم الله تعالى في هذا الدرس العلمي في التعليق على كتاب البِرِّ والصلة والآداب من “صحيح مسلم”.

في هذا اليوم الثلاثاء، الحادي والعشرين من شهر صفر، من عام 1443 للهجرة.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

اللهم ارزقنا الفقه في الدين، ووفقنا لما تحب وترضى يا حي يا قيوم.

تتمة الحديث عن تحريم الظن والتجسس،..

كنا قد وصلنا إلى باب تحريم الظن والتجسس، والتنافس والتناجش ونحوها، وبدأنا في أول الحديث تكلمنا عنه في الأسبوع الماضي في قول النبي عليه الصلاة والسلام: إيَّاكم والظنَّ؛ فإن الظنَّ أكذبُ الحديث [1]. وذكرنا أنَّ الظن المذموم هو الظن الخالي عن القرائن، وأما الظن المحتَفُّ بالقرائن فإنه ليس مذمومًا؛ فإن الله تعالى قال: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ[الحجرات: 12]. وهذا يدل على أن بعضه ليس بإثم، ولأنه أحيانًا يصعب إقامة البينة على بعض الجرائم؛ فلا بد من إعمال الظن المحتف بالقرائن، لكن الظن المذموم هو الظن الخالي من القرائن.

ثم قال عليه الصلاة والسلام: 

وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا

فنهى عن أمرين: عن التحَسُّس، وعن التجسس.

معنى التحسس والتجسس

والتحَسُّس: قد يكون في الخير، وقد يكون في الشر، فورد في سورة يوسف عن يعقوب عليهما السلام، قال: يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ[يوسف: 87]. وأما التجسس فورد في قول الله ​​​​​​​: وَلَا تَجَسَّسُوا[الحجرات: 12].

فالتحسس، بالحاء: هو الاستماع لحديث القوم، فإن كان يراد من ذلك الخير فلا يكون مذمومًا، كما في قصة يوسف ؛ لأنهم يذهبون ويتحسسون ويستمعون للحديث ويسألون؛ بحثًا عن أخيهم، ولكن قد يكون في الشر، وهذا هو المقصود في هذا الحديث: الاستماع لحديث قوم في الشر.

ولا تجسَّسوا، بالجيم، التجَسُّس: هو البحث عن العورات، فنهى النبي عليه الصلاة والسلام عن أن يبحث الإنسان عن عورة أخيه بالتجسس أو بالتحسس.

وكل إنسان له عورة، وكل إنسان عنده عيوب، وكل بني آدم خطَّاء، فنُهي المسلم عن أن يتتبع عورات المسلمين، وأن يبحث عن أخطائهم وزلاتهم، هذا لا يجوز، هذه ليست من أخلاق المسلمين.

وهذا التجسس والتحسس يكسب به أوزارًا.

ونجد هذا مع الأسف في مواقع التواصل الاجتماعي من بعض الناس، يبحث عن عورات إخوانه المسلمين، فيأتي مثلًا لحسابه على (تويتر) أو على (الفيس بوك)، أو على أي وسيلة من وسائل التواصل، ويبحث فيه ربما لسنوات؛ لكي يظفر بزلة، ولكي يقف على عورة، ثم بعد ذلك يبدأ ينفخ فيه، ويُضخِّم من عورة أخيه، وربما حرَّض عليه، فهذا العمل ليس من عمل المؤمنين، وليس من أخلاق المؤمنين، هذه من أخلاق المنافقين.

وهذا الذي يفعل ذلك ما أعظم مصيبته عند الله ؛ ارتكب كبيرة من الكبائر وإثمًا!

وقد يزين له الشيطان ويتأول في ذلك، ولكنه بتتبعه لعورات المسلمين قد ارتكب خطأ عظيمًا في حق أخيه المسلم، والجزاء من جنس العمل؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تتبعوا عورات المسلمين؛ فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته حتى يفضحه في بيته [2]. فالجزاء من جنس العمل؛ فإن الله تعالى يفضح هذا الإنسان في عورته، ويسلِّط عليه من يفعل به كما يفعل بإخوانه المسلمين؛ جزاءً وِفَاقًا.

ولهذا؛ ينبغي للمسلم أن يحمل المحبة والمودة لإخوانه المسلمين، ولا يحمل الشحناء والضغينة التي تكون سببًا في تتبع عورات إخوانه المسلمين: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه [3].

ما المنافسة المنهي عنها؟

ثم قال عليه الصلاة والسلام:

وَلَا تَنَافَسُوا

هنا نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن المنافسة، والمقصود بذلك: المنافسة التي تتسبب في الأحقاد والأضغان؛ فهذه المنافسة التي يصدر عنها أخلاق مذمومة منهي عنها.

وَلَا تَحَاسَدُوا

تكلمنا في الدرس السابق عن حقيقة الحسد، وأنه من أخلاق شرار الخلق عند الله ، وأنه ليس من أخلاق المؤمنين.

معنى قوله: ولا تباغضوا

وَلَا تَبَاغَضُوا

أي: لا تتعاطَوا أسباب البغض؛ لأن البغض يكون في القلب، والإنسان لا يملك هذه المشاعر من البغض ومن المحبة، ولكن المعنى: لا تتعاطوا أسباب البغض.

وإذا وقع في قلبك بغض لمسلم فينبغي أن تسعى لإزالة هذا البغض، وذلك بأن تطبق المنهج الذي أرشد إليه النبي في قوله: لا يَفْرَكْ مؤمن مؤمنة؛ إن كره منها خُلقًا رضي منها آخر [4] رواه مسلم.

ومعنى الحديث: لا يَفْرَكْ يعني: لا يُبغض مؤمن مؤمنة، وهذا ليس خاصًّا فقط بالعلاقة الزوجية؛ وإنما يشمل علاقة المسلم مع غيره عمومًا، يعني: لا يبغض مسلمٌ مسلمًا.

ثم أرشد النبي عليه الصلاة والسلام لإزالة البغض وأسبابه، قال: إن كره منها خُلقًا رضي منها آخر أي: أنه ينبغي أن يغض الطرف عن المساوئ، ويُركِّز على المحاسن؛ فإنه بذلك يزول البغض، وتزول الكراهية، وتدوم المحبة، ويدوم التواصل.

هذا في علاقة الإنسان مع غيره عمومًا، يركز على الجانب الإيجابي، ويغض الطرف عن الجانب السلبي.

أما إذا كان الإنسان سيضع معايير صارمة لمن يتعامل معه، وإن لم يطبِّق هذا الذي يتعامل معه هذه المعايير أبغضه وكرهه، وكان معه في قطيعة وفي شحناء، فلن يجد صديقًا.

إذا أنت لم تشرب مِرَارًا على القَذَى ظمئتَ وأيُّ الناس تصفو مشاربه؟!

فالمطلوب في العلاقة (علاقة المسلم بغيره) أن يركز على المحاسن، وأن يغض الطرف عن المساوئ.

والغالب أنَّ المحبة، وكذلك البغضاء، تكون من الطرفين متبادلة، ولهذا؛ قال: لا تباغضوا. “تباغضوا” على وزن “تفاعلوا”، فهي تكون من طرفين، فالإنسان إذا أبغض آخر أبغضه الطرف الآخر، وإذا أحبَّ آخر أحبه الطرف الآخر، وكما قال القائل:

وللقلب على القلب دليل حين يلقاه.

والعامة لهم مثل يقولون: القلوب شواهد.

فالإنسان يعرف من يحبه ممن يبغضه، وتعرف أن قلب هذا يحبك، وأن قلب هذا يبغضك بما يظهر عليه من آثار المحبة أو البغضاء.

ولكن في أحوال قليلة قد تكون المحبة من طرف واحد، أو البغض من طرف واحد، كما حصل في قصة بَرِيرَة مع زوجها مُغِيث رضي الله عنهما، فإن بريرة كانت أمَة تحت زوجها مغيث وهو رقيق، ثم إنها كاتبت أسيادها حتى عتقت، والحكم في الشريعة الإسلامية: أن الرقيق إذا عتقت وزوجها رقيق فهي بالخيار إن شاءت أن تبقى معه، وإن شاءت فسخ العقد، فأرادت فسخ العقد، فجعل مغيث يبكي في الطرقات يسيل دمعه على خديه، وكان يحبها حبًّا شديدًا وهي تكرهه كراهية شديدة، ولهذا؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: ألا تعجبون من حب مغيث وبغض بريرة! [5]. يعني: هذا شيء يدعو للعجب؛ لأنه في الغالب تكون المحبة من الطرفين، والبغضاء من الطرفين، لكن هذه من الحالات القليلة التي يكون فيها حب شديد من طرف، ويقابله بغض شديد من طرف آخر، هذه من الحالات القليلة، ولذلك؛ جعلها النبي عليه الصلاة والسلام محل تعجب: ألا تعجبون من حب مغيث ومن بغض بريرة؟!.

قال: وَلَا تَبَاغَضُوا، هنا لَفْتَةٌ: كون النبي عليه الصلاة والسلام في أول الحديث نهى عن الظن، قال: إياكم والظن؛ فإنَّ الظن أكذب الحديث. ثم قال: لا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا.. إلخ. فمناسبة ذكر التحسس والتجسس بعد الظن: أن الظن ينتج عنه التحسس والتجسس، ظن السوء ينتج عنه التحسس والتجسس حتى يحقق الظن، ولهذا؛ ورد الحديث: إذا ظننت فلا تَحَقَّق [6].

النهي عن التدابر

ثم قال عليه الصلاة والسلام:

وَلَا تَدَابَرُوا

أي: لا تفعلوا فعل المتباغضين الذين يدبر كل واحد منهما عن الآخر، يلقيه ظهره ودُبره، فهذا هو التدابر الحسي بأن كل واحد يلقي ظهره للآخر يدبر عنه نتيجة التباغض، فالتدابر أثر من آثار التباغض.

وقد يكون التدابر معنويًّا، وذلك بأن يختلفا ويبتعد كل واحد منهما عن الآخر، فيضَلِّله ويُبدِّعه ويُفسِّقُه ونحو ذلك، فهذا من التدابر المعنوي.

وهذا نجده –مع الأسف- لدى بعض طلبة العلم، تجد أن بعضهم يتدابر مع البعض، ثم يبدأ كل واحد منهم يُضلِّل الآخر، ويسبه ويتكلم في عرضه، هذا من التدابر المعنوي، وهو داخل في الحديث: ولا تدابروا. فالتدابر إما أن يكون حسيًّا، وإما أن يكون معنويًّا.

ثم قال عليه الصلاة والسلام:

وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا

يعني: اعملوا أعمال عباد الله، تخلقوا بأخلاق المؤمنين، بأن يحب أحدكم لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره لأخيه ما يكره لنفسه، ويتخلق بخلق التواضع والرحمة والنصح ونحو ذلك.

29 – (2563) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُالْعَزِيزِ -يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ- عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ، قَالَ: لَا تَهَجَّرُوا

لَا تَهَجَّرُوا كذا في معظم “صحيح مسلم”، لكن جاء في بعض النسخ: لا تهاجروا. وهما بمعنًى واحدٍ، ففيه نهي عن الهجران والقطيعة.

وَلَا تَدَابَرُوا تكلمنا عنها.

ولَا تَحَسَّسُوا أيضًا بيَّنا معناها.

حكم بيع المسلم على بيع أخيه

وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا..

لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، فنهى النبي أن يبيع المسلم على بيع أخيه أو يشتري على شراء أخيه.

أن يبيع على بيع أخيه: كأن يأتي لمن سَامَ سلعة بعشرة فيقول: تعال، أنا أعطيك مثلها أو أحسن منها بتسعة، أبيعك مثلها أو أحسن منها بتسعة، فهذا بيع على بيع أخيه، هذا لا يجوز؛ لأنه يورث الشحناء بين المسلمين.

والشراء على شراء أخيه: أن يأتي لمن أراد أن يشتري سلعة بعشرة فيأتي للبائع ويقول: أنا اشتريها منك بأحد عشر، فهذا من الشراء على شراء أخيه، وهو مُحرَّم؛ لأنه يسبب الشحناء بين المسلمين.

وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا.

ثم ساق المصنف هذا الحديث أيضًا من طريق أخرى عن أبي هريرة بهذا اللفظ، وأيضًا ساقه من طرقٍ أخرى.

تحريم ظلم المسلم

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك لباب آخر، قال:

10- بَابُ تَحْرِيمِ ظُلْمِ الْمُسْلِمِ، وَخَذْلِهِ، وَاحْتِقَارِهِ وَدَمِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَالِهِ

طبعًا هذا التبويب من النووي وليس من مسلم، فمسلم لم يبوِّب، وإن كان قد رتَّب الأحاديث ترتيب أبواب، لكنه لم يضع عناوين لهذه الأبواب، فهذه العنونة من النووي رحمه الله.

قال:

(2564) حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ يَعْنِي ابْنَ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، مَوْلَى عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا..

هذه كلها تكلمنا عنها هذه الألفاظ.

ثم قال عليه الصلاة والسلام:

الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ..

فهنا نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الظلم، وأتى بصيغة النفي التي هي أشد ما تكون من النهي، فكونه يقول: المسلم أخو المسلم لا يظلمه أشد مما لو قال: لا يظلم بعضكم بعضًا؛ فهذا نفي في صيغة النهي وهو أبلغ من النهي.

فلا يظلمه بأية صورة من صور الظلم؛ سواء كان الظلم له في بدنه أو في عرضه أو في ماله، فالظلم مُحرَّم، وعقوبة الظلم -في الغالب- مُعجَّلة؛ لأنها من البغي، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم [7]. والظلم يدخل في البغي.

وقال عليه الصلاة والسلام: واتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب [8].

والقصص متواترة في إجابة دعوات المظلومين على ظالميهم، وليس بالضرورة أن يعلم المظلوم بأن الله قد استجاب دعاءه على ظالمه، فقد يوقع الله تعالى العقوبة بالظالم من غير أن يعلم بذلك المظلوم.

وقد تقتضي حكمة الله أن يؤخر عقوبة الظالم إلى يوم القيامة؛ كما قال الله سبحانه: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ[إبراهيم: 42].

فعلى المسلم أن يبتعد عن الظلم بكافة أشكاله وصوره؛ لأن عاقبته وخيمة.

صور خذلان المسلم

قال: وَلَا يَخْذُلُهُ. والخذل معناه: ترك الإعانة والنصرة، قال النووي رحمه الله: ومعناه: إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته، إذا أمكنه ولم يكن له عذر شرعي.

  • فترك الإعانة مع القدرة على الإعانة في موقف يحتاج فيه أخوك المسلم إلى أن تعينه وأن تنصره يعتبر خِذْلانًا، كأن يرى متسلطًا على آمر بمعروف أو ناه عن منكر، فيترك نصرته مع قدرته على ذلك، وأسوأ من ذلك أن يعين المتسلط على هذا الآمر بالمعروف أو الناهي عن المنكر، فهذا من الخذلان العظيم للمسلم.
  • أيضًا من أمثلة ذلك: أن يكتم الشهادة في موضع يحتاج أخوه المسلم إلى أن يقيمها فيه، فهذا يعتبر نوع خذلان.

فلا يجوز للمسلم أن يخذل أخاه المسلم بأية صورة من صور الخذلان.

قال:

وَلَا يَحْقِرُهُ

أي: لا يستصغره بأية صورة من صور الاحتقار، وسيأتي الكلام عن هذا.

ثم قال:

التَّقْوَى هَاهُنَا – وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ

هنا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: التقوى هاهُنا، التقوى هاهُنا، التقوى هاهُنا. وهذا يدل على مشروعية تكرار الحديث؛ سواء أكان جملة أو كلمة، إذا دعت الحاجة إليه، فالنبي عليه الصلاة والسلام كرر هذه الجملة: التقوى هاهُنا، التقوى هاهُنا، التقوى هاهُنا، والمراد: أن التقوى محلها القلب، هذا هو المقصود من الحديث.

وكل إناء بما فيه ينضح، إذا كان القلب فيه تقوى لله ظهرت آثار التقوى على الجوارح.

قال: بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ

بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ هذا متعلق بقوله: ولا يحقره.

هنا قال: بحسب امرئ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم معنى ذلك: لو لم يكن للمسلم شرٌّ سوى احتقاره لأخيه المسلم لكفاه ذلك شرًّا، هذا معنى الحديث.

وهذا يقتضي أن يكون ذلك الاحتقار من كبائر الذنوب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: بحسب امرئ من الشرِّ. هذا من أشد ما يكون من الوعيد، هذا يقتضي أن يكون هذا الاحتقار من الكبائر.

والواجب على المسلم أن ينزل أخاه منزلة معظمة لا مُحَقَّرة من غير أن يغلو فيه، لكن يتعامل مع إخوانه المسلمين باحترام وبتوقير، ولا يحتقره؛ فاحتقار المسلمين ليس من أخلاق المؤمنين.

ثم أيضًا: هذا الاحتقار لأخيه المسلم يترتب عليه أخلاق سيئة، يترتب عليه الكِبْر، يترتب عليه شيوع البغضاء؛ لأن هذا المُحتَقَر سوف يكره هذا الذي احتقره ويبغضه، ويترتب على ذلك شرور كثيرة، هذا الاحتقار يترتب عليه شرور كثيرة.

كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ

وهذا يبين عظيم شأن حرمة المسلم، وقد بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام ذلك في أعظم مجمع في عهده عليه الصلاة والسلام في خطبة عرفات، افتتح الخطبة بقوله: أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا

فأي حرمة أعظم من حرمة اليوم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام؟! هكذا إذَنْ حرمة المسلم على المسلم.

حرمة المسلم على المسلم؛ حرمة دمه، وحرمة ماله، وحرمة عرضه، كحرمة اليوم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام.

وهذا يدل على عظيم شأن حقوق العباد.

ولهذا؛ نظر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما إلى الكعبة يومًا فقال: والله إني لأعلم حرمتك، والمؤمن أشد عند الله تعالى حرمة منك. يعني: حرمة المؤمن أعظم من حرمة الكعبة.

وهذا يستدعي من المسلم الحذر من أن يعتدي على حقوق إخوانه المسلمين في دمائهم و أموالهم و أعراضهم.

القلب محل نظر الله تعالى

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(2564) حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ أُسَامَةَ، وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ، مَوْلَى عَبْدِاللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ دَاوُدَ، وَزَادَ وَنَقَصَ، وَمِمَّا زَادَ فِيهِ: إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ؛ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ. وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ إِلَى صَدْرِهِ.

ثم ساق المصنف هذا الحديث من طريق أخرى بلفظ:

إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ؛ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ

وهذا حديث عظيم: إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ ولا إلى َأَمْوَالِكُمْ؛ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ.

هذا حديث عظيم يدل على أنَّ القلب هو محل نظر الله تعالى من العبد، وأنَّ المسلم عليه أن يحرص على صلاح قلبه وعمله؛ فالله تعالى لا ينظر إلى صورة العبد ولا إلى ماله ولا إلى نسبه ولا إلى حسبه؛ وإنما ينظر إلى قلبه وإلى عمله.

قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: الاعتناء بإصلاح القلب وبصفاته مقدم على الأعمال بالجوارح؛ لتخصيص القلوب بالذكر مقدمًا على الأعمال.

يعني: إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ؛ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ، فقدَّم القلوب على الأعمال، وإنما كان كذلك؛ لأن أعمال القلوب هي المصححة للأعمال.

قال: ويترتب على هذا عدم الغلو في تعظيم من رأيناه يعمل أعمالًا صالحة، وعدم الاحتقار لمسلم رأيناه يعمل أعمالًا سيئة، بل تذم تلك الحالة السيئة لا تلك الذات المسيئة، فتدبر هذا؛ فإنه نظر دقيق.

معنى كلامه: أن العبرة بما في القلب، وليست العبرة بما يظهر على الجوارح، فقد يكون الإنسان ظاهر حاله أنه مقصر لكن عنده أعمال قلبية عظيمة، وقد يكون حال إنسان آخر أنه مكثر من الأعمال الصالحة وأعمالُه القلبية أقل، فهذا الذي عنده أعمال قلبية قد يكون أفضل عند الله وأكرم.

ولذلك هنا يقولون: ينبغي عدم المغالاة في تعظيم من رأيناه يعمل أعمال الجوارح، وأيضًا عدم الاحتقار لمن رأيناه يعمل أعمالًا سيئة.

فقد يكون هذا الذي يعمل أعمالًا سيئة أفضل عند الله من ذلك الذي يعمل أعمالًا صالحة، لكن الذي يُنكَر هو تلك الأعمال السيئة لا ذلك الشخص، ولهذا؛ جاء في الحديث الصحيح: أنَّ النبي قال: وإن الرجل لَيعملُ بعمل أهل النار -فيما يبدو للناس- فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة -فيما يبدو للناس- فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها [9].

تصحيح لفهم حديث: وإنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة..

الفهم الصحيح لهذا الحديث: وإنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها.

الفهم الصحيح لهذا الحديث: هو كما قال ابن كثير وابن القيم وجماعة من أهل العلم، قالوا: إن هناك رواية تُفسِّر المقصود: وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار يعني: فيما يبدو للناس، لكنه في حقيقة الأمر هو يعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة، وهذا الرجل الآخر يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، لكنه في حقيقة الأمر يعمل بعمل أهل النار فيدخل النار.

وليس المعنى: أن الإنسان يكون طيلة عمره صالحًا ثم تبدر منه زلة عند موته فيدخل النار، وابن القيم يقول: من قال هذا فقد ظن بالله ظن السوء. يعني: لو كان هذا على مستوى البشر، إنسان محسن طيلة عمره، ثم بدر منه زلة، يؤاخذ بالزلة ويترك إحسانه طيلة عمره؟! ليس هذا من العدل، فهذا لا يليق بعدل الله ، والله تعالى كريم رحيم بعباده، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49].

فهذا الذي قد أحسن طيلة عمره ليس المعنى أنه أحسن طيلة عمره ثم بدرت منه زلة فيدخل النار، ولكن الكلام أن هذا فيما يبدو للناس، أن هذا الإنسان -فيما يبدو للناس- يعمل بعمل أهل الجنة، لكنه في حقيقته يعمل بعمل أهل النار؛ ولذلك يكون من أهل النار.

والرجل الآخر يعمل بعمل أهل النار -فيما يبدو للناس- لكن عنده أعمال قلبية، وعنده أعمال صالحة، فهو يعمل -في حقيقة الأمر- بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، هذا هو الفهم الصحيح لهذا الحديث.

فينبغي أن يُفهم على وجهه الصحيح، ولا يليق بعدل الله أن نقول: إن الإنسان يكون محسنًا طيلة عمره، ثم تبدر منه زلة عند موته ثم يدخل النار. هذا لا يليق بعدل الله .

هذا الحديث ينبغي أن يجعله المسلم نصب عينيه: إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ؛ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ

فمحل نظر الله تعالى من العبد هو القلب والعمل، وليست الصورة والمال، فينبغي أن يحرص المسلم على إحسان العمل وعلى إصلاح قلبه؛ أن يتفقد أعماله القلبية، وكذلك يصلح أعمال الجوارح؛ فالميزان عند الله إنما هو بالتقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13].

ومحل التقوى القلب؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: التقوى هاهُنا. ويشير إلى صدره، فمحل التقوى القلب.

معيار التفاضل بين الناس

فمعيار التفاضل بين الناس هو معيار واحد، معيار التفاضل بين الناس عند الله معيار واحد فقط، ليس المعيار بالنَّسَب ولا بالحسب، ولا بالمال ولا بالجنسية ولا بالغنى، ولا بأي معيار، ولا حتى بالذكورة أو بالأنوثة، أن هذا ذكر وأن هذه أنثى، ولا باللون ولا بأي شيء من هذه المعايير التي عند البشر؛ إلا بمعيار واحد فقط، وهو التقوى.

فميزان التفاضل عند الله فقط بمعيار واحد، وهو التقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13].

فالناس يتفاضلون عند الله بالتقوى فقط؛ لا بأجسامهم، ولا بأشكالهم ولا بألوانهم، ولا بأموالهم ولا بأنسابهم؛ إنما بالتقوى فقط: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ.

والتقوى محلها القلب، ولهذا؛ فإن القلب هو محل نظر الله تعالى من العبد: إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ.

النهي عن الشحناء

ننتقل بعد ذلك إلى:

11 – بَابُ النَّهْيِ عَنِ الشَّحْنَاءِ..

قال الإمام مسلم رحمه الله:

(2565) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ، قَالَ: تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا.

وهذا الحديث يدل على ذم الهجران بين المسلمين، وأن من هجر أخاه المسلم ووقعت بينه وبينه شحناء، فإن هذين المتهاجرين المتشاحنين يُحْرَمان من هذا الفضل المذكور في هذا الحديث، وهو مغفرة الصغائر.

فمن رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين: أنه في يومي الاثنين والخميس تفتح أبواب الجنة الثمانية، فيغفر الله لأهل التوحيد لمن لا يشرك بالله شيئًا، يغفر لهم صغائر الذنوب، ويُستثنى من ذلك: المتشاحنان، فالذي بينه وبين أخيه شحناء، وبينه وبينه هجران وقطيعة، فهذان يُحرمان من مغفرة الذنوب، وهذا يدل على الذم الشديد لهجران المسلم.

فلا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه المسلم، وإذا حصل ذلك حرم من هذا الفضل المذكور في هذا الحديث.

فإذا حصل بينك وبين أخيك المسلم شحناء، فينبغي أن تسعى لإزالة تلك الشحناء، وإزالة ذلك الهجر والقطيعة ما استطعت إلى ذلك سبيلًا.

والحد الأدنى لإزالة الهجر والقطيعة هو أن تسلم عليه، فإذا سلمت عليه فقد زال الهجر وأتيت بالحد الأدنى للتواصل بينك وبين أخيك المسلم.

ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما: الذي يبدأ بالسلام [10].

قوله: وخيرهما: الذي يبدأ بالسلام. دليل على أنَّ الهجر يزول بإلقاء السلام والتحية.

وإذا قُدِّر أنك سلمت عليه ولم يَرُدَّ عليك السلام فقد أبرأت ذمتك عند الله ، وخرجت من الذنب الوارد في هذا الحديث، وهو الحرمان من مغفرة الذنوب في يومي الاثنين والخميس.

ولذلك؛ احرص -يا أخي المسلم- على أن تزيل أسباب الهجر مع أخيك المسلم حتى لو كان هو الذي أخطأ عليك كن خيرًا منه، ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: وخيرهما. خيرهما عند الله تعالى، وخيرهما عند الناس: الذي يبدأ بالسلام.

حتى لو كان الخطأ من أخيك المسلم، احرص أن تكون أنت الخيِّر، خيرهما، تنال الخيرية الواردة في الحديث، فاذهب إليه وسلِّم عليه لله ، ليس لأجل هذا الشخص؛ وإنما لله تعالى، حتى تنال الفضل الوارد في الحديث، وهو مغفرة الذنوب في كل يومي اثنين وخميس، وأيضًا حتى تجتنب الإثم؛ لأنَّ هجران المسلم أكثر من ثلاثة أيام يأثم به الإنسان؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث.

فقوله: لا يحل. يدل على أنه يحرم، وأنه يكسب به آثامًا وأوزارًا.

ولذلك؛ ينبغي للمسلم أن يحرص على إزالة الهجر والقطيعة مع جميع إخوانه المسلمين؛ لا يهجر أحدًا، لا يقاطع أحدًا، يبيت حينما يبيت وهو سليم الصدر لإخوانه المسلمين.

من فوائد حديث: تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ..

  • أن أبواب الجنة الثمانية تفتح مرتين في الأسبوع: المرة الأولى في يوم الاثنين، والمرة الثانية في يوم الخميس، ويتزامن مع فتح أبواب الجنة مغفرة الصغائر للمؤمنين الموحدين، ويُستثنى من ذلك من كان بينه وبين أخيه شحناء وهجران فلا تغفر لهما الصغائر، ويقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا.

وفتح أبواب الجنة للمؤمنين يدل على فضل الله وجوده؛ فإن الجنة إنما تفتح أبوابها ترغيبًا للمؤمنين في الإكثار من الأعمال الصالحة.

وهناك أيضًا شهر من شهور السنة تفتح فيه أبواب الجنة، وهو شهر رمضان، فإنه إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة طيلة أيام الشهر، ليس فقط يومي الاثنين والخميس؛ وإنما طيلة أيام الشهر تفتح أبواب الجنة الثمانية، وتغلق أبواب النار في شهر رمضان.

وفي غير رمضان تفتح أبواب الجنة في يومي الاثنين والخميس، وتغفر للمؤمنين الموحدين جميع الصغائر، ويستثنى من ذلك: من كان بينه وبين أخيه المسلم هجران أو قطيعة، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا.

  • من فوائد هذا الحديث: أن من كان بينه وبين أخيه شحناء فينبغي أن يسعى لإزالتها، والاصطلاح مع أخيه المسلم؛ لأن النبي قال في هذا الحديث: تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا

فحُرِم الاثنان جميعًا من مغفرة الذنوب بسبب هذه الشحناء والهجران، مع أنه في الغالب يكون الخطأ من واحد، أحدهما أخطأ على الآخر، لكن في الغالب أن كُلَّ واحد منهما يدَّعِي أن الخطأ من صاحبه، هذا يقول: هو الذي أخطأ عليَّ. وهذا يقول: هو الذي أخطأ عليَّ.

ولذلك؛ ينبغي أن يسعيا للإصلاح وأن يصطلحا رجاء ما عند الله من مغفرة الذنوب، وكذلك أيضًا حتى لا يقعا في الإثم؛ فإن هجران المسلم لأخيه المسلم يكسب به آثامًا: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث [11].

فتأمل كيف أن النبي أخبر بحرمان المتهاجرين جميعًا من مغفرة الذنوب، مع أنه قد يكون أحدهما هو المخطئ والآخر هو الذي قد أُخطِئ عليه، ولكن هذا من باب الحث على الاصطلاح، أن يصطلحا فيما بينهما.

والحد الأدنى لهذا الاصطلاح: هو أن يسلم عليه وأن يلقي عليه التحية.

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث من طرق أخرى، بلفظ: اتركوا هذين حتى يصطلحا، أَنظِروا، وفي لفظ: اتركوا هذين حتى يصطلحا، وفي لفظ: ارْكُوا [12] هذين حتى يصطلحا. وهي كلها بمعنًى واحدٍ.

فضل الحب في الله

ننتقل بعد ذلك إلى:

12 – بَابٌ فِي فَضْلِ الْحُبِّ فِي اللهِ

(2566) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي الْحُبَابِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي .

قوله: إِنَّ اللهَ يَقُولُ.. . هذا حديث قدسي، يسميه العلماء: الحديث القدسي، وهو ما يكون من الله بالمعنى، يعني: ينقله لنا النبي عليه الصلاة والسلام بمعناه دون لفظه، أما ما كان بلفظه ومعناه فهذا هو القرآن، لكن ما كان بمعناه دون لفظه، فهذا هو الحديث القدسي.

إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:

ويوم القيامة: هو يوم الحشر، ويوم البعث، هذا اليوم العظيم الذي تشيب من أهواله الولدان.

يقول الله تعالى: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي؟.

بجلالي أي: بعظمتي وطاعتي، لا للدنيا ولا للمصالح الشخصية؛ وإنما تحابوا بجلالي وبطاعتي.

اليوم يعني: يوم القيامة.

المراد بظل الله 

أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي.

أولًا: لا يجوز أن نقول: إن المقصود هو ظل الله تعالى؛ لأن الله تعالى ليس فوقه شيء، ليس فوق الله تعالى شيء حتى يكون لله ظل، فينبغي أولًا ألا يفهم أحد هذا الفهم.

إذَنْ ما المقصود بقوله: الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي؟

قال العلماء: المقصود بذلك أحد أمرين:

  • إما أن يكون المقصود أظلهم تحت ظل عرشي، وهذا قد جاء في إحدى الروايات في غير “صحيح مسلم”، فيكون المقصود: في ظل العرش، ونسبه الله تعالى إليه نسبة تشريف.
  • والتفسير الثاني: أنه ظل يخلقه الله .

 فهذا هو التفسير الصحيح؛ إما أن يكون المقصود: تحت ظل عرشي، أو أن يكون المقصود: ظل يخلقه الله تعالى.

وهكذا أيضًا في قول النبي عليه الصلاة والسلام: سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. [13].

المقصود: إما ظل العرش، أو المقصود: ظل يخلقه الله ، وذلك؛ لأن الناس يكونون يوم القيامة في موقف مهيب تدنو الشمس فيه من الخلائق حتى تكون على قدر مِيل، ويلحقهم من الكرب والغم والحر شيء عظيم لا يطيقون معه ولا يحتملون.

وهناك أناس يكرمهم الله بأن يظلهم تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ منهم: السبعة الأصناف الذين ذكرهم النبي عليه الصلاة والسلام، ومنهم ما ذُكِرَ في هذا الحديث، مع أن ما ذُكِرَ في هذا الحديث يتوافق أيضًا مع حديث السبعة؛ لأنه قال في السبعة: ورجلان تحابا في الله؛ اجتمعا عليه وتفرقا عليه.

قال: أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي.

فوائد من حديث: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي..

  • دل هذا الحديث على: فضل الحب في الله ، وعلى عظيم أجره وثوابه.
  • وأن من حقق هذا العمل الصالح، وهو الحب في الله سبحانه، فهو موعود بأن يكون من الذين يظلهم الله تعالى تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله.

والحب في الله تعالى معناه: أن يرى إنسانًا مستقيمًا على طاعة الله تعالى فيحبه في الله، لا يحبه لمصلحة شخصية، ولا يحبه لقرابة، ولا لنسب، ولا لزمالة، ولا لأي أمر دنيوي؛ إنما يحبه في الله ولله، رآه مستقيمًا على طاعة الله فأحبه لله تعالى، فهذا من الأعمال القلبية العظيمة التي أجرها عند الله عظيم، وإذا حقق المسلم هذا العمل الصالح كان موعودًا بأن يكون من الذين يظلهم الله تعالى تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله.

والمحبة في الله تعالى هي من كمال الإيمان، ولا يكمل إيمان عبد حتى يحب أخاه في الله.

ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام، كما في “صحيح مسلم”: والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم [14].

فقوله: ولا تؤمنوا حتى تحابوا. المقصود بالإيمان هنا كمال الإيمان، يعني: لا يكون كمال الإيمان إلا بالمحبة في الله .

إفشاء السلام من أسباب تحقيق المحبة بين المسلمين

ثم ذكر النبي سببًا هو من أعظم أسباب تحقيق المحبة في الله سبحانه، وهو إفشاء السلام: أفشوا السلام بينكم، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم. لم يقل: ألقوا السلام، بل: أفشوا. وهذا يدل على أنه ينبغي الإكثار من إلقاء السلام والتحية؛ لأن إفشاء السلام يجلب المحبة والمودة بين المسلمين.

ولذلك؛ لو مرَّ بك إنسان وسلَّم عليك فإنك تأنس به وتحبه، لكن عندما يأتي إنسان يمر بك ولا يُسلِّم، فإنك تستوحش منه وتقول: لماذا لم يُسلِّم علي؟! ربما في خاطره شيء عليَّ، وتستوحش منه، ومع مرور الوقت يتحول هذا إلى شحناء، أن هذا الإنسان يمر ولا يُسلِّم، لماذا لا يُسلِّم؟ ولذلك؛ من أعظم أسباب تحقيق المحبة بين المسلمين: إفشاء السلام بينهم.

ولهذا؛ يشرع إذا دخلت المسجد ووجدت من سبقك إلى المسجد: أن تسلم عليه، تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كذلك أيضًا: إذا أتيت بتحية المسجد، أو بالسنة الراتبة، تسلم على من على يمينك وعن يسارك، هذا من إفشاء السلام، ولا يقال: إنك قد سلمت في البداية فلا تسلم مرة أخرى، فإنه في قصة المسيء صلاته: دخل المسجد وصلى، ثم أتى النبيَّ عليه الصلاة والسلام، فسلَّم فرد عليه السلام وقال: ارجع فَصَلِّ؛ فإنك لم تُصَلِّ. ثم رجع فصلى صلاة خفيفة نقرها، ثم أتى وسلَّم فرد عليه السلام وقال: ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ. ثم رجع وصلى صلاة خفيفة، ثم رجع فسلَّم فرد عليه السلام [15]، ثلاث مرات وهو يُسلِّم، والفاصل يسير، الفاصل هو هذه الصلاة التي وصفها النبي عليه الصلاة والسلام قال: فإنك لم تصلِّ. ومع ذلك أقره النبي عليه الصلاة والسلام على تكرار السلام، سلَّم ثم سلَّم ثم سلَّم.

فإذا دخلت المسجد سلِّم، إذا أتيت بتحية المسجد أو السنة الراتبة سلِّم على من عن يمينك وعن يسارك، إذا أردت أن تغادر المسجد أيضًا سلِّم، هذا كله داخل في إفشاء السلام؛ فإن إفشاء السلام يعني: كثرة السلام وشيوعه بين المسلمين، وهو من أسباب تحقيق المحبة بين المسلمين، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم.

محبة الله من ثمرات الحب في الله

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(2567) حَدَّثَنِي عَبْدُالْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ : أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا.

فأرصد الله على مدرجته، يعني: أقعد له، ومدرجته يعني: طريقه، المدرجة: هي الطريق، سميت بذلك؛ لأن الناس يَدرُجون عليها، يعني: يمضون ويمشون.

فَأَرْصَدَ اللهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ. قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا عليه؟.

يعني: تقوم بإصلاحها وتنهض إليه بسبب ذلك.

قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ ​​​​​​​. قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ.

هذه قصة عجيبة يخبر فيها النبي بأن رجلًا زار أخًا له في قرية، فأرصد الله تعالى في طريقه مَلَكًا، هذا الملك أتاه على هيئة رجل، وسأل هذا الإنسان، قال له: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا عليه؟. يعني: هل بينك وبينه مصالح دنيوية؟ قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ. سبب الزيارة هو المحبة في الله، قال هذا المَلك: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ.

فوائد من حديث: أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ..

  • دل ذلك: على أنَّ من أسباب نيل محبة الله الحب في الله والزيارة في الله تعالى، فهي من أسباب نيل محبة الله تعالى، ولهذا؛ أرسل الله تعالى هذا المَلَك لهذا الرجل، وقال له: إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ. فدل هذا الحديث على فضل الحب في الله، وأنه من أسباب نيل محبة الله تعالى.
  • ومن فوائد هذا الحديث أيضًا: فضل الزيارة في الله تعالى، بأن يزور الإنسان أخًا له لا يريد من تلك الزيارة إلا المحبة في الله تعالى، فهذه الزيارة من الأعمال الصالحة العظيمة، ففيها:
    • أولًا: الأجر العظيم.
    • ثانيًا: أنها تؤلِّف القلوب وتجمع الناس.
    • وفيها أيضًا: تذكير للناسي وتنبيه للغافل.
    • وفيها: تعليم للجاهل.
    • وفيها: شيوع للتناصح بين المسلمين.

فالزيارة في الله تعالى من الأعمال الصالحة العظيمة.

لكن ينبغي، إذا أردت أن تزور أخًا لك في الله، أن تُرتِّب الموعد قبل ذلك؛ حتى لا تفجأه بهذه الزيارة فربما يكون منشغلًا أو مرتبطًا بموعد آخر فتأتي إليه فيكون الوقت غير مناسب، فربما اعتذر منك فتسبب هذا في عكس مقصود الزيارة، ولذلك؛ ينبغي لمن أراد أن يزور أخًا له في الله أن يأخذ منه الموعد قبل ذلك حتى يُحدد له الوقت المناسب لزيارته.

فالزيارة في الله إذَنْ هي من الأعمال الصالحة العظيمة.

المحبة في الله تعالى من الأعمال القلبية العظيمة، ومن أوثق عُرَى الإيمان، وهي من أسباب نيل محبة الله تعالى، فإن الله تعالى أرسل هذا المَلَك على صورة رجل وقال: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ.

هذه الأعمال القلبية يغفل عنها كثير من الناس مع عظيم شأنها.

المحبة في الله تعالى من أوثق عُرى الإيمان، ومن أسباب نيل محبة الله تعالى، فإذا أحببت إنسانًا في الله تعالى وزرته في الله ، فإنك تنال محبة الله تعالى؛ ولهذا؛ أرسل الله تعالى مَلَكًا في صورة رجل لمن زار أخًا له في قرية، يقول له: إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَ فلانًا. فهي من أسباب نيل محبة الله .

وأيضًا من أسباب أن يكون الإنسان من الذين يظلهم الله تعالى تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي. وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله تعالى تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، ذكر منهم رجلين تحابَّا في الله؛ اجتمعا عليه وتفرقا عليه.

ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند باب فضل عيادة المريض، نفتتح به الدرس القادم إن شاء الله تعالى.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة والأجوبة

هل جميع وقت الثلث الأخير وقت للإجابة؟

س: هل جميع وقت الثلث الأخير وقت للإجابة أم أن آخره أرجى؟

ج: ورد في الحديث الصحيح عن النبي قال: ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له فظاهر هذا أن جميع الثلث الأخير أنه من أوقات الإجابة، لكن ساعة الإجابة التي قال عنها النبي : إنَّ في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة المقصود بها لحظات يستجاب فيها الدعاء، وهذه أرجى ما تكون اللحظات التي تسبق أذان الفجر، فهذه إن استطعت أنك تدعو فيها فافعل، ترفع يديك مستقبلًا القبلة وتدعو الله ، أو تدعو الله تعالى وأنت ساجد فهذه من أوقات إجابة الدعاء.

حكم إطالة شعر الرأس للرجل

س: ما حكم إطالة شعر الرأس للرجل؟

ج: إطالة شعر الرأس هي مثل لبس الإزار ولبس الرداء ولبس العمامة، هذه المسائل وهذه الأمور يفعل الإنسان ما اعتاد عليه قومه وأهل بلده، ولا يشذ عنهم، وإلا لو قلت: أريد أن أُطبِّق السُّنة في إطالة شعر الرأس، نقول: أيضًا البس عمامة، والبس إزارًا ورداء، هذه الأمور السُّنة فيها أن تفعل ما يفعله أهل البلد ولا تخالفهم، فإذا كان أهل البلد مثلًا لا يلبسون عمائم لا تلبس عمامة، بل إن لبسك العمامة في بلد لا يلبس أهله العمائم يكون لباس شهرة، وقد ورد ذم لباس الشهرة: مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ، أَلْبَسَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ [16].

كذلك أيضًا: لبس الإزار والرداء، النبي عليه الصلاة والسلام إنما كان يفعل ذلك، كان يلبس إزارًا ورداءً، وكان يلبس العمامة، وكان يطيل شعره؛ لأن العرب كانت تفعل ذلك، فكان يفعل ما يفعله الناس في زمنه عليه الصلاة والسلام.

فنقول: في الوقت الحاضر افعل ما يفعله الناس في بلدك، فإذا كان الناس في البلد لا يطيل الرجال شعورهم فلا تطل شعرك، ولا يعتبر إطالة الشعر من السُّنة، ولا تلبس عمامة، ولا تلبس إزارًا ورداءً، بل افعل ما يفعله الناس في بلدك.

فهذه الأمور ترجع لعادة أهل البلد، بل ينبغي ألا يشذ الإنسان عن أهل بلده حتى لا يقع في لباس الشهرة المذموم.

حكم نقر الصلاة والإسراع فيها

س: ما حكم من ينقر الصلاة ويسرع فيها؟

ج: من ينقر الصلاة ويسرع فيها ولا يحقق ركن الطمأنينة، ليس له من صلاته إلا التعب؛ فإن النبي لما أتى رجل وصلى وأتى وسلَّم عليه وردَّ عليه السلام، قال له: ارجع فصلِّ؛ فإنك لم تصلِّ [17].

قوله عليه الصلاة والسلام: فإنك لم تصلِّ. هذا نفي، والأصل في النفي أنه ينصرف إلى نفي الوجود، فإن لم يمكن فإلى نفي الصحة، فإن لم يمكن فإلى نفي الكمال.

نفي الوجود غير وارد؛ لأن الصلاة موجودة.

فإذَنْ ينصرف النفي في قوله عليه الصلاة والسلام: فإنك لم تصلِّ. إلى نفي الصحة، أي: إن صلاتك هذه غير صحيحة؛ لكونك لم تطمئن فيها.

وهذا يدل على أن الطمأنينة في الصلاة ركن من أركان الصلاة، فيجب على المسلم وعلى المسلم أن يطمئن في صلاته، وإلا فالذي يصلي صلاة لا يطمئن فيها لا تصح صلاته وإن صلى ألف صلاة، ارجع فصلِّ؛ فإنك لم تصلِّ.

من عنده رهاب اجتماعي هل يكتفي بالإنكار بقلبه؟

س: مريض يأخذ علاجات تؤثر على نفسيته، ولديه رهاب اجتماعي، هل يكتفي بالإنكار في قلبه؟

ج: النبي عليه الصلاة والسلام وضع ثلاث درجات لإنكار المنكر، قال: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان [18]. فما دام أن السائل بهذا الوصف فيبقى عنده الإنكار القلبي الذي لا يعجز عنه أي أحد، ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: وذلك أضعف الإيمان.

حكم الزكاة على من عنده ثلاثون من الغنم ويَتَّجِر بأولادها

س: من كان عنده ثلاثون من الغنم ويبيع نتاجها بشكل سنوي فهل يزكي؟

ج: هذه المسألة من النوازل، لم أقف عليها في كتب الفقهاء السابقين، واستجدَّت في الوقت الحاضر، يعني: يكون عند الإنسان سائمة من بهيمة الأنعام لا يريد بها التجارة، لكن يريد التجارة بأولادها، فالأمهات لا يريد بها التجارة ولكن يريد التجارة بالأولاد، فهنا اجتمع عندنا عُروض تجارة وأيضًا سائمة، فالأقرب في هذه، والله أعلم: أن تطبق عليها قاعدة: “تبعيض الأحكام” التي ذكرها الفقهاء، فنقول:

هذه الأمهات تُزكَّى زكاة السائمة، وأما هذا النِّتَاج فيزكَّى زكاةَ عُروض التجارة، وفي سؤال الأخ الكريم قال: إنها ثلاثون من الغنم، فهي أقل من النصاب فلا زكاة إذَنْ في الأمهات، ولكن في أولادها تُزكى زكاة عروض التجارة؛ لأنه يتاجر في أولادها، دون الأمهات فلا زكاة فيها.

حكم الحَرَاج والمساومة

س: لا يبع أحدكم على بيع أخيه هل يدخل فيه الحَرَاج [19] والمساومة؟

ج: لا يدخل في ذلك الحراج والمساومة في سوق من يزيد، هذا ليس فيه بيع على بيع أخيه، إلا إذا وقف البيع على إنسان، فعندما يُحرَّج على سلعة؛ هذا يقول مثلًا: ثلاثين. وهذا يقول: خمسة وثلاثين. وهذا يقول: أربعين. وهذا يقول: خمسة وأربعين. وهذا يقول: خمسين. هنا لا بأس بالزيادة، لا يعتبر هذا من البيع على بيع أخيه، لكن إذا وقف البيع عند إنسان قال: خمسين. قال البائع أو قال السمسار الوسيط: نصيبك. فهنا لا يجوز لأحد أن يبيع على بيعه، أو يسوم على سومته، لا يجوز؛ لأن هذا يسبب الشحناء، لكن قبل أن يقف السوم لا بأس بالزيادة.

حكم قراءة القرآن وجعل ثوابها للميت

س: ما حكم قراءة القرآن وجعل ثوابها للميت؟

ج: جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة وأكثر السلف، جمهور السلف يرون أن الثواب يصل للميت، وأنها من جنس الصيام، كما أن الصيام يصل ثوابه للميت، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: من مات وعليه صوم صام عنه وليه [20]. وكذلك الصدقة يصل ثوابها للميت، وكذلك الحج والعمرة، قالوا أيضًا: قراءة القرآن يصل ثوابها للميت، وهذا أيضًا ما اختاره ابن تيمية وابن القيم وجمع من المحققين من أهل العلم، خلافًا للشافعية الذين قالوا بعدم وصول الثواب.

والأقرب -والله أعلم- ما عليه أكثر أهل العلم من وصول الثواب، فلا بأس بقراءة القرآن وإهداء ثوابها للميت.

لكن هل هذا هو الأفضل؟

من حيث الحكم: يجوز، لكن هل هذا هو الأفضل؟

نقول: لا، ليس هذا هو الأفضل، الأفضل: أن يقتصر على الدعاء للميت والصدقة عنه، هذا هو الأفضل، وأما قراءة القرآن فلا يهدي ثوابها للميت؛ لأن هذا لو كان هو الأفضل، وكان مشروعًا لفعله النبي عليه الصلاة والسلام عن أقاربه الأموات، ولفعله الصحابة، وفعله التابعون، وانتشر واستفاض بين السلف ولكنه لم يرد هذا، لم يرد أن فيه فضيلة؛ وإنما ورد على سبيل الإذن لمن أراد أن يفعل ذلك، فمن أراد أن يفعل ذلك فلا حرج، ولكن من حيث الأفضلية ليس هو الأفضل، الأفضل أن يدعو للميت، وأن يتصدق عنه، ويعتمر عنه ويحج عنه، لكن إهداء ثواب التلاوة الأفضل ألا يهدي ثواب التلاوة، ولكن لو فعل ذلك فلا حرج عليه.

أين توضع اليدين بعد الرفع من الركوع؟

س: ما القول الراجح في وضع اليدين بعد الرفع من الركوع؟

ج: القول الراجح: هو أن اليدين بعد الرفع من الركوع تكون كاليدين قبل الرفع من الركوع، عندما تُكبِّر فالسُّنة أن تضع اليد اليمنى على الكف اليسرى فوق السُّرة هكذا، وهكذا أيضًا بعدما ترفع من الركوع، هذا هو الأفضل.

حكم الشراء من محل يعطي جوائز على الشراء منه

س: هل يجوز أن أشتري من محل هو أبعد مني عادة؛ بسبب أنه يعطي جوائز على الشراء منه؟

ج: لا بأس بذلك؛ لأن الإنسان يبحث عن الأقل سعرًا ولو كان المحل بعيدًا، وهذا الذي يعطي جوائز أو هدايا هو في الحقيقة قد قام بالتخفيض بطريق غير مباشر، بدل أن يخفض السلعة قال: أعطيك هدية، أو أعطيك جائزة. هذا كله لا بأس به.

كيفية احتساب حَوْل العقار المؤجر

س: ما كيفية احتسابِ حَوْلِ العقارِ المؤجر؟ هل من قبض الأجرة أو من بداية العقد؟

ج: هذا محل خلاف، والقول الراجح: أنه من حين قبض الأجرة، العقار المؤجر أصله لا زكاة فيه، لكن أجرة العقار يبدأ حَوْلُها من حين قبض الأجرة، إذا قبضت الأجرة، وقد بلغت نصابًا، وحال عليه الحول ففيها الزكاة، أما لو أنك لما قبضت الأجرة أنفقتها قبل أن يمضي عليها الحول فهذه لا زكاة فيها.

فالقول الراجح: هو أن حول العقار، أو حول أجرة العقار تبدأ من حين قبضها، وأما أصل العقار فلا زكاة فيه.

هل وضع الآيات والأحاديث في وسائل التواصل من الدعوة إلى الله؟

س: هل وضع آيات وأحاديث وفتاوى في وسائل التواصل الاجتماعي يعتبر من الدعوة إلى الله تعالى؟

ج: نعم، هذا يعتبر من الدعوة إلى الله تعالى، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: بلغوا عني ولو آية [21]. وهذا البلاغ يكون بأيَّة وسيلة؛ يكون بالصفة المباشرة، يكون عن طريق وسائل التقنية، عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، المهم أن يكون ما تريد إبلاغه صحيحًا، يكون من علماء ثقات، فلا تبلغ مثلًا أحاديث موضوعة، أو أحاديث مكذوبة، أو أمورًا غير صحيحة، لا بد أن يغلب على ظنك أنها صحيحة، وإذا أشكل عليك تسأل.

فإذا كانت هذه آيات وأحاديث صحيحة، فيعتبر هذا من الدعوة إلى الله ، فكونك تنشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي فهذا يدخل في باب الدعوة إلى الله : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت:33].

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 2563.
^2 رواه أبو داود: 4880، وأحمد: 19776.
^3 رواه البخاري: 13، ومسلم: 45.
^4 رواه مسلم: 1469.
^5 رواه البخاري: 5283.
^6 رواه الطبراني: 3227.
^7 رواه أبو داود: 4902، والترمذي: 2511، وقال: صحيحٌ، وابن ماجه: 4211.
^8 رواه البخاري: 1496، ومسلم: 19.
^9 رواه البخاري: 2898، ومسلم: 112.
^10 رواه البخاري: 6077، ومسلم: 2560.
^11, ^17 سبق تخريجه.
^12 ركا يركو بمعنى: أَنظَر وأَخَّر. ينظر: “مشارق الأنوار” للقاضي عياض: 1/ 290 (ر ك و).
^13 رواه البخاري: 660، ومسلم: 1031.
^14 رواه مسلم: 54.
^15 رواه البخاري: 757، ومسلم: 397.
^16 رواه أبو داود: 4029، وابن ماجه: 3606 واللفظ له.
^18 رواه مسلم: 49.
^19 الحَرَاج في اللهجة السعودية: المَزَاد أو السوق الذي يُباع فيه الأشياء المُستعملة.
^20 رواه البخاري: 1952، ومسلم: 1147.
^21 رواه البخاري: 3461.