الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(9) الخيار في البيع- خيار المجلس والشرط
|categories

(9) الخيار في البيع- خيار المجلس والشرط

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

حياكم الله تعالى في هذه الحلقة من هذا البرنامج، والتي سنتحدث فيها إن شاء الله عن جُمْلةٍ من الأحكام والمسائل المتعلقة بالخيار في البيع؛ فنقول وبالله التوفيق:

الخيار اسم مصدر من “اختار” أيْ طلب خير الأمرين من الإمضاء أو الفسخ.

وينقسم باعتبار أسبابه إلى عدة أقسام، وسنتناول في هذه الحلقة جملة منها حسب ما يتّسع به وقت الحلقة، ونستكمل بقية الكلام عنها في حلقة قادمة إن شاء الله تعالى.

فنقول:

القسم الأول: خيار المجلس

والأصل فيه قول النبي : إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لما يتفرقا وكانا جميعًا، أو يخيِّر أحدهما الآخر، فإن خيّر أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرّقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحدٌ منهما البيع فقد وجب البيع [1]، أخرجه البخاري ومسلم؛ واللفظ لمسلم.

ففي هذا الحديث أثبت النبي  للمتبايعين الخيار ما داما في مكان التبايع، ولم يتفرقا بأبدانهما، ولذلك قال: فكل واحد منهما بالخيار ما لما يتفرقا وكانا جميعًا.

وقوله عليه الصلاة والسلام: أو يخيِّر أحدهما الآخر أيْ أن يقول له: اختر إمضاء البيع، فإذا اختار وجب البيع أيْ لزم، وانبرم، وبطل الخيار.

وقوله: وإن تفرّقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحدٌ منهما البيع أيْ لم يفسخه، فقد وجب البيع أيْ بعد التفرُّق.

وهذا النوع من الخيارات وهو المذكور في هذا الحديث يسميه الفقهاء بخيار المجلس، والمجلس هو موضع جلوس؛ والمراد به هنا مكان التبايع، فيثبت لكلٍ من البائع والمشتري الخيار في إمضاء البيع أو فسخه، ما داما باقيين في مكان التبايع، سواء كان مكان التبايع مجلسًا، أو سوقًا، أو سيارة، أو طائرة، أو سفينة، أو غير ذلك.

الحكمة من خيار المجلس

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: “في إثبات الشارع خيار المجلس في البيع حكمةٌ ومصلحة للمتعاقِدَين، وليحصل تمام الرضا الذي شرطه الله تعالى بقوله: عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]؛ فإن العقد يقع بغتة من غير تروٍ ولا نظر في القيمة، فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يُجعَل للعقد حرمًا لكي يتروى فيه المتبايعان، ويعيدان النظر، ويستدرك كل واحد منهما، فلكلٍ من المتبايعين الخيار بموجب هذا الحديث الشريف، ما لم يتفرقا بأبدانهما من مكان التبايع.

ما التفرق الذي يلزم به البيع وينقضي به خيار المجلس؟

وحقيقة التفرُّق بالأبدان الذي يلزم به البيع وينقضي به زمن خيار المجلس راجعٌ إلى عُرْف الناس، فما عدّه الناس تفرقًا فهو تفرُّق، وما لا فلا، وهذا مما يختلف باختلاف الأزمان والبلدان.

ومما ذكره الفقهاء في هذا: أن المتبايعين إذا كانا في دارٍ كبيرة ذات غرف فالتفرُّق يحصل بالمفارقة من غرفة إلى غرفة، وإذا كانا في مكانٍ واسع كسوق أو صحراء فالتفرُّق يحصل بأن يمشي أحدهما مستدبرًا لصاحبه خطوات، وفي وقتنا الحاضر إذا كانا التبايع عن طريق الهاتف فالتفرُّق يحصل بإغلاق سماعة الهاتف، وإذا كان عن طريق ما يسمى بالإنترنت فيكون التفرُّق بانقطاع الاتصال بينهما… وهكذا.

وقد يطول زمن خيار المجلس، كما لو تبايعا في طائرة مثلًا وكانت الرحلة على تلك الطائرة تستغرق ساعات طويلة، فإن خيار المجلس يمتد طوال تلك الرحلة، وكما لو تبايعا ثم ناما في المكان نفسه فإن خيار المجلس باقٍ حتى يتفرّقا بأبدانهما، ولا يقطعه النوم.

حكم الفرقة بقصد الإلزام بالبيع وخشية الفسخ

وتحرم الفُرقة من مكان التبايع بقصد الإلزام بالبيع وخشية الفسخ، يدل لذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن رسول الله  قال: ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله [2]، رواه أبو داود والترمذي، وهو حديثٌ حسن.

ومعناه كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “لا يحل له أن يفارقه بعد البيع خشية أن يختار فسخ البيع؛ لأن العرب تقول: استقلت ما فات عني إذا استدركته”.

وأما ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا اشترى شيئًا يعجبه فارق صاحبه، فمحمولٌ على أنه لم يبلغه النهي عن ذلك، وإلا فهو من أشد الصحابة تمسُّكًا بالسنة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

بم يسقط خيار المجلس؟

ويسقط خيار المجلس بأمور، منها:

  • التفرُّق بالأبدان. وقد سبق الكلام عنه.
  • ومنها: موت أحد المتعاقدين، لأن الموت فرقة عظيمة وهي أعظم من تفرُّق الأحياء بالأبدان.
  • ومنها: أن يتفق المتبايعان بأن يتبايعا على ألا خيار بينهما أو يتفقا على إسقاطه بعد العقد كما يدل لذلك الحديث السابق، وهو قول النبي : أو يخيِّر أحدهما الآخر، فإن خيَّر أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع [3].

هذا هو خيار المجلس، فمتى ما انقضى زمنه لزم البيع؛ فمثلًا من اشترى سلعة من آخر فله الحق في إرجاعها ما دام في مكان التبايع، ولكن متى ما حصل التفرُّق بالأبدان فليس له الحق في إرجاعها إلا برضا البائع؛ لأن البيع قد لزم بمجرد التفرُّق بالأبدان من مكان التبايع، إلا أن يشترط عليه الخيار مدة معلومة، وهذا ما يسوقنا للحديث عن القسم الثاني من أقسام الخيارات، وهو: خيار الشرط.

القسم الثاني: خيار الشرط

تعريف خيار الشرط

وخيار الشرط هو أن يشترط المتعاقدان أو أحدهما الخيار مدة معلومة ولو طويلة، والأصل فيه قول النبي : المسلمون على شروطهم [4].

مدة الخيار

ولا بد من تحديد مدة الخيار، فلا يصح الخيار إلى مدة مجهولة، ولكن لو أطلق الخيار من غير تحديد مدة، كأن يقول البائع: بعتك هذه السلعة بشرط أن لي الخيار، أو يقول المشتري: اشتريت بشرط أن لي الخيار، ولم يحددا مدة معينة، فيبطل ذلك الخيار عند كثير من الفقهاء.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “إن أطلقا الخيار ولم يؤقتاه بمدة توجّه أن يثبت ثلاثًا -أيْ ثلاثة أيام-؛ لخبر حبان بن منقذ  وكان بلسانه لوثة وكان لا يزال يُغبَن في البيوع، فقال له رسول الله : إذا بايعت فقل: لا خلابة، ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال، فإن رضيت فأمسك، وإن سخطت فأردد [5]، أخرجه ابن ماجة، والدارقطني، والبيهقي، وأصله في الصحيحين [6]، وقد جاء في رواية مسلم: فكان إذا بايع يقول: لا خيابة [7] بالياء، قال النووي رحمه الله: “كان الرجل -أيْ حبّان بن منقذ- ألثغ؛ فكان يقولها هكذا: لا خيابة؛ بالياء، ولا يمكنه أن يقول: لا خلابة؛ ومعنى لا خلابة أيْ لا خديعة، لا تحل لك خديعتي أو لا يلزمني خديعتك”.

والشاهد من هذا الحديث: أن النبي  جعل له الخيار ثلاثة أيام مع كل سلعة يشتريها بموجب هذا القول -أيْ لا خلابة-، فدل ذلك على أن الخيار إذا أُطلق يتحدد بثلاثة أيام.

حكم خيار الشرط لأجل التحايل على الانتفاع بالقرض

ومما يذكره الفقهاء في هذا الباب: أنه لا يجوز اشتراط خيار الشرط لأجل التحايل على الانتفاع بالقرض.

مثال ذلك: أن يبيع رجلٌ على آخر سيارته بعشرين ألف ريال، ويشترطان أن لهما الخيار لمدة شهرين مثلًا، وقد عزما على فسخ البيع في آخر تلك المدة، ولكن غرضهما من ذلك هو أن ينتفع البائع بالثمن -وهو عشرون ألفًا في هذا المثال-، وينتفع المشتري بالسيارة خلال هذه المدة.

فهذا عملٌ محرّم لأنه حيلةٌ على الانتفاع بالقرض، فكأن المشتري أقرض البائع عشرين ألفًا وشرط عليه الانتفاع خلال هذه المدة.

ولكن لو كان المشتري لا ينتفع بالسلعة خلال مدة الخيار، وإنما أراد المشتري أن يحفظ حقه فقط؛ فلا بأس بذلك، كما نص على ذلك الإمام أحمد رحمه الله؛ فقد سئل عن رجلٍ أراد أن يقرض آخر مالًا ويخاف أن يذهب -أيْ ألا يعيد المقترض القرض-، فاشترى منه شيئًا وجعل له الخيار، ولم يرد بذلك الحيلة، فقال الإمام أحمد: “هذا جائز”.

وقد ذكر الموفق ابن قدامة رحمه الله: “أن قول أحمد بالجواز في هذه المسألة محمولٌ على ما إذا كان المشتري لا ينتفع بالمبيع في مدة الخيار؛ لئلا يفضي إلى القرض الذي يجرُّ نفعًا”.

هذا هو ما اتسع له زمن هذه الحلقة، وإلى لقاء في حلقة قادمة إن شاء الله، نستكمل معها ما تبقى من المسائل التي ذكرها الفقهاء تحت خيار الشرط.

إلى ذلك الحين أستودعكم الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2112، ومسلم: 1531، واللفظ له.
^2 رواه أبو داود: 3456، والترمذي: 1247، وقال: هذا حديث حسن.
^3 سبق تخريجه.
^4 رواه أبو داود: 3594، والحاكم في المستدرك: 2309.
^5 رواه ابن ماجه: 2355،والدارقطني: 3011، والبيهقي:  10556.
^6 رواه البخاري: 2414، ومسلم: 1533.
^7 رواه مسلم: 1533.
مواد ذات صلة