|categories

(6) أحكام الآنية

مشاهدة من الموقع

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أيها الإخوة المستمعون:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تحدثنا في الحلقات السابقة عن جملةٍ من المسائل المتعلقة بالمياه، ونتحدث في هذه الحلقة عن أحكام الآنية، ويعقد كثيرٌ من الفقهاء باب الآنية بعد باب المياه؛ وذلك لأن الماء جوهرٌ سيّالٌ لا يمكن حفظه إلا بإناءٍ، فناسب ذكر أحكام الآنية بعد أحكام المياه.

تعريف الآنية

و”الآنية” ليست مفردًا، وإنما هي جمعٌ لـ”إناءٍ”، وجمع “الآنية”: “أواني”، قال الجوهري رحمه الله تعالى: “الآنية جمع إناءٍ، وجمع الآنية: أواني”.

قال النووي رحمه الله تعالى: “الآنية مفردٌ، وجمعه: آنيةٌ، وجمع الآنية: أواني، فالأواني جمع الجمع؛ فلا يستعمل في أقلَّ من تسعةٍ إلا مجازًا”.

وانتقد رحمه الله تعالى استعمال لفظ الآنية في المفرد، وقال: “هذا ليس بصحيحٍ في اللغة”.

و”الآنية” هي: الوعاء الذي يحفظ فيه الماءُ وغيره، سواءٌ كانت من الحديد أو من الخشب أو الجلود أو غير ذلك.

الأصل في استعمال الآنية

والأصل فيها الحل والإباحة؛ لدخولها في عموم قول الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29]، فكل إناءٍ طاهرٍ، يُباح اتخاذه واستعماله ولو كان ثمينًا، كما لو كان من الماس أو الزمرد ونحو ذلك، ويستثنى من ذلك نوعان: آنية الذهب والفضة، وكذلك الأواني المتخذة من جلود الميتة قبل دبغها.

حكم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة

أما آنية الذهب والفضة، فيحرم الأكل والشرب فيهما بإجماع العلماء؛ ويدل لذلك حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرةمتفقٌ عليه[1].

وفي “الصحيحين” أيضًا عن أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي قال: الذي يشرب في إناء الفضةِ إنما يُجَرجِرُ في بطنه نار جهنم[2]. وهذا الوعيد الشديد يقتضي أن هذا الفعل من كبائر الذنوب.

قال النووي رحمه الله تعالى: “انعقد الإجماع على تحريم الأكل والشرب فيها” قال: “وجميع أنواع الاستعمال في معنى الأكل والشرب بالإجماع”. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

وقد تعقب الشوكانيُّ النوويَّ في حكاية الإجماع على تحريم استعمال آنية الذهب والفضة، فقال الشوكاني: “لا شك أن الأحاديث تدل على تحريم الأكل والشرب، وأما سائر الاستعمالات فلا” قال: “وحكاية النووي الإجماع على تحريم الاستعمال، لا تتم مع مخالفة داود والشافعي وبعض أصحابه”[3].

والحاصل: أن العلماء مجمعون على تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وأما استعمالها في غير الأكل والشرب فهو محل خلافٍ بين العلماء، فأكثر العلماء على عدم الجواز، ومن العلماء من جوَّز ذلك محتجًّا بأن النبي إنما نهى عن الأكل والشرب فقط، وأما ما عداهما فيبقى على الأصل، وهو الإباحة. والله تعالى أعلم.

أيها الإخوة المستمعون:

والنهي عن آنية الذهب والفضة يتناولها خالصةً ومجزئةً؛ إذ إن النهي عن الشيء يتناوله خالصًا ومجزئًا، فيحرم الإناء المطلي أو الـمُموَّه بالذهب أو الفضة، أو الذي فيه شيءٌ من الذهب والفضة، ويستثنى من ذلك الضَّبَّةُ اليسيرة من الفضة للحاجة.

والضَّبَّةُ هي: “ما يَجمع بين طرفي المنكسر”، فيجوز أن يكون من فضةٍ؛ لما جاء في “صحيح البخاري” عن أنس : “أن قَدَحَ النبي انكسر فاتخذ مكان الشَّعْب -أي: الصدع والشّقّ- سلسلةً من فضةٍ”[4].

حكمة النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة

وأما الحكمة من النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة؛ فقيل في ذلك أقوال كثيرة، وأحسن ما قيل في هذه المسألة، هو ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.

قال: “الصواب: أن العلة هي ما يُكسِب استعمالها القلب من الهيئة والحالة المنافية للعبودية منافاةً ظاهرةً؛ ولهذا علّل عليه الصلاة والسلام بأنها للكفار في الدنيا؛ إذ ليس لهم نصيبٌ في العبودية التي ينالونها بها في الآخرة، فلا يصلح استعمالها لعبيد الله، وإنما يستعملها من خرج عن عبوديته ورضي بالدنيا وعاجلها من الآخرة”. انتهى كلامه رحمه الله تعالى [5].

هل تحريم الأكل في آنية الذهب والفضة يشمل النساء؟

وتحريم آنية الذهب والفضة يشمل الذكور والإناث؛ لعموم الأدلة، فالإناث يشملهُنَّ هذا الحكم، وإن كان يباح لهنَّ التحلي بالذهب والفضة لحاجتهن إلى التزين.

حكم استعمال آنية الكفار

أيها الإخوة المستمعون:

وتباح آنيةُ الكفار التي يستعملونها مالم تُعْلَم نجاستها، فإن علمت نجاستها فإنها تغسل وتستعمل بعد ذلك، ويدل لذلك حديث عمران بن حصينٍ  “أن النبي وأصحابه توضؤوا من مَزادة امرأة مشركةٍ”، وأصل هذا الحديث في “الصحيحين”[6].

وفي “سنن أبي داود” بسندٍ صحيحٍ عن جابرٍ رضي الله عنه قال: “كنا نغزو مع رسول الله فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم، فنستمتع بها فلا يعيب ذلك علينا”[7].

وأما إذا عُلم بأنها تستعمل في نجاسةٍ، فإنها تُغسل وتستعمل بعد ذلك، والأفضل ألا يستعملها إلا عند الحاجة إليها؛ لحديث أبي ثعلبة الخُشني  أنه سأل رسول الله فقال: يا رسول الله، إنا نُجاور أهل الكتاب، وهم يطبخون في قدورهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر، فقال رسول الله : إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا، وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها -أي: اغسلوها- بالماء وكلوا واشربوا. أخرجه بهذا اللفظ أبو داود في “سننه”[8]، وأصله في “الصحيحين”[9].

حكم استعمال جلود الميتة

وأما النوع الثاني من أنواع الآنية الممنوعة: فهو ما كان من جلود الميتة قبل الدبغ، وأما بعد الدبغ فيجوز استعمالها على الصحيح من قولي العلماء، وهو قول الجمهور؛ وذلك لورود الأحاديث الصحيحة الدالَّة على جواز استعمال جلد الميتة بعد دبغه، ومنها ما جاء في “صحيح مسلم” عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: إذا دُبغ الإهاب فقد طَهُر[10]. وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه، بلفظ: أيُّما إهاب دُبغ فقد طَهُر [11].

وفي “الصحيحين” عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: تُصُدِّق على مولاةٍ لميمونة بشاةٍ فماتت، فمرَّ بها رسول الله يجرونها، فقال: هلّا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟. قالوا: إنها ميتة. فقال: إنما حَرُمَ أكلها [12].

هل جلد غير مأكول اللحم يطهر بالدبغ؟

ولكن جلد الميتة الذي يطهر بالدباغ، خاصٌ بما يؤكل لحمه دون غيره من الجلود، ويدل لهذا حديث سلمة بن مُحَبِّق  أن رسول الله قال: دباغُ الأديم ذكاتُه، أخرجه النسائي وأحمد [13]، قال الحافظ ابن حجرٍ في “التلخيص”: إسناده صحيح [14].

ووجه دلالة هذا الحديث على تخصيص الدباغ لجلد ما يؤكل لحمه دون غيره: أن النبي شبَّه الدَّبغ بالذكاة، والذكاة إنما تعمل في مأكول اللحم دون غيره، فلو ذُكِّي ما لا يؤكل لحمه لم تطهره الذكاة، فكذلك الدباغ إنما يعمل في جلد مأكول اللحم دون غيره؛ لأن حكم المشبه يأخذ حكم المشبه به.

وهذه المسألة هي محل خلاف بين أهل العلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “ومأخذ التردد في هذه المسألة، هو أن الدباغ هل هو كالحياة فيطَّهِرُ ما كان طاهرًا في الحياة، أو هو كالذكاة فيُطَهر ما طهُر بالذكاة”.

قال: “والثاني أرجح؛ والدليل على هذا نهي النبي عن جلود السباع، كما روي عن أسامة بن عميرٍ رضي الله عنه، أن النبي نهى عن جلود السباع، رواه أحمدُ وأبو داود والنسائي، وزاد الترمذي: “أن تفترش” [15]، انتهى كلامه رحمه الله [16].

وهذا الحديث الذي أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، قد رُوي بأسانيد صحيحةٍ، قال النووي: “رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحةٍ” [17].

وهذا الحديث يدل كذلك على أنه لا يجوز لبس ما صنع من جلود السباع؛ فلا يجوز لبس ما صنع من جلود النمور أو الثعالب وغيرها من السباع.

أيها الإخوة المستمعون:

هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 5426، ومسلم: 2067.
^2 البخاري: 5634، ومسلم: 2065.
^3 نيل الأوطار: 1/ 91.
^4 رواه البخاري: 3109.
^5 زاد المعاد: 4/ 322.
^6 البخاري: 344، ومسلم: 682/ 312.
^7 أبو داود: 3838.
^8 أبو داود: 3839.
^9 البخاري: 5478، ومسلم: 1930.
^10 مسلم: 366.
^11 الترمذي: 1728، وابن ماجه: 3609، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
^12 البخاري: 1492، ومسلم: 363.
^13 النسائي: 4254، وأحمد: 15909.
^14 التلخيص الحبير 1/ 204: 44.
^15 أحمد: 20706، وأبو داود: 4132، والنسائي: 4264، والترمذي: 1770.
^16 مجموع الفتاوى: 21/ 95.
^17 المجموع: 1/ 239.