الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(7) قضاء الحاجة- أحكام الاستنجاء والاستجمار
|categories

(7) قضاء الحاجة- أحكام الاستنجاء والاستجمار

مشاهدة من الموقع

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أيها الإخوة المستمعون:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نتحدث معكم في هذه الحلقة عن أحكام الاستنجاء والاستجمار وآداب قضاء الحاجة، ونجد أن عامة كتب الفقه تتحدث عن هذه الأحكام والآداب؛ وهذا يدل على سمو هذه الشريعة وعلى عظمتها وشمولها لجميع جوانب الحياة، ولهذا تعجب أحد اليهود حين علم أن النبي علم أمته آداب قضاء الحاجة، فقال: “علمكم نبيُّكم كل شيءٍ حتى هذا” [1]، وقال أبو ذرٍّ رضي الله عنه: “ما توفي رسول الله وطائرٌ يطير بجناحيه إلا وذكر لنا منه علمًا”.

تعريف الاستنجاء

أيها الإخوة المستمعون:

الاستنجاء: استفعال من “النجْو”، ومعناه في اللغة العربية: القطع، يقال: “نجوتُ الشجرةَ”، أي: قطعتها. وسُمي إزالة الخارج من السبيلين بالاستنجاء؛ لأن فيه قطعًا للنَّجس.

وقال ابن قتيبة رحمه الله تعالى: “هو مأخوذٌ من النجْوَة، وهي ما ارتفع من الأرض؛ لأن من أراد قضاء الحاجة استتر بها”[2].

ومعنى الاستنجاء في اصطلاح الفقهاء: “إزالة خارجٍ من سبيلٍ بماءٍ”.

تعريف الاستجمار

وأما الاستجمار فهو مأخوذٌ من الجِمَار، وهي: الحجارة الصغيرة.

ومعناه في اصطلاح الفقهاء: إزالة خارجٍ من سبيلٍ بحجرٍ أو منديلٍ ونحوها.

وبهذا؛ يتبين: أن الاستنجاء خاصٌّ بإزالة الخارج بالماء فقط، وأما الاستجمار فهو خاصٌّ بإزالة الخارج بالأحجار أو المناديل ونحوها، من غير استعمالٍ للماء.

حكم الاقتصار على الاستنجاء أو الاستجمار

ويُجزئ الاقتصار على أحدهما.

أما الاقتصار على الاستجمار فيُجزئ بإجماع العلماء.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله تعالى: “الاقتصار على الاستجمار جائزٌ بغير خلافٍ بين أهل العلم، وهو إجماع الصحابة “، انتهى كلامه رحمه الله تعالى [3].

وأما الاقتصار على الاستنجاء بالماء: فهو جائز في قول أكثر أهل العلم، بل حُكي الإجماع عليه، وقد روي عن بعض الصحابة والتابعين أنهم كانوا لا يعرفون إلا الاستجمار بالأحجار ونحوها، ولا يعرفون الاستنجاء بالماء؛ ولهذا أنكروا الاستنجاء بالماء، وقد نقل الموفق ابن قدامة رحمه الله تعالى ذلك عن سعد بن أبي وقاصٍ وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما، وعن سعيد بن المسيب وعطاءٍ رحمهم الله تعالى.

وبهذا؛ يتبين خطأ بعض العامة الذين ينكرون الاستجمار بالأحجار أو المناديل ونحوها مع وجود الماء، مع أن العلماء قد أجمعوا على جوازه، وأنه مجزئ في إزالة الخارج ولو كان الماء موجودًا، ولهذا تجد أن بعض العامة يكون مثلًا، في دورة مياه الطائرة أو في غيرها، ويتحاشى الاقتصار -في إزالة الخارج- على المناديل؛ ظنًّا منه أنها لا تكفي في إزالة الخارج، وأنه لا بد من استعمال الماء، أو أن ذلك لا يُجزئ مع وجود الماء، وهذا الفهم غير صحيحٍ، بل الاقتصار على المناديل ونحوها في إزالة الخارج مجزئٌ بإجماع العلماء، والذي اختلفوا فيه إنما هو الاقتصار على الماء! والصحيح: أنه مجزئ كذلك، وهو قول جماهير العلماء قديمًا وحديثًا.

أيهما أفضل الاستنجاء أو الاستجمار؟

بقِيَ أن يقال: أيهما أفضل، الاستنجاء بالماء أو الاستجمار؟

نقول: أما الجمع بينهما فلا شك أنه أفضل المراتب؛ يستجمر بحجرٍ أو منديلٍ ونحوهما، ثم يستنجي بالماء.

قال الموفق رحمه الله تعالى: “الجمع بين الحجر والماء أفضل؛ لأن الحجر يزيل ما غَلُظَ من النجاسة فلا تباشرها يده، وأما الماء فيزيل ما بقي”[4].

قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: “إنْ جمَعَهما فهو أحب إليّ”[5].

ولكن لو أراد الاقتصار على أحدهما فأيهما أفضل، الاستنجاء أو الاستجمار؟

اختلف العلماء في ذلك؛ فمنهم من قال: الاستنجاء أفضل؛ لأنه أبلغُ في الإنقاء، وقال بعض العلماء: بل الاستجمار أفضل؛ لأنه لا يباشر النجاسة بيده.

والصحيح: أن الاستنجاء بالماء أفضل؛ لأنه أبلغُ في إزالة النجاسة، وأبلغُ في التطهير والإنقاء والتنظيف؛ ولأنه يزيل العين والأثر.

وقد أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة  أن النبي  قال: “نزلت هذه الآية: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة: 108]، في أهل قُباء؛ كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية” [6]، وهذا هو المحفوظ من رواية هذا الحديث.

وأما ما رواه البزَّار من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: نزلت هذه الآيةُ في أهل قُباء، فسألهم الرسول فقالوا: نُتبع الحجارة بالماء [7]. فهو ضعيفٌ من جهة الإسناد؛ ففي إسناده راويان ضعيفان -كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله تعالى- فيكون المحفوظ إذَنْ من رواية الحديث: أنهم كانوا يستنجون بالماء فقط، فنزلت فيهم هذه الآية.

شروط الاستنجاء والاستجمار

ويشترط للاستنجاء والاستجمار: الإنقاء، ومعنى الإنقاء في الاستنجاء: “ذهاب لُزوجة النجاسة وأثرها”، وأما الانقاء في الاستجمار، فمعناه: “إزالة عين النجاسة وبلَلِها، حيث يرجع الحجر نقيًّا ليس عليه أثرٌ”.

ويشترط شرطٌ آخر للاستجمار، وهو: كمال العدد، وذلك بألا يستجمر بأقل من ثلاث مَسَحاتٍ، حتى ولو وُجد الإنقاء بأقل من ثلاثٍ على الصحيح من قولي الفقهاء؛ لما جاء في “صحيح مسلمٍ” عن سلمان الفارسي  قال: “نهانا رسول الله أن نستجمر بأقل من ثلاثة أحجارٍ” [8].

والمراد: ثلاث مسحاتٍ، فلو كان الحجر له ثلاث شعبٍ أجزأ، ولهذا قال بعض الفقهاء: “يشترط ثلاث مَسَحاتٍ مُنْقِيةٍ فأكثر، ولو بحجرٍ ذي شعبٍ”.

فإن قال قائلٌ: إن الاستجمار ليس كالاستنجاء بالماء؛ فهو لا يستأصل جميع النجاسة استئصالًا كاملًا بعد الانقاء وكمال العدد. فنقول: إن الأثر الذي يبقى بعد الإنقاء وكمال العدد معفوٌّ عنه.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله في “المغني”: “قد عُفِي عن النجاسات المغلظةِ لأجل محلها في ثلاثة مواضع:

أحدها: محل الاستنجاء، يُعفى فيه عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء واستيفاء العدد بغير خلافٍ نعلمه.

والثاني: أسفل الخُفِّ والحذاء، إذا أصابته نجاسة فدلكها بالأرض حتى زالت عين النجاسة.

والثالث: إذا جَبَرَ عظمَه بعظمٍ نجسٍ فجُبِر، لم يلزمه قَلْعه إذا خاف الضرر” انتهى كلامه رحمه الله تعالى [9].

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: “استقرت الشريعة على أنه يعفى عن النجاسة المخففة، كالنجاسة في محل الاستجمار، أي بعد الإنقاء، وفي أسفل الخُفِّ والحذاء” [10].

ويسن قطع الاستجمار على وِترٍ، فإن حصل الإنقاء في ثلاث مسحاتٍ، وإلا زاد إلى خمسٍ، وإلا زاد إلى سبعٍ، وهكذا؛ لما جاء في “الصحيحين” عن أبي هريرة  أن النبي قال: من استجمر فليوتر[11].

شروط المستجمَر به

ويُشترط فيما يستجمر به: أن يكون طاهرًا منقيًا، فإن كان نجسًا لم يصح الاستجمار به، وهكذا لو كان غير ممكن لِمَلَاسَته أو لرطوبته ونحو ذلك.

ولا يجوز الاستجمار بالعظام ولا بالروث، ولا يُجزئ؛ لما جاء في “صحيح مسلم” عن ابن مسعود  أن النبي قال: لا تستنجوا بالرَوث ولا بالعظام؛ فإنه زادُ إخوانكم من الجن[12].

وفي حديث رُويفِع بن ثابتٍ  أن النبي قال: يا رُويفِع، لعل الحياة ستطول بك بعدي، فأخبر الناس أنه من عَقَد لحيته، أو تَقَلَّد وترًا، أو استنجى برجيعِ دابةٍ أو عظمٍ، فإن محمدًا منه بريءٌ، وهذا حديث أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي وأحمد، قال النووي: “إسناده جيد” [13].

وألحق العلماء بالعظم والروث: طعام الآدميين وطعام بهائمهم؛ لأنه إذا نُهي عن الاستجمار بطعام الجن ودوابهم؛ فطعام الإنس ودوابِّهم من باب أولى.

وألحق العلماء كذلك: كل ما له حرمةٌ؛ ككتب العلم الشرعي ونحوها، فلا يجوز الاستجمار بها؛ لما في هذا من الاستهانة والاستخفاف بحرمتها، بل هي في الحرمة أعظم من الاستجمار بالعظم والروث.

أيها الإخوة المستمعون:

نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 262.
^2 غريب الحديث: 1/ 159، 160.
^3 الشرح الكبير على متن المقنع: 1/ 92، وهو لشمس الدين وليس للموفق.
^4 الشرح الكبير على متن المقنع: 1/ 91، والكلام لشمس الدين لا للموفق.
^5 المغني لابن قدامة: 1/ 101.
^6 رواه أبو داود: 44، والترمذي: 3100، وابن ماجه: 357، والبيهقي: 516، وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه.
^7 كشف الأستار: 247.
^8 مسلم: 262.
^9 المغني لابن قدامة: 1/ 411.
^10 إغاثة اللهفان: 1/ 63.
^11 البخاري: 161، ومسلم: 237/ 22.
^12 مسلم: 450/ 150 مطولا.
^13 رواه أبو داود: 36، والنسائي: 5067، والبيهقي: 539.
مواد ذات صلة