الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(8) الشروط في البيع- أمثلة وأحكام
|categories

(8) الشروط في البيع- أمثلة وأحكام

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

حياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج؛ كنا قد تكلمنا في الحلقة السابقة عن جملة من المسائل المتعلقة بالشروط في البيع، ونستكمل في هذه الحلقة الكلام عن بقية المسائل التي ذكرها الفقهاء في هذا الباب.

فنقول: وبالله التوفيق:

أمثلة على الشروط الفاسدة في البيع

من أمثلة الشروط الفاسدة في البيع: ما تفعله بعض المحلات التجارية من كتابة عبارة: البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل، فهذا الشرط شرط غير صحيح؛ لأن السلعة إن كانت معيبة فاشتراط البائع لهذا الشرط لا يبرئه من العيوب الموجودة فيها؛ لأن المشتري قد اشتراها على أنها سليمة، ودفع ما يقابل ذلك من الثمن، وإن كانت السلعة سليمة فاشتراط هذا الشرط لا معنى له؛ لأن البيع من العقود اللازمة، فهو يلزم بمجرد التفرق من مكان التبايع بالأبدان، وحينئذ فالبضاعة السليمة من العيوب لا ترد ولا تستبدل بمقتضى عقد البيع من غير حاجة إلى اشتراط هذا الشرط.

ومن أمثلة الشروط الفاسدة أيضًا: أن يشترط المشتري على البائع أن لا خسارة عليه، أو يقول البائع: اشتر هذه البضاعة مني، وإذا خسرتَ فأنا أدفع لك مقابل هذه الخسارة. فهذا شرط باطل، لكن البيع صحيح، ويدل لذلك قول النبي : من شرط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط [1]، ولأنَّ مقتضى عقد البيع انتقال المبيع للمشتري بعد دفع الثمن، والتصرف المطلق فيه، وأن له ربحه، وعليه خسارته وحده.

بيع العربون

ومما يذكره الفقهاء في باب الشروط في البيع: مسألة بيع العربون، ومعناه: دفع جزء من الثمن إلى البائع على أنه إن تم البيع فهو من الثمن، وإلا فهو للبائع.

وقد اختلف العلماء في حكمه، والصحيح إن شاء الله: أنه لا بأس به، وهو مروي عن عمر بن الخطاب ، قال البخاري رحمه الله في صحيحه: اشترى نافع بن عبدالحارث دارًا للسجن بمكة من صفوان بن أمية على إن رضي عمر رضي الله عنهما فالبيع بيعه، وإن لم يرض فلصفوان أربعمائة دينار.

وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن بيع العربون، فقال: أي شيء أقول؟ هذا عمر رضي الله عنهما.

وكما يكون العربون في البيع فأنه يكون كذلك في الإجارة، وذلك بأن يدفع المستأجرُ مبلغًا من المال؛ على أنه إن تم عقد الإيجار فهو من الأجرة، وإلا فهو للمالك فلا بأس بذلك.

ويحسن التنبيه هنا إلى أن العربون في حالة عدم إتمام البيع أو الإجارة من حق المالك للمبيع أو للعين المراد تأجيرها، وأما الوسيط أو الدلال كالمكتب العقاري مثلًا فليس له أن يأخذ العربون إلا برضا المالك.

حكم البيع بشرط البراءة من كل عيب مجهول

ومما يذكره الفقهاء في هذا الباب من المسائل: مسألة البيع بشرط البراءة من كل عيب مجهول، كأن يقول البائع للمشتري: أبيعك بشرط ألا تطالبني بعد إتمام البيع بأي شيء حتى ولو وجدت في السلعة عيبًا، ومن ذلك قول بعضهم عند بيع السيارة مثلًا: أبيعك كومة حديد، أي: إنني بريء من كل عيب تجده في السيارة بعد ذلك.

فهل يجوز مثل هذا العمل شرعًا؟ وهل يبرأ البائع باشتراط هذا الشرط؟!

اختلف العلماء في هذه المسألة، والذي عليه كثير من المحققين من أهل العلم هو: أن البائع إن كان عالمًا بالعيب فللمشتري الرد بكل حال، ولا ينفع البائع اشتراطه على المشتري براءته من كل عيب.

وأما إن كان البائع غير عالم بالعيب، فالشرط صحيح، ويبرأ البائع باشتراطه لذلك الشرط، وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم رحمه الله تعالى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “الصحيح الذي قضى به الصحابة وعليه أكثر أهل العلم أنه إذا لم يكن علم بالعيب فلا رد للمشتري، لكن إن ادعى علمه به فأنكر البائع حلف على أنه لم يعلم فإن نكل قُضي عليه”.

وقال ابن القيم: “الصحيح في هذه المسألة ما جاء عن الصحابة فإن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما باع زيد بن ثابت عبدًا بشرط البراءة بثمانمائة درهم فأصاب به زيد رضي الله عنه عيبًا، فأراد رده على ابن عمر رضي الله عنهما، فلم يقبله، فترافعا إلى عثمان بن عفان ، فقال عثمان رضي الله عنه لابن عمر رضي الله عنهما: تحلفُ أنك لم تعلم بهذا العيب؟ قال: لا، فرده عليه، أي قضى عليه بالنكول، فباعه ابن عمر رضي الله عنهما بألف درهم، ذكره الإمام أحمد وغيره. وهذا اتفاق من الصحابة على صحة البيع، وعلى جواز شرط البراءة، واتفاق من عثمان وزيد على أن البائع إذا علم بالعيب لم ينفعه شرط البراءة”.

حكم تعليق البيع بشرط

ومما يذكره الفقهاء في هذا الباب من المسائل: مسألة تعليق البيع بشرط؛ كأن يقول: بعتك إن جئتني بكذا، أو بعتك إن رضي أبي، أو يقول: بعتك على مشورة فلان من الناس. فهل يصح هذا البيع أو لا يصح؟!

فمن الفقهاء من يرى عدم صحة هذا البيع في هذه الحال، وذلك لأن مقتضى البيع نقل الملك حال التبايع وهذا الشرط يمنعه، ولكن القول الذي عليه كثير من المحققين من أهل العلم أنه لا بأس بذلك، وأن البيع صحيح؛ إذ ليس هناك دليل يمنع من صحة البيع في هذه الحال، والأصل في المعاملات الحل والإباحة، والأصل في الشروط اللزوم والصحة.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “ليس في الأدلة الشرعية ولا القواعد الفقهية ما يمنع تعليق البيع بالشرط، والحق جوازه، فإن المسلمين على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، وهذا لم يتضمن واحدًا من الأمرين، فالصواب جواز هذا العقد وهو اختيار شيخنا –يريد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع- وعلى عادته حمل ذلك، وفعل إمامنا –يريد بذلك الإمام أحمد رحمه الله- عندما رهن نعليه عند خبَّاز، وقال له: إن جئتك بحقك وإلا فهما لك”.

وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله: “الصواب جواز تعليق العقود فإن القول بأن تعليق العقود غير جائز لا دليل عليه من كتاب ولا سُنة ولا قياس ولا بد للتعليقات من أمور مقصودة تُعلَّق لأجلها، وتلك الأمور لا محذور فيها والأصل الجواز؛ والأصل هو الجواز والحل في كل العقود..

قال: ويترتب على هذا القول أن الصحيح جواز قوله: بعتك داري بكذا على أن تبيعني عبدك أو نحوه بكذا، ولا يدخل هذا تحت نهيه عن بيعتين في بيعة؛ لأن المراد أن يعقد على شيء واحد في وقت واحد عقدين، وذلك كمسائل العينة وما أشبهها.

وأما هذه الصورة وما أشبهها فإنها بمسائل التعليق أشبه، وليس فيها محذور أصلًا. إلا إذا تضمنت ظلمًا في أحد العقدين فيمنع لأجل ذلك”. 

ويُفهم من كلام الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله أنه لا بأس بأن يقول البائع للمشتري: أبيعك سيارتي بشرط أن تبيعني سيارتك مثلًا أو بشرط أن تؤجرني بيتك مثلًا، ونحو ذلك.

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، والذي عليه كثير من المحققين من أهل العلم: أنه لا بأس بذلك كما رجَّحه الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله.

ولكن المحذور هو أن يجمع بين قرض وبيع، كأن يقول: لا أبيعك إلا بشرط أن تقرضني فهذا قد نهى عنه النبي في قوله: لا يحل سلف وبيع [2].

وإلى هذا القدر أتوقف معكم في هذه الحلقة، وإلى لقاء في حلقة قادمة إن شاء الله.

أستودعكم الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2155، 2729.
^2 رواه أبو داود: 3504، والترمذي: 1234، وأحمد: 6918، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
مواد ذات صلة